نصوص أدبية

ذكرى لعيبي: عناق

القسم الثاني، الفصل (2) من رواية:

غابات الإسمنت

***

وجدتُ مديحة بانتظاري في باب العمارة.. شقّتها في الطابق الأسفل، هرعتْ إليّ حالما هبطتُ من السيارة، فعانقتني عناقا حارًا.

دخلنا الشقة، فضمّتني إلى صدرها وبدأت كلٌّ منا تنشج نشيجا صاخبا.. إنها دموع الفرح.. دموع الفرح عزيزتي.

وشربتُ قدح ماء، فقلت:

ـ أحيانا لا نقدر أن نعبّر عن فرحنا إلاّ بالدموع.

ـ الدموع غاية يا إنعام.

ـ إياكِ أن تتذكّري اسمي القديم.

ـ والله إنه أجمل على لساني؛ لكني سأنساه ما دمت تحبين ذلك.

ـ لا يا أختي.. إن الاسم القديم يذكّرني بالماضي الذي أريد أن أنساه، بالدم، بنذالة الرجال.. انسيه، انسيه يا صديقتي.

ومسحت دمعها بمنديل استلته من حافظة المناديل، فعقّبت بحسرة:

ـ هناك أشياء سيئة أو حزينة لا تُنسى، بسببها تبدو أعمارنا أكبر بكثير مما نتوقع، ننضج ونكبر بحجم أوجاعنا اليومية، وكل يوم وجعهُ يعادل عامًا كاملًا.

عدتُ لأمازحها:

ـ ياظالمة، سنة وبضعة أشهر ولا تفكرين بزيارتي؟ (وأكدّتُ بعتاب) والله اشتقت لك كثيرا.

ـ والله لقد هممتُ ولم يكن بمقدوري، لأن السيدة النقيب أمرتني بصفتي سيدة مجتمع ألا أزورك، ووعدتني أن تأتي إليّ حال إطلاق سراحكِ.

ـ أتدرين، بعض السجينات تساءلن أين صديقتك مديحة؟ لماذا لا تزروك هل نسيت أيامنا؟

ـ والله اشتقت لهن جميعا، والأكثر لك، أنا أختك؛ لكنها الأوامر.

ـ أفهم، دعينا من هذا الآن، ماذا تقولين عن هذه الضيافة المفروضة عليكِ؟

وضعتْ إبهاميها تحت عينيها واعترضتْ:

ـ سلمتِ لي.. بعيني، ليتك تبقين عندي بشكل دائم.

وتذكرت شيئا كأني أستبق الأحداث، أو كأن حواري معها يلتقط ما يخطر بذهني من خطرات الفرح والحزن؛ إذ راحت الذكريات تتسابق ويخطر بعضها قبل الآخر، كما لو لم أسمع الخبر من النقيب ابتسام:

ـ هل قابلتِ ولدّي كريمة وقبّلتهما عن المرحومة أمهما؟

فأطلقتْ حسرة طويلة:

ـ اسكتي؛ زرتُ المكان مرات عدّة، فعرفت أن أباهما هاجر وأخذهما معه، فاختفى هربا من فضيحة أمهما ليعيشا معه، بعيدين عن الأقاويل وألسنة الناس ولم يفكر بالعودة قط.

صدمني ما سمعت، فقد وضعت كريمة ثقتها فينا نحن الاثنتين، كنا على وفق أحلامها رسولي الحياة إليها، أو ملاكين يعاندان الزمن والموت، ليحطّا بعد سنوات بقبلة على خدّي ولديها، لقد سرحت فأطلقت حسرة طويلة:

- رحمها الله، كنا أملها الوحيد.

- ماذا تستطيعين أن تفعلي؟ لروحها الرحمة.

التفتُ بعد كل هذا إلى فخامة شقتها وذوقها الرفيع، فتمتمت:

ـ ما شاء الله.. رب زد وبارك.

ـ حبيبتي أنا الآن سيدة مجتمع.. أتصدقين؟

ـ وهل سيدات المجتمع أفضل منك؟

فمالت عليّ قائلة بهمس كأنها تخشى من الحيطان الساكنة:

ـ من قح.. إلى قوا...!

ـ لا تقولي هذا (انزعجتُ حقا وتململتُ) لمَ تقولين ذلك؟

ـ هذا هو الواقع، وإن اختلفت المسميات.

ـ هذه قسمتنا.. وهذا هو نصيبنا.. أفضل من أن نجد أنفسنا في الشارع، لا أحد يدفع عنا مكروها والجميع يستغلوننا، أسألكِ بالله: ما جدوى الرغيف حين يستبدّ الجوع بالأرواح؟

بعد صمت قصير خُيل إليّ أنها هاجرت طويلا معه إلى عوالم أخرى:

ـ لا عليكِ عزيزتي، لم أجد لأكثر من سنة مَنْ أفضي إليها ببعض خواطري، وها أنتِ أتيت.

ـ لا عليكِ، اتركي هذه الهواجس السوداء.

