نصوص أدبية

جورج عازار: مغامرات طفولة

كنتُ على وشك أنْ أبلغ سنَّ السَّابعة حينذاك، وكما هو شعور كل أقراني، كان عالم طفولتي يتمحورُ في الحصولِ على المزيّد من ساعات اللَّهو والمرحِ مع رفاقي وقضاء أجمل الأوقاتِ في لَعب الكُرةِ أو تبادل الأحاديث المُمتعة مع بقية الأطفال في الحي.

ورغم أنَّ الأحوال المعيشة لم تكن في مُستوىً عالٍ، وذلك لأسبابٍ مختلفةٍ ومتنوعةٍ من بينها كثرةَ عدد الأبناء والبنات في الأُسرةِ الواحدةِ وقِلّةَ وجودِ الأعمالِ والوظائف الشَّاغرة وصعوبةَ إيجادِها، وفوق هذا وذاك كان المستوى الماديّ للأُسر بشكلٍ عامٍ يتراوح بين المتوسط ثم الأدنى فالأدنى وهكذا، حيث كان من النَّادر وجود تلك العائلات الغنية من الطبقة الباذخة الثراء، فإن وجدت في تلك الفترةِ فإنها كانت تصبحُ مضربَ مثلٍ، ويُشار لهم خلال الأحاديث بالاسم وذلك نظراً لنِدرة وجودهم آنذاك.

وعلى ذلك ما كان مصروف الجيب -هذا إن وجد أصلاً-  يعدو أن يكونَ بضعةَ قروشٍ معدوداتٍ قد لا تكفي لشراء أكثر من ثلاث أو أربع حباتٍ من تلك السكاكر الكرزية اللُّون والتي تذوب بنكهتها السَّاحرة في أفواهِنا بكلِّ لذةٍ وهناءٍ، والتي كُنَّا نشتريها من دُّكان "العم كبرو" أو دُّكان "الخالة خزمة"، وربما إن أردنا أن تصبح لحظات التسُّوقِ أطولَ وأكثرَ إمتاعاً نسير حينها بصُحبةِ أحدَّ رفاقِنا إلى الدكاكين الأبعد نسبياً والمطلَّةِ على شارع الوحدة الكبير ونقرِّر حيّنها التسوّق بكامل القروش الخمسة، إما من دُّكانِ "ألياس" أو من عند العم كيراكوس والذي كنا نسميه "چوچكيه" أو من عند  طيِّب الذِّكر "دالّوكيه"، أو ربما من دكان صوغومون، الأبعد قليلاً لنستمتع بما اشتريناه من حَلوىً لفترةٍ أطول نسبياً.

وأمَّا فيما يخصُّ وسائل لِعبِنا ومتعتِنا فهي تكاد تكون شبه مجانيّةٍ، فكُراتُ لِعبِنا بسيطةٌ وأدواتُ لَهوِنا لا تخرج عن كونِها بِضعةُ أحجارٍ أو أخشابٍ، نُحوِّلُها إلى ألعابٍ نقضي بها سويعاتَ لَهوِنا ومرحِنا، بلا أيِّ محاولةِ احتجاجٍ على والدينا ومن غير أن نُرهقَهم بمطالباتٍ لأمورٍ نعلمُ رغم صِّغَرِنا استحالة تحقيقها وتوفيرها نظراً لضيّقِ الحال، ولتركيز ربِّ الأُسرة على توفيرِ الطَّعام والشراب لجيشٍ من الأبناء والبنات، فنحن ندرك أنَّ والدَنا يسافرُ إلى مناطقَ بعيدةٍ، ويبقى هناك لشهورٍ عديدةٍ بغيةَ توفير نفقات معيشَتِنا، وبالتالي فمن الواجب عدم المطالبة بأمرِ ما يمكن تسميته بالكماليات وتأجيل ذلك إلى المستقبل الَّذي ربما قد يتحقَّق أو لا يتحقَّق.

ورغم كلّ هذا فإن جينات الطُّفولة لا يمكن أن تغادرَ جسدَ طفولتِنا الغضةِ أو تتركَ أفكارنا البسيطة بشكلٍ تامٍ، فرغم كل ما ذكرناه عن قلةِ حيلةِ أربابِ أُسرنِا في تأمين كامل لوازمنا الحياتيّة فنحنُ نبقى مجردَ أطفالٍ في حدود السَّابعة من أعمارنا تُفرحنا كرةُ قدمٍ جديدةٍ أو قطعةُ لباسٍ في يومِ عيدٍ أو مصروفُ جيبٍ محترمٍ يغطي احتياجاتِنا من أجل شراء الحلوى والبوظة وغير ذلك من مُتَعِ طفولتِنا البريئة والمفرحةِ.

في ذلك اليوم الصَّيفي الحارّ كان رفيق طفولتي جان قد جاء إلى مكان اللَّعب وفي يده قطعةً ضخمةً من البوظة، وعندما اقترب منِّي سألتُه على الفور: هل حصلتَ على مصروفٍ من والدك؟ ونظرا ًلانشغاله بالتهامِ البوظَة اللَّذيذةِ، اكتفى بِهزِّ رأسِه نافياً ذلك فعُدت لسؤالهِ: إذا أمُّك هي من أعطَتكَ نقوداً؟ عاد مُجدَّداً لهزِّ رأسِه بالنَّفي، وفيما كان ذهني منشغلاً بالبحث عن تلك الخيارات التي يمكن أن يكون قد حصل منها رفيقي جان على ثمنِ شراء تلك البوظةِ، وجد رفيقي نفسَه مُرغماً على التوقّفِ عن مُتابعةِ التهام بوظَتِه وتوضيح الأمر لي بدلاً من استمراري بمسلسل تساؤلاتي لهُ، والتي على ما يبدو ما كانت ستعرفُ نهايةً، لأنَّ مصدر حصولهِ على ثمن تلك المرطَّبات ما كان بحالٍ من الأحوال سيخطرُ على بالي أو "سيعنُّ على خاطري " من خلالِ تلك الأسئلة المُلِّحة الَّتي كنتُ أوجِّهُها لهُ تِباعاً سؤالاً إثر آخر.

أبعد البوظةَ عن فمهِ المُلَّطخِ بألوان قوسِ قزحٍ الجميلةِ والَّتي تركت آثارَها عليه من ألوان البوظة الطيِّبَةِ المَذاق، وقال بشكلٍ شبه مَفهومٍ وهو يبتلع لُقمتَه الأخيّرة لقد بعتُ لذلك الرَّجل "شحاطَتين*" قديمتين، ورغم سماعي لما قالَه لكنَّ الأمرَ كان بحاجةٍ إلى المزيدِ من الشَّرح والإيضاح، ولذلك كان عليه أن ينهالَ مُجدداً على البوظة بلَحسةٍ كبيّرةٍ هذه المرَّة لتكفي مُؤقتاً للزمن الَّذي سيستغرقُه في إيضاح الأمر لي، قبل أن يعود لاستكمال التهامِ ما تبقَّى من البوظة، ثم قال لي: تعرف أنَّ هُناك رجلاً يجرُّ عربةً عليها "شحاطاتً" قديمةً ومستعملةً وأشياءَ أخرى، يشتريها ذلك الرَّجل ويُعطي ثمناً مقابل الحصول عليها، لا أعرف ماذا يفعل بهذه الأشياء البالية، ولكنَّه أعطاني البارحة عشرةَ قروشٍ مقابل شحاطتين قديمتين أعطيتهما له، واليوم اشتريت بثمنِهما هذه البوظة الكبيرة، أنهى جملَتَهُ الأخيرة على عجلٍ بغية العودة لالتهامِ ولحسِ ما تبقَّى من قطعة البوظة التي كانت في طريقِها للذوبان والسيلان فوق يدهِ بتأثيرِ حَرِّ شهر تمُّوز اللَّاهب.

أصغيتُ باهتمام ٍ لتوضيحاته لي وأعجبتني تجارتَه المُفيّدة والرَّائعة، كان قد أتى على كامل قطعة البوظة وبقيت أثارَها على يديه وفمه لكنَّ ذلك لم يمنعْنا من بدء ألعابِنا ولهوِنا ومرحِنا إلى أن بدأت شمسُ ذلك النهار تغادر حارتَنا بهدوءٍ وصار لِزاماً علينا أن ندخُلَ إلى البيوت لتجنُّبِ التأنيب من قبل الوالدة.

