تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

عزيز القاديلي: تزحلق

لم أشعر إلا وأنا أتزحلق، قوة ما باغتتني ودفعتني إلى الخارج، خارج المكان الذي شكل عالما لا مثيل له من السكينة والهدوء. صحيح أنني لم أكن موجودا هناك بشكل ما، ولم أكن واعيا بالمكان الذي تزحلقت منه . ما أعرفه هو أن ما حدث كان مفاجئا وغير منتظر: دون سابق إنذار دون إخبار أو اتفاق وجدتني بين أحضان عالم آخر غريب. تم الإمساك بي  وتم سحبي بشكل من الأشكال كي أرغم على أن ترك عالم السكينة ورائي وأخرج لأصطدم بعالم مجهول وسيظل مجهولا باستمرار. لم أكن أستطيع الكلام ولا معرفة لي به، فلم أكن قادرا على التعبير عن سخطي أو عدم قبولي بما يحدث لي. الشيء الوحيد الذي وجدتني أقوم به هو الصراخ، كيف ذلك؟ لست أدري. لا أحد استطاع أن يفهم معنى صراخي، بل لم يحاولوا فهمي. كانوا يريدون فقط إسكاتي بطريقة ما لأن صراخي كان يسبب لهم إزعاجا هم في غنى عنه. كانوا يحاولون تهدئتي كي أتوقف عن الصراخ. وصار صراخي المتواصل وسيلتي الوحيدة للاحتجاج. بدؤوا يبحثون عن شتى الطرق لإلهائي، كنت أستجيب بين الفينة والأخرى، لكن كان مفعول ذلك ظرفي إذ يفقد موضوع الإلهاء بريقه فأنتفض ضدهم، لأعود إلى الصراخ مرات ومرات، فدخلوا وأدخلوني معهم في دائرة متكررة ومملة وبلا أية معنى من الاستبدالات اللامتناهية والفارغة، ولو صرفوا كل هذا الجهد وكل هذا الوقت في فهمي لتوقفت هذه اللعبة السمجة ولانتهى تاريخ طويل وعريض من الانتفاضات والقلاقل والزلازل.. ولعرفت كيف أستوعب تزحلقي غير المفهوم.

و منذ ذلك التاريخ وأنا أتزحلق من حدث إلى آخر، من واقعة إلى أخرى، من كارثة إلى أخرى. لم يكن التزحلق سوى وسيلة للتكيف مع العالم الجديد الغريب، لأن المكان الأصل الذي منه تزحلقت لأول مرة سيظل عالقا في الذاكرة والأحاسيس، وسأحاول على مر سيرتي الذاتية أبحث عن تعويض ببناء أمكنة أخرى استبدالية أتوهم أن بداخلها السكينة والهدوء لكن الاستبدال يبوء بالفشل الذريع والمقيت. وأثناء مسار من التشتت والشتات، ومسار من الخيبات كنت أستريح بين الفينة والأخرى لسكينة متوهمة لكنها عارضة ومؤقتة لأنني منذ البدء فقدت الثقة في استمرار أية وضعية أو حالة، فأصبح التزحلق هو الدائم أما غير ذلك فهو وهم وخيالات لا يعول عليها.

***

د. عزيز القاديلي

 

في نصوص اليوم