نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: ذكريات من رماد (2)

2 /5ـ أنثى تعيد للنهر الجريان

حين دخلت عليه مكتبه كان يرد على بعض تدخلات الأعضاء في أحد المنتديات.. تبادلا التحية بعناق وقبل؛ طلب منها دقيقتين يتمم فيهما ردوده.. بعد هنيهة كان يحسها تدقق في وجهه بنظر.. قالت وبسمة تضيء وجهها:

ـ تغيرت ياسعد !!..

قفل حاسوبه واعتذر ثم قال لها:

ـ الزمن يمرحلنا فيتغير فينا كل شيء..

لم تغادر البسمة وجهها.. بسمة تذكره بأختها ضحى.. بنفس الغمازة على الخد ونفس العيون الكحلية توهمك عند تبسمها انها غافية من سكر.

قالت:

ـ من يتصور أن سعدا يصير كاتبا بلغة الضاد؟

ضحك ثم قال:

ولماذا يظل سعد مستلبا في وطنه يتحدث ويكتب بلغة أجنبية؟.. حبذا لو كانت حروف تيفيناغ بالعربية او الاعجمية لتعلمتها وبها تكلمت وكتبت، هي جذورنا في أعماقنا راسخة تظل تستغيث بنداء.. رغم دعوات التعصب ومحاولات إلغاء الآخر.. أليس التعصب هو ما قتل لغات وحكم على أخرى بالموات؟..

أمالت براسها الى اليسار ثم قالت:

ـ العادة ولغة الدراسة..

ـ وعلينا ان نتخلص منهما الى إرادة حتى لانموت في غربة داخل الوطن..

مدت يدها، وضعتها فوق يده وقالت: ألا تحس بوجودي؟

ضحك استغرابا وقال:

كيف لا أحسك؟.. فانت سلمي.. أخت المرحومة زوجتي، تفجرت لها أنوثة طاغية، وماعادت صبية تتقافز كفراشة في براءة الطفولة.. أتتني عاشقة وفاجأتني بحضور..

ضحكت و في عفوية تحرك منها الصدر كأنها تريد ابراز صدقها مع نفسها:

ـ ألا تغريك أنوثة سلمى بقبلة غير ماكانت تناله منك في طفولتها؟ فاليك قد أتيت طوعا أحمل حبا هدية...

زفر من ذكرى غزت مخه.. حركت شريط الماضي في خياله..

قال: سلمى دوما في خيالي طفلة صغيرة.. وهي وسم من ماض لازال يحفر في ذاتي بأثر بليغ.. ما لمستك مرة الا انبعثت ضحى أمامي بنظرة عتاب..

ارتمت عليه وطوقته بذراعيها.. ثم قالت:

ـ جرب، فسلمى هي التي بين يديك وليس غيرها، خبرة من كتب ومجلات لكنها امرأة بكامل أنوثتها، بها قد تستعيد ماضيك، تجدده في حاضر ربما يكون أحسن، أمتع وألذ .. أشتهيك ياسعد!!. لن تجد غيري تحبك كما أحببتك.. ولن تجد غيري أما لعايدة كما عايدة تتمنى وانت لها تريد.. هل تقلقك صراحتي؟ لا أظن فأنا اعرفك..

يدرك أنها صارت أنثى شهية، لكن صورتها الطفولية هي ما يهيمن عليه، قبل خدها ثم همس في أذنها:

ياطفلتي!!.. احذري قد تدخل علينا الكاتبة...

ادركت انه أراد التخلص من عناقها.. توارت، ردت شعرها الطويل الى الخلف ثم قالت بعد تنهيدة صبر وهي تدرك أن هيامه بأختها من الصعب أن تمسحه السنوات بسرعة، فالرجل الذي افقده موت زوجته النطق واشل حركته لولا عناية مركزة وعلاجات قوية لن يبترد له أوار الا بعشق اقوى يغير له مجرى ويعيد الى نفسه الأمن والأمان..

ـ أصرت الحاجة أن أتعشى عندكم وربما قد أقضي الليل كذلك، فاحذر ان تتهرب مني كما تهربت أول أمس.. لنا كلام كثير يلزم ان نطرحه للنقاش..

قبل يدها حتى يبعد عنها فكرة التهرب، وبخفة دون ان تراه ضغط الجرس على كاتبته.. حين دخلت الكاتبة قدم لها ملفات اليوم وقد غمز سلمى باشارة، انه كان على حق حين خاف دخول الكاتبة عليهما..

ركزت النظر في كاتبته تتفحصها، تابعها يقرأ هواجسها:

مليحة، مهتمة بهندامها، لكن نظراتها صارمة.. لا.. لن أخاف عليه منها..

غيورة.. ذاك ما أوحته له نظرتها، من أعماقه نبع صوت ضحى أختها وقد قالت له ذات صباح وهي تطوقه بعناق:

لن اشك فيك ياسعد ابدا.. لاني أعرف من أنا عندك، ولن تجد أنثى تقدم لك ما اقدمه لك برضى وبكل التوق الذي يتمناه رجل.. أحبك ياسعد.. وادرك أنك على خلق..

قصدت سلمى كنبة أمام مكتبه وارتخت عليها..

كان يحس قلقها.. تتابع كل حركة يقوم بها، وكأنها تقشر سلوكاته لتعرف حقيقته نحوها، تمنت لو يترك كل شيء و يستفسرها عن ماض من حياتها ثم يخصها بزقات ولمسات.. وكلمات مما تعشق أي أنثى..

كانت تتمنى لو يعتصرها بقبل تنسيها لثمات الطفولة منه على خدها فيحرك كل شهقة مكبوثة تخبره حبها له وظمأ الشوق اليه ..

وهو يجمع اشياءه من فوق مكتبه قالت:

سعد هل تذكر حلما كنت قد رايته وأنا صغيرة؟

حاول أن يستعيد ذكرى ما قالت.. لم يفلح.. او ربما تظاهر بذلك.. باشارة من راسه أبلغها نسيانه.قالت:

ـ ألا تذكر يوما ونحن على مائدة الإفطار قالت لك ضحى يرحمها الله:

كيف تفسر حلم امرأة ترى نفسها تسلم مفتاح بيتها الى أختها هدية؟

يومها أنت قلت لضحى ضاحكا ووجهك من وجهها اقرب:

ـ المفتاح دليل علم ومال.. الشهادة عندك، والمال من مهنتك.. فماذا تريدين أكثر؟

قالت:

لست انا من رأى الحلم.. سلمى يا سعد..

قالتها بغصة أحسستها في حلقها وهي تتكلم..

قلتَ لها وقد استدرت نحوي: ستكون عالمة ودخلها كبير، ستكبر ويخطفها زوج فتنسانا ويصير كل شيء له..

ضحكنا وقد قطبت في وجهك وأنا أردد:

ـ الله يسترني من لص يسرقني.. يومها لم تكن غير زوج أختي، أخي الكبير الذي أقدره وأعزه وافتخر وانا انزل من سيارته بباب مدرستي..

وتذكر الحلم.. تذكره بكل تفاصيله.. يومها قالت له ضحى حين عادت من عملها مساء وبعض التعب يبدو عليها من وطء الحمل:

أخاف أن أموت قبل الوضع...يا سعد.. !

ضمها الى صدره بشدة وقال: اعوذ بالله مالذي أوحى لك بذلك؟

قالت: إحساس انتابني حين حكت لي سلمى ما راته في حلمها..

ـ قبل يدها وقال: لا اخال حلما رأته طفلة قد يحرك سواكنك بخوف !!..

في غرفة نومهما كانا تلك الليلة كعروسين ليلة الدخلة.. فر النوم من عيونهما وحضرت المتعة واستغرقهما شوق رهيب كأنهما في لقائهما الأول..

وهما في الحمام قبل الفجر ضمته ضحى بقوة ماعهدها ابدا، سالها:

ــ مابك حبيبتي؟

اغرورقت عيناها بالدموع وقالت وهي تزداد به التصاقا:

أحبك ياسعد وحبك طاغ على نفسي، أقوى من قلبي، متى ينتهي الوضع فاعود لحبيبي ريشة تداعبه بلا ثقل؟

لعق بلسانه دمعة علقت بخدها ثم قال:

ـ قريبا.. شهران وتخف حبيبتي...

وهما يجففان جسمهما قالت:

ـ سلمى تراك مثلها الأعلى ياسعد..

رد وقد ساعدها على تجفيف ظهرها ثم شرع يلثمه:

ـ وأنا أرى فيها طفولتك كيف كنت تتحركين وتبدين رايك بشجاعة وجرأة، وتصرين على ألا يبزك تلميذ أو تلميذة في المدرسة، هي شبهك في كل شيء..

تذكر يوما كانت واسرتها مدعوين في بيتهم، وقفت ضحى على مائدة العشاء وخاطبت والده بجرأة نادرة:

ـ ساستسمحكم عن صراحتي وصدقي مع نفسي..

عمي امد لك يدي طالبة يد سعد منك..

رد والده ضاحكا: اللهم أطعمنا حلالا، كم سيكون مهر سعد؟

رقرقت دموع في عينيها وقالت:

عمري وحبي ووفاء اعاهد ربي عليه..

في سريرهما كان تلك الليلة يتسمع أنفاسها متقطعة وبين فترة وأخرى تصدر منها تنهيدة اقلقته عليها.. كان يرفع يدها التي تنام دوما قلب يده ويقبلها..

فجأة أعادته سلمى اليها: سبحان الله اين سرحت؟

تنهد بعمق وقال:

في أيام ما ظننتها تفنى بسرعة، وتندرس في رمشة عين..

اقتربت منه وضعت قبلة على خده وقالت:

ـ اقدر مشاعرك، ومن أجل هذا الإحساس أحببتك، وأيقنت أني نصفك الضائع وحدي قادرة على تعويضه.. نلتقي ليلا ونتحدث..

ثم خرجت من مكتبه تخلف عطرها يحيي ذكرياته بوجيب في الصدر قوي ويبقي اثرها حضورا في مكتبه.. أنثى أقبلت في إصرار لتعيد للنهر الجريان..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم