نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: ذكريات من رماد

1/5 ـ هل حقا ماتت ضحى؟..

هي لم تمت أبدا، فصورتها مكمولة هي أوج التجلي في عايدة ابنته، برموشها الوطفاء، بعينيها الناعستين بأنفها الخناسي، بغمازتها التي تضيئ خدها الأيمن سحرا، كلما تبسمت او تكلمت..

اليوم يراها في سلمى أختها، يراها بكل تلك العلامات والتجليات وقد اكتملت في فتاة بلغت أوج أنوثة، لايمكن لرجل ان يقاوم لها سحرا، سحر الاناقة فيما ترتدي وسحر الكلمات اذا حاورتك، وسحر الاشارات اذا ارادت ان توحي لك بشيء ولو كان لا يستحق الإشارة، نفس الذكاء الذي يخاطبك بالعين قبل اللسان، ونفس الحدس الذي يصيب ولا يخطئ في تقدير..

كل من رأى سلمى ينبهر لهذا التطابق في الشبه بينها وبين أختها ضحى، كانهما معا فلقتي فول، فيهلل، يسبح أو يكبر.. كلما ضمها سعد الى صدره اثر عودتها من رحلتها الدراسية التي استمرت خمس سنوات، استعاد ذكرى ضحى من خلال ضغطات أناملها على كتفه الايسر وطريقة حك وجهها بوجهه وهي تقبله..

فهل حقا ماتت ضحى؟

هاهي أختها التي كان عندها مثلا وقدوة صارت تحمل له حبا قد ترسخ، تشبثت به بعد حلم كانت قد راته، فتملكها، وصار لها دافعا قويا واملا يستحق التضحية بعد موت ضحى..

قالت له في احدى جلساتهما:

ـ كنت اذا سمعت اسمك احس الدبيب في ذاتي يسري.. وكلما كلمت عايدة عبر الهاتف او النت وسالتها عنك تقول:

ـ انه يتمطط بين تجارته وبين المنتديات العربية، يتسلى بالكتابة والدردشات...

ما كانت تحركني غيرة من بنات المنتديات العربية فقد كنت اعرف ان الشرقية لن تحرك سواكنك لما تتمسك به من تقاليد وعادات راسخات، وهي وفية لتلك الطقوس، سمكة في ماء، تموت لو تركته، وأنت من وسط متحرر وتربية تؤمن بالاختلاف، وما كانت لك ضحى بتحررها، بثقافتها ودراساتها القانونية كمحامية الا أنثى تبادلك الثقة والحب وسلوك الحرية والوعي، فكلاكما من نفس عجينة التربية والنشأة الحرة التي تؤمن بالاختلاف عكس أغلب الشرقيات اللواتي تربين على الخنوع والخوف والشك في الرجل، والغيرة من النسمة اذا مسحت وجهه بهبوب ...

كنت اعي أن ما تكتبه وما تستبطنه في مكتوبك من أفكار وفلسفة ونماذج حياة، بعيد عن فكر الانسان الشرقي المطبوع على القبلية والتشدد في الدين بلاوعي، وا لتعاليم الوراثية التي فرضت عليه ألا يتعلم حوارا أو يتنازل عن رأي، فقد رسخ لديه انه الوحيد من كرمه الله لانه من خير أمة أخرجت للناس وبهذا فهو وحده من يملك الحقيقة.والغريب أن سلوكه يناقض ما يستبطنه حفظا بلا وعي، لا يضيره ان يزني او يكذب أو ينافق أو يرد دينا عليه باليسر كما أخذه، ولكنه عند الحديث يجتر محفوظات كطحين الرحى الذي لا يتغير له حب أو كما يقول المثل الدارجي:"الرحى تدور والتشيشة هابطة"..

وقد تابعت الصدى الذي خلفته قصتك: اسألوا جانيت مربيتي بعد نشرها بالفرنسية وما حصدته من قراءات وتنويه وبين ما نالته من تقريع بعد ترجمتها الى العربية من عقول مازالت تحن للكهوف حنينها لموتاها باقتداء وتقليد، لاتميز بين حقيقة متخيلة وبين معلومة دينية من وحي منزل...

كنت دائما اتمثلهم بآيتين من القرآن الكريم حفظتهما من التعليم الابتدائي:

"يحسبون كل صيحة عليهم "

"وكالحمار يحمل اسفارا "

العربي حين تناقش معه سبب هذه الانطوائية يتحجج بالوسط والبيئة والتربية، كلهم تقريبا يدافعون بنفس الفكرة كأنها وحي ما نزل الا على عقولهم.. ولكن أية تربية هذه التي تبقي العقل الإنساني متحجرا فيما قاله السلف بلا إعادة نظر أو غربلة فرضتها علوم ومعارف جديدة مكنت العقل من أدوات جهنمية للتمييز بين أزمنة التاريخ، لكل زمن رجاله وقومه المتحكمون فيه بما توفر لهم من أفكار ومعارف وآراء ونظريات ومن حرية وديموقراطية وحق في التعبير.. كنت أعزو ذلك الى ان بعض العرب الذين كانوا يشاركونني الدراسة لم يكونوا غير أبناء حكام يريدون الوصول بأموال آبائهم لا بعقولهم وجهدهم ومعاناتهم الشخصية ؛ولكن بعد لقاءات متعددة مع غيرهم من العرب، كان الأمر لا يختلف كثيرا.. فهم كما يتفقون على النظرية التبريرية التي تتهم كل ماعداهم يتفقون في الوهم الذي يرين على عقولهم، ان كل أنثى هي للرجل ملك وحرمة لا تعصي له أمرا، لهذا كنت لا أخشي عليك من بنات العرب في المنتديات، فأنت لن ترضى بأنثى خانعة لا تعرف من الحياة الا ما قد تم طبخه في عقلها حول الرجل السيد المطاع، والذي يجب ان ترضيه جنسياـ ولا يهمه أن استطاع ترضيتها أو تركها نصف مذبوحة ـ أكثر مما ترضيه في مأكله ومشربه أوتشاركه الرأي والنقاش، فمنهن من لا تعرف حتى اعداد عشائها وتتكل على خادمة في كل شيء، كما لا أنثى منهن قد تقبلك بافكارك التحررية.. التي توحد الله من منطلق العلم والدليل بلاخرافة ولا أوهام ولا خوارق صنعتها الأجيال بالاحلام والازليات ؛ ربما تعجب بك ولكن لن تغامر معك ومن ورائها القبيلة بكل خلفياتها التقليدية وطائفيتها وتحيزاتها والتي تمنعها من مغادرة المدينة فأحرى ان تغادر الوطن من مشرقه الى مغربه، خصوصا اذا كانت من دول تسقط الجنسية على بناتها ان تزوجن برجل أجنبي من خارج الوطن. عقدة العظمة هي فلكهم المركوب، وفي قصورهم يراقص الشيطان الحريم وبهن يلهو..

كان يستمع لها بكل ما يملك من عقل وحواس، تبهره بما تقول، بصدقها بعفويتها وبقوة ثقة في نفسها راسخة.. هل حقا هي ذي سلمى الصغيرة التي كان يطويها الصمت، تستمع أكثر مما تتكلم؟.. !!..

حين حرك شفتيه ليعلن اعجابه وضعت يدها اليمنى على فمه وباليسرى ضغطت على خده، تنهدت وقالت:

ـ كان لظى الشوق اليك هو ما يحرقني.. احساسي بنار الوله كان كاويا بين ضلوعي وأنت لا تدري...

راي في عينيها بوادر مطر.. ضمها اليه.. قبَّل جيدها، ثم شرعت تتابع كلامها..

ـ لم تأكلني الغيرة الا يوم أخبروني انك خطبت عزيزة بنت عمك !!..

كدت أموت حسرة وحزنا، خوفا عليك من حياة قد تسكنك في جحور الخرافة والدس واللعب على الحبل، فبين حياتك مع أختي وبين بنت عمك، ما بين السماء والأرض، وعيا وثقافة ونمط تربية، وقد داهمتني من جراء ذلك حمى خشيت منها على نفسي..

طفرت من عينيها دمعات نزلت على الخدين ثم عادت تدفن وجهها في صدره..

شدها اليه بقوة، لعق دموع خدها، لثم يدها ثم وضعها على خده كما يحب ان يفعل دائما، وكما كان يفعل مع عايدة ابنته حين تبكي من مغص او صداع وكما يفعل مع سلمى الآن..

تنهد بعمق وقال:

ـ كيف لم انتبه لكل هذا الحب؟ ما أغباني !!..

تطلعت الى وجهه وقالت وهي تبتسم: الغباء ليس في عدم الانتباه.. لا تراوغني.. يابو عقل كبير.. الغباء في كل انسان يتشبث بنظرة أولى ولا يحاول تغييرها.. أو يخشى تغييرها ويطبق القاعدة العربية: كم حاجة قضيناها بتركها.. كنت معذورا.. فما كنت ُلديك الا الصغيرة التي عاشت معك.. تساعدها في دروسها وتأخذها الى المدرسة صباحا وبعد الزوال ثم تمر عليها عند رواحك لتعود معك الى البيت مساء. هذا من خلقك، أعيه واستوعبه، ومن عنادك الذي يرفض تصديق موت أنثى أحبها ولن يجود الزمان بمثلها..

تابعت وهي تحفر في محياه عن أثر رجع الصدى لكلماتها:

ـ مرة قرات في احدى الدراسات ان العربي هو الانسان الوحيد الذي يكره ان يكبر، يموت في تقديس الأجداد، ويمقت التغيير ويلتزم بماضيه حتى ولو كان كفرا...

تنهدت ثم استرسلت:

الزمن نهر دافق لا يتوقف له جريان ومن يعاند السير اتجاه الدفق تجرحه الاحجار ونتوءات الضفاف..

مدت لسانها لارنبة أنفه.. غافلته ثم عضته، ضحكت وقالت: ـ ـ هكذا

تألم ثم تلمس أنفه وقال:اول الاوسمة على وجهي..

تداعت صور ة ضحى في خياله يوم مسكت انفه بمقدم أسنانها، وصار يتوسلها من خياشيمه ان تترك أنفه..

اعادته سلمى اليها بسؤال فاجأه:كيف وجدت بنت العم؟ الم تخبرك من كان وراء طلبها شقة فوق مهرها؟

رد:

ـ لا.. فيكفي ان تقايضني أنثى لابتعد عنها، لان من تقايض لا يمكن ان تحب او تربي..

ضحكت وقالت:

ـ صحيح كلامك.. لكن اسمع مني الحقيقة:

قطب حاجبيه استغرابا:

ـ منك !!.. وما دخلك أنت؟وكيف وصلت اليك؟.. هل الحاجة كانت تخرج أسرار البيت دون علمي؟ أم هي عايدة كانت تصير راوية في حلقة حين تكون في ضيافتكم؟

ـ نظرت اليه نظرة لزم زو عتاب لكلمة حلقة.. وضعت يدها على فمه وقالت وهي تضحك:

ـ لانقيم حلقات نميمة في بيتنا، وأنت اول من يعرف هذا.. لا هذه ولا تلك يا خطيبي العزيز ان بعض الظن إثم.. هاتفت بنت عمك لابارك لها خطبتها منك..

ضحكت وكان فرحة انتصار تفاجئها اللحظة ثم تابعت:

بصراحة لم تكن تلك غايتي، فلا يربطني بها كبير علاقة فلم نلتق الا مرة أو مرتين في حياتنا.. هاتفتها لأقيس مقدار هذا الحب الذي استطاع أن يثيرك فيخطفك مني.رغم غير قليل من المشاكل التي سببتها اسرتها اليك. فما كنت اعرفه عن عزيزة من صغري انها أنثى لا مبالية، انتهازية، تعيش في قفطان أمها لا رأي فوق رايها، تتطلع لكل شيء بفكر استحواذي، ثم عرفت اباها يوم نازعك حق أبيك في ميراث جدك، أما أمها فكانت بينها وبين ضحى مسافة، لان ضحى قالت لامي مرة: "كلما صادفتها اصابني مكروه ".. وكان رد أمي:"كلكم معين الا من بورك.. فتجنبي اللقاء معها.. والأمر يقف هنا "..

من الغرابة اني حين كلمتها وجدتها كأنها في انتظاراحد من اسرتنا لتسأله عنك..

بعد التهنئة والعبارات العادية فاجأتني بالقول:

سلمى حبيبة قلبي ممكن تخدميني بإفادة حول سعد.. اريد أن أكون الزوجة المثالية له كما كانت ضحى..

يا بعدها عن ضحى وأخلاق ضحى.. !!!!...

كانت عبارة حبيبة قلبي منها طمعا، نفاقا، ووصولية، بل غباءا وقلة ثقة في النفس واهتزازا في الشخصية، فأنثى تسأل غيرها عن ابن عمها بدل ان تسال نفسها معناه تريد تحقيق مكاسب آنية بضربة قاضية بعيدا عن علم ممن يحيط بها من الأقربين..

بادرتها:

ـ من عيوني عزيزة... فكلنا نحب سعد، و نتمنى ان يعود الى حياته الطبيعية بعد أن عانى ما عاناه ولايزال..

ودون ان تسمع نهاية لعبارتي قالت:

أولا اسالك عن عايدة بحكم تواصلك الدائم معها، طبعها ما تحب وما تكره.. ثم عن طبيعة سعد فانت قد عشت معه كثيرا أيام المرحومة ضحى..

بسرعة أدركت ما تريد وميزت بين السؤالين:عارض عن عايدة ومتقصد عنك، وقارنت بينك وبينها:

بين رجل مثقف واع، من صغره وهو جوال بين بقاع العالم سيان كان مع ابويه او وحيدا وهو طالب يدرس في الخارج، او مع المرحومة زوجته.. ميسور الحال، متواضع يعيش حياته بلا خلفيات، حطام الدنيا لديه ليس كل شيء... وبين امرأة تسعى لارضاء أنانيتها قبل رضى من ستتزوجه، ويصير لها شريك حياة تتباهى به وهي لا تستحقه..

