نصوص أدبية

سامي البدري: هروب إلى ذيل الأرض

عندما لا يعود لك في مكان ما تفعله غير تجنب حروب زوجتك فأهرب إلى طرف ذيل أمريكا اللاتينية. قلت هذا لنفسي وأنا أدقق النظر في خارطة العالم، بحثاً عن أبعد مكان يمكن لزوجتي أن تتوقع هروبي إليه. أي، ووفقاً لمعرفتي بطريقة تفكير زوجتي، لن تفكر بوجودي في ذيل أمريكا اللاتينية، ببساطة لأنها لن تتوقع أن أترك العواصم الأوربية وأذهب إلى جزيرة مجهولة وضائعة في بحر الجانب الثاني من الكرة الأرضية... وهربت. مهلاً، عليّ أن أقول أن بُعد أمريكا الجنوبية لم يكن السبب الوحيد لهروبي إليها، بل إني اخترتها لأني كنت قد درست اللغة الاسبانية في الجامعة وتعلمت ما يساعدني على التفاهم بها مع سكان تلك القارة أيضاً.

وصلت ذيل أمريكا الجنوبية في ظهيرة ساخنة وماطرة. لم يزعجني المطر سوى لأنه لم يدعني أرى ظهر الجزيرة الصغيرة بهدوء في لحظة وصولي. لم يكن في الجزيرة فندق؛ استأجرت أحد أكواخ الصيادين من اجل قضاء ليلة ذلك اليوم، على أمل أن أجد مكاناً أفضل في اليوم التالي.

واصل المطر الغاضب انهماره لساعات ما بعد الظهر بوحشية لا تصدق، ولكني كلما اقتربت من شباك الكوخ المطل على الساحة التي تتوسط الجزيرة، والتي تطل عليها جميع الأكواخ، كنت أرى جميع السكان يدورون، ذهاباً واياباً وفي جميع الاتجاهات، وكأنهم لا يشعرون بهطول المطر ولا يسبب لهم أي ازعاج أو يعيقهم عن قضاء شؤونهم.

هل كنت الحبيس الوحيد في ذلك اليوم؟ هذا ما أخبرني به صبي في نحو الرابعة عشر من عمره، بعد أن طرق باب كوخي ليقدم لي سمكة كبيرة وقال، وهو يضعها على الطاولة الصغيرة التي تتوسط مطبخي الصغير:

-أرسل أبي لك هذه السمكة لعشاء هذه الليلة. وبعد أن مسح الكوخ بنظرة أضاف: أنا رودريغو ابن صاحب الكوخ، ولكن لم لا تخرج إلى البحر؟ لم تهدر يومك في الكوخ؟ حولت نظري إلى السمكة الكبيرة، مدارة لخجلي وقلت:

- بسبب المطر.. سأخرج عندما يتوقف المطر. فتح عينيه السوداوين بتعجب وقال:

- هل تخاف المطر؟ وبحركة آلية، ولكن بود، قبض على معصمي الأيسر وقال وهو يجرني باتجاه باب الكوخ: بربك يا رجل، هل يعقل أن تترك هذا المطر الأبله يمنعك عن متعة مصارعة سمكة وارغامها على الاستسلام لسنارتك؟ حاولت أن أشرح له وأقول أني متعب بسبب سفري الطويل، ولكنه لم يمنحني الوقت، لأنه سرعان ما جرني إلى الباب وهو يقول: العمر قصير يا صديقي وعليك أن تصطاد فيه ما يساوي ضعف أيامه كي تخرج رابحاً من الحياة، كما يقول أبي. وفي الدقائق التالية كنت أجلس إلى جانبه على حافة المحيط، أمسك بعصا طويلة، يتدلى من طرفها البعيد خيط إلى عمق الماء وأنتظر أن تسحب طرفه سمكة ما.

ربما بعد نصف ساعة من جلوسي إلى جانب رودريغو، تقبلت وضع المطر وبدأت بفتح عينيّ لأمسح الشاطئ بنظرة، كنت الوحيد الذي يرتدي قميصاً فوق سرواله، فقد كان جميع من حولي من الرجال والصبية، يكتفون بلبس سروال طويل وصدورهم وأقدامهم عارية... وفجأة شدت سمكة طرف سنارتي بقوة فأفلتت العصا من يدي، ولكن رودريغو، دائب الحركة، كان منتبهاً فرمى بنفسه على طرف العصا ليمسك بها، قبل أن تهرب بها السمكة إلى عمق المحيط وهو يصرخ بي:

-ما بالك يا رجل؟ كدت أن تهدر أحد أيامك بلا صيد. بربك يا رجل، ليس كل يوم ستجدني إلى جوارك لأساعدك. عليك أن تكون أذكى من أن تهدر يوماً من أيام عمرك القصير بلا صيد، لأنه وفي النهاية، لن يعوضك أحد عما هدرت من حياتك دون صيد.

