نصوص أدبية

ناجي ظاهر: ليلة باردة

عاد الزوجان أبو رهان من عيادة الطبيب المتخصّص بالعظام، في مدينة حيفا، إلى بيتهما في أحد أزقة الناصرة القديمة. كان العجوز أبو رهان يتوكأ على كتف زوجته العجوز أم رهان. شرع الاثنان في صعود الدرجات السبع العتيقة الموصلة إلى بيتهما. توقّف أبو رهان عن الصعود في الدرجة الخامسة، فطلبت منه أم رهان أن يصبر قليلًا.. اصبر يا رجل أصبر.. اعرفك قويًا. قالت، فردّ عليها لا أحد قوي على المرض. أخشى أن يكون ما قاله الدكتور صحيحًا. عادت الزوجة المنهكة تقول لا أعتقد أن ما قاله صحيح. أنت قوي ولا يمكن أن تعجز عن المشي على قدميك خلال فترة قصيرة. استنشق أبو رهان نفسًا عميقًا. وهمّ بمواصلة الصعود متكئًا على كتف زوجته، إلا أنه شعر بخدر يسري في قدميه. لا أستطيع المواصلة قال. أصبر يا زلمة. ما تبقّى من درجات أقل مما مضى.. الآن سنصل وسوف ترتاح. فكّر أبو رهان فيما استمع إليه من الطبيب. هو لم يكن يتصوّر ولا في أشد كوابيسه الكثيرة أن يضحي عاجزًا عن المشي.. ألم يُطلق عليه أصدقاؤه وأبناء حارته لقب أبو سبع اجرين؟.. إن شا الله بكون ما قاله الطبيب مجرّد وهم ينتهي ويعود أبو رهان القديم ليذرع الازقة والحارات المجاورة مواصلًا متعته في الحياة.. طولًا وعرضًا.

أخيرًا دخل الزوجان الغرفة. ليتواصل بينهما حديث الخوف والقلق.. منذ فترة عاد أبو رهان من جولته الصباحية اليومية في الحارة القديمة، وشكا من ألم في رجليه. يومها ابتسمت أم رهان وهي تربّت على كتفه لا تخف.. يبدو أنه ألم عادي.. خفيف ويمضي. ارتاح الزوج لكلمات زوجته الطيبة.. ابتسم.. ولم يعلّق.. غير أن ما كشفت عنه الليلة التالية، أظهر أن ما ألمّ برجليه من ألم لم يكن لعبة أولاد وإنما هو ألم جدي. بعد يومين لم يعد بإمكانه المشي إلا بصعوبة. الامر الذي دفع أم رهان للتوجه برفقته إلى مستشفى البلد. هناك حقنه الدكتور بحقنة خاصة. أراحته قليلًا إلا أن الوجع ما لبث.. في اليوم التالي.. أن سرى في قدميه. عندها عاد الزوجان إلى المستشفى.. ليتفاجآ بقول الطبيب المداوي لهما.. لقد فعلت كلّ ما بإمكاني.. لا أقدر على فعل المزيد. والحلّ يا دكتور؟ الحلّ بيدكم. الامر يحتاج للتوجه إلى طبيب متخصّص في حيفا. وقدّم لهما ورقة كتب عليها اسمه وعنوانه. في الليل أخذ الزوجان يضربان أخماسًا بأسداس ويتوقّعان ما يمكن أن يحلّ بعمود البت التاريخي وعندما خطر في بال أبو رهان أنه قد يتوقّف عن المشي نهائيًا هتف لنفسه بصوت مرتفع.. لا. عندما بلغ قوله هذا سمع زوجته ردّدت دون إرادة منها لا.. لذا ما إن بزغ فجر اليوم التالي حتى حمل الاثنان نفسيهما وانطلقا باتجاه حيفا. قدّم الطبيب المتخصّص هناك له العلاج الممكن. بعدها حاول تقديم العلاج غير الممكن.. بعد ثلاث أو أربع جلسات.. كما تتذكر أم رهان، رفع الطبيب يديه مستسلمًا.. لقد عجزت.. خلال فترة بسيطة سيكون المشي عسيرًا عليك والاغلب أن يتحوّل إلى مستحيل. والحل يا دكتور؟ الحل أن ننتظر معجزة. لقد بذلت كلّ ما بإمكاني من خبرة وعلاج ولم يعد بمقدرتي تقديم المزيد.. هناك محاولة أو محاولتان بعدهما لن يكون بحوزتي تقديم المزيد... فتح كوة الامل هذه دفعت الزوجين العجوزين للعودة إلى بيتهما في الناصرة القديمة.. ليصعدا الدرج ترافقهما معاناة حقيقية.. وأمل شحيح.

اتخذ كلّ منهما موقعه التاريخي القديم. على كنبتين عتيقتين متلاصقتين، ونظر كلّ منهما إلى الآخر.. لا يعرف ماذا يقول له. ما دفع أم رهان إلى فتح التلفزيون القديم قُبالتها.

-الدنيا بردّ.. أريد أن أستمع لنشرة الاحوال الجوّية. قالت

غرس عينيه في قدميه المتعبتين: لا تغلّب نفسك أعرف هذا البرد إنه برد شباط.. الاغلب أنها ستمطر.

بعد نطق أبو رهان بكلماته هذه سرى في رجليه وجع غير معهود، فانقبض وجهه..

- ما الذي حدث.. خاطبته زوجته.

- يبدو أن فترة جديدة عسيرة في حياتي ابتدأت.. أشعر بوجع فظيع في قدمي.

افتعلت أم رهان حركة توحي باللامبالاة أمام كلمات زوجها المنذرة بشرّ مستطير.. وقامت من فورها.. نقلت سرير زوجها من غرفة نومهما إلى غرفة الاستقبال.. بعدها أعانته على الوصول إليه. استلقى أبو رهان على سريره. فيما أحضرت زوجته الماء الساخن ليضع رجليه فيه..

- إرتح يا رجل.. ارتح الآن..

طفرت دمعة حارقة من عيني الزوج المكلوم:

- كيف سأرتاح وأنا أشعر بكلّ هذا الخطر المقبل؟

أرسلت أم رهان نظرة آملة إلى زوجها طالما أفرحته في ايام الشباب والعز:

- لا تقنط من رحمة الله.. لا تقنط.. إنه قادر.. يحيي العظام وهي رميم.

ارتاح أبو رهان لكلمات زوجته هذه. أغمض عينيه ضمن محاولة جادة للخلود إلى الراحة والنوم.. فيما راحت زوجته تتابع البرامج التلفزيونية واحدًا تلو الآخر. عندما هدأ زوجها. استسلمت إلى وسن خفيف.. فيما دخل أبو رهان في استراحة المريض. أحست الزوجة في أواسط الليل و.. ربما في أواخره.. لا تدري بالضبط.. أحست أن زوجها يسعى إلى المطبخ. ففرحت غير أن فرحها لم يدم. فقد هوى على الارض. بخفة فراشة.. وراح يزحف على أربعته.. محاولًا الوصول إلى حنفية الماء. وخُيّل إليها أنه لا يستطيع أن يقف على رجليه، فاسودت الدنيا في عينيها. فتحت عينيها ضمن محاولة للهروب مما هي فيه.. لتفاجأ بأن كلّ ما حصل إنما كان كابوسًا عابرًا. اقتربت من سرير زوجها ورفيق عمرها خلال أكثر من خمسين عامًا.. تمعنت في وجهه.. ماذا سيحدث له.. ولها أيضًا.. إذا لزم الفراش ولم يعد بإمكانه هو أبو سبع اجرين المشي عليهما.. أحست بغصة في حلقها ودمعة في عينها.. لقد ابتدأت فترة صعبة جديدة في حياتها.. وما كان في الامس لن يكون مثله في الغد. جلبت حرامًا قديمًا جديدًا خبأته منذ كانت عروسًا في أول زهوتها.. غطّت زوجها به وهي تتمتم.. بكلمات أشبه ما تكون بالتمائم والسحر.. انتابتها موجة من البرد غير معهودة.. فتوجّهت إلى النافذة لتغلقها.. أرسلت نظرة خاطفة إلى حيها القديم.. كان المطر يهمي مدرارًا.. وعادت إلى مقعدها قُبالة سرير زوجها لا تلوي على شيء.

***

قصة: ناجي ظاهر - (الناصرة)

 

في نصوص اليوم