نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: ساعي البريد

رأسي والصداع

هو رأسي الذي بدأ يتغيّر

رأسي ولا أيّ عضو من جسدي سواه.

هكذا

من دون مقدمات هذه الأيّام أخذ يدخل مرحلة غريبة:صداع مفرط يتكاثف في منتصف الجبهة وفي بعض الحالات أشعر به ينحدر من تلك النقطة بشكل خيط حاد فظيع حتى يلامس أعلى أنفي ما بين الحاجبين.

الحقّ ظننته أوّل ما داهمني عابرا، مثلما يشكو الآخرون من من صداع يسببه الجهد أو الأرق، وحين تكرر وجدت عذرا آخر في جعبتي وجهت التهمة إلى المخترعات الحديثة فوضعت اللوم على التلفاز، والهاتف النقّال، والكومبيوتر أو الأجهزة الحديثة التي تكاد تطلّ علينا بملمسها الناعم كل بضعة أشهر.

أكتب الآن وأنا براحة تامة كوني هربت إلى مكان أشعر فيه بالأمان.

أوّل مرة فاجأني الصداع

تجاهلته

للمرة الأولى

والثانية أيضا

قلت مع نفسي لعله الفراغ الذي بدأ يدبّ في مفاصلي.. ربما عملي، فأنا ساعي بريد، أوصل الرسائل والرزم إلى البيوت والأسواق.. المدينة تعرف شغلتي الحيوية، جميعهم يبتسمون لي ويتطلعون لطلّتي اليومية:من يطالعه في المستقبل خبر سعيد أم من يتلقى أسوأ الأخبار.

بشتاقون إليّ..

منهم من يمنحني مكافأة.

لم أر أحدا قط يكلح بوجهي..

وليس هناك من يستعيذ من طلّتي عليه وإن كنت أسوق له أسوأ الأخبار. مع العلم إنّي أشعر أَنّي في بعض الحالات يمكن أن أكون مثل غراب نوح..

هذه حقيقة لا أنكرها

لكني لا أكره نفسي

ولا لأشعر بالذنب

ليعلّني أواسني نفسي حين أراني نافذة مدينتي التي تطل بها على نفسها عبر الدنيا.

لا أدّعي أني مثقّف لقد حزت على تعليم كاف جعلني أعيش حياة متوازنة. إذ حافظت على العلاقة بين الشّرف ومهنتي. أنقل الأخبار ولا أعرفها إلى الحدّ الذي جعلني أحتقر، ولا أغالي، الرقيب الذي يفتح الرسائل بطريقة لا تؤذي الرسالة أو الرزمة، فيعرف مافيها من دون أن يشعر بخجل.

أقول: قد يكون من أسباب الصداع الغريب الذي اجتاح رأسي الكسل.

نعم..

ربما أستبعد المفاجآت فلم أكن أعاني من أيّ مرض، ولا تشغلني كثير من الأحداث، أتفاعل وأنفعل بحدود المعقول كأيّ من مخلوقات الله.

واستبعدت أيضا أن يكون مرضا خطيرا

أخيرا اضطررت لعرض حالتي على طبيب. أكثر الأطباء شهرة في مدينتنا:

 - إذن وظيفتك ناقل أخبار

قال ذلك بعد أن تمعّن في معلومات دوّنتها قبل أن أدخل عليه.

- نعم ياسيدي.

- هل تعرف أخبارا تنقلها إلى الآخرين؟

أوحت إليّ قسماته الجادّة أن سؤاله استفزّني:

- لا أبدا (واعترضت) لكن لم هذا السؤال:

- يمكن أن يكون الصداع تأنيب ضمير (تطلّع في عيني):ألم تراودك رغبة في أن تطّلع على أحداها أو تتخلص من بعض مافي يدك قبل أن تسلّم الأمانة لأهلها؟

- (بغيظ) محال إنها قضيّة مبدأ وأخلاق.

هزّ رأسه:

- ذلك يعني أن ليس هناك من شئ ( وأضاف بثقة كأنّه يكتشف الحقيقة الخالصة ) إنّه وهم كل ماتشعر به وهم !

وانتقلت من طبيب إلى آخر وثان وثالث ورابع أدخل رُدَهَاً.. أقابل مديري مكاتب يدوِّنون معلومات عنّي قبل عرضها على الأطباء ثمّ أرافق ممرضات..

أشعة تتكرر..

تحاليل..

خروج..

دم..

اللعاب.. هل أتجزّأ أم أشطر نفسي لشظايا صغيرة كي أضع يدي على الداء، أدخل معهم في نقاشات عقيمة، كلّهم أكَّدوا أن رأسي سليم.. وهم.. نهاية كلّ لقاء مع طبيب.. لاشئ غير الوهم.. قد نتناسخ نحن البشر بأشكال نبات وحيوان، والوهم بالصداع.. صرفت مبالغ كثيرة وكدت اضطرّ للدين، دخلت أجهزة مختلفة بعضها قاس وبعضها ناعم، ولجأت إلى مسكِّنات لاتنفع في أن توقف وجع رأسي الذي انقلب إلى صداع فظيع فكأن الحبوب فأس واهٍ يطرق صخرة من مرمر قاس. هل أذهب إلى السحر والشعوذة بعد هذا كلّه؟

ربما دفعني الطب نفسه من حيث لا يقصد..

ساعدني بعد أدرك أنّ هناك حقائق قد يفسر غموضها الخيال أكثر من العلم.

كنت أسير في الطريق فداهمتني موجة صداع عنيفة، الوهم بصورة صداع، التجلّي الأخير للوهم، بحثت في جيوبي عن حبة أسبرين، فوجدتها فارغة تسللت من الشارع إلى أقرب صيدلية ثمّ غادرتها وصوت الصيدلاني يلاحقني بعد أن شاهدني أفرغ نصف العلبة في فمي:أنصحك ألا تلتهم أكثر من ثمان حبات في اليوم..

لا أبالي..

- ياسيدي الوهم يتقمص الصداع..

لا مرض خبيث يقولون.. لا شئ.. وهم.. وفي لحظة ما أشبه ماتكون هدنة بين جيوش تتقاتل، وسكون يعمّ وينتشر، وقعت عيناي على عيادة طبيب. خلته طبيبا جديدا فلم أتذكر أني رأيت العيادة من قبل.. فتشجعت ودخلت.. على أمل أن أجد مختصا يقول لي هناك شئ ما يداهم رأسي.

فايروس..

جرثومة

شئ محسوس

اكتشاف لايتهمّ الوهم.. أدركت أني قابلته من قبل بل تيقنت أنه أول طبيب عرضت حالتي عليه، الذي اكتشف تقمّص الوهم بالصداع فسار على خطوه الأطباء الذين ترددت على عياداتهم.. والذي سألني إن كنت خنت الأمانة أو اطلعت على ما في الأخبار لكنّه لم يعرفني.. العجب أنّي لم أمتعض حين كرّر عليّ السؤال ذاته الذي سألني إبه الأطباء الآخرون من قبل، ربما فقد عنصر المفاجأة أو فقدتها.. لكنّ ذاكرته استعصت:

- حالتك جيدة وأنا حديث عهد بالعيادة ومدينتكم هذه ولا أخفيك سرا أني أرغب في أن أجري لك فحصا عاما وأفتح لك مِلفَّاً جديدا.

إنكار

هل أنا في حلم أم هو؟

والصداع حين يراودني يمنعني من النوم بضع ليال:

- ياسيدي أنا متأكد من أن الملفَّ موجود عندك.

- يبدو أنك تفترض ماضيا لتعيش فيه.

صمتُّ.

لذت بالسكوت والذهول:

- كل مايهمّني الآن هو أن توقف الصداع.

- فإن لم يكن هناك من شئ بعد الفحوصات، وهو الاستنتاج الذي أتوقعه منذ هذه اللحظة، هل أدفعك إذن إلى طبيب نفساني.

- هل تظنني.. ؟

- لا تدن نفسك من دون أن تعلم أو تتعمّد.. فقد يكون تأنيب ضمير لقصور في العمل.

استغربت من طرحه المفاجئ وتساءلت بضيق:

-  مثل ماذا؟

فقال وهو يتطلّع في وجهي مثل المنوّم المغناطيسي:

مزّقت رسالة ما.. لم توصل رسالة.. كشفت سرّأ..

وأنا معه عضّ جبيني صداع ثقيل، ولم تكن ببالي سوى هذه اللحظة تلك الرسالة التي لاتخصّ أحدا ولعلها لي أو لغيري.. قد تكون ملكا مشاعا لاحجة لأحد فيه مادامت لا تحمل عنوانا معينا، أصررت على الرغم من الألم أني لم أنتهك شرف العمل:

لا ياسيدي هذا محال!

دورة جديدة

كلّ الأطباء الذين مررت بهم من قبل ادعوا أني أمرّ على عياداتهم للمرّة الأولى، وقد أوحت لي الحال أنّ العالم فقد ذاكرته، وإحساسه، وبقي الصداع يراودني حتى طلع علي ذات يوم وأنا أسير في وسط المدينة اسم طبيب جديد لم أمر عليه، فتساءلت بين الشك واليقين هل يعقل أني لم أزره من قبل ؟ماذا لو أنكرني وهو وجه أعرفه ثمّ تحاملت على آلام رأسي واقتحمت عليه عيادته..

فؤجت بوجه جديد

رجل في الخمسين.. أصلع قصير.. ذو بطن مددت يدي إليه مصافحا وأنا أعضّ على أسناني من الألم. فنظر إليّ بإشفاق وكان ينتظرني أبدأ الكلام قبله:

- دكتور يؤسفني أني لم ألتقك من قبل فلعلك تأتي إليّ بشئ جديد.

- أظنّك لففت على أطباء غيري وزرت مشافي ومختبرات وها أنت تعود إلي بعد تلك الرحلة الطّويلة.

- أبدا لا أظنني، وأكاد أجزم أني رأيتك.

فقهقه مشجعا وقال:

- لا يهم ذلك أنت ساعي البريدصاحب الصداع الدائم على الرغم من أني على ثقة أن ليس هناك من شئ.

- كلامك لا يختلف عنهم.

- بل هو لب الاختلاف لأني وجدت طريقة لعلاجك.

مازال ذهني ينزلق على الماضي لا أظنني زرته وهو يؤكد أنّه يعرفني ويصرّ على علاجي

- هل يمكنني أن أسألك لم انقطعت عني؟

- بصراحة انك تشتبه فأنا أدخل عيادتك المرة الأولى.

- بل قل إنك أردت أن تعثر على طبيب يؤكد لك شيئا ما فصرفت الجهد والمال.

قال عبارته متضايقا فاستدركت:

- أنا لا أشكك بعلم أيّ طبيب لكنني أحاول أن أرى استنتتاجاتهم وربما هي المرة الأولى التي أجدهم يتفقون على أن لا شئ مع العلم أنه هناك شيئا يؤذيني.

فراودته ابتسامة ماكرة

- لعلّهم خدعوك إذ هناك نقطة منتصف جبهتك نقطة مجهولة لا تتعلّق بالعلم ولا يجرؤ أي طبيب على أن يشير إليها.

أخذتني دهشة..