ما هذا بحق السماء؟ هل أنا أمام حكيم في الرابعة عشرة فقط؟ قلت مداعباً لرودريغو وأنا أبتسم:

-بربك يا رجل، وكيف سأعوض السنوات الطويلة التي قضيتها هناك دون صيد؟ كان قد تمكن من سحب السنارة وسمكة كبيرة فعلاً تتدلى من طرفها، فرمقني بطرف عينه وسألني:

- وأين كنت هناك؟ أشرت برأسي ناحية الشرق وقلت:

- في الشرق، ربما في الجانب الثاني من الأرض. رمقني بنظرة شك وسأل وهو يعالج اخراج السنارة من فم السمكة:

- وماذا كنت تفعل هناك؟ ابتسمت ساخراً من بلاهتي:

- كنت متزوجاً. رمقني بنظرة هي مزيج من عدم الفهم وعدم الرضى:

- ماذا تعني أنك كنت متزوجاً؟ جميع الرجال هنا متزوجين ولكن لا يكفون عن الصيد. هل يعني إذا تزوج الرجل أن يكف عن الصيد؟ كيف يملأ حياته إذن وكيف يعوض قصر أيامه في الحياة؟ يا رجل قلنا أن العمر قصير وعلينا أن نصطاد فيه ما يساوي ضعف أيامه. حمل السمكة ووضعها أمامي فقلت، محاولاً الهروب من الرد على كلامه:

- لماذا تضعها أمامي؟ هي سمكتك وأنت من اصطادها. رد وهو يسرع للامساك بعصا سنارته التي شدت طرفها سمكة في عمق الماء وهو يقول:

- ما دمت أنت الذي ألقى بالسنارة وبرغبتك في الصيد فالصيد لك.. يا رجل، على الرجل أن يكون صيده خالصاً لذاته وأن يأتيه بنفاذ وسطوة شخصيته لا أن ينسب صيد غيره لنفسه. وبعد أن سحب صيده، وكانت سمكة تفوقه طولاً وبذل جهداً يفوق عمره معها، أضاف: الصيد كالزوجة، إن لم تأتيك بنفاذ شخصيتك وسطوتها فإنك لن تحس أنها لك وأن لحمها سيمتزج بدمك. نفذت ملاحظته الأخيرة حتى نخاع عظامي فسألته، رغم أني لم أتوقع أنه سيفهم مقصد كلامي:

- هل يعني هذا أن على الرجل أن يعتمد على نفاذ شخصيته وسطوته وأن ينتظر أن تأتيه امرأته؟ رد وهو يرمقني بنظرة شفقة:

- وهل المرأة تعيش في البحر لترمي لها سنارة يا رجل؟ المرأة إن لم تأتيك لأنها تراك جديراً بأن تكون صيادها ووحدك القادر على قتلها فلن تجني منها غير نظرة الاحتقار. قلت بصوت رفعته الدهشة رغماً عني:

- ولكني تزوجتها بموافقتها بربك... شد عصا سنارته واقترب ليجلس إلى جانبي، من دون أن ينزل نظره عن طرف عصا السنارة البعيد وقال بهدوء:

- يا رجل اهدأ، قلت أنك تزوجتها بموافقتها ولم تقل أنها جاءتك مستسلمة لسطوة شخصك. هل سألت نفسك يوماً لم لا يستطيع إلا قلة من الرجال الصيد بالصقور؟ ببساطة لأن هذه القلة لها قوة السطوة التي تخضع الصقور وتجعلها تعود إلى أيديها، بعد أن تطلقها وتصير حرة في الفضاء ويكون بمقدورها الهرب والتمتع بالحرية من جديد.

كنا قد دخلنا المساء وكان المطر قد توقف عندما سحبت سمكة جديدة عصا السنارة من يدي مرة ثانية، فقفز رودريغو خلفها ليمسك بها ويسحبها وهو يقول:

-لا أعرف عم تبحث يا رجل إن لم تبحث عن صيد يسجل مرورك بهذه الأرض؟

كان قد تقدم وخاض في الماء حتى منتصفه، وهو يصارع السمكة، من أجل مراوغتها واجبارها على الاستسلام له، فرفعت صوتي من أجل أن يسمعني:

-ربما لأني لا أتواءم مع فكرتك، أعني فكرتك عن الصيد فقط. ونهضت وسرت في الظلام متوجساً باتجاه الكوخ، ولكن بعد خطوتين أو ثلاث وصلني صوت منه، من دون أن أميز لهجته:

- إذن أنت سمكة، ولذا عليك أن تغوص في البحر لتعرف بأي صيد تعوض الأسماك قصر أيامها في الحياة.

***

د. سامي البدري

في نصوص اليوم