في اليوم الثَّاني لم تظهر عربة ذلك الرَّجل الَّذي اشترى من رفيقي جان تلك الشحاطتين القديمتين، ولكنني لم أكترث للأمر، وزاولنا ألعابنا بمرحٍ كالمعتاد وقضينا أجمل الأوقات قبل عودتنا للبيت.

بزغت شمسُ يومٍ صيفي جديدٍ، وبعد الإفطار كنت مع باقي الشِّلَّة من الرِّفاق نقذفُ كرتَنا بكل مرحٍ محاولين إحرازَ هدفٍ في المرمى الذي قدَرناه وسط الشارع بوضع حجرين في الوسط ليقوما بدور المرمى، وحينما كنت على وشك تسديّدِ الكُرة سمعتُ صوتاً عالياً ينادي: "يلي عندهُ شحاطات عتيقة للبيع، ويلي عنده نحاس للبيع، ويلي عنده بافون* للبيع".

كان الرَّجل يكرِّرُ هذه الجُمل كأنَّه قد قام بتسجيلِها على آلةِ  تسجيلٍ بشكلٍ رتيبٍ ومنتظمٍ من غير أن يُخطِئَ في ترتيب الجُمَلِ أو في مقدار زمنِ تكرارِها، وعندما كان على وشَك بدءِ ترديدِ المرَّة ِالثالثةِ لسيمفونيتِه الجميلةِ، كنت قد هرولت نحو البيت بكُلِّ سُرعةٍ، ومن أمام عتبة غرفة الجلوس تلقَّفتُ زوجين من "الشحاطات" العديّدة المتراكمةِ الموضوعةِ هناك عند المدخل وضعت الكنزَ تحت إبطي، وحانَت مني التفاتةً إلى المطبخِ ومن هناك خُيِّل إليَّ أنَّ مقلاةَ "البافون*" تبتسمُ لي وتغريني بحملِها فلم أُضِع الوقت، اتَّجهتُ إلى داخل المطبخ وألقيتُ القبضَ على المُقلاةِ وبسرعة البّرق انطلقت ثانيةً نحو الشَّارع مرةً أُخرى.

كان الرجل وعربته قد صارا في الطَّرف الآخر من الشَّارع، وكان على وشكِ بدء السُّوناتا الخامسة من عزفه المنفرد، فركضت باتجاهِه ووصلت إليه وأنا ألهثُ، اضطرَّ الرجلُ إلى إيقاف سيمفونيتِه الخالدة، نظر إلى ما كنتُ أحمله ثم أخذهم مني وبدأ يتفحصُّهم بعنايةٍ وهدوءٍ ودقةٍ، بدأ بالشحاطتين أولاً ثم هزَّ رأسَه برضىً ووضعهما في جهةٍ قريبةٍ فوق العربة ثم حمل مقلاة  "البافون*" وتَفحَّصَها أيضاً بعنايةٍ ثم هزَّ رأسَه كعلامةِ قبولٍ على شراء البضاعة، ثم وضع المقلاة على جانبٍ آخر من العربة، حيث كانت هناك عدَّة أوعيةٍ وصُحون "بافون*" قَذرةٍ متراكمةٍ فوق بعضها البعض، بقيت واقفاً هناك انتظر الخطوةَ الأكثرَ أهميةٍ بالنسبة لي ورغم تأخُّرِها لبعض الوقت وقد أحسَست أنها تُعادلُ دهراً من الزَّمان، لكنَّها أتت أخيراً حين مدَّ يدَهُ إلى جيبِ شِروالِه الواسع وأخرج حَفنة من النقود المعدنية وأخذ منها ثلاث قطعٍ من فئة الفرنك أو ما يعادل خمسة عشر قِرشاً بالتَّمام والكَمال.

ناولني النقود في يدي الممدودة نحوه، وأعاد بقية القروش إلى جيبِ شِروالِهِ ثانيةً بعد أن دفع لي المبلغ الذي قدَّره ثمناً للشحاطتين ولمقلاة "البافون*"، ثم عاد صَّوتُه يصدَحُ ثانيةً بأعذبِ الألحان: "يلي عنده شحاطات عتيقة للبيع، يلي عنده نحاس للبيع، يلي عنده "بافون*" للبيع".

كان صدى صَّوتِه يتلاشى شيئاً فشيئاً وأنا أسيرُ مقترِباً من دُكَّان العم" كبرو" حيث ناولتُه كلَّ ثَرّوتي البالغة ثلاث فرنكات ، وقلت له: أريد بوظةً وسكاكرَ حمراء، ناولني ما طلبتُ وأعطاني فوقها قطعةً من راحة الحلقوم لتكتمل قيمة القروش الخمسة عشرة، عُدت إلى البيت، وزحفت تحت أسفل ذلك السَّرير الخشبي الضَّخم المنصوب في أرض الدَّار، والمخصَّص من أجل النَّوم في الحوش أو على السَّطح هرباً من قيظ الصَّيف الحارّ، بدأت بالتهام البوظة التي كانت في طريقها للذَّوبان وأنا استمتع بكُلِّ لَحظةٍ من تلك اللَّحظات وأنا أعمل لساني وأسناني نهشاً وتمزيقاً في قطعة البوظة المسكينة، وعندما انتهيت منها تناهى إلى سمعي صَّوت أُميّ في الطَّرف الآخر وهي تقول: أين ذهبت فردة شحاطتي الأُخرى لا أعرف أين هي، عجباً لا يوجد سوى فردةٍ واحدةٍ، وبعد قليل كانت أُختي الصغيّرة بدوّرِها أيضاً تخاطب أُمي وتقول: ماما أنا أيضاً لا أجد سوى فردةٍ واحدةٍ من شحَّاطتي. ورغم ذلك تصوَّرتُ أنَّني مازلت بأمانٍ وذلك لسببٍ بسيطٍ وهو أنَّنا عندما كنَّا نقوم بارتكاب الحماقات كانت أُميّ تلجأُ إلى قذف بعض "الشَّحاطات" علينا من أجل معاقبتِنا، رغم أنَّها في الغالب كانت تتقصَّدُ ألا يصيبُنا شيئاً من شظايا "شحاطاتها"، ولهذا فهي من الممكن أن تفكِّر بأنَّ إحدى فردتي الشَّحاطة ربما مازالت وسط الحديقة في الحوش أو في مكانٍ ما، جراء قذيفةٍ من القذائف الطَّائشة "للشَّحاطات" المتهاطِلة عليّنا كالمطرِ في ساعات الذَّروة وسط أتون المعركة.

ولكنَّ الأُمورَ تفاقمت عندما كانت أُختي الكبرى قد دخلت إلى المطبخ وبعد ثوانٍ صرخت بدورها: ماما كيف سأقلي البيض وأنا لا أجد المقلاة، ردَّت أمي عليها من غرفة الجلوس: يا سبحان الله عليّكم، حتى لو الغرض أمام" بروص*"عينيكم لا تجدوه أنا قادمة.

كانت كل مشترياتي اللَّذيذة قد وجدت طريقها إلى مَعِدَتي، لذا تسلَّلتُ مجدَّداً من تحت السَّريرِ الضَّخم، وكانت في فمي قِطّعة السُّكر الكرزيِّة الأخيرة، توجَّهت إلى باب الدَّار لمتابعة الَّلعبِ مع رفاقي في الحيِّ بينما كانت أُمّي ما تزال تتناقشُ مع أُختي عن ضرورةِ البحثِ عن المِقّلاة بشكّلٍ جيدٍ قبل الإعلان عن فُقدانِها.

***

جورج مسعود عازار - ستوكهولم السويد

7-3-2022

.....................

الشَّحاطة: لِباسٌ بلاستيكي مريحٌ للقدم ويلبس في البيت.

بافون: ألمنيوم باللَّهجة العاميَّةِ.

بروص:  بؤبؤ العين باللَّهجة الأزخينية.

 

في نصوص اليوم