غفوة

شرود

- ماذا ياسيدي

- هل تؤمن بالخرافة ؟

وخزتني كلمته فانتفضت:

- أشك فيها لكني لا أشك في العلم، (أكّدت بحماس)أنا رجل متعلّم.

- هذا هو السر.

قال عبارته وسحب نفسا طويلا وأردف:

- العلم غزانا والألكترونات الخفية تداخلت في حياتنا دبّت فينا لأبعد الحدود فهجرنا الخرافة ليختل توازن عقولنا.

بين شاكٍّ ومضطربٍ ومصدّقٍ:

- ولِم َلم يشخّص الأطباء قبلك هذا العلاج.

فمط شفته السفلى شبه معترضٍ أو برمٍ:

- لأنهم يخجلون أن يتنازلوا ولو بنسبة واحد بالمائة!

كالطفل أسأل:

- مادام الأمر كذلك فبماذا تشير علي؟

لا شئ.. لن تخسر شيئاً جرّب الخرافة.

جرفني رأيه حدّ الدهشة لا سيما أنّه قالها بلا مبالاة لأنّه أتبعها بهزة من كتفيه فنهض كأنّه لم يعد لديه مايقوله، ومدّ اليّ يده، فمددت إليه يدي وأنا أقول:

- سأجرّب لن أخسر شيئاً

الخرافة

النبؤة الخيال

قصص الأطفال

المعجزات

كلّها تداعت في ذهني حالما خرجت من عيادته وفي قرارة نفسي ألا أدخل أيّة عيادة مرة أخرى.

(2)

رسالة

قبل توغّلي في عالم الخرافة..

 ألقيت عن صدري ذلك السرّ الآخر الذي لم يطّلع عليه أحد والذي لم أتذكّره وقتها وأنا أعرض حالتي على أوّل طبيب سألني عن تأنيب الضمير.

والحق

تلميح الطبيب الجديد يثير شيئا ما رأيته تافها فيذكّرتي

كنت أخالف المألوف، أكذب في هذا الموقف

سوى أنّي لا أجد تأنيب ضمير

قط

حدث ذلك منذ سنوات.

ومن نافلة القول أني أخفيت الأمر على السيد المدير. قد يبدو السبب تافها.. تافها جدا مع ذلك أظنه كمن إلى حدٍّ ما في أعماقي.

ذات يوم، رحت، قبل دخول إرادة النت ومشيئة الحاسوب، رحت أفرز الرسائل، أرتبها حسب العناوين التي ترتبت في ذهني، المدير نفسه لا يتدخّل في شؤوني، الفرّاش يتابع عمله بين الإدارة والمركزوموظف الرزم منصرف إلى ترتيب الأغلفة وتهيئة السيارة دون أن يفكر كلاهما أن يأتي يوم يحلّ فيه السيد الحاسوب محلهما.

فجأة

وقعت في يدي رسالة غريبة.. قد أبالغ إذا قلت فجأة ربما كلمة مثيرة هي الأصح والأصلح.. إلرسالة معنونة إلى مدينتا من دون أن يكون على الغلاف أيّ عنوان.. لااسم شارع ولا رقم بيت.. والمرسل إليه شخص يبعث الإثارة:

إلى من يهمه الأمر

أبقيت الرسالة في عهدتي.

خطر لي أن أخبر المدير وبلمح البصر غيّرت قصدي

لا قلت مع نفسي

وأضفت

هذه رسالة كأنّها تخصّني

من هو الذي يهمّه الأمر.. المدير.. السيد مدير البلديّة.. الكبير.. ذو الفخامة.. العظمة.. هناك أكثر من واحد يهمّه الأمر، ولا عنوان لمرسل على ظهر المظروف. مادام الأمر كذلك فيمكن أن أختار نفسي عنوانا رئيسيا قصده المرسل. هناك رسائل غير واضحة العنوان ترجعها إلى البريد المركزي، فتبقى برفّ الودائع سنوات، وقد وضعت في بالي ألّا يكون مصير هذه الرسالة على الرفّ ذاته، لن أخبر السيد المدير فأنا أحقّ بها.

مع ذلك عليّ أن أطوف بها خلال جولتي أمر على العناوين وحين وصلت إلى بيتي ألقيتها في صندوق الرسائل وعدت أواصل عملي ولا يشغل ذهني أيّ شئ.

أحاول أن أتجاهل تلك الرسالة

أحلم بشئ آخر

أتخيّل أنّي لا أنتظر شيئا

وفي ختام عملي تعمدت أن أكون على سجيتي كمن لا ينتظر شيئا، ذهبت إلى صندوق الرسائل، لأطّلع على مافيه، إلى من يهمه الأمر:

افترضت ثانية أني أنا

وليس هناك من تأنيب ضمير

بعض الحماس يدفعني لفضّها واللهفة:.

نصائح

حكم

أم

هذيان؟:

لاشئ حقّا

كانت الورقة بيضاء

بالضبط مثل الرسالة التي تلقاها المدير الذي سوف أحلّ محلّه وليس عليها من طابع فآمن بشرف المهنة ودفع، رسالتي لا ينقصها أي شئ سوى اسم المرسل إليه

لأفترض أنّي هو من يهمه الأمر.. ماذا بعد غير أن أرميها في سلّة المهملات؟

**

رسالة

 لم يعد الألم يهمني بقدر ما أحاول أن أعود إلى الطرق البدائيّة أصادقها من جديدٍ وأرافقها كما لو عدت طفلا. لا أخاف على حياتي فجميع الأطباء اتفقوا ألّا شئ، وهذا الطبيب الذي لم أزره من قبل ويؤكد النقيض حدثني عن الزاوية المجهولة في رأسي.

لابد أن يكون هناك تبادل بيت الخرافة والعلم.

في بالي أن أغيّر تمط حياتي..

منذ سنوات وأنا أنقل أخبارا وأسرارا لا أعرفها. ولا يهمني أمرها، ولا أحد ممن استقبلوها أخبرني عنها، كل جسدي يتحرك. يداي، رجلاي. أعبر بدراجتي الشوارع والأزقة، وحين أنتهي من الرسائل أعود إلى الشاحنة فأقودها وهي مليئة بالرزم.

لا أحد في المدينة يجهلني

ولا أظنّ أحدا يتشاءم منّي لخبر سوء أسلّمه إيّاه بيدي

تأكّدت من ذلك تماما

حتّى ذو العاهة الثلاثيّة المركبة يعرفني

ذات يوم هادئ

ركنت درّاجتي عند الرصيف ودخلت محلا يبيع الآيس كريم، هناك سلّمت رسالة وحالما خرجت وجدت ذا العاهات الثلاث يمسح براحة يده مقود الدراجة، ثمّ يمررها على حقيبة الرسائل يمسح على بعضها:

تركته لحظات

راقبته

ثمّ دنوت منه، وربت على كتفه عندئذٍ تشبّث بي بقوة، كان من عادته إذا اصطدم بأحدٍ أو اصطدم به أحد ما يتشبّت به ويطلق همهمة فيشفق الآخر عليه ويدسّ بيده بعض النقود، ثمّ ينصرف في طريقه يساعد أصحاب المحلات في تصفيف بعض الأرفف وترتيب زجاجات قناني البيبسي كولا والكوكا والفانتا الفارغة في صناديقها..

الناس يعدّونها معجزة عوّضه الله بها عن البصر والسمع والكلام.

أمّا أنا فالأمر اختلف معي تماما

في هذه اللحظة الحاسمة وضع يده على رسالة وسط الرزمة ثمّ مسح على عينيه فانقلبت قسمات وجهه إلى حزن مطبق، كان يبكي من دون دموع بعدها عبرت يده صفّ الرسائل إلى رسالة ما وفتح فمه واسعا. كان جبينه يتحرك بين الحزن والفرح.

ولم يكذّبني ذو العاهات الثلاث..

في اليوم الذي سلمت فيه الحزن

غطّت الشارع مراسيم حزن

سمعنا صراخا

رائحة موت

في الجانب الآخر كان هناك فرح ما

عرس أو مايشبه العرس..

نجاة من حادث جلل

فوز ببطاقة يانصيب

أيّ حزن

هي المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى أسرار خفيّة تتأرجح بين الشؤم والفأل الحسن وقد نبّهني إليها من لا يسمع ولا يرى ويبصر.

ومن قبل كنت أعتمد في تبيان العناوين والطرقات على ذاكرتي ثمّ جاءني صديق آخر.. الهاتف النقال.. والكومبيتر. ارتاح ذهني قليلا، وأكاد أقول بكلّ ثقة إنّني بمساعدة صديقيّ الجديدين أستطيع أن أقود سيارة الرزم والدراجة وأنا نائم.

مبالغة حلوة.

ارتحت كثيرا.

كنت أخرج الساعة التاسعة وأعود الواحدة، بيدي أسرار مدينة أجهلها، وفي هذه الأيام أقضي ساعتين في العمل ثمّ أعود لأقابل وجه السيد المدير الذي سوف يتقاعد بعد بضعة أيام، وقد أصبحت المرشّح الوحيد الذي يحل محله.

قال لي بكل ثقة:

- سأغادر العمل وأنا مرتاح.. أنت تحلّ مكاني..

- مادامت ستتركني فعليّ أن أعلن عن حاجة المؤسسة إلى ساعي بريد يوزع الرزم والرسائل.

- لا أعتقد.. تستطيع أن ترتب كلّ شئ بساعة أصبح الناس يعتمدون على الإيميل والرسائل النّصية والتوصيلة.

وجدته على حقّ. سيل الرسائل انحدر في مدينة كبيرة مثل مدينتي إلى أقلّ من عشرة باليوم، ثمّ قلّ إلى بضع رسائل.. وأهل المحلات التجاريّة فضّلوا التوصيلة، والتعامل مع الشركات السّريعة.. كنت أتذكر كيف بدأنا وزخم الرسائل والرزم الكبير وعدد الموظفين والعمّال الذين معنا، وشيئا فشيئا يبدأ العدد ينقص. ترتاح أجسادنا وتسترخي عضلاتنا، أصبح لي أصدقاء جدد.. كومبيوتر.. هاتف.. مرشد طريق.. لكننا نبدأ نشعر بالصداع والدوار.

ويبدو أن رأسي لا يريد أن يرتاح.

يغزوه الصّداع بقسوة. أدخل في موازنة جديدة: أذا تعب جسدي ارتاح عقلي ومن الممكن أن يتعب عقلي لراحة جسدي، قد أكون الوحيد في هذا العالم المفرد الذي لم يكتب أحد إليه رسالة، قد أتلقى مثل مديري رسالة تنبؤني بتقاعدي بعد سنوات، قلت له:

- هل فاجأتك الرسالة؟

أجاب بصمت وأراه لايبالغ:

- منذ اليوم الأوّل الذي باشرت فيه العمل توقّعتها!

كما لو أنّي في دوّامة:

بعد سنوات سوف تطالعني واحدة مثلها

فقهقه حتّى خلت جدران المؤسسة تهتز:

-  شغلتنا نوزع الفرح والحزن على الآخرين، أما أنا أو أنت نستلم رسالة فيها علامة حزن وفرح، حزن لأننا أصبحنا أقرب إلى النهاية، وفرح كوننا أصبحنا أحرارا في الحياة.. ننام.. نصحو وقتما نشاء!