فابتسمتْ ابتسامة مبهمة وقالتْ:

ـ أظنّ أنه بعد أيام سيكون لك بيت مثل بيتي، ومحلّ عمل لك حصّة فيه، هل يرضيكِ هذا؟

ـ لا تنسي، كل هذا بفضل السيدة النقيب.

ـ فضحكتْ عميقًا: وبفضل جمالنا وحظّنا العاثر، أنتِ طيبة القلب تفكرين دائما بالآخرين.

كانت ليلة رائعة قضيناها معًا بالحكايات وفضفضة وجع لن يعرفه غيرنا، بكينا وضحكنا، وتصفحنا مجلات الجميلات، وكتالوجات آخر صيحات قصات الشعر، وألوان موضة مكياج الموسم.

أولّ ليلة بعد خروجي من السجن.. النور المنشود.

الأمل الموعود.

وسرّ السيدة النقيب في صدري.

لا أبوح به لأحد حتى إلى مديحة أقرب صديقاتي.

وقتها خُيل إليّ أن مديحة تحوّلت بعد أن أصبحت حرّة إلى امرأة مركّبة، سعيدة وتعيسة في الوقت نفسه، راضية ومتذمرة.. مجموعة متناقضات، تحب النقيب ابتسام وتسخط عليها، ربما تحاول من خلال هذه المتناقضات تجنب خسارة نفسها مرّة أخرى، وقد يكون بسبب هجران أهلها لها، فكلهم تبرؤوا منها.. أهلها وأهل زوجها؛ لكن على الرغم من ذلك لم تندم على منح أي شيء جميل للآخرين، حتى لو كانت مكافأتها الخذلان من قِبلهم.

قالت لي قبل أن نخلد إلى النوم، وكأنها امرأة حكيمة مهابة:

- بعد مُضيّ سنوات حبسي، ومن خبرة تواجدي فوق منصّة الحياة، اكتشفت أننا نعيش في مواجهة تسونامي الكذب الأكبر، رجل الدين المزيف يكذب.. والسياسي الموالي لغير بلده يكذب.. والمثقف الذي لا يحترم نفسه، وغير المثقف الذي يتخذ من الكذب باب سخرية.. والفقير والصغير والكبير، حتى أنا وأنتِ نكذب على بعضنا، في بعض التفاصيل الخاصة!

هيا، هيا لننم، فنحن لسنا ناعمات الكفّين أو من نؤومات الضُحى، ينتظرنا عملٌ كثير.

- تصبحين على خير.

لهذا السبب خمنت أن تحرري من السجن سيهوّن عليها كثيرًا.

في الصباح اقترحتُ عليها أن أذهب إلى الكوافيرة، صاحبة المحل التي عرفتني بها النقيب، فقالت إنها ستوصلني إلى هناك وتنتظرني ساعة أو أكثر، ثم تصحبني إلى معمل الخياطة.

نزلت من السيارة على بعد خطوات، فهي - وربما النقيب أيضا - لا ترغب أن تعرف صاحبة المحل أننا صديقتان أو تشاهدنا معا، لا شكّ ستزيدني التسريحة والملابس الجميلة الجديدة الأنيقة جمالا، فتتغير بعض ملامحي؛ في هذه المدينة لا أحد يعرفني، وما فعلته أصبح من الماضي لا أحد يذكره.

سأصبح سيدة أخرى ببهاء جديد..

قالت لي مديحة لا يهم أن تتأخر عن عملها من أجلي، فهي المديرة وستقوم مراقبة العاملات بدورها على أكمل وجه.

قصدت محل الكوافيرة، وقابلت السيدة التي ظنّتني في زيارة إلى قريبتي النقيب، ورأيت علامات تشير إلى أن هذا المحل كأنه معروض للبيع، لم أشغل نفسي بمثل هذه الأمور.. فأنا حديثة عهد بالحرية.. يوم واحد مرّ عليّ.

قالت لي مديحة ونحن في الطريق، إن هناك ست عاملات من مجموع 150 عاملة يشتغلن للأمن العام.

ربما يكون العدد أكثر؛

لكنها تعرف ستًا فقط، معظم العاملات جميلات.. وهذا هو ما تصرّح به أمامي بحكم الصداقة والخبز والملح.. وقد رأيت الفخامة بعينيّ.. معمل خياطة ينبض بالحياة ويصبّ في عصب البلد.. مديحة هي المديرة، وهي التي تروّض خياطات ومهندسات مكائن ليرافقن مسؤولين كبار ويدخلن البيوت بمهام أخرى، مربيات، سكرتيرات.

سيكون لي مكتب، أو إدارة تؤدي مهمة كبيرة مشابهة أيضا، لم أعرف مَنْ تلك الجاسوسات الست؛ لكنني رأيت في كل العاملات والموظفات تلك الخصلة!

كنت سعيدة بالزيارة، ومنبهرة بمعمل الخياطة الكبير.

والأهم أنني أشعر بطعم آخر للحياة مع رفيقتي التي كانت معي في السجن.

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

في نصوص اليوم