نصوص أدبية

ريما الكلزلي: شرفة الذكريات

جالس في مكانه قرب حاجز شرفة غرفته، يتأمّل الغروب وهو يهبط على سطح النّهرِ، متّكئًا بمرفقه إلى حافّتها. كان يسند وجهه بقبضة يده بينما تفعمُ أنفهُ رطوبة المساء، لقد كان مُرهقًا.

عبَر بعض المارّة، واجتاز الشّارع بائع الحلويات بعربته، فسمع وقع خطاه يتردد على حجارة الكورنيش السّوداء، ثم يختفي بغوصها في حصى الطّريق المؤدي إلى الساحة المحاصرة بالمقاهي.

في يومٍ ما كان هناك ميدان مفتوح اعتاد أن يلعب فيه مساءً مع صبيان الحيّ، قبل أن تحوّله البلدية إلى متاجر صغيرة ومطاعم ومقاهٍ.

كان أطفال الحي يتنافسون معه بضراوة ويكيلون له الشتائم كلّما فاز بلعبة التيَل (الجلّة). أمّا أخوه الأكبر كان يتظاهر دائمًا بالانشغال بحجة أنّه كبُرَ على اللّعب معهم. كان الأولاد يتفرّقون خائفين عند نزول أبيه الضّخم من السيّارة العسكريّة، برغم أنّه لم يكن يزعق بهم أو يوبّخهم. لم يكن أبوه سيئًا تمامًا في ذلك الوقت وعلاوة على ذلك كانت أمّه على قيد الحياة.

لقد مرّ زمنٌ طويلٌ وكبر فيه أطفال الحيّ وتفرّقوا، ونضج هو، وماتت أمّه ولحق بها أبوه، ورحل أخوه إلى الغرب، كلّ شيء يتغيّر. وها هو الآخر اقترب عامه الستين وبات يشعر أنّ النّهاية دنت منه أكثر.

النّهاية!.. جال بعينيه في المكان بدءا من غرفته التي تطلّ على الشّرفة بكل ما فيها، الشمعدانات البرونزيّة التي أهدته إيّاها زوجته في مناسبة زواجهما العاشرة، اللّوحة الباهتة وقد اقتناها من معرض أحد أصدقائه وهما في ريعان الشّباب، حتّى الساعة العاطلة بجانب صورة زوجته، نزولًا إلى بوابة بيته العتيق، وحجارة الحيّ، وكتف النّهر، والعربات الجوّالة، وصدى أصوات الباعة، وضحكات الأطفال، ربما سيفارق كلّ هذه الأشياء التي شكّلت وجدانه، ماضيه وحاضره، وكلّما تذكّر زوجته المتطلّبة أشاح نظره عن الصّورة.

- زوجته التي تحبّه وكأنّها تملكه.

لقد خففّ من التزاماته الكثيرة نحو الأنشطة الإضافية التي لم يطمح إليها يومًا، واهتماماته بالعلاقات الاجتماعية، واقترب من عزلته أكثر. تساءل إن كان ابتعاده قرار حكيم؟

حاول أن يوازن بين طرفي المسالة. أنجز مهامه الكثيرة نحو الزوجة المستقلّة بعملها، وأبنائه الذين كبروا وهم يواصلون حياتهم كما يفعل الكثيرون ذلك، عدا ابنته الصّغيرة التي يحبّها كأمّه.

منح الحياة كل ما يجب، كان عليه يضنى تعبًا ليكون أبًا صالحًا بما يكفي، وحان دوره ليأخذ من الحياة ما يجعله أكثر حيويّة ويفعل ما يتمنّى منذ زمن بعيد، لم يعُد هناك من يُملي عليه انتماءاته الفكرية، وليس هناك من ستملي عليه واجباته التي لم يعُد يجد منها جدوى، فهو على وشك أن يستكشف الحياة التي طالما تمنّاها، سيرتاد المكتبات التي يعشقها أكثر من أي شيء، ويزاول موهبته القديمة في المحترف، ويبحر بمركبه الصغير نحو الفكر والتّأمل والتّأليف والرسم.

ماذا سيقولون عنه في العائلة، ربما سيتّهمونه بأنه عاشق يعيش مراهقة مشوّهة، أو يريد الزّواج من أخرى. لن يبرّر اختياره بأن يعود للسّكن في بيت عائلته القديم وحده، سوف ينظر إليه النّاس باحترام حينما يرونه يدخل وحيدا ويخرج وحيدا، إلا من كتاب يخرج به إلى المقهى، أو للشاطئ.

اشتدّت ظلمة المساء فصارت ألوان أضواء المدينة أكثر سطوعًا على وجه النّهر. غاب الشّفق الارجواني، ولم يعد قادرًا على قراءة الأوراق على الطاولة الصغيرة إلى جانبه، وقد بدأ في الصّباح كتابة مسوّدة مقال، خطّط أن ينسخ مقالته على الوورد حين ينتهي منها، انتبه إلى بعض الأوراق تخفي كتاب "بؤس الفلسفة" لماركس، فتذكّر والده وتلك المشاحنات البغيضة التي كان يتعرض لها في شبابه المبكّر بسب أفكاره الشيوعيّة، وخيبات أمّه الحزينة كلّما طُرِد من البيت. وتذكّر بعد مضي السنين آنذاك كيف ضحكا معًا على تلك الفكرة البائسة، وقبل وفاة والده كان منشغلًا بلحيته التي نافست حبيباته بالاهتمام بها، ها هو الآن لا يتفاجأ بتحوّلاته بعد أن مال إلى اليمين.

كان الوقت يجري، لكنّه استمرّ في جلوسه متّكئًا بكوعيه إلى حاجز الشّرفة، وهو يسند رأسه إلى كفّيه، ترامى إلى مسمعه صوت امرأة عجوز من الشرفة القريبة، فتذكّر آخر ليلة من مرض أمّه، كانت أيضا في الغرفة الكبيرة على الطرف الآخر من الدور ذاته، حينما ودّعتهم بألم، أخذ يفكّر بصورة أمه المُتعبة وحياتها التي امتلأت بالتّضحيات، وجفل حين شعر بالقلق الذي لازم أبيه لحظة فراقها.

كما لو أُخِذَ فجأة من شروده وقف مسرعًا حين انتبه إلى هاتفه الجوال وقد أومض تاريخ ذكرى يوم زواجه على الشاشة، شعر بالانقباض وهو يغادر الشّرفة، غامت الأضواء التي تتراقص مع أمواج النّهر وشكّلت سحابة متلألئة، بحث عن معطفه ولم يكن في عينيه علامة لحزن أو غضب أو حتى قلق حينما غادر المكان.

***

قصة قصيرة

ريما الكلزلي

في نصوص اليوم