نصوص أدبية

ياسر هادي: الجحيم بالمقلوب

هذا صباح يوم آخر في حي "السدرة"، مشمس شديد الحرارة، مثل أي يوم تموزي لاهب، مع نفحة غبار خفيف يصعب معه التنفس بسلاسة. كان باب منزل السيدة عالية مقفلاً. تلك العجوز التي تتوسط حديقة بيتها شجرة سدر عجيبة. كانت الشجرة هي الدواء السحري لكثيرين من طالبي الشفاء، وتيمناً بها أضحت اسماً لحيهم الشعبي القديم، وصارت محط قداسة تحسدها عليها أشجار السدر في البيوت المجاورة، أغاضتها أوراق قليلة قدمتها السيدة عالية بعفوية لجارها "أبي ياسين"، هو الذي طلب منها ذلك، فأنعشت رئتيه المنهكتين بدخان السكائر، وغبار المواسم. كانت تلك هي البداية.

وجد العطارون في أوراق السدرة وصفتهم المفضلة، صار الواحد منهم كأنه دليل سياحي يرشد الناس لمقام شجرة السدر. لكن الأمر أصبح كابوساً لسيدة عجوز لم تعرف الهدوء في آخر سنوات حياتها. الباب مغلق. يمتد أمامه طابور طويل من طالبي الشفاء، والمتبركين، ومن لم يرزقوا بذرية بعد، مع بعض المتسولين، والباعة، وجدات مولعات بمحبة الشجر بلا سبب. لقد بدا للجميع أن أحلامهم لن تجد سبيلاً للتحقق من دون بركات تلك الشجرة الفارعة إلى الحد الذي تتعذر معه رؤية قمتها حتى مع الابتعاد إلى أقصى نقطة في الحي، أو بصعود أعلى مبنى فيه. الباب لا يزال مقفلاً، غير أن سكان الحي مستعدون لقضاء نهار كامل بلا تململ أو ضجر، أمام احجام ساكنة الدار، متمسكين بفكرة أن الفرج لا يأتي إلا بعد مشقة. روائح الأطعمة التي يحملونها هي وحدها التي استطاعت التسلل إلى باحة الدار، متنقلة بين جنبات بيت قديم شيده الحاج حسن قبل سنين بعيدة.

على مقربة من الطابور، تجلس سيدة مع ابنتها ذات العشرين عاماً. كانت الأم تبحث عن قليل من الماء لتشرع بعجن الحناء، فمرادها قد تحقق، وعليها الإيفاء بنذرها. هذا هو العرف السائد، أن تعود حين تنال أمنيتك لتكرم شجرة السدر بأن تضع الحناء على حيطان الدار. هرول بائع ماء حصل على رزق غير متوقع، مقدماً للسيدة قنينة ماء مجاناً، وأرشدها إلى زاوية من جدار بيت السيدة عالية لم تطلَ بعد بالحناء. كان بائع الماء الفقير يكرر ما سبق أن فعله مرات عديدة. شكرته السيدة بابتسامة امتنان، وذهنها موزع بين شجرة السدر، وابنتها الشابة التي لم تعد قادرة على النطق منذ أن فقدت زوجها في إحدى المعارك. يكفي أنها بدأت بتناول الطعام، فهذه بحسابات الأم إحدى علامات تحقق المراد.

في هذه الأثناء اقترب طفل صغير، وأخذ يرسم بما تبقى من صبغة الحناء بالوانات تحمل حمائم، وأقفاص طيور. كان فيما رسمته أنامله جمال فطري أخَّاذ، لكنه لم يرضِ أصابع والدته الحانقة، تلك التي بدت كالكماشة وهي تشدَّ بعنف أذن الصغير. قدمت الأم من أقصى الحي راجية أن تهب شجرة السدر للرسام الصغير معرفة تمكنه من النجاح في مادة الرياضيات التي أخفق فيها.