أمّا أنا فعليّ أن أواسي نفسي قبل أن أصبح مديرا في هذه المؤسسة، لا أعرف على من أكون المدير ولا أحد معي، مثلما لاأفهم سبب صداعي، يحقّ لي في هذه الحالة أن أواسي نفسي قبل أن أتلقّى الرسالة الوحيدة التي تصل إليّ، رسالة التقاعد.

أحبّ أن أستقبل رسالة ما

من أيّ كان

فيها جانب واحد

فرح وحده

أوحزن وحده..

عصر اليوم نفسه، تناولت حفنة من الأسبرين خفَّفَتْ قليلا من موجة صداع، وخرجت إلى مدينة قريبة من مدينتنا. ثمانية أميال.. العدد لايهم. جلست في إحدى المقاهي، أمامي بضعة أوراق.

أتأمّل ماذا أكتب.

هل أبدؤ رسالتي بمقدمة تقليدية..

تحيتي واحترامي. شوقي وسلامي..

هل أكتب على المظروف شكرا لموزّع البريد..

رحت أتناول كأس الشاي على مهلٍ وأنتقي الكلمات:

السد المحترم..

لا أبدا لتكن من صديق أو قريب أفضل.. (السيد) لاتدلّ على علاقة حميمة.

صديقي العزيز..

تلقيت رسالتك باهتمام بالغ، وكم أزعجتني فيها قضيّة الصداع التي ترهقك، وسعدت كثيرا حين قرأت أن أكثر من طبيب أكّد لك أن لا شئ.. ضحكت كثيرا إذ قرأت أن الوهم يتقمّص الصداع والبشر الحيوان هل الوهم أكثر نقاء من الإنسان.. لا أخفيك أنّي ضحكت من اكتشافك الجديد.. لا بأس عليك ياصديقي العزيز.. اللاشئ في كثير من الأحيان يكون مزعجا ومؤلما، والطبّ في هذه الحالة لاينفع، اودّ أن ألفت نظرك بمثال غير معقّد أرأيت معظم الفنانات يقمن بعمليات تجميل إنهنّ يرغبن أن يهمِّشنَ الماضي يرجعن للوراء حتّى وإن لم يكن الماضي جميلا.. أرايت.. الصداع الذي يغزو رأسك لا علاج له إلّا إذا هربت إلى المستقبل.. اثقب الآتي لتعرف كلّ شئ

لقد قضيت سنوات تحمل أخبارا لاتعرفها

مع ذلك شكّ فيك الطبيب

لعلّ حكمي يبدو قاسيا لكن لا حلّ سواه

لأنّي لكي أكون منصفا

تتبعت الحقيقة وحدها

فوجدت

أنّك ولدت سعيدا فرح بك أبوك وأمّك وأختك التي تكبرك بثماني سنوات

ثمّ فقدت أبويك في حادث وأنت في الثالثة عشرة من عمرك

فعشت مع أختك وزوجها

بعدها

عملت في دائرة البريد فعشت وحدك

عليك ياصديقي ألّا تكتفي بالحقيقة وحدها ولا تعود إلى الماضي على وفق طريقة ممثلات السينما

ينقصك شئ من الخيال

فارحل إليه

مع أطيب تحياتي

المخلص

وضعت الرسالة في مظروف ثمّ كتبت عنواني، وقصدت بكلّ ثقة مكتب البريد، أودعتها هناك وعدت إلى مدينتي.

كنت على ثقة أنها أول رسالة تصل إليّ في حياتي بغض النظر عن الرسالة التي كانت معنونة إلى من يهمه الأمر.. ساعي البريد لا يحتاج إلى رسائل من آخرين، أما أنا فبأمس الحاجة إلى رسالة أجد فيها نصيحة تدلّني على علاج رأسي. انتظرت صباح اليوم التالي وصول الرسائل والرزم، كنت أحدّق في أيّ عنوان، وأظنّ صديقي الذي كتب العنوان بدقة ووضوح. على يقين من أنّه وضعها في البريد السريع.. دفع أجرا مضاعفا. لم يكن هناك من اضراب في بريد أيّة مدينة ولا تعطّل في العمل.

مع ذلك لم تصل الرسالة.

أحتاج لبعض الصبر.

وفي اليوم التالي حدث لي ماحدث في اليوم الأول.

ومر يوم وآخر.

لم أستطع صبرا، فتوجهت إلى السيد المدير الذي بدت علامات القنوط على وجهه.

سألته:

يمكن ألّا أضايقك بسؤال آخر.

عليك أن تقول كلّ ماعندك قبل أن أغادر.

قلت بفضول الملهوف:

أتتوقّع أن تأتيك رسائل بعد أن تغادر إلى منزلك؟

فأطلق هذه المرّة ضحكة فيها بعض المرارة والسّخرية:

- بالتأكيد سوف تصل إليّ رسالة من مؤسسة المدافن تخبرني كيف أشتري قبرا وفي أيّ مكان وبأيّ سعر ورسالة من نادي المتقاعدين فيها هويتي الجديدة والامتيازات التي تحقّ لي (التفت إليّ وبسمة باهتة على شفتيه) أريت كيف أصبحت عرّافا أعرف الأخبار عن بعد..

قلت ببعض المواساة:

-  لك طول العمر والصحّة والسلامة

وكنت أنتظره لأحلّ محلّه وأبحر باتجاه آخر أتحرّر به من صداع رأسي.، فأنا الساعي الوحيد الذي استولى على رسالة ليست له وليست لغيره، ولعلّه تأنيب الضمير.

(3)

ثانية ذو العاهات الثلاث

لكنّي لا أنطق عن نفسي

بل

عن خرافات كثيرة كنت قد نسيتها

هجرت العمل بعد أن غادر المدير، المكتب بقي قائما أما الناس فيظنوني حللت محله. لا أحد يرغب في الكتابة على الورق، وأرفض أن أحمل أخبارا لأ أعرفها، القانون نفسه يعدّني خليفة المدير، كنت أترك العمل

 وأغلق باب البناية. فلا يثير غيابي أيّة مشكلة، أرى مركبات الشركات تجوب الشارع في أي وقت توصل الرزم إلى أصحابها.

رسالتي التي كتبتها بيدي لم تصل.

ولا أظنّ أنّ هناك رسالة غيرها إليّ في الطريق

وقد أصبح الصداع يعشعش برأسي

لايفارقني قطّ

مطارقه تكاد تهشّم جمجمتي..

لا طبيب بذهني

حثثت خطاي إلى المجهول أفكّر بطريقة أتحرر بها من صداع يشطر رأسي

الخرافة نفسها

 بل ما أراه رأيته من قبل عن بعدٍ

 لمحته يدعوني

الشيخ الكبير تاريخ المدينة الأسطوري. هكذا سمّيناه، في الزقاق القديم اعتاد أن يفرش حصيرة على الأرض، يظل صامتا يرتّل بشئ ما، يتلو.. ويتلو. ولا يقف عن التلاوة إلاّ أن يقترب منه أحد ليجلس جنبه.. وحين يأتي من يجلس عنده يظلّ يثرثر على مسامعه بحكايات غريبة. منذ أن فتح الناس عيونهم على الدنيا يعرفونه، أما أنا فقد عرفته قبل عشر سنوات يوم تركت بيت أختي والتحقت بوظيفتي، جلست أمامه فحدثني ذات يوم عن البرازيل وبريطانيا، كان يحدّث عن كلّ الدول: الهند.. فيتنام. اليابان.. روسيا، لم تبق بقعة لم يتحدّث عنها من يسمعه يظنه بحارا رست سفينته في موانئ العالم التي لا تحصى.

لكنّه لم يغادر مكانه قط.

لا أحد يجرؤ على أن يصدِّقه

ولا أحد يكذِّبه

عندما انحرفت من زاوية الرصيف أبصرت ذا العاهات الثلاث يجلس جنبه، ينصت والشيخ المهاجر في كلّ الدنيا يقصّ عليه. لم أسمع حديثه، وعندما اقترب سلمت عليه. وبادرته بالسؤال من دون مقدمات:

- ياسيدي الشيخ أتيتك لا أحمل لك أي شئ..

- دع أخبارك للآخرين فلست بحاجة لها.

كان دو العاهات الثبلاث يعبث بالحصير ويتمتم بحشرجته المعهودة:

- ياشيخ هل تحدث من لا يسمع ولايبصر أو يرى؟

فقال ببرم وضيق:

هذا أمر لايخصّك فلا تتدخّل فيما لا بعنيك.

- بل جئتك ياسيدي طالبا بركتك (وأضفت)إني أعترف بخطأي كوني لم أتذكرك إلّا الآن.

- أنت لم تتذكرني لكنّهم ذكروك بي.

ملت برقبتي أمامه وتضرّعت:

- متى يغادر رأسي الصداع؟

مدّ يده إلى هامتي وقال:

- يذهب في الحال بشرط واحد لا يحقّ لك أن تسأل عنه.

عندئذ همهم ذو العاهات، فخفضت بصري، وأجبت قبل أن تنزل يد الشيخ عن هامتي:

- موافق على أيّ شرط كان.

عاد الرجل إلى صمته، والتفت فلم أجد ذا العاهات، كان قد غادر مابين التفاتتي إليه والتفاتتي نحو الأرض وأنا أطأطئ رأسي لأقبل بالشرط الذي لا أعرفه مقابل أن يزول صداع رأسي.

(4)

رأسي المعجزة

نهضت من النوم، وقد شعرت بثقل خفيف في رأسي.

مزاجي رائق وليس هناك من صداع..

ولم أعد بحاجة إلى أسراب حبوب البانوديل والأسبرين.

فرح

نشاط

رغبة

ودماء جديدة تسري في عروقي.

هناك فقط شئ ما في رأسي.. شئ لايؤذيني، ظننته من بقايا المرض السابق الذي تحدّى الطبّ وهُزم بمسحة من يد وليّ قديم يعيش بعيدا عن ضجّة الشّارع، ولا يفهم كيف يستخدم المخترعات الحديثة غير أنّه مع ذلك يتحدّث عن مدن أخرى لم يرها من قبل كأنّه عاش فيها وعاشر أهلها من دون أن يغادر مكانه.

في اليوم الذي هزمت الصداع بعودتي إلى الخرافة أدركت أن العلم لايمكن أن يسكن عقلي وحده وإلّا لتآكلتُ من الوجع، ولم أعد - إذ جلست على كرسيّ الإدارة- أفكّر برسالة تأتيني عن شراء مثوى في مقبرة، أو يهمّني ضياع رسالة كتبتها في حالة مرضي وهي الرسالة الوحيدة التي أعرف مافيها. لقد أدركت حقيقة جديدة هي أن رسالة من دائرة التقاعد سوف تأتيني بعد عقدين.

ترتيب آخر

وضع ثان

نهضت من مكاني.. قصدت، دورة المياة وحين لمحت وجهي في المرآة اكتشفت شيئا غريبا، بعض احمرار في جبيني، وقليل من الورم.

لا أراه ورما

لكنّ رأسي كبر قليلا

زاد حجما عن المألوف.

