نصوص أدبية

نضال البدري: بجانب السور

شعور بالزهو ِ أنتابها، وحنين شدها، ودمعة ُ تكاد أن تقفز َ من محجرهِا، حين َ وجدت نفسها تقف أمام الثورين المجنُحين وهما يثبان بشموخ ٍ أمام بوابة المتحف الوطني، فما كان منها الا أن تمضي وتدخل اليهِ دوَّن تردد. بعد صباحٍ حملها على الخروجِ هربا من جوِ المُناكدة، علها تُبدد بعضا من الضيقِ الذي أطبقَّ على صِدرها. حينَ لسعها بكلامهَ الجارح، وهو يعُيرها بفقرِ أهِلها وينتعها بعبارةٍ تستفزها كثيراً (بنت الفقر) وأعتاَد أن يكررها رحمك الله يا والدي لم تورثني سوى الخجل والخوف من المواجهة.

ذاك ما يزيدها عجزا عن الرد عليه وكأنه وضع (دستور نفسي لها). وهذا ما أجبرها على الاعترافِ بضِعفها والخضوع لمعاناةٍ لا مفر منها من أجل البقاء مع اولادها.. اقتربت بخِطواتها نحو المكان المخُصص للدخولِ. وفجأةً يد مرتعشُة تمتُد نحوها فتقطُع سيرها، كانت اليد لرجلٍ كبير في السنِ يفترُش الأرَّض، هزيلاً، يرتدي معطفاً اسود رثاً طويلاً، جالساً يستنُد بظهرةِ على سورِ المتحف، يلتحفُ السماء، يلفحُ وجههُ البرَد، َّ المركبات الماَّرة من أمامهِ وسط الشارع. اقتربت منُه رفع رأسه نحوها ومد يده مرة ثانية، حركة اعتاَد ان يفعلها المشَردون، قائلاً لها (يحفظ اولادك) ساعديني. كان هناك بصيصُ باهتُ في عينيهَ ظهرت منهُ التماعهً خافتة بالكادِ ترى وقد ضاعت مساحَة وجههِ بينَ دقنهِ وحاجبيه وما تبقى من مساحه وجههِ.

قالت: حين أخرج من هنا.. وهي (تشُير بيدها نحو المتحف) سأعطيك ما تريد لن أتأخر.. سارت مع حزنها وافكارها التي رسمت في مخيلتها، لوحةً جمعتها من احداثِ يومها ومن زحمِة الشارع، والباعة المتجولين، وقصاصات الورق المتناثرة. واخرهم المشرد الجالس بجانب سور المتحف. ا تدريجيا يتلاشى حزنها وهي تسير في ممرات طويلة صفت بالحجر، زرع على جانبيها مساحات عشبية خضراء تلألأت فوقها قطرات الندى. استقبلتها موظفة الاستعلامات بابتسامة مرحب، تفضلي من هنا بإمكانك حمل هاتفك النقال معك. أتمنى لك جولة ممتعة..

كانت باحة المتحف رائعة زيُنت بلوحاتٍ تاريخيةٍ منها السومرية والأشورية، واكاليل من الزهورِ دُست وسطها بطاقات اهداءٍ من وفود اجنبية، وهذا ما كان واضحا من الوجوهِ الاسيوية التي كانت هناك...القاعة الاولى كانت واسعة تردد صدى وقع أقدامِها وصوتُ أنفاسها. حفظت  فيها مسكوكات وعملات نقدية نحُاسية وذهبية واختامٍ اسطِوانية ومسطحة تراوحت احجاُمها، واشكاُلها، حفظت في خزانات زجاجية مربعة الشكل، ذهول يستولي على مشاعرها وهي تتنقل من قاعة الى أخرى الى أن بلغت القاعةُ الرابعة، والتي كانت تضم تمثالا لأشهر أميرات الحّضر، خُلدت بأبهى صورة !!