في داخل الدار تجلس السيدة عالية، وهي تحلم بنهاية مناسبة بلا متاعب، مثل سقوط ورقة من شجرة ما مع أوائل الخريف، أو كشمعة أوقدها أحدهم في دير، وخرج تاركاً إياها لتذوب برفق. تلك نهايتها المبتغاة، هادئة، ومطمئنة. كانت هي البنت الصغرى لعائلة ضمت خمس بنات. عالية، العجوز التي ناهزت الستين عاماً، هي فقط من بقي منهن على قيد الحياة. باعت المساحة الأكبر من البيت، واكتفت منه بجزء صغير مع الحديقة التي تشمخ فيها شجرة السدر بجانب بئر قديمة، وأمام فسحة اتخذتها مطبخاً لإعداد الشاي فقط. الطعام الذي يجلبه لها الناس يزيد عن حاجتها، فراحت تتقاسمه مع متسولين استقروا على الرصيف المقابل. كانت عالية قد جلبت شجرة السدر وهي نبتة صغيرة من حدائق قصر الحاكم، بعد سقوطه المدوي. لم تفكر بأخذ أي شيء ثمين. مجرد انتقام معنوي، لا أكثر.

 في مساء اليوم السابق، وقبل أن تأوي عالية إلى فراشها أخرجت صندوقاً من تحت سريرها. كانت تريد العثور على بعض المستندات التي طلبها مسؤول الأوقاف لإثبات ملكية الدار. حين فتحت الصندوق انهمرت فجأة ذكريات منسية يزيد عمرها على أربعين عاماً. ها هي صورتها وهي طالبة جامعية أنيقة، تقف بشعرها الفاحم الطويل بشموخ، وزهو حقيقيين. تطوي ألبوم الصور على عجل، لتجد تحته بضعة كتب، وروايات. لمحت بينها رواية زوربا اليوناني. فكرت في السبب الذي منعها من إتمام قراءة هذا النص الجميل. استوقفتها الفاصلة التي وضعتها بين الصفحات قبل سنين بعيدة. كانت الفاصلة موضوعة بشكل أفقي، تحت سطر يتضمن حواراً بين زوربا وصديقه. كان زوربا قد قطع إصبعه لأنه يعيق عمله! وصديقه يسأل: "هل آلمك؟". يجيب زوربا: "نعم آلمني. وهل أنا شجرة؟!"

فجأة. قفزت عالية من سريرها بكل ما تبقى لها من قوة، سارت بثبات نحو الشجرة، متسلحة بروح زوربا، وبفأس يعود لوالدها ظل معلقاً على أحد الجدران سنوات طويلة. رفعت الفأس بحماس، مطلقة ما يشبه صرخة حرب مرعبة. ستقطع الشجرة، لتنهي وهماً عشعش في عقول الناس. كانت متأكدة من أنها تسدد بإحكام وقوة، لكن كيف ابتلعت البئر الفأس ولم يمس جذع الشجرة بخدش؟

 أفاقت عالية بعد دقائق. كان الظلام يحيط بها، وعلى مقربة منها حشد من غريبي الاطوار، من فلاسفة، وشعراء، وعلماء يجرون آلات غريبة، يقودهم الزهاوي وبصحبته المعري. كان الشاعران يحيطان بمارلين مونرو، شغلوا بها عن أمر ما. ثورتهم التي أقاموها في الجحيم لم تكتمل، فقد دب الفساد مرة أخرى بعد انقلاب الشياطين عليهم. لمحت عالية خلف الحشود والدها الحاج حسن وهو يصارع كائناً ذا جناحيين عظيمين. كان يبدو للوهلة الأولى كأنه الحاكم.

في الأثناء التي تخف فيها حدة ذلك الصراع كان الحاج حسن يسأل ابنته عن حياة عائلته بعد رحيله. ولما تمكن التعب من الكائن ذي الجناحين التفتَ إلى عالية قائلاً بضجر: "سيدتي إن كان هذا كابوساً فهو الأسوء، وإن كان واقعاً فأهلا بك في الجحيم. خذي هذا الكهل، واجلسي هنالك عند الزاوية، حيث الرسام بوتيتشيلي يعدل لوحته (الجحيم) بمنظور مقلوب، المكان الأكثر حلكة للأعلى قرب سطح الأرض، أما فوقها فهو الجحيم بعينه". تراخت يدا الأب، وركض صوب ابنته، احتضنها، فبكت بين يديه كطفلة. كانت قد بقيت لفترة طويلة تجهل أن والدها فلاح القصر مات مقتولاً لسبب غريب. ذات يوم، كان العمل الشاق قد أنهك جسد العجوز، فنسي كل شيء، وسمح لنفسه أن تغفو تحت ظل شجرة سدر في قصر الحاكم.

***

ياسر هادي - كاتب من العراق

في نصوص اليوم