هل يعقل أن الصداع كان يقضم رأسي، وما أراه من تغيرواضح في حجمه يوحي أن يكون ردّة فعل لتآكل عانيت منه..

بعض القلق

ربما الريبة وليس الخوف..

ولا رغبة فيّ لزيارة أيّ طبيب

أغلقت باب البناية، وهرعت مشغوفا باكتشافي الجديد عن رأسي. كانت معي الدراجة الفارغة من أيّة رسالة كأنّي أودّ أن أظهر للعالم أنّي مازلت حيّا مادامت الدراجة ذات الحقيبة معي ولا أحد يعرف إن كانت فارغة أم مليئة بالرسائل. لمحت في طريقي ذا العاهات ينتظر عند إشارة المرور، واصلت سيري حتّى ارتقيت إلى مكان الشيخ. انحيت أمامه، قلت مشفوعا بالدهشة والمفاجأة:

- هل ترى يا سيدنا الشيخ

فابتسم بحنان مفرط وقال:

- هذا هو الشرط.

- أن يتغيّر رأسي؟!

- نعم كنت تجهل ما في أحمال تحملها تحمل فيراودك صداع يقضم جمجمتك أما الآن فترى كلّما عرفت شيئا جديدا كبر رأسك!

- يا مولانا الشيخ!

- لِم َتتعجّب!

- إذن ممكن أن أصحو فأجد رأسي كبيرا بحجم بطّيخة كبيرة أو قرعة ضخمة.

وسكتّ ألهث من الفزع، فواصل بدلا عنّي:

- أو بحجم أكبر رأسك يظلّ ينمو وينمو وستحمله رجلاك من دون أن تتعبا (سكت بينما بقيت صامتاً مأخوذا بالدهشة) لا تعجب من رأسك الذي يكبر كلَّما عرفت معلومة جديدة أنت شرطت على نفسك.

- وماذا تريدني أن أعرف؟

فابتسم وقال من دون أن يلتفت لي:

- ستعرف الأصيل من الغريب والقاتل والمقتول ولست بحاجة إلى أن تذيع سرّك فرأسك الكبير يكشف عنك.

عندئذ سمعت صوتا ًأشبه بالزئير فالتفت إلى الخلف، فوقع بصري على ذي العاهات الذي واصل حشرجته وهو يسير بخطىً بطيئةٍ باتجاه ٍمستقيم ٍكَالرّجلِ الآليِّ حتّى دنا من الشيخ وجلس جنبه عندئذ التفتَ إليه وقال:

- جاء دورك الآن

والتفت نحوي قائلا:

- اغرب عن وجهي فقد تحقق شرطي معك.

كنت بعد لقائي الشيخ أواجه مشكلة حقيقية

أجد رأسي يتضخّم كلما عرفت شيئا جديدا

قلق

من دون صداع يصبح أكبر

حيرة:

العالم كلّ دقيقة يمنحنا معرفةً جديدة.. إلى أيّ حدٍّ يصبح حجم رأسي؟

هل خدعني الشيخ أم خدعت نفسي؟

ومثلما كان الصداع خفيّا لايثير الناس من حولي أصبجت مثاراً للفضول

السيد مدير البريد برأس غير طبيعي.

هل هو مرض حميد؟

الكل يسألون ويجيبون أنفسهم.

من يعرفم ومن لا يعرفك.. الذين حملت إليهم البهجة والحزن. بعضه يشفق ومن لا يبالي.

هذه المرة أعرضت عن الأطباء تماما، لم أذهب إلى عملي، ثمّ ثارت ضجة من حولي لاسيما أن هناك ظاهرة غريبة بدأت تثور مع كبر رأسي ونموه المفرط.

وأنا أعلم وأعلم ورأسي يكبر

لقد بدأت هذه الأيام حملة اغتيالات في البلد.

فوضى في الليالي ثمّ امتدت جذورها إلى وضح النهار

وأنا أعرف عمّا يجري.. عن كلّ صغيرة وكبيرة ماعدا محاولات الاغتيالات تلك

عرفت..

عندئذ لفتٌّ نظر الجميع لاسيما أن الاغتيالات وبعض أعمال العنف زادت عما كانت عليه في السابق. يوم كنت ساعي بريد وراودني الصداع حدثت أعمال مريبة. حوادث متفرقة على فترات متباعدة، ويوم أصبحت مديرا واختفى الصداع بدأ رأسي يكبر، وازدادت تلك الحوادث.

أروح أفتتح المكتب

يائس من وصول أيّة رسالة. أتّصل بالدائرة العليا، فيجيبني الصوت الآلي، لا رسائل، مرّة واحدة أجابني صوت حيّ بالتفصيل:ربّما نستغني عن البريد ونضمّ العاملين إلى رقابة الإيميلات.

يشدني الحنين للدراجة، فأخرج بها أوهم الناس أنّي أمارس عملي

أذهب إلى البيت أفكر برأسي ومدى المساحة التي سوف يحتلها

وفيي صباح اليوم التالي أسمع أن في أحد البيوت قتيلا أو على الرصيف

أعرف الحوادث قبل وقوعها

قبل أن تسري بين الناس وفي وسائل التواصل الاجتماعي

كلّ شئ أعرفه

نزول البورصات وصعودها

الجديد في العلوم والابتكارات

مايمكن أن يكون

كأن نومي يجتذب أحلاما تتحق في النهار

يمكن أن أعرف كلّ شئ وأتوقع حوادث القتل لكني لا أعرف من القاتل

أو

من هم القتلة

حالة غريبة مثل حالتي

في البدء ظنّوا رأسي انتفخ ورما..

تحاشوا الاقتراب منّي

كلّ يوم يرونه يكبر

والحوادث لا تتوقف

هناك لغط.. حول رأسي، واهتديت إلى أن جميع القتلى من أفراد الحكومة ذوي الرتب العالية ومعاونيهم الغرباء.

في هذه الأثناء استدعاني كبير البلدية. طلب مني الحضور إلى مكتبه بعد أن اعتاد الناس على رأسي وراحوا يقتربون مني.

بعضهم وضع يده على هامتي.

آخرون وجدوني علامة شؤم.

ومجموعة رأتني علامة فأل

من هؤلاء المتفائلين برأسي الكبير، المجلس البلديّ ورئيسه. الذي ابتسم بوجهي وقال:

- نحن ندرك تماما وقائع الرعب والجرائم التي تحدث وأثرها في الناس ومادامت الرسائل قد انقطعت فيمكنك أن تسّري عن الناس لينسوا المأساة.

وأكّد نائبه:

- في الوقت نفسه يمكن أن تكون معلما سياحيا من معالم مدينتا.

قال المسؤول المالي:

- قد نفكر بنسبة من الربح لك.

سألت عن طيبة وقد استحسنت الفكرة:

- أين أقف؟

- ستكون في مركز البلد حيث تجري كثير من الفعاليات أيام العطل والأعياد.

لا أخفي أني رغبت في العرض ومردوده، هناك جانب مادي في حياتي ربّما أتجاهله ولا أنكره، لا أرى نفسي مثل قرد في حديقة الحيوانات داخل قفص يأكل الموز، وينطّ فيبهر الزائرين. كنت أقف في ساحة مفتوحة تحت حراسة، ورأسي يكبر أمام الناظرين

يظلّ يكبر

ويكبر

والناس من مختلف بقاع الدنيا يأتون ليروني،

ولا حديث لأحد إلا رأسي الذي يكبر

وفي المساء قبل أن يحلّ الظلام وتبدأ الاغتيالات، وتنعدم حركة الشارع، أسارع شأني شأن الكثيرين في حثّ الخطى إلى منزلي.

في ذلك المساء المضطرب عدت إلى البيت وفي رأسي تتلاعب أفكار جديدة، ماذا لو قابلت السيد كبير البلدية وشرحت له وضعي الجديد والتعب الذي أعانيه بوقفتي طول النهار. لم أشعر ببعض الخجل أو يراودني شعور بالمهانة من نظرات المتطفلين والسيّاح. فكرت بامتيازات أكثر، ومكاسب تريحني. يمكن أن أجلس، وأتمشى قليلا داخل الرقعة المخصصة لي وسط المدينة، ويمكن أن أطلب يوما أرتاح فيه كلّ أسبوع.

هكذا فكرت

وعندما دخلت الشارع، وقع بصري عن بعد على ذي العاهات الثلاث، راح يتلفت، ليتأكّد من خلوّ الطّريق.

شككت

وأخذتني دهشة شديدة

فنسيت نفسي

رحت أتبعه عن بعد. هو الوحيد الذي لا أعرف عنه شيئا. كان يمشي في الظلمة بخطوات سريعة. لم يكن إنسانا آليا.. مع ذلك حثثت خطاي خلفه حتى رأيته يقف أمام بيت كبير المدينة يتلفّت ويعود إلى مشيته الأولى.، وقف أمام البوابة وهو يفحّ فحيحه المألوف، وسمعت الحارس يقول:تعال هل تريد أن تموت ماالذي أخرجك في هذا الوقت ليتك تسمعني فتعرف مايدور في هذا الليل..

فجأة

تشبت بالحارس كنسرٍ أنشب مخالبه ببطن طائرٍ وديع.. ثمّ استلّ شيئاً ما حاداً من جيبه غرزه في ظهره وراح يسحل الرجل من قدميه إلى خلف البوابة.. بقيت متسمرا في مكاني مثل الصنم وبعد دقائق خرج ذو العاهات من البيت وآلته الحادّة تقطر دما

لا أنكر

أني رأيت كلّ شئ

فإذا برأسي يكبر

عرفت أن ذا العاهات الثلاث قتل كبير المدينة وحارسه. لقد مرّ بي وهو يفح، وقرأت على وجهه ابتسامة تشفٍّ وزهوٍ، وأسرع كالبرق..

من يصدّق أن من لايسمع ولايبصر ولايتكلم..

وعندما وصلت إلى المنزل، وأنا أتخبط بالظلام، أدرت المفتاح في القفل، ودفعت الباب.. حاولت أن أدخل لكنّ المفاجأة الأخرى أدخلتني في رعب حقيقيّ..

تساءلت ماذا لو كبر رأسي وأنا داخل المنزل من المحتمل أن يصبح بحجم لايطاق!

كيف أحرج إذن؟

سوف يسفر الصبح فيعرف الناس وذوو الشأن أني بقيت الليلة كلها خارج البيت.. هناك احتمالات كثيرة.. سوف أتهم ببالجريمة الجديدة وكلّ الجرائم من قبل..

ولا يصدقني أحد حين ألقي التهمة الأخيرة وتهم كثيرة قبلها على صاحب العاهات الثلاث!

لا أحد يصدّق

ولا أرغب في أسوأ الحالات أن أكون مخبرا لذوي الشأن

كانت آخر فرصة متاحة لي أن أهرب برأسي الكبير الذي فاق الحد إلى الصحراء وأظلّ أعترف أمام الفضاء الواسع المفتوح لعلّ رأسي الكبير يعود إلى حالته الأولى وإلا ستظلّ التهمة تلاحقني إلى الأبد.

***

قصة: قصي الشيخ عسكر

في نصوص اليوم