نصوص أدبية

ناجي ظاهر: مَن اللص؟

كان الجو هادئًا هدوءًا تامًا.. أو شبه تام في أروقة المؤسسة وردهاتها، غير أنه سرعان ما تبيّن أنه أشبه ما يكون بهدوء العاصفة. خلال لحظات قلائل، خلال رمشة عين أو.. أقل، اندفع مدير المؤسسة نحو ردهتها الفارهة، وراح يصرخ: لقد سُرقت. سُرقت المؤسسة. مَن السارق. الآن عليكم أن تعترفوا وإلا قلبت عاليها سافلها. ما إن انطلق صوت المدير يلعلع في أجواء المؤسسة شاقًا سُدف صمتها، حتى شرع الموظفّون في التوافد واحدًا وراء الآخر، وقد بدوا كأنما هم يخرجون من الجدران والسقوف.

كل هذا حصل وأنا أرقب ما يحدث وأحاول أن أفهمه. عندما اتضحت لي الصورة دعوت صديقي مدير المؤسسة للهدوء، كي نعرف ماذا بإمكاننا أن نفعل، فأرسل نظرة عميقة نحوي، تأملت شعراته القليلة المتوقفة المتمايلة مع رأسه، وأرسلت نظرة مستفسرة إلى عينيه.. عميقتي الغور، وكان لا بدّ من أن أضع يدي على ظهره وأن أطلب منه أن نعود إلى غرفته لنتمكن من معالجة ذلك الوضع الجلل الطارئ. عندها سار المدير وهو يدردب: أنا بفرجيكوا. اليوم أنا لازم القي القبض على اللص. إذا كنتوا بتفكروا انها الوكالة بلا بوّاب.. بتكونوا واهمين. وأقسم أن يلقي القبض على اللص قبل انتهاء دوام العمل اليومي.

في غرفته اتخذ المدير مجلسه محاولًا الهدوء. بعد لحظة غرس عينيه في عيني:

- مَن السارق حسب رأيك؟

- ما الذي حدث.. حدّثني بهدوء لنعرف مَن السارق.. التوتر لا يعود بأية فائدة.

حاول المدير أن يهدأ، وسط شعوري أن براكين الغضب تغلي في عروقه، وروى حكاية طويلة مفادها أنه توجّه قبل قليل إلى خزينته المغروسة في جدار الغرفة وراء صورته الشخصية في المكتب، فتح الخزينة، ليجد أن ما فيها من أموال قد اختفى. وراح يندب سوء طالعه لأنه لا يعرف ماذا بإمكانه أن يفعل:

- حضّرت كلّ اشي عشان اتوجه للبنك، ولما فتحت الخزينة لاقيت إيدي والفراغ. قال.

- ماذا علينا أن نفعل الآن؟ سألته.

- الرأي رأيك. أنا مش بوضع يسمحلي بمعرفة شو أعمل. رد بحيرة. وتابع: مش راح اسمح ولا لواحد منهم بالمغادرة قبل ما أعرف السارق.. واستعيد أموالي منه.

وعدتُ المديرَ خيرًا.. وخرجت من غرفته، رحت أتجول بين غرف المؤسسة، مارًّا من باب إلى آخر، وكنت أستمع إلى أصوات جميع الموظفين وكأنها تحوّلت إلى صوت واحد وسؤال واحد.. لا غير هو: مَن السارق. وكنت كلّما انتقلت من باب إلى آخر علا السؤال وازداد الحاحًا. حدث هذا في البداية إلا أن السؤال ما لبث أن تحوّل إلى نوع من الاتهام.. هذا الموظف الجديد.. قلنالكوا يا عمّي بلاش ندخل موظفين جدد للمؤسسة.. بدكوش إلا تدخلوه.. وهذه هي النتيجة.. يللا تحملوها.

بعد جولتي هذه.. عدتُ إلى غرفة المدير لأجده وقد ازداد توترًا. فتحت الباب ودخلت. لاحظ المدير على وجهي ظل ابتسامة فسألني:

- خير.. صار إشي جديد؟

- الموظفون يوجهون أصابع الاتهام إلى الموظف الجديد. أجبت. بدا أن المدير عثر على خشبة النجاة فطلب مني أن أدعوه إلى مكتبه على جناح السرعة.. وقبل أن يهرب. توجّهت إلى غرفة الموظف الجديد وطلبت منه أن يحضر إلى غرفة السيد المدير، فنهض من مجلسه وتبعني من فوره. دخلنا غرفة المدير. وقف المدير على قدميه. وتوقّفنا أنا ومرافقي قُبالته. قدحت عينا المدير شررًا وسأل الموظف الجديد:

- مين اللي سرق الخزينة في رايك؟

ابتسم الموظف الجديد:

- ومِن أين أعرف.. هذا هو اليوم الاول لي في المؤسسة.. أنت أدرى منّي..

تزايد تطاير الشرر من عيني المدير، ومِن أطراف بدلته الباذخة:

- فعلًا أنا أدرى.. ولأني الأدري قرّرت اني أفتشك..

ما إن نطق المدير بهذه الكلمات حتى رأيت الموظف الجديد يتراجع إلى الوراء:

- لن أسمح لأحد بتفتيشي.

- ليش يا حبيب امك؟ سأل المدير وكأنما هو عثر على السارق.

- لأني مسرقتش الخزينة.. قال الموظف. وتابع: إذا كان لا بدّ مِن تفتيشي.. خليه يكون لجميع الموظفين.. من أقصاهم إلى أدناهم.

راقت الفكرة للمدير وشعرت أن شيئًا من هدوئه المفتقد عاد إليه:

- موافق. قال وأضاف، أكيد رايحين نفتش الجميع. وتناول المدير معطفه من على المشجب القريب منه. ارتداه وخرجنا إلى ردهة المكتب. وقف المدير في فتحة الباب وشرع بتفتيش الموظفين واحدًا تلو الآخر. عندما وصل أخيرًا إلى الموظف الجديد لمعت عيناه كمن تأكد أن هذا الموظف هو السارق، وإلا لماذا هو احتال ليكون الأخير؟، اقترب المدير من الموظّف الجديد وهو يغرس عينيه فيه مِن أسفله إلى أعلاه ويتمتم:

- إسه أجى حبّك للطاحونة.

- أنا مش راح أسمحلك تفتشني إلا إذا وافقت أنت على إني أفتّشك. قال الموظف.

افترشت وجه المدير ابتسامة عريضة كأنما هي من عالم آخر:

- موافق.. بس تعال قرّب.. يا لص.

اقترب الموظّف الجديد مِن المدير، قام هذا بتفتيشه تفتيشًا مدقّقًا. لم يجد شيئًا. ابتسم الموظّف الجديد وتوجّه إلى المدير طالبًا منه أن يسمح له بتفتيشه. استسلم المدير للتفتيش، وما إن وضع الموظف يده على جيب معطفه الاكبر حتى سأله ما هذا؟ .. عندها لطم المدير جبينه بيده. وسقط أرضًا. حملنا المدير إلى غرفته وهو غائب عن الوعي. هناك رششنا وجهه بالماء والكولونيا.. ففتح عينيه.. وطلب مني أن أخرج الجميع من غرفته.. طلبت من الموظفين مغادرة الغرفة.. بعدها اتضح كلّ شيء.. المدير وضع النقود في جيب معطفه.. في الصباح ونسيها بعدها.. وها هو يقف موقفًا حرجًا لا يحسد عليه أحد.. فكيف إذا كان مديرًا بمقامه العالي..

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم