نصوص أدبية

فرات المحسن: الحرب والعودة إلى الوادي المقدس (2)

ـ تنتظرين يا زينب.. تعدين الأيام.. موسم لصيد السمك. موسم للترقيد.. موسم لجمع الثمار، مواسم.. أم ماذا؟

موج شفاف وجهك يلتهم فسحات وريقات الآس في (بقجة*) جدي الأثيرة. ملاءة حرير تلف اشراقاتي وأصائلي. النشوة في صوتك تغطي قرقعة السلاح وهدير سرف الناقلات ودوي المدافع. وجهك يرزح فوق أرض الله التي نتنقل فيها ونحشر أجسادنا في شقوقها. يداهمني الموت فأنهش من أحشائه وهج الحنين لوجه أمي وقلبك. تتراءى لي بساتين الصبا المعشوشبة بالطمأنينة، فأفلت مئات المرات من جمرات الموت.. ينز من جسدي تعب التجوال فأريحه عند دكة بابكم في رؤى غريبة وهلوسات أغرب. مثل الذبيحة أصارع زمني. تتوالد في روحي كل لحظة سهوب وصحارى قاحلة. جبال ورودها مشعة ووديان مظلمة سحيقة. وأنا أوطن روحي في ذكرى همسك وابتسامتك التي بقيت تتمجد أبداً في شقوق أرض الفاو. في صخب مدينتنا عند الصباح وضجيج أصوات السفن والتياع القوارب من ثقل السمك في الأغباش. الزبد و اللبن والخبز والشاي وطرطشة الجسد المستطابة في الماء الممتد مثل بساط مضبب يلتصق بزرقة السماء، يتماس معها بلزوجة شبقة. ونحن عشبة تتراقص فوق سطحه.

كنا وكانت أيام قواربنا وصوت (فليح) مثقل بالحزن يحز صدر الصباح المورق فوق الشط. رجع لوجع وألفة البيوت والأزقة الفرحة بترابها حين تجيسه أقدام العاشقين والأطفال الحفاة. ونسوة يهذرن بتأريخ مدينة تشتعل كجمرة في قلب الغمر ذاك. شجرة آس بين السبخ والماء باركها الرب بحنوه، فانتصبت ملتقى الخير والتجارة وطيب النخل. تورق فوق خدودها الحناء. شعاع صباحاتها ينبلج ساطعاً حاداً وآصالها تقارب شطها باستحياء.

كل المدن لها نكهتها الخاصة، ولكن مدن الطفولة لها ضوع و شذا آخر. عطر يتكسر ضوعه عند حواف القلب، فينقبض بغصة من فرح غير مكتمل أبداً.

أكافح مخالب الرعب وهي تنهش صدري. تطأني كوابيس من دم ووحل وصراخ وأطراف مجزوزة.. أقاومها برعشة وخوف لكي لاتهرسني الحرب غيلة. لكي لا أنساك وأنسى أديم أرض مدينتنا وشطآنها.. أنسل في الأغباش مثل جرذ بللته الخيبات. تنهض في روحي غصة حين أستيقظ دون رجة كف جدي. أستيقظ لأرى سقف الملجأ يطبق بثقله فوق صدري. فأزرع وردة للصباح حين يقترب وجهك مني وتندس أصابعك بين طيات شعري.

ـ أنسيت فاونا يا زينب؟.. أتتذكرين..؟

ـ ………..

ـ هل استطاعوا خلعها من قلبك..؟

ـ .......

ـ جليل.. تهيأوا للحركة.

ـ الى أين..؟ إلى أين..؟؟

ـ البصرة.. حبيبتك، أليست تلك أمنيتك؟

ـ صــ..صح.. صحيح ….

تنسدل في الحنجرة ستارة شفافة تحجب إباحة الفرح المتوقد في الروح. أقترب منك يا فاو..؟ أقترب منك يا زينب..؟ ما الذي جرى لدوران الكون الخامد كل هذه السنين.. تعرى ستر السماء وعليَّ أن أحبو نحوك مثل رضيع نهم.

آلاف الساعات ما شابهت ساعة من زمن دفء ثياب الأم المطرزة برائحة الحناء..مئات الساعات ما قربت من صدري غير رائحة حشائش البساتين في يوم مرطب.

ما زال الفجر يخالط الليل عندما أيقظت أفراد حظيرتي. همست في آذانهم فرداً فرداً أن استيقظوا، استيقظوا واسمعوا وجيف القلب. لملموا أغراضكم.. انتظاراتكم، جنونكم، حبكم، أجسادكم، فإن النوارس في عجالة من أمرها. أنظروا لوهج الأصداف قبل أن تفلت لحظتها.

بدأت نثارات الدهشة والتساؤل تنفلت من مسام الروح عبر العيون المتقيحة من السهد. حركات الأيادي العجولة تشدُّ وتضغط، ثم تنبسط متناغمة مع التقاط الأشياء ووضعها في أماكنها المحددة عند ظهر الشاحنة.

 كانت ملامح الفجر تنسل هاربة، وطيور أضلت الطريق لازالت تحوم، حين أكملنا تهيُئنا للرحيل. تراصت أجسادنا بين أكداس الأمتعة والعتاد، وهدأت بانتظار موعدها مع الرحيل نحو بقعة الكون المضيئة. نحو بهجة مثل غلة الله تفيض من بين الأصابع فتملأ جحور الهوام وأفواه البشر.

تتلألأ دروب الجنوب بأعشابها و تتناغم خضرة البساتين مع اهتزازات السيارة العسكرية. الهواء الرطب البارد لازال يوغل أصابعه في صدر نيسان الوهاج، فتنتشي الأجساد المرمية بين العفش والعتاد. الاقتراب من الحبيبة يجعل الروح مورقة فتنطلق الحناجر بغناء مرتبك وبحشرجات فزعة. نستنشق بلذة يخالطها الخوف روائح البساتين وزفرة الشط المستطابة.

القرنة ، الدير، الهارثة.. إذن إنها طيبة الرب تفيض وضحى جديد ينبثق من حواس الروح فيملأ القلب ببروق فواحة تسحب الجسد الثقيل وتحيله إلى كتلة هلامية رخوة.. طفل يتلمس بكفيه الطريتين صدر أمه، رقبتها وزنديها. يشم بأنفه الرخو (شيلتها*) فتتورد وجنتاه، وتحلو لـه الكركرة بين طياتها.

ابتعدنا عن جسر محمد القاسم. إنها مسافة أقرب لهمس الحبيبة. أهناك جسر آخر نولج أرواحنا منه لنمر نحو جوف البصرة وأحيائها؟. يستمر السير. ليس بعد ذلك ثمة ما يخفى، فلا معبر للأرتال بعد ساحة سعد، ولا قبلة لها سوى أرض مدينتي.

آه يا طباق الله السبع..آه يا أكوان الله السبع.. آه يا أرض الفاو الملونة بالحناء وبفرح الناس وغنائهم…آه ياليل الصب، يا شباكي المفضض بالنحيب.

يحاذيني صوت (فليح) نحيب ينغرز في نخاع العظم، شفاف وحاد. رجع لألتماع الماء والأعشاب. حطام الروح في وجع الشوق. عذابات مضاءة في ليل بحر موحش. تكوينات غريبة لسعال من ريح تعوي لتداهم مراكب بائسة تتقاذفها الأمواج بحدة. يُنثر صوت (فليح) مدرارا عند حواف الحافلة، فوق إسفلت الشارع المتوهج من ضحى الشمس وجفافها. التماع السبخ المتولد من ماء المطر والتراب والرطوبة يصعق الروح عند اقترابها من رائحة الهواء المتأتي من مدينتي.

التعاوني رقم (26) تجتازه سيارتنا بتثاقل. إنها بساتين ناحية البحار. جارتك. معبر الرب لقربك يا حلوتي. نحن بالجوار يا ألفة الروح وشوقها، قريب منك يا ماسة الكون. أتضرع أن لا تسمعي نحيبي. أن لا تنظري شحوبي، دمعتي. أن لا تسمعي ضجيج دمي فيجفل قلبك المكلوم.

***

فرات المحسن

 

في نصوص اليوم