نصوص أدبية

نضال البدري: الهواجس والمخاوف

لم تكن قاعة الالعاب الرياضية حكرا على النساء البدينات او الشابات اللواتي يطمحن الى الحصول على جسد رشيق وقوام ممشوق، بل لمن اصابتهم الوحدة او الالم المفاصل والامراض المزمنة ايضا، اما انا فقد كان سبب وجودي هنا لكي ارمم ما أكله الدهر مني رغم أنى لم ابلغ الخمسين من العمر بعد، واطرد اليأس الذي بات يتمكن مني. استقبلتني المدربة بابتسامة ودودة ووعدتني اني ساجد في هذه القاعة فارقا كبيرا على مستوى تحسن صحتي، ويبدو انها كانت تستقبل اي مشتركة جديدة بهذا الشكل.

المشتركات كن يتقاطرن الواحدة تلو الاخرى، احداهن وهي فتاة في العشرين من عمرها رغم انها كانت تتمتع بحيوية ونشاط كبيرين الا ان وزنها كان كبيرا وكان عليها ان تقلل من كتلة الشحوم هذه بالرياضة لان ستتزوج بعد شهر وعليها الاستعداد للزفاف، المرأة الأخرى ذات الشعر الاحمر تتفاخر بانها خلعت زوجها وانفصلت عنه، بعد ان اكتشفت خيانته لها مع اعز صديقاتها.  سماعة هاتفها النقال لا تفارق اذنها، وكما يظن الجميع هنا فأنها كانت تتحدث مع رجل تعرفه او لعلها تقيم معه علاقة وثيقة ربما لأنها تريد ان تثأر من زوجها السابق، المدربة كثيرا ما كانت ترمقها بنظرة حادة حين يرتفع صوت ضحكاتها  المريبة وتقول لها بلهجة آمرة: انه مكان للعلاج والتمرين وليس مقهى، كان صخب اصواتهن احيانا يعلو فوق صوت الموسيقى التي تصاحبنا اثناء التمرين.

الوحيدة التي لا يسمع صوتها هي المرأة التي شارف عمرها على الستين عاما والتي حرصت دوما على ان لا تظهر خصلات شعرها الأبيض. كانت عيناها الغائرتين وجسدها الهزيل يصفان مدى ضعف قدرتها البدنية وأصبحت محط تندر بعض الفتيات الصغيرات اللواتي كن يتهامسن ويضحكن بصوت منخفض حين تمارس التمارين معنا، حتى انهن كن يتندرون بالقول بأنها أقدم من النهر في هذه المدينة.

تساءلت في سري وفكرت في امرها طويلا، اليس من المفترض بتلك المرأة ان تكون بين اولادها واحفادها الان لكي تحظي برعايتهم وحبهم.

وكما يبدو من هيئتها أنها امرأة لطيفة. حاولت التقرب والتودد اليها واساعدها بعض الاحيان مما مهد لي الجلوس بقربها وتبادل الحديث معها وفي احدى المرات سألتها على استحياء: هل تعانين من امراض المفاصل. فأجابتني: لا الحمد لله انا لاأعاني سوى من السكري، اذن، لم أنت هنا؟

قالت إنها الوحدة. انا اعاني من الوحدة، لدي ولد وبنت، ولكنهما تركوني وحيدة في المنزل بعد ان توفى والدهم ولا يأتون لزيارتي الا حين يأتون لأخذ المال مني. لدي دار مؤجرة تركها لي زوجي والاولاد يأتون لكي يأخذوا نصف ايجارها وبعدها تنقطع اخبارهما حتى عندما اتصل بهما يكونان مشغولين حتما، كانت لي حياة جميلة حين كنت بعمرك، سافرت بلدان كثيرة بصحبه زوجي وولدي ولبست أفخر الثياب. فجأة سادتها سكينه مفعمة بالكآبة، ولمحت حياة جديدة ترتسم على وجهها الحزين وكأنها استيقظت ثم أطرقت قائلة: أصبح المنزل مسرحا للفراغ والاحزان، الليل له مخاوفه وهواجسه، والمنزل له وحشة القبور. وانا كما ترين الان قد تقدم بي العمر وبحاجة لم يهتم بي، لدي ايضا مشاعري، سوف ابوح لك بسر اخفيه عن الناس، ربما لأننا قريبات في العمر وبإمكانك ان تفهميني، في إحدى المرات استأجرت سيارة اجرة، كان صاحب السيارة انيقا ودودا ويضع عطرا فرنسيا، تحدث بطريقة لبقة ومؤدبة وجميلة وساعدني بحمل بعض الاغراض من السوبر ماركت الذي كنت قد قصدته بعد ان طلبت منه ذلك واتفقت معه على ان يقوم بإيصالي الى القاعة كل يوم، في الحقيقة كنت اريد سببا يجمعني به مرة اخرى، هو في بداية الأربعينيات ولم يتزوج لحد الان وعندما سالته قال انه يعيل عائلته ولم يعد يشعر بالعمر وهو يمضي سريعا، توثقت علاقتنا سريعا، بإمكان أي شخص ان يثق به، حنون، ودود وصادق، فيه صفات اكثر من ذلك تجعل أي امرأة تنجذب اليه وانا ما زلت امرأة، لدي مشاعر امرأة ناضجة ووحيدة .مضى على علاقتي به ثلاثة اشهر ازداد تعلقي به وازددت تعلقا به وقبل شهر تقريبا فاجأني بانه يود ان يتزوجني ان يرتبط بي الى الابد، لم احتمل ذلك وبكيت، بقيت ابكي لمدة تقارب النصف ساعة واحتضنني وشعرت بالدفء، قلت له انني لا استطيع الكلام وبكيت مرة اخرى في المنزل الفارغ والبارد، مزقت ملابسي، كنت اصرخ ثم سكت لئلا يسمعني الجيران، هل تتخيلين الامر؟ في الشهر الثالث اعتدت على سماع صوته طوال الليل يوميا، يوميا كنا نتحدث في مختلف المواضيع وكنت اشبهه وكان يشبهني، اصبحت اعشقه وهو يتحدث او يتنفس او يدخن، اصبحت اكره غيابه، واتصل به في كل وقت، قلت له لا عليك انا اعطيك ما تكسبه في كل يوم مقابل ان نكون سوية ورفض، يجلب لي كل يوم وردة حمراء، قررت وبشجاعة ان أدعوه الى الغداء في المنزل ولكنه رفض قال انا اخاف عليك من كلام الناس، كان يكبر في عيني كل يوم، حدثته عن اولادي وعن قراري بالتحدث إليهم بشأن طلبه الزواج مني، ربما يفهمون الامر وشجعني على ذلك واتصلت بهم،في الحقيقة كنت مندهشة ومشدودة الى حديثها بشكل غريب، طلبت منها بعد ان صمتت لكي تجيب على هاتفها النقال ان تستمر بالحديث، قالت لعلي صدعت راسك بمشاكلي فقلت لها لا عليك وماذا حصل بعد هذا ؟ قالت اتصلت بهما وقلت لهما ان عليكما الحضور لأمر مهم وحضرا بالفعل، كنت خائفة من ردة فعلهما حقا ولكني قررت المسير بالأمر الى اخرته، قلت لهم بعد ان أنهينا الغداء إن هنا رجلا يريد الزواج بي، وتخيلي الصدمة والوجوم على وجهيهما، نظر أحدهما الى الآخر ثم قال ابني ومن يكون هذا الرجل واين تعرف عليك ثم كيف لك ان تفكري بالزواج وانت بهذا العمر، وحاولت البنت ان تكون أقل انفعالا من اخيها وقالت نحن مقصرون معك ياامي ولكن هذا ليس سببا لكي تفكري بالزواج، فكري بنا ترى ماذا سأقول لزوجي وعائلته وماذا سيقول اخي لزوجته، فكري بنا ياامي قبل ان تفكري بنفسك، بقيت صامته انظر الى وجوههم ثم قلت لهم لقد اتخذت قراري وسواء قبلتم أم لم تقبلوا فالقرار لي، غادروا المنزل لكن ابني قال لي ليس لك بالتأكيد بل لنا وسترين ما سنقوم بفعله

بالأمس ذهبنا الى محل أحد الصاغة واشترى لي خاتما من الذهب وسنذهب الى المحكمة لكي نعقد قراننا ثم سياتي لكي يعيش معي في البيت.

في اليوم التالي لم تحضر الى القاعة و انتظرتها طويلا وتشاغلت بأداء التمارين ولكني كنت أفكر في تلك المرأة التي قررت ان تعيش حياتها مع من تحب؟ مضت عدة ايام و الفراغ الذي تركته لا يمكن ملئوه، لكن ما حصل في اليوم السابع لغيابها والذي سمعناه من المدربة جعلنا نحزن كثيرا، ادعى اولادها انها مجنونة وطلبوا من المحكمة إيداعها في مستشفى الأمراض العقلية للتأكد من سلامة قواها العقلية والحجر على أموالها ونصب ابنها وصيا عليها، وتم الامر كما خطط الاولاد لذلك ولكن الغريب بالموضوع ان صاحب سيارة الاجرة لم يتركها لحظة واحدة ومازال واقفا امام باب المستشفى وهو يقول اقسم بالله انها زوجتي، ليس الامر كما يقولون خذوا كل شيء واتركوها لي وحدي.

***

نضال البدري / العراق

في نصوص اليوم