نصوص أدبية

عبد الباقي قربوعه: قواقع الوحوش العابرة!

بعِمامة بيضاء عتيقة مُخطّطة تعود إلى ألف جد لفّ رأسه لم يترك سوى عينيه، فعل ذلك ليخفي شفتين أنهكهما عطش السّنين، فقد قيل بأن العدو يتعرف على أعدائه بجفاف الشفاه، وهذه خطته منذ استوطن أرضا ليست له، الملائكة تشهد أن السماء تخبئ للأبرياء حياة أفضل، لكنها يدٌ خشنة قبضت على السحاب وسواقي المدينة فجأة، حولت الماء إلى فم تمساح غاشم لا يرتوي.

يس لا يزال يمشي يبحث عن الماء، التمساح يُبرِز أنيابه على مشارف الينابيع والبحيرات، يس كانت ألعابه منسجمة قبل أن يسحب التمساح بطنه ويسحق العشب والياسمين. المكان مُصر على قداسته، الأذان يطلع كلمّا تعطّشت الأرواح إلى الدعاء، ودائما التمساح يكره الصلاة والخشوع، يس يرجمه بالحجارة كل حين، يصلّى باستمرار تحت شجرة الزيتون صلاة الخير والنماء، تنمو أشجار الزيتون بأعجوبة دون حاجة إلى الماء!

يس ينام بعين واحدة لا يأتمن أنياب التمساح، يستيقظ فيقصّ على الأطفال ما رآه في غفوة البارحة:

- رأيت يا أطفال أني لبست برنسا عجيبا، وكلما فتح التمساح فمه غطيت بجناحي قُبّة الأقصى!

التمساح يقتلع الأشجار ويحفر في الأرض يبحث عن تاريخ التماسيح الغابرة، يس بفائق اليقين يشرح الحقيقة للآتين، يوصي الأطفال بالأقصى خيرا:

- شُدّوا عليه بالنواجد فلكل حيٍّ وطن!

تطاولت بيوت بيضاء تشبه القواقع الخاوية، وتهاوى البيت الذي كان يخبئ زيت الزيتون والزّعتر لأيام الشتاء القادم:

- لا تخافوا من التمساح، فتلكم البناءات الرقمية لعبة كارتونية، والأقصى لا يزال لنا والماء وأشجار الزيتون!

يس يطوف بين الأحياء العتيقة، يناشد الأطفال كي تنبض قلوبُهم بدم الأجداد، وتتنفس الدعاء والأذكار، يذكّرهم كل مرّة بألعابهم الخالدة:

- أقسم بالله أن هذا التمساح يخاف من صراخ كل مولود جديد!

يس آثار لعاب كل الزواحف المفترسة المتضامنة مع هذا التمساح اللئيم، لأنه فقط أصرُّ على إعادة استقامة أشجار الزيتون وإعادة ألعاب أطفال الحارة.

التمساح يتنكّر بلون الطّين، لكن تفضحه لعبة مثيرة يخوضها الأطفال كلّما اشتد الظلم، لعبة لم تعهدها الحروب العالمية، لهذا يتحمّل يس عطش السنين، هكذا يظل يوصي الأطفال أن يفعلوا ويواصلوا لعبتهم المقدسة!

عندما يقص يس حكاية طيور الأبابيل يسخر الأطفال من الدبّابة  "الهامر"!

- عليكم أن تقاوموا يا أطفال إلى أن تطهر الأرض من نجاسة هذا التمساح.

هكذا يعلّم يس الآتين والأقصى صامد يشدّ بجذور على الفتوحات المقدّسة، بحجم هذا اليقين يقترب يس من التمساح الهائج في أطيان الصّالحين، وكل مرّة يركله ليبعده عن ماء الحياة والوضوء، لكن الأطفال يرمونه بالحجارة في كل مكان، التمساح كلّما بلع حجرة اكتسى لونا جديدا وراح مجدّدا يطاردهم عبر الشوارع العتيقة:

- عجبا لهذا التمساح لا يأبه بالقدر ولا يشبع من الحجر!

هكذا يظل يس يحثّ الأطفال ليسترجعوا من بطن التمساح كل ألعابهم المفقودة!

التمساح انقضّ على يس وقسم ظهره بليل قاتم، شلّ حركته وأقعده على كرسي متحرك، لكن عقله لا يزال مزدهرا بالحكمة، يزأر بالحق ويدوّي كما الرّعد في وجه التمساح، يطلق عليه كلمات أكثر وقعا من قذائف الهاون، التمساح لا تزال عيناه على يس، وكل حين يحاول رفس رأسه ولحس دمه، وحينا يربطه على كرسيه المتحرك ويحبسه في غرفة مظلمة!

يس كلّما أقام الصلاة ارتعش التمساح في وحله، وكعادته الجبانة يقف لا يستوعب شيئا:

- عجيبٌ أمر هذا الشيخ الهرم، كلما سجنّاه حوّل الزنزانة إلى مصلَّى فسيح!

يغضب التمساح ويفتح فمه إلى أقصى حدّه، وكلما توعّده بالإعدام فشل يس في إخفاء فرحته، فيضطر التمساح إلى إلغاء قراره، لكنه فقد شهيته في يس حين جفّ دمه وبرزت عظامه، فرفع الأطفال أصواتهم أكثر:

- قد فهمنا ووعينا فادخل جنتك مطمئنا يا يسن فنحن آتون، آتون..

ردّدوا ذلك وتركوا قبر يس مستنيرا، وفي الشارع المحاصر انهمكوا كالعادة يجمعون ذخيرتهم من الحجارة. التمساح شعر بالرعب:

- هل تستوعب غريزتي كلَّ هؤلاء الأطفال؟

الأطفال جمعوا عُدّتهم المعتادة وشكّلوا حلقة حول الأقصى، وهم محيطون به فكأنهم ذلك البرنس الذي رآه يس في الرؤيا!

***

قصة لـ/ عبد الباقي قربوعه كاتب جزائري.

في نصوص اليوم