نصوص أدبية

عبد الجليل لعميري: إلكوديو

يلقبه أصحابه بالكوديو، رجل عسكري منذ نعومة أظافره، ذو بنية جسدية صلبة، معجب كثيرا بفرانكو، بحنكته وصلابته. إنه جدي عبد السلام أو الكوديو كما يلقبونه. كان عمي عمر يقوم ببحث عن حروب اسبانيا، فسجل أشرطة مسموعة ومرئية متعددة مع جدي، حوار لعدة ساعات. كانت معلومات جدي مهمة حول الحرب الأهلية بإسبانيا، لكن التاريخ عند الكوديو ذاتي جدا، يتداخل فيه الأسطوري مع الواقعي والشخصي مع العام.

  أول حكاية نقلها عنه أولاده وكبار العائلة هي:  حكاية زواجه من جدتي ماريسول الأندلسية الإسبانية:عينان خضراوان وشعر أشقر،متوسطة القامة.  تعرف عليها أيام خدمته بالجيش الإسباني تحت قيادة فرانكو الذي جند المغاربة وحارب بهم التمرد في اسبانيا. كان يطلق عليه (الكراندو كوديو)، جدي من مواليد بداية القرن العشرين، حين تجاوز العشرين بقليل ، أصبح جنديا جيد التدريب كما يقول قادته، في تلك الليلة كان يحتفل بترقيه لرتبة جديدة- رغم تعويضها الهزيل- بحانة الأندلس العليا، حيث شرب ما يمكن أن ينوم فيلا كهلا، لكنه ظل منتعشا ومنشرح الروح. وهو يغادر الحانة ،لاحظ أن فتاة لم تبلغ العشرين بعد (سيعرف لاحقا أنها في سن السادس عشرة) تتعرض للتحرش من طرف شخص عملاق قوي البنية، وخشن الملامح، أشقر، يعرف هناك بالروبيو، وهو بحار وخمار  وكثير الشجار يتلذذ بإيذاء الناس، وينشر الرعب حيث حل ووجد. الكوديو لم تكن له معلومات كافية عن الروبيو، ولكنه لاحظ أن الوحش يكاد يحشر الفتاة في ركن بزاوية الزقاق وهي مرعوبة. فكر جدي في إنقاذ الفتاة، وكان يعرف أن المواجهة مع الوحش قريبة، وهو مستعد لها يساعده في ذلك طول قامته وأيضا صلابة عضلاته رغم صغر سنه مقارنة بالروبيو. التعادل قائم ، كلا منهما كان مخمورا. اقترب الكوديو من الروبيو وكلمه بهدوء: أترك الفتاة تذهب لحال سبيلها. التفت الروبيو والغيض يتطاير من نظراته.  توقف مبرزا صدره المفتول مفكرا: من هذا المتطفل الذي يتجرأ على الروبيو؟

-  ماذا قلت أيها الأحمق. قال مخاطبا جدي.

وهجم، لكن التدريب الجيد لجدي على الرياضات الدفاعية مكنه من تفادي لكمة من الروبيو، وتراجع قليلا مشيرا إلى جدتي (أو التي ستصبح جدتي) بالهروب، وهو ما فعلته، ثم دخل في  اشتباك بالأيدي والأرجل، وتبادل بضع لكمات مع الروبيو، وفي لحظة خاطفة انقض برأسه على رأس الروبيو (اطاااق) سمع دوي اصطدام الرأسين في سكون الليل، وسرعان ما هوى الروبيو كحائط هرم.  و تعالت تصفيقات الحاضرين مشجعة جدي الفائز بالمباراة (الكوديو.. الكوديو...). أما جدتي فكانت تراقب المشهد من بعيد منتظرة النتيجة. ظل الروبيو غارقا في سباته وقد سال من جبهته الدم، أما جدي فقد ظهرت كدمة على أنفه مع بعض الدم.

تفرق الناس، وانسحب جدي يجر جسده المرهق، وظل الروبيو مسجى على الأرض، مشى جدي  بضعة أمتار وإذ به يسمع صوتا رقيقا: الكديو.. الكوديو.. التفت وإذا بماريسول تتجه نحوه. صافحته وشكرته على نبله. أحس بطراوة يدها في يده الخشنة  فسألها: أين تسكنين؟ في الحي الجنوبي  قالت. وما الذي تفعلينه هنا؟ قال. كنت أساعد خالتي في تنظيف البيت. أجابته.               - كوني حذرة من مثل هذه الأماكن. ورافقها في نفس الطريق ،لأنه كان يسكن بنفس الحي.

وتعلق بها كما تعلقت به، وتابع التواصل واللقاء وكبر حبهما إلى أن وقعت حادثة عكرت صفو الود بينهما وغيرت جدي. كان معجبا بالزعيم الأكبر فرانكو، وحين بدأت الحرب الأهلية انظم إلى صف فرانكو وأصحابه  فقد صور إليه أن الوطنيين مجرد خونة ومجرمين وأعداء للوطن، وساهم في قتالهم والاستيلاء على مدنهم. وجاء يوم إعدام رجل من غرناطة وصف بأنه عدو خطير، وطلب من عشرة جنود تنفيذ الإعدام في تل من تلال غرناطة كان هذا الشخص هو الشاعر لوركا المنحاز للوطنيين. جدي ساهم في إطلاق عشرات الرصاصات على جسد الشاعر، ولم ينفع مع هؤلاء الجنود الأغبياء قراءته لقصيدة حب.

حين عاد جدي حكى لحبيبته ما وقع، فانهارت وفقدت وعيها، صدم جدي:ماذا يقع؟ ما الأمر؟ أسعفها حتى استيقظت، فشتمته هو و عصابة فرانكو وطردته. لكنه أصر على معرفة الحقيقة، اضطرت جدتي لشرح الأمور السياسية التي كانت غائبة عن جدي، ومنذ ذلك اليوم وهو يكره فرانكو رغم انه لا يصرح بذلك. كان يردد مع جدتي دائما:

وعرفت أنني قتلت

وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس

فتحوا البراميل والخزائن

سرقوا ثلاث جثثٍ

ونزعوا أسنانها الذهبية

ولكنهم لم يجدوني قط..

***

قصة: عبد الجليل لعميري - المغرب

............................

* إلكوديو: لفظة اسبانية تعني الزعيم.

في نصوص اليوم