انعكاس للجلال والمهابة وترف يوسم ملابسها بكامل زينتها وهي على ما يبدو مزوقة بأحجار كريمة وقلَائد تُزينها، كما تُزين تاجها الاسطواني. الذي يدل على مقاّمها السامي، ترفع يدّها اليمنى كإشارة بالَترحيب.. وبالقربِ منها كانت هناك حُلي، وأساور، وقلائد من الذهبِ والاحجار الكريمة،اقتربّت منها وهي تنظر بعين ظمأى، ثم تبتسم ولها تلتقط الصور.. اليست أنثى مثلها !!

صوت رجل يقطع شرودها.. لم تلحظ وجوده، كرغم وقوفه في القاعة.. يقترب منها قائلا: انا موظف هنا ودليلُ سياحي، هل تقومين بأعداد بحث ما !. :

بإمكاني مساعدتك، المتحف كبير يضم اربعة عشر قاعة ستضيعين بين اروقتها. العاملون هنا أنُفسهم يجدونَ صعوبةً في الخروجِ منها

 لا شكرا لك أحبُ أن أكونَ لوحدي

ـ حسنا باستطاعتك اقتفاء الاشارات المثبتة على الجدرانِ سُترشدك لباب الخروج. واصلت سيرها لقاعة أخرى.. هنا يقف تمثاُل الثور المجنح بحجمةِ الكبير، وهنا لوحة لشمس مشرقةً عرفتها لكنها لم ترها من قبل، مثل ما رأتها الان. مضت تكُمل جولتها وهي تتنقل من قاعة الى أخرى فجأة ! تشعر من أن غبار يملأ المكان أسرى خوفا بداخلها. لمحت رجلا يركُض مسرعا حاملاً بيدِه سجلاً كبيراً يحوي اوراقًا رثة مصفرة تحمل عبق سنين غابرة، يرتدي ثياباً غريبة الشكل، ووجهُ شاحب مخُيف، حين رأتهُ تراجعت للخلف وهي ترتجُف، تقدم نحوها قائلا ـ كيف دخلت القصر؟..

ترد عليه وهي تتلكأ بالكلام: أنا كاد أن يغمى عليها، يكرر قوله !!... ؟ اسرعي في الخروج موكب الملك قادم كيف دخلت هنا.

ترتبك ومن خطواتها تجفل وهي تتعثر بها.. لم تستطع أن تكُمل زيارة باقي القاعات محاولة الخروج، وهي تبحث وتدور كخنفساء وقعت في حفنه دقيق، تبحث عن اية علامة تشير الى باب الخروج ! تفاجأت بوجودِ تمثال كبير جدا على وشك أن يلامس رأسُه سقف المتحف، كتب اسفله تمثال الملك حمورابي، تسمرت أمامه رفعت رأسها بذهول وخوف، حرك رأسهُ الكبير ونظر اليها قائلا

: ـ لا تخافي تحدثي ما بك؟

نظرت اليه بوجل وكأن دفْ مختبئ، تسرب الى جسدها فسرت سكينة صفو في داخلها، مولاي الملك أنا خائفة وأشعر بالخيبة كل يوم أطرقت صامته..علت على وجهه أمارت الغضب ! وهل أبناء الملوك يشعرون بالخيبة ! تركنا لكم ارثا معنويا وتاريخيا كبيرا،

رفع رأسه ونادى بصوت مرتفع، أفسحوا لها الطريق لتُخرج، عودي لن يعاودك هذا الشعور مجددا..

كان باب الخروج أمامها لكنها لم تره، ودعتها موظفة الاستقبال بوجه عبوس، من فضلك حقيبتك من هنا لغرفة التفتيش.

استيقظت وكأنها نامت دهرًا والى جانبها كتاب التاريخ. تمسكه وهي في ذهولٍ تفتحه وتغلقهُ ثانيةً وكأنها تقرأ الفأل...

***

نضال البدري

عضو اتحاد الادباء / العراق

في نصوص اليوم