نصوص أدبية

ناجي ظاهر: طائرة المجد

أرض المطار مالسة، أين منها ملوسة صخرات بنت النبي في مدخل قريته، مالسة ملوسة يكاد يتزحلق عليها فينزلق إلى تهوم لها أول وليس لها آخر.

يرسل نظرته إلى زوجته وابنيه، ابناه شرعا يكبران، ما كان عليه أن يخبر زوجته أن صديقا له في بلاد الفايكنج اقترح عليه أن يزوره، مرغّبا إياه بأنه سيخفف عنه المصروفات المُتعبة إلى أقصى حدّ. فعلا ما كان عليه لكنه تورّط، هذه ليست المرة الأولى التي يتورط فيها ويجد نفسه مسوقا إلى حتفه سوقا، كل ما ارتكبه من أخطاء في حياته كان هو الملوم رقم واحد فيه، أمه رحمها الله كانت تقول له وهما جالسان في فيء شجرة الزيتون أنت تبثّ طيبة، أنت يا ولدي من تورّط نفسك، لسانك يجرك فتنجر وراءه.

يتوقف يتقدم خطوة يتأخر أخرى، أمامه طائرتان، آه لو كانت طائرة الكونكورد هي التي ستقلّه هو وأحباء قلبه إلى تلك البلاد، أما تلك الطائرة الأخرى الصغيرة إلى جانبها فقد تمنّى ألا تكون وان تختفي من على ارض المطار.

يرسل نظرة رزينة يتعمّد أن يزوقها بالفرح إلى ابنيه، شدّوا حيلكوا هاه، إحنا مقبلين على سفر في الطائرة، هذه هي المرّة الأولى، دائما ستكون مرة أولى، اسألوني أنا، أنا من سافر وخبر الدنيا..، يتوقّف عن الكلام. شيء ما يوقفه يعود لمراقبة الطائرة الجاثمة أمامه مثل أبي الهول، يشعر أن ابنيه يبتسمان، يقول في سرّه ابتسما.. ابتسما.. مَن يبتسم إنما يبتسم في النهاية. تخطر في باله خاطرة لا يلبث أن ينبذها، هل يمكن أن تكون هذه المفتئة.. زوجته قد شبّلتهم عليه إلى هذا الحدّ؟ هل يمكن أن تكون كشفت خوفه أمامهما إلى هذا الحد؟ ينبذ الفكرة نبذا شديدا زاجرا إياها، ومن قال إنها تعرف أنني أخاف، من أين لها أن تعرف، لكن صوتا من أعماقه يخرق طمأنينته المؤقتة، صوت أمه المُحبّة يطلّ من أفق شجرة الزيتون البعيدة، دير بالك يمّا.. المرة بتعرف كل اشي بدون ما إنها تشوفه، المرة بتعرف كل اشي، وهي مش بحاجة لحدا يقلّها، لأنها بتفكر بإحساسها. معقول يمّا؟ معقول إني أكون ضحية هؤلاء المرافقين، طيب ما أنا مش خايف على حالي قد ما أنا خايف عليهم، أنا أخطأت ما كان علي أن أوافق على أن نسافر جميعنا معا، على الأقل كنّا نبقي واحدا من الابنين، أما إذا ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هو لا يمكن أن يتصوّر مثل هذه الأفكار الشيطانية، لا يمكن أن يتصوّر أن الطائرة يمكن أن تتفجر في الجو و.. ان تتفجر معها أحلامه، أما اليهود فإنهم يفعلونها ويفجّرون الطائرة مثلما فجروا البلد.

إشارة من شخص بدا انه مسئول هناك، جعلته يتروحن ويرتاح قليلا ناسيا ما انتابه من وساوس وأفكار، رقص قلبه فرحا، هي الكونكورد إذا، مخاطرها اقل بما لا يقاس من مخاطر أي من الطائرات، ثم انه كان حذرا وقرا عن أنواع الطائرات المختلفة، على مين ممكن إنهم هؤلاء يكذبوا؟ اخذوا بلده أي نعم، أما أن يأخذوا عقله فهذه من رابع المستحيلات.. نفدوا بالبلد إلا أنهم لن يتمكنوا من أن ينفدوا بكل ما يريدون.

قدماه ترتعدان كلّما دنا من الكونكورد، آخ لو أن جناحين ينبتان له فيحمل ابنيه وزوجته ويحلّق بهما عائدا إلى بيته، ويا دار ما دخلك شر.

مع هذا يتخذ مقعده على متن الكونكورد، يمسح المقاعد، يتفحص جميع الوجوه، دون أن يحس به أحد هو يعرف كيف ينظر من تحت لتحت، هذه مهنته منذ كان صغيرا، لا أحد يباريه فيها، يرتاح حينما يرى إلى وجه ذاك الذي أشار إلى أنهم سيستقلون الكونكورد، اليهود يعملونها بكل الناس إلا بأنفسهم، من هذه الناحية اطمئن لن يفجر الطائرة أحد منهم، لكن يبقى في هذه الحالة، خطر أن تتفجر الطائرة لعطل ما.

