تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

أنوار حسين الدليمي: إسفلت بارد

لم يحفل، ولم يحاول حتى، إخفاء ترنح مشيته على طول إسفلت الشارع البارد الذي أدمن- حد الضجر- وقع أقدامه خلال رحلاته اليومية عديمة الجدوى.. كل همه الآن كان التفكير في أن الحظ سيحالفه هذه المرة.. وأنه سوف يراها مرة أخرى، كانت في عينيه نظرة جادة قوية سكبت فيه الجرأة، كأنه عاش كل دقيقة من عمره، بكل كيانه وإحساسه، استعداداً لهذه اللحظة.

لم يكن يكترث كثيراً لارتجاف قدميه وارتباك خطواته، ولا لانحناءة جسده المرهق وانكفاءه في مشيته، والأهم..إلى حقيقة أنه لم يعد بإمكانه أن يخفي ضعف قدرته على السيطرة على نفسه، وأنه أصبح عاجزاً لا يعي ما يمكن أن يكون، كانت الأصوات التي تضج في رأسه تزداد لكنه لم يأبه بأي شيء سوى استعادة تلك الابتسامة الصغيرة التي فرشت أمام أيامه المجدبة أملاً مشتهى بحياة أكثر وفرة واخضراراً..

وبالفعل، وبعد أن مر من أمام منزلها مبتعداً خطوات قليلة، سمع فجأة صوتها هو يغرد بما خيل إليه أنه اسمه، اتسعت ابتسامته وهو يلتفت بنصف جسده المتاح لكي يجيبها، أدار رأسه، وانتظر بسكون أن يعود النداء ليطرز آذانه آملاً أن تشع تلك الابتسامة مجدداً في عينيه، ولكن بضع هنيهات من الزمن كانت كافية لجعل ابتساماته هباءً منثوراً عندما ذبحته صدفة لقاء عينيها وهي تتقدم نحو زوجها وتقبله مودعة إياه عند باب المنزل،ناثرة في وجهها له كل الابتسامات التي في الدنيا، تلك التي كان مستعداً ليهب ما تبقى من عمره مقابل النزراليسير منها..

تلقى الأمر بهدوء لم يتوقعه، تعجب كيف أنه لم يدرك قبل الآن أنه قد أهدر عاماً كاملاً في محاولة استعادة ابتسامة عابثة لا معنى لها، وما الذي كان ينتظره من قطع ذلك الطريق يومياً بدأب وثبات لم يقطعه الا فترات أزماته القلبية المتكررة، وكيف كان يذرع ذلك الإسفلت البارد لأشهر وهو يتصور أنه يمكن أن يكون الشخص الذي يسكن قلبها ويشغل بالها،

تغير إحساسه فجأة،وهبت إليه في وقفته رائحة اليأس، لمعت عيناه بالدموع واشتعلت الثورة في صدره، سار مبتعداً وهوشبه مذهول، محني الرأس.. وقد تجلت أمامه أخيراً كل الإجابات التي حاول أن يحمي خياله منها، كل شيء قد انهار وانتهى، بل أنه لم يكن هناك من شيء أصلاً.. لكنه لم يستطع أن يطرد صورتها من رأسه، ولا مقاومة رغبته في أن يراها، أدار رأسه مجدداً ليلتقي بعينيها وهي تقف على عتبة دارها، وليذبح مجدداً بنظرات التقزز التي ارتسمت على وجهها من منظره الغريب، والخرق الفاقع الذي كان يبدو عليه، والذي فاقمه ارتباكه وخطل محاولته تلبس الهدوء وإخفاء انجذابه و إعجابه بها، وحرصه أن لا يظهر لهفته وانشدادهُ إليها،وانسحاقه أمام الضغط الذي كان يرزح تحته في مشقة الهروب من ابتسامتها التي غابت تماماً عن وجهها..

للحظةٍ أحس بألم ورعشة شديدة انتابت يده، حاول مسح العرق الذي أخذ يتصبب منه ولكن يده لم تطاوعه.. ولا قدميه.. شعر بخيال لم يألفه من قبل،وطنين وخفقات أجنحة وحركات غريبة، تراجع مهزوماً محاولاً التشبث بأي شيء.. لم يعد قادراً على تحمل كل هذه الاضطرابات .. وكان آخر ما مر على خاطره وهو يلامس الأرض ..هو أن الإسفلت لم يكن بارداً كما كان يتوقع..

***

أنوار حسين الدليمي

في نصوص اليوم