وساءلت نفسي: هل مثلك من تهدر أنثى وقتا في السؤال عنه حتى ولو كانت بعيدة عن محيط الاسرة، فأحرى أن تكون بنت العم؟...

بصراحة واتتني الضربة في غبية لا تستحقك، فقد تصونك الضربة مما قد يعكر هدوء نفسك وراحة اسرتك، لان مثل عزيزة لن يجلب معه الا المشاكل وصداع الراس، فأبوها لم يرحم مرضك ولا حالتك النفسية واصر ألا يقوم بتقسيم شركة جدك بعد موت الحاج، وما تحاول إدخاله من أفكار جديدة على التسيير والتوزيع، واهما ان ذلك سيخرب شركة الاسرة فهو كان مشدودا الى النماذج القديمة في الاقتصاد خوفا من الحسد والضرائب...

سرقتني صورتك عنها، حلمي بك، أملي الذي بنيته في أن أكون لك بدل المرحومة أختي، فباغتتني بنداء:

سلمى هل انت معي؟..

بادرتها بالقول: معك حبيبتي افكر في نصيحة اقولها لك، لكن قد يكشفني الزمان واصير في عرف سعد أنثى صغيرة بلا عقل، تتدخل فيما لا يعنيها.. قالت:

سلمى اقسم بالله ان هذا حديث لن يتجاوزنا معا، قولي حبيبتي.

كانت متلهفة على ان تسمع ما يوقعك في حبائلها المريضة..

تريث قبل أن أجيبها وأنا أتسمع أنفاسها صاعدة نازلة عبر الهاتف:

عزيزة !!.. لو كان سعد يريد الزواج لتزوج من مدة، لكن هو لازال يعاني من صدمته، ومن خوفه على عايدة بنته، ومن مشاكله حين أراد حق أبيه في ميراث جده لتأسيس شركة مستقلة.. كل هذا لم يكن سهلا بين افراد اسرة معروفة بتماسكها ومشهورة بعلو كعبها علما واصلا ونسبا، و أنا لا ادري شيئا عن طباعك حتى اعرف ما أقول بالضبط، وقد سمعت انه ارتبط بشرقية ثم افترقا.. والانثى منا لو بادرها الزمان بطلاق فربما تظل طيلة ما تبقى من حياتها تعاني من تقولات الناس وأطماع الرجال، فعلى الأقل يجب ان تفوز بشيء من رجل قد لا يرحم حتى حبها له، أو يراعي صلة الرحم...

كنت أتسمع أنفاس عزيزة تتعالى قوية من وراء سماعة الهاتف، معناه وجد كلامي في نفسها هوى.. وفجر ت لهفة الطمع حقيقة أعماقها..

قالت وفي صوتها رنة انبهار، فلهثت ككلب توقف عن ركض:

ـ انت ذكية سلمى.. رائعة، واشكر الصدفة التي جعلتني التقي بك، مارايك لو اطلب منه ان يكتب لي شقة في اسمي فوق مهري، فوالده عمي سليمان قد بنى عمارة من النوع الرفيع قبل وفاته مازالت بها شقق فارغة..

قلت لها فكرة مقبولة لن تكلفه شيئا بالنسبة لما يملك. لكن فكري جيدا قبل عرض رغبتك.. هذا يتعلق على مدى قدرتك السيطرة على مشاعره.. ووسائل الاغراء لديك.. أنت أنثى، هل تفهمين؟

كانت تريد ان تطرح علي أسئلة أخرى فاعتذرت ان لي موعدا مع طبيب الاسنان... ودعتها وانا أحس بفرحة الجشع في كلماتها يزفرها الصدر قوة أنفاس، وفي نفس الآن بالضربة القاضية منك لاني أعرفك وأعرف افكارك وقراءاتك للحروف والكلمات الا اذا كان ذكاؤك قد غيبته بعض بنات المنتديات العربية..

تنهدت بعمق.. ومطت شفتيها نحو فمه.. دلى لسانه اليهما..

رن هاتفها.كانت صورة أمها تظهر على الشاشة

سالتها أين أنت؟

قالت اختطفني هذا وادارت واجهة الكاميرا اليه:

حيته أمها بادب كما كانت دوما تفعل منذ ان تزوج ضحى

وقالت: ليتنا نجد دوما رجلا يختطفنا مثل سعد، سانتظركما على العشاء لا تنسوا الحاجة وعايدة

وأعاد السؤال نفسه وقد صب عيونه قلب عيونها:هل حقا ماتت ضحى؟

تذكر قولتها: لن أموت ياسعد سيظل كل ما بعدي اقوى من حضوري في حياتك.. حبي لك لن يموت حية وميتة وهو ما سيوجهك ويؤطر حياتك..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

في نصوص اليوم