تدنو منه مضيفة الطائرة، تسأله عمّا إذا كان مرتاحا، يردّ عليها بشمم عربي، انه مرتاح تمام التمام، آخ لو تعرفين عن أية راحة أتحدث. يهز رأسه للمضيفة، يرسل نظرته إلى ذاك الذي اشّر للكونكورد، هي مناسبة لان يهز له رأسه، مَن هزّ رأسه للآخرين امن شرهم، يهزّ ذاك رأسه، تدخل الطمأنينة إلى قلبه للمرة الأولى.

ما أن تأخذ الطائرة في الارتفاع حتى يتوجّه إلى زوجته وابنيه، ليطمئن عليهم. يبتسم لهم هل أنتم مرتاحون؟ لا تخافوا في المرة الأولى يخاف الواحد منّا لكنه في المرّات التالية لا يخاف يعتاد على ركوب الطائرات، يبتسم ابناه، ماذا يقصد هذان الملعونان، وهل يمكن أن يكونا عرفا بماذا يشعر هو الآن، طيب أمهما تفكر بأحاسيسها فهمنا، وهما هل يفكران بأحاسيس أمهما؟ كم يود لو انه تمكّن من صفعهم جميعا. دوّامة من الأفكار تستولي عليه، .. وفجأة، فجأة وززز، ما هذا؟ يحاول أن يسال إلا انه يتردّد، ينتظر أن يسال آخر من الركاب، لكن انتظاره يطول، يغيب الوزّ، قبل أن يعود إلى ارتياحه القديم، يعود الوزّ، يتبّلها كابتن الطائرة، مَن لم يربط الحزام من المفضّل أن يربطه، سندخل في منطقة غائمة قد تفقد الطائرة بعضا من توازنها.

يشعر بجفاف في حلقه، طيّب إذا كانت الطائرة ستتعرّض إلى بعض من فقدانها لتوازنها، لماذا لا يعطون كلا من الركاب باراشوتا، ليستعمله في الهبوط عند الخطر؟.. آخ لو انه تعلّم الهبوط في المظلة على الأقل، قال ايش اربطوا الأحزمة، أي هو إحنا إذا ربطنا الأحزمة يمكن أن نفلت؟ تتقدّم منه المُضيفة لماذا لم تربط الحزام بعد؟ لا تعرف أن تربطه، تدني صدرها من كتفه، هكذا يربطون الحزام. يبقى صامتا شعور بالتجمّد الداخلي يستولي عليه، يتوجّه إلى ابنيه هذه المرة، لا تخافا هذه إجراءات روتينية، يبتسم ابناه بخبث، لا يردّان بل يرسلان نظراتهما إلى البعيد من نافذة الطائرة، يشعر بغصة في حلقه وهو يراقبهما ما كان عليه أن يصطحبهما معا، ما كان عليه أن يقبل رأي زوجته فيصطحبهما على اعتبار أن تلك رحلة من العمر، ألا يجوز أن تقضي هذه الرحلة على العمر فلا تبقي ولا تذر، والله اللي برد على مرة هو مرة.

وزز، يزداد الوزّ كلما أوغلت الطائرة مبحرة في غيمها، ما هذا الوز؟ أيكون عطلا في المحرّك؟ والى إلي مدى يشكل من خطر؟ يرسل نظره إلى الوجوه كلها وادعة مطمئنة، يبحث عن مرآة ليرى وجهه فيها، المرآة بعيدة، طيّب اجت منها وليس منه، إذا نظر إلى وجهه، فقد يرى ما لا يسرّه، أفضل له ألا يرى، ما الذي يحصل له، أيكون هو المتحسّب الوحيد في الطائرة؟ كلهم لا يفهمون وهو وحده يفهم؟ نعم ولم لا؟ لم لا يكون هو الفاهم الوحيد، هو لم يخف من أمر في حياته إلا وحصل، فلماذا لا يحصل الآن ومَن يضمن له؟

يتواصل الوزّ، يفكّر في أن يتوجّه إلى ابنيه أن يطلب من احدهما أن يسال عن ذاك الوزّ، إلا انه يتردّد، يقول لنفسه بعد ساعة أو اقل نصل ويزول هذا الكابوس لكن مَن يضمن له أن يصل سالما غانما؟ أو لا يمكن أن تكون رؤيته لصخرات بنت النبي، صباح اليوم، في مدخل قريته هي المرة الأخيرة؟

تخرج الكونكورد من غيومها، هيّئوا أنفسكم.. بعد قليل يكون الهبوط، الرحلة تمت بسلام، يرتفع الوز، يرتفع يرتفع.. يرتفع حتى لا يكون بإمكانه أن يتحمله، ما إن تهبط الطائرة على ارض المطار في بلاد الفايكنج، حتى يتصاعد الوزّ إلى أقصى مداه، يشعر بان كل شيء انتهى أو قارب النهاية، يُطلق صرخة حبسها منذ صعد درجات الطائرة، وربّما قبلها بكثير، تنطلق من فمه منغّمة كأنها ترنيمة لموت محتّم: يمّا..، يطلقها مثل قوس فلت من عقاله، تتبعها يمّا أخرى اشد والعن من سابقتها، تقابلها قهقهات يرسلها ابناه وزوجته هذه المرة.. دون أن يخفوها عنه.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم