نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: صورتي

أخيرا

كما تطلّ شمس في يوم شتويّ غائم من بين براثن الغيوم

اكتشفت أنّي يمكن ألّ أكون وحدي كما عهدت نفسي من قبل

الحقّ حدث ذلك الاكتشاف الرهيب يوم نوت السلطة في البلد تحديث كلّ شئ، تحت حجة تفادي الإرهاب، وقد مرّت الأمور بسلام وهدوء، فتغيّرت شوارع، وطرق، وحُدِّثَتْ شبكة الهاتف والكهرباء، وبنيت مدارس جديدة، وأنفاق، ومجار، ورممت جسور.

لا أبالغ

كلّ الأمور سار على وفق نهج التقدم العلميّ العصريّ الحديث واللحاق بالركب الحضاري الذي كنّا محرومين من زمن السلطة البائدة..

أمّا المشكلة الحقيقية فقد ظهرت واضحة معي من دون أن أدري..

كان هناك قرار من السلطة يقضي بدمج الهوية وبطاقة التعريف والمستمسكات الرسمية ببطاقة واحدة ذات ملامح ألكترونية لا تُخترق..

فكرة حضاريّة أيضا.

البطاقة الذكيّة التي تستعصي على التزوير.

بدلا من أن أحمل عدة مستمسكات في جيبي فأثبت أني واحد تصبح معي هويّة واحدة تصلح لكلّ شأن: المواصلات وفي الدوائر الحكومية في الوقت نفسه أستطيع السفر بها..

لقد رحّب الجميع بالفكرة.

أنا نفسي شعرت بارتياح: بدلا من أن أحمل هوية عامل، وشهادة، وبطاقة تعريف، وبطاقة نقل ومستمسكات رسميّة أخرى تثبت هويتي، تجعلني أشعر بثقل، وأشكك في نفسي، أسأل إذا كنت واحدا فَلِمَ هذا العبء الثقل، كل هذا يتحقق لأثبت أنّي نعمة الله بن عبد الواحد، لست بحاجة لأكون أكثر من شخص هل أصدّقك أنّك هو على ورق متعدد، ففي كلّ يوم يبدو أني أظهر بشكل ما يثير الدهشة. ثمّ همست: بطاقة واحدة تكفي. ولأدع أجهزة التصوير الحديثة ترسم وجهك بدقّة متناهية.

ليس هناك من شئ يقيّدني.

وقد ذهبت مثل خلق الله إلى دائرة السجل قالوا: سنجدد هوياتكم الشخصية حيث تصعب على أيّ من هؤلاء الإرهابيين الدّمويين أن يتلاعب بأسمائكم، لا أحد يسرقكم وينتحل شخصيّاتكم، نريحكم ونوفّر لكم الأمان، ونمنع الدواعش الذين يمتهنون التزوير بدقّة متناهية. ستتجمع المستمسكات كلها في بطاقة واحدة. العلم تقدّم الآن أيّها السادة وليس من مصلحة الدولة أن تتعب المواطنين أو أن تتركهم فريسة للإرهاب..

ليس بإمكاننا أن نعزل أنفسنا عن التطوّر فنعيش بعقليّة الماضي..

إزاء هذا التصريح الحكومي رتبت دائرة السجل المدني لقاءنا حسب الحروف الإبجدية. خصصت بعض أيام الأسبوع للأسماء التي تبدأ بحرف الألف والباء والتاء. كان اسمي يبدأ بحرف النون، أصبحت من مجموعة يوم الخميس، أسماء النون والكاف ومابعدها، ولم يصحب أيّ منّا أية صورة إذ أنّ آلات التصوير المتطوّرة جدّا جدّا دخلت في جميع الدوائر، ولا أشكّ في أن صورة تلتقطها لي آلة تصوير حديثة استوردتها الدولة ستكون أفضل مما لو كلّفت نفسي جهدا وقصدت الاستوديو القديم وسط المدينة الذي اعتادنا أن نزوره فيمناسبات الأفراح والأحزان..

هكذا ظننت ولم أكن مخطئا.

وقفت في طابور طويل - شأني شأن الآخرين في الطابور- كنت مشغولا بهاتفي الجوّال الذي رغبت أن ألتقط لي صورة فيه فأرى هل تختلف عن كثيرا عن صورتي الموعودة في بطاقة التعريف الجديدة.

كلتاهما في اليوم نفسه.

وأحدهما سبقت الأخرى ببضع دقائق أو ساعة على أقلّ تقدير لكنّي لا أشكّ أنّي أشعر بارتياح تام حين ألتقط لنفسي صورة أكثر مما ذهبت للمصور أو سألت أيّ محترف في التصوير أن يلتقط لي واحدة، على الرغم من أنّ ال(سلفي) لا يكون أكثر دقّة من صور يلتقطها لك آخرون، مع ذلك أجدني أنا الذي رسمت نفسي بنفسي !

أو

كتبت ملامحي حسبما أرغب على الشاشة الصغيرة..

بعد دقائق

ساعة..

ساعتين...

استقيلني السيد أمين السجل المدني، وراح يدقّق المعلومات التي تضمّنتها وثائق قديمة تحرّرت منها وأنا أتنفس الصعداء كأنّني تخلّصت من عبء ثقيل رحت أحمله على عاتقي ستنوات طويلة:

- كلّها ياسيدي معلومات رسمية موثّقة وأظنّك تعرفها سلفا.

ردّ بابتسامة باهتة:

- عمل روتيني لا أكثر

تابعت باهتمام بطاقتي الشخصية القديمة:

- هكذا كنت إذن.

تذكر يا سيدي أن هذه الصورة لي قبل عشرين سنة.

يبدو أنّك مازلت وسيما إذ لم تتغير كثيرا.

وقفت أمام الحاسوب، اتبعت إشارته، ونظرت في المربع وسط شاشة الحاسوب القائمة جنبي على الحائطـ، نظرت إلى صورتي، فلم أر شيئا مريبا، وشيئا فشيئا، حدث قتام في الشاشة وانتثرت عليها بعض الحبيبات، وعاد الصورة إلى ماكانت عليه وبدا نور الشاشة أبيض ساطعا يبهر البصر، ثمّ ظهر المربع من جديد.

الشاشة بيضاء

ليس هناك من شئ

ضحكت سرّا على الموظف ونفسي وشاشة الكومبيوتر التي استعصت عليها صورتي وكان على موظّف السجل المدني أن ينقر مرّتين أو ثلاثاً على الزر فتظهر لي صورتان أو أكثر أختار واحدة أراني أرتاح لها أكثر من الأخريات:

- هل من شئ؟

نفث الهواء كأنّه يسخر:

- يحدث يعض الآن أن تسعصي الألكترونات أو تقف لأمر ما.

- لا غرابة.. العقل البشري الذي هو من صنع الله يتلبّك فكيف بعقلٍ يصنعه البشر.

عاد ينقر:

- خير.. ليكن خيرا. (وأضاف) الغريب في الأمر أن أكثر من شخص دخل قبلك والتقطت بالحاسوب صورا شتى، أنل آسف أن يحدث هذا معك.

- إنّه من سوء حظّي.

داعبت أنامله الجهاز، والتفت إليّ:

- جاهز الآن؟

نعم ياسيدي

وقفت في المكان ذاته وثبّت عينيّ على شاشة الجهاز، وقابلت الضوء الساطع بابتسافة خفيّة، تمتح صورتي بعض الألق:

- سألتقط لك أكثر من صورة لتختار واحدة منها.

- شكرا

نقرات خفيفة، تتراقص أمام عينيّ، ومضة سريعة وتعود الشاشة بيضاء من أيّ شئ.... عندها يلوح البرم والضيق على وجه السيد الأمين:

- لو تعطّل الجهاز لشُلّ عملنا اليوم.

قلت بكلّ سذاجة:

- ياسيدي يمكنني أن ألتقط صورة لي في جهاز الموبايل وأحولها لك..

هزّ رأسه مقاطعا:

- ذلك ممنوع(ثمّ تساءل بجدّ صارم )مذ متى اشتريت هاتفك؟

- قبل سنتين.

فابتسم ساخرا من سذاجتي:

- أجهزة الدولة حديثة آخر المخترعات.. أطول عمر لها ستة أشهر ونجددها باستشارة خبراء أجانب كلّ ثلاثة أشهر لذلك يبدو كلّ ملامح الصورة فيها واضحة تماما المعاني الحفيفة وبعض ماضي الأفراد يظهر على وجوههم.

- الآن ماذا أفعل ياسيدي؟

تأمّل فترة وهزّ كتفيه:

يمكنك الانتظار في اقبو حتى استدعي آخرين من الطابور.

وهبطت درجات السلم فلفحت أنفي عفونة ورطوبة، وتخلل عيني شبح لضوء باهت بعضه من مصباح قديم وبعضه الآخر من شق في الشباك المبهم المقفل منذ زمن.. كانت هناك رفوف كثيرة ضمت سجلات قديمة وملفات تناثر عليها الغبار، معلومات سوف يزجون بها في شرائح صغيرة تتستوعب ملايين المجلدات، ورأيت في طرف القبو البعيد كرسيا خشبيا وسلما صغيرا بأربع درجات يكفي من يضع قدمه على الدرجة الأخيرة الوصول إلى الرفوف العليا.. تحملت عفونة الغرفة وجلست على الكرسي. لم تثرني السجلات القديمة، وليس من حقي أن ألمس أحدها فيثور بوجهي غبار ساكن تراكم منذ سنوات، وجدتها فرصة لأتلهى مع هاتفي النقال، وألتقط لي صورة وسط العتمة أثبت بها عطل الجهاز الحكومي، كانت السخرية واضحة على وجهي، وانشغلت بلعبة ثمّ مللت وتابعت الأخبار، بعد دقائق أو ساعات يصلحون الجهاز ثمّ تلغى هوياتي القديمة لأطلّ على الآحرين بهويّة واحدة، سمعت صوت الأمين يناديني فارتقيت الدرجات.

- لا مشكلة الجهاز التقط الصور لكلّ الطابور يعني ذلك أن لا عطل مفاجئ.

- هل تجرب.

- حسنا قف مكانك وانظر إلى الشاشة..

عدّلت هندامي، وعدت إلى ابتسامتي الخافية التي تنشر الانشراح في قسماتي وتجعل خدي متوردتين. المربع يظهر واضحا، نقرة..

اهتزاز في الضوؤ

خطوط تتراقص على الشاشة

صفاء

حركة اهتزاز

عودة الخطوط..

ثمّّ

صفاء تام

لون فضّي

.... و....

- هكذا إذن

قال أمين السجل عبارته، والتفت إليّ، وهو يقول:

ظاهرة غريبة، ليست من اختصاصي..

- ياسيدي هذه صوري الشخصية عندك في الهاتف.

- إسمع أيّها السيد أنا لا أشكّ فيك لكن تعرف البلد يمرّ بظروف أمنيّة داعش.. والإرهاب.. أرجو ألا تفهمني فهما خاطئا، لا أشكّ فيك ولكي أؤدي واجبي وأريح ضميري أتصل بتالسيد مسؤول الأمن الجديد ليطلع على الأمر.

قلقت بقلق:

إذا كان الجهاز

فقاطعني وقد تغيرت ملامحه ونطق عن لهجة قاسية:

لا تكثر الكلام معي.. إرجع إلى القبو إلى حين يأتي السيد مسؤول الأمن.

لم أعترض، وخطوت أهبط الدرج كما لو كُلِّفت بواجب أن أطالع - وسط العتمة- جميع االصفراء التي ارتمت على الرفوف منذ عقود.

2

نظر إليّ بعينين زائغتين فيهما بعض الشفقة والسخرية ثمّ تساءل:

منذ متى ابتعت هاتفك ؟

قبل سنتين أو أكثر بقليل.

ملامحه تدلّ على أنّه لا يرغب في أن يطيل الحديث:

أووه نحن اليوم أبناء هذه اللحظة لقد تغيّر كل شئ هذا الجهاز أقررناه قبل ثلاثة اشهر وسنلغيه ونجلب غيره بعد بضعة أشهر العلم في تطوّر!

وماذا عليّ أن أفعل ؟

إنتظر حتى ينتهي الطابور وأعود إليك.

وحين هممت بالإنصراف اعترض بلطف.. وفضّل أن أبقى بالقرب منه في الغرفة المجاورة التي تضمّ بعض السجلات القديمة، قلت معترضا من دون أيّ احتقان:

ياسيدي الأمين يمكنني في هذا الحالة أن أذهب إلى أيّ مصوّر في مركز المدينة ثمّ أعود لك بصورة تستطيع أن تحوّلها في حاسوب السجل المدني.

فهزّ رأسه محفيا بعض البرم:

هل تتركني أواصل عملي وتستريح في قبو السحلات حتى أنادي عليك.

فقبلت على مضض، وهبطت الدرج لأقضي بعض ساعات مع الأرفف القديمة، مع التراث جلست على مسطبة بالية وسط الغبار، وقد شعرت للوهلة الأولى بضيق في نفسي.

3

كان السيد ضابط الأمن لطيفا معي

مدّ يده مصاحبا، وقال وهو يرحّب بي ويطلب لي كأس شاي وعقب وهو يقرأ ملامحي التي باحت بالريبة والشكّ:

- إشرب سيد نعمة الله نحن لسنا كالنظام السابق ندس السمّ في الطعام والشراب لمن نستدعيهم (تنفّس بعمق، ونفث هواء ثقيلا)أنت أساسا لست متهما حتّى نستنطقك.

راودني اطمئنان وبعض راحة شجعاني على الاعتراض:

لماذا استدعيتموني إذن.

فأطلق ابتسامة واسعة:

لدراسة ظاهرة في السابق كان ضابط الأمن يتّهم ويدين ويلجأ إلى العنف أما نحن فشغلنا الدراسة والبحث وقد واجهتنا ظاهرة جديدة تمثّلت بامتناع الحاسوب في مديرية السجل المدني عن قبول وجهك، ربما هناك أمر ما علينا أن ندرسه.

ولكي أثبت أنّ حاسوب الدولة على حطأ أو إنّ هناك بعض لبس حدث في الألكترونات والبرمجة، التقطت هاتفي من جيبي، والتقطت صورة لي فيه، وضعت الهاتف أمام عينية، قلت بكلّ ثقة:

أنظر أيها السيد هذه صورتي أو بكلّ وضوح آخر صورة ألتقطها أمامك فأثبت أنّ جهاز السجل المدني يقع في بعض الاختلاط.

نظر إلى صورتي في الهاتف غير مكترث، وواصلت: لكي تصدّقني سأفعل ذلك أمامك.

رفعت هاتفي النقّال أمام وجهي وضغطت على الزر، وقدمت الهاتف إلى السيد الضابط:

- جميل جدا

أتحب أن التقط لك صورة معي:

- لامانع

انتقلت إلى حيث يجلس التقطت صورة معه أثارت اهتمامه، كان يبتسم ويقول: الآن أرسل الصورة المشتركة إلى هاتفي لأحللها، في الوقت نفسه، طلب منّي هاتفي وقام بمسح الصورة من الذاكرة وقال معقبا:

ياسيد نعمة الله أنا رجل أمن لا يحق لدواعي أمنية...

- فهمت ياسيدي

ثمّ اتجه إلى الحاسوب الذي أمامه وسألني بلطف أن أقف أمام شاشة جانبية ليجرب وجهي مع آلة حديثة قال عنها إنها أكثر تطوّرا ودقّة من آلة التصوير في مديرية السجل المدني، ظهرت غشاوة وحبيبات وصدر من الجهاز صفير حافت يشبه طنين بعوضة، غير أنّ الأمر الذي زادني استغرابا ظهور سريع لخطوط ودوائر لم تتجمع خطرت لمحة واختفت فالتفت نحو الضابط فوجدت ابتسامة غريبة ترتسم على شفتيه.

رحت أنتظر جوابه.

فأشار إلي أن أرجع إلى مكاني جنب المنضدة، وجلس وهو يتأفف:

- لا أخفيك سيد نعمة الله أنّ الحالة غير طبيعية قد تكون داعش أو أمرا آخر لكن مع ذلك ليس لي الحق في أن أبقيك هنا على الرغم من أن وجودك أفضل لسلامتك، يمكنك الخروج، إرجع إلى الماضي القريب والبعيد، وتذكّر أننا نتابع أيضا قضيتك.

- وماذا عن هويتي الجديدة؟

- نحن الآن في بداية الطريق ولا أظنّ القضية المبهمة التي تطعن في وجهك من فعل داعش أو أحزاب المعارضة وليس لها علاقة بالسياسة حسب رأيي.

سألت بقلق:

- أهو مرض عضوي خطير؟

مطّ شفتيه مستغربا، فقلت هل تسمح لي بزيارة السجل المدني وأطلع على الورقة الخاصة بنا.

- حسنا يمكنك ذلك وسوف أتصل بأمين السجلات.

كنت أغادر دائرة الأمن، وفي ينتابني بعض الشك والخوف، من الخارج نفسه، هل أصبحت هدفا لعصابة تمتلك أجهزة ذات تقنية متطوّرة تستهدفني، ولم أنا بالذات.. معان كثيرة كانت تدور برأسي.

4

كان أمامي طريق قد يطول..

وأوّل شئ تذكّرته بعد أن خرجت من دائرة الأمن أنح أن أمرّ بمحلّ التصوير الشهير وسط البد. من قبل راحت عيناي تقعان على مشاهد مثيرة، ومشاعري ترقى في أحاسيسها السامية. هذا المكان ذاكرة البلد منذ عشرينيات القرن الماضي توارثه الحفيد عن الأب عن الجد فالجدّ الأعلى، أجيال ترسم بدقة أعراس البلد. زأفراحه وأحزانه، جدتي وصورة زواجها من جدي وأبي وأمي، كانت آخر زيارة لي قبل عشر سنوات ثمّ اختفى المحل من ذاكرتي وأمنياتي. كأني في حلم عشر سنوات عقد يحدث فيه الكثير. لم نكن نفكر زمن الحصار بالتقاط صورة، ولاأن نعلن عن أفراحنا، ولم تكن لدينا نفقات للبذخ، وعندما انقضى القرن العشرون حلت ذاكرة جديدة، غزتنا فجأة مخترعات جديدة، هواتف، حواسيب، أجهزة معقّدة مركبة.. كنت أقف على باب الاستوديو وكأنني أقف على أطلال جديدة..

لقد تغيّر كل شئ تماما..

كيف نسيت ذلك؟!

الاستوديو انقلب إلى محل اتصالات وناديا لهواة اللعب في الحاسوب، ماتت صور جدتي وجدي واختفى أبي، وأمي...

الناس بدؤوا يرسمون أنفسهم بأنفسهم.. أو على أقلّ تقدير دوائر الدولة ترسمهم..

ضحكت في سري وأنا ألقي نظرة أخيرة على المكان، وأغادر.. من حقّ رجل الأمن ألا يخبرني أن محل التصوير ذاكرة البلد انقلب إلى معنى آخر، فشغله الشاغل أن ينصت لا أن يحكي، مع ذلك لم أسامح جدتي التي تفتخر أن لنا صورة قديمة مع جدي في الاستوديو وقد ضاع كل شئ.. سامحها الله لقد تحملت الكثير..

(جدّتي عيوش العارف أم أبي رحمها الله، العائلة كلّها في أمن الدولة، تجلس وسطهم ومن ضمنهم أبي ولا تستطيع أن تتكلّمبوجودهم.. المفروض أن تجلسوتسمع حتى تصاب بسكتة قلبية وتموت.. هذه مشكلتنا معها.. توفيت عن عمر 105 أعوام.. والمفاجأة المضحكة المبكية أنها بعد طول استماع لأفراد عائلتها، جاءت داعش فنبشت القبور وكسرت الشواهد يوم استولوا على بلدنا.. الكل يعرف أننا أضعف منها ولولا الإيرانيون.. والروس والأمريكان لاحتلت الشرق الأوسط)إذا ماظهرت لي صورة وتأكد السيد ضابط الأمن.. على فكرة نسيت أن أسأله عن اسمه، سأسأله حين يتصل بي وربما لن يذكر اسمه لي لأنّه يسمع ولا يتكلم..، سأقول له إني أشكر الإيرانيين والروس والأمريكان لا لكوني أحبهم بل لأنّهم طردوا داعش التي نبشت قبر جدّتي وكسرت الشّواهد..

غير أن الصورة القاتمة التي انطبعت في ذهني عن استوديو الصور، انكشفت بعض الشئ، وسط الغبار الكثيف، والرفوف الصفراء، لمحت بعض الأسماء..

ابتسم لي أمين السجل المدني، واعتذر عما بدر منه قبل بضعة أيام وأمل أن تقدر الدولة بجهازها الأمني الجديد على حلّ مشكلتي.. سحب كرسيا إلى ركن قريب من الخزانة وبسط يده بكل لطف في أن آخذ مجلسي حيث الكرسي وطاولة صغيرة ثمّ أحضر ثلاث سجلات ضخمة مصفرّة يعلوها الغبار، وضعها على الطاولة أمامي، وقال سأتابع عملي مع أصحاب الطلبات في حين تستطيع أن تتابع السجلات، لم أعر اهتماما للقادمين من الخارج الذين راحوا يدخلون واحدا إثر واحد يقفون أمام الشاشة يلتقطون صورا لهويّاتهم الجديدة، وانهمكت في متابعة السجلات الخاصة بي وبأهلي الذين رحل أغلبهم وأوّلهم جدّتي أمّ أبي.. رأيتها صورتها القديمة التي التقطتها عدسة المصور القديم، اسمها واسم أبيها وجدّهاأأبي والصورة التي التقطها في الاستوديو القديم المتحوّر الآن إلى محل اتصالات، صورة وكانت ذات ملامح زاهية، لم تبتعد السجلات إلى أكثر من صور الأجداد، فالسِّجل المدني، والإحصاء جرى ترتيبهما عام 1934، نحن الآن فسنة 1924، الأجيال تلاحقت، والأهم من كلّ ذلك صورتي التي تجمع ملامح الإثنين أمّي وأبي.. المشكلة وجهي، والآلات الحديثة الراقية في السجل المدني، والأرقى منها في دائرة الأمن لا تتقبّل أن تنطبع ملامحي. لا داعي لأن أثبت أنّي ذكيّ فوق العادة فأثبت أنّ الدول الأكثر عراقة في المشروع الدمقراطي نفسها التي نحن نحثّ الخطا للحاق بها تغذّي دوائرها العامة بآلات متطوّرة وتجعل الأجهزة الأرقى بيد الدائرة الأمنيّة، نحن لسنا استثناء من القاعدة العامة ولو كنت في السابق لتعرضت لتعذيب هائل كون أفراد أسرتي عملوا مختارين أو مجبرين في الأمن الوطني وكانت جدتي تجبر نفسها على الاستماع طوال اليوم إليهم، والأدهى أنّ صورتي استعصت على جهازين متطوّرين، فمن حقّي أن أكبر السيد ضابط الأمن الذي نسيت أن أسأله عن اسمه ولا أنسى أن أشكر أمامه الأدقاء الإيرانيين، والرّوس، والأمريكان الذين خلّصونا من عصابة داعش، ولو أنهم جاؤوا متأّخّرين بعد أن نبشت داعش قبر جدّتي وبقيّة القبور وأزالت شواهدها.

ليس هناك شئ جديد في السجلات القديمة، أسماء أعرفها وصورا رسميّة لا لأستبعد أني رأيت بقاياها الأخرى عند أبي وبقيّة الأهل غير أنّها بقيت شاخصة في ذاكرتي وربما ستظلّ بقية حياتي إن لم أُصَبْ بفقدان الذاكرة.

لعد بضعة أيّام اتصل بي ضابط الأمن عبر الهاتف، فوصلت في الموعد، بقي محتفظا بابتسامته، وقبل البدء بأيّ شئ، فضّل أن نذهب إلى الحاسوب فوقفت أمام الشاشةـالتقط صورة فلم تظهر عليها أيّة ملامح، بقيت صامتا، فربت على كتفي وقال:

- سأجرب مع حاسوب آخر.

خطوت ثانية إلى مكان التصوير، وأمعنت النظر في الشاشة من جديد، نقر على الزر فتفاجأت بصورة ذات دائرة تلتفّ على دائرتين في الأسفل ونقطة في الأسفل ثمّ تحت النقطة قوسان.. ابتسم الضابط وازدادت حيرتي، ماعلاقة الدوائر والصور بوجهي، هل أصبحت لعبة للآلات الحديثة أم أنّ في وجهي شئ ما مبهم يمنعه من أن يلتحق بتلك الأجهزة المتطوّرة، قال الضابط بكلّ هدوء:

- لاتقلق أيّة ملامح تظهر تصبح في مصلحتك.

- مهما يكن فيبدو أني أجهل كلّ شئ.

لا تجعل اليأس يجرفك بعيدا.

استلّ من درج مكتبه ملفا يحتوي بضعة أوراق، وضعه أمامهي وهو يقول:

- إنّه ملف والدك، اقرأه بهدوء فنحن على وشك أن نصل إلى نتيجة.

كنت أطالع باهتمام كلّ ماورد في السجل عن تاريخ ابي الذي كان هو وأعمامي يعملون في جهاز الأمن الوطني، بالتأكيد الذي بين يديّ صورة وليست السجل الحقيقي أو نسخة لبعض أوراق من السِّجل الحقيقيّ، وقفت عند طلب غريب لأبي يرجوه أن يحوّله للعمل في الأمن الخاص بالسلك الدبلوماسي تكريما له بعد خدمة صريحة وإخلاص للدولة وسيرفق ذلك بملخق آخر يبن فيه السبب، لم أجد الورقة الأخرى، لكنني وجدت أبي صريحا ومخلصا لجهاز الأمن مثل بقية أعمامي الذين سببوا الصداع لجدتي، لقد كتب أبي عن أناس ماتوا، وآخرين مازالوا أحياء حتىّ إنّه كتب عن عائلته وإخوته، أما الورقة الأخرى فلم يحتوها السجل الذي بين يدي!

دخل عليّ الضابط وازالت ابتسامته على وجهه، رفع السجل من أمامي، ومد يده مصافحا، وقال لانريد أن نتعبك، نواصل غدا.

وفي اليوم التالي جئت والأمل يراودني في أن تتقبّل الآلة الأكثر دقّة وجهي، قلت للضابط نفسه:

- من غرائب الأمور أنّي لم أعرف بعد اسمك الكريم.

فازدادت ابتسامته سعة وقال:

- ليس هذا هو المهم بل الأهم أن نعيد إليك ملامحك.

وقبل أن يقدّم إليّ أيّ دليل، وقفت أمام الشاشة على الحائط، ضغط على الزر، فظهرت الدائرة الكبيرة والدوائر الثلاث، ثمّ القوسين أسفل منها، فهزّ الملازم جادارأسه، وانتظر لحظة نقر بعدها على زر البورد، فظهرت صورة الدائرة الكبيرة بمحتوياتها وشخص ليس بالغريب عليّ...

إنّه أبي..

أبي موظف الأمن القدير، وهناك ملامح أخرى عند كتفي الأيمن لصورة مبهمة مشوشة أقرب ماتكون شبيهة لأمي التي توفيت بعد أبي بحادث سير قبل التغيير الأخير، وظهور داعش وجئ الروس والأمريكان والإيرانيين.

هل هي معضلة أخرى، فلِم لا أخمّن أن الدّوائر تخص وجهي، مما يؤكّد حسن ظنّي أن السيد ضابط الأمر، نهض بكلّ همة وخاطبني بلطف:

- بدأت ياسيد نعمة الله بوادر النجاح تلوح. أطمئنك، مرّة أخرى، إلى أنّي لم أخفق في أيّة مهمّة انتُدِبتَ لكشفها.

ذهني صافٍ، والعجب يتناوشني، تفاؤل عند ممثل السلطة يثير في نفسي انشراحا لاحدّ له فيزول الهاجس وبعض القلق.

ليس هناك من خوف..

ولا أظنّني اقترفت تهمة

لا أنكر أنّ الحقائق الجديدة التي جمعت بعض الخطوط وصورتي أبي وأمي في الأعلى جعلتني خلال اليومين السابقين، وفي اليوم الآخر قصدت بعد مكالمة هاتفية دائرة الأمن.. استقبلني السيد الضابط. زربّما هذه المرّة زاد انشراحه درجة واقتربت جهوده من حلّ اللغز بكلّ تفاصيله:

سيد نعمة الله لعلك لا تصاب بالدهشة حين تعرف أنّ معظم وثائق الأمن أتلفت في البلد كنّا نعرف بعض المعلومات العامة عن والدك لكن من حسن الحظ أنّه اشتغل في أكثر من سفارة وكانت هناك أكثر من وثيقة كتبها بخط يده عن نفسه وعن والدتك.. أظنّ هذا يكفي لتطلع عليه بنفسك.

رحت أتابع باهتمامٍ وشغفٍ ماكتبه والدي عن نفسه وعن أمي. يبدو أنهم أخفوا عني تقاريره عن الآخرين، لذلك هناك حالات لم يفحر بها أمام جدتي أو يسبب لها صداعا.

كان أبي حسب التقارير التي احتواها الملف يهيم شغفا بأمّي ودفعه حبُّه لها أن يرجو الوزارة كي تنقله إلى الخارج. ولم تغبنه الحكومة حقّه، كان الضابط الأمني الذي انتقل في عدة سفارات فرآى أكثر من بلد وأقام علاقات كثيرة، في ملفه السرّي الذي قدم من الخارج أنّ أمّي كانت تعاني من تشوّهٍ في الرحم، ولم يكن أبي ليرغب في الزواج من أخرى أو يطلّقها. وأرى أنّ هذا الجانب الإنساني الرائع في حياته.

الحب، والحب بعنف

الحب والتماهي

كلّ ذلك دفعه أن يفعل المستحيل. أخفى الأمر عن أبي وجدتي، وانقل في خدمة الدولة بعيدا عن العيون، هناك عرض مرض أمّي على أكبر الجرّاحين، فحدثت المعجزة.

طفل الأنانيب

هل أضحك لأني كنت في أنبوبة ثمّ انتقلت إلى رحم أمّي.

ويبقى أبي رجل مبادئ فقد أخفى قضية طفل الأنابيب عن جدّيي وجدتي ولم يخفها عن الدولة.. تبقى قضية واحدة غابت عن فطنتي إلى الآن؟

- ياسيدي صدقني أنا لم أفهم إلى الآن ماعلاقة كوني طفل أنابيب برفضٍ يبديه الحاسوب لوجهي.

- بل هذا جوهر القضيّة.

- كيف؟ قد تخفى علي أمور لاتخفى عليكم؟

على أيّة حال إستعدّ الآن لالتقاط صور أخرى فنحن في الطريق لالتقاط وجهك الذي أتعبنا.

وقفت أمام الشاشة وكان ينقر:

ملامح لا علاقتي لشكلي بها

أنفي ليس هو

عيناي

وجهي المدور وفي الصورة وجه طويل..

أنا دائما حاسي الشعر وفي الصورة أبدو أو يبدو الآخر يرتدي قبعة اعتاد أن يرتديها الرسامون والفنانون. كان الشخص الآخر ذا عينين ماكرتين مثل عيني ثعلب، ولا أظنّ عينيّ توحيان بالخبث أما وجهي فيبدو وسيما خاليا من أيّ تجهم. لا أمدح نفسي وأجد أن بعض النساء أغرمن بي لوسامتي..

هل سخر الحاسوب هذه المرّة من شكلي فظهرت بصور شتّى..

بعقال

بسدارة

حاسي الرّأس

وجوه تقترب أحيانا من قسمات وجهي إلى حد شبهٍ قريب وتفترق إلى حدّ

لكنّي لست هو

كلّ شئ محتلف إذن..

أنا في صور أخرى

وتجلٍّ آخر

عندئذٍ تنفَّس الضابط الصعداء، وقال لم تبق إلّا خطرة واحدة أفضّل أن نكملها غدا فتظهر صورتك كما أنت الآن!

- هل أطمئن، أنا أعرف ياسيدي نفسي لم أكن إرهابيا ولست من جماعة الحكومة السالفة، مع أن أهلي كانوا في نفس الجهاز وكانوا يحكون لجدتي عن مآثرهم، كانت تضجر ولا تبدو أية علامة على قسماتها، وأشكر، ياسيدي الأصدقاء الرّوس والإيرانيين والأمريكان الذين طردوا داعش التي نبشت قبرها وأزالت الشواهد!

- لا بأس عليك!

- سأمرّ على قبرها بعد أن أخرج منك!

- هذا قرار يخصك ولن نتدخل في خصوصيّاتك.

- لكن قبل أن أغادر دائرتكم هلا تفضّلت وأخبرتني لِمَ امتنع الجهاز عن التقاط وجهي.

فابتسم ابتسامة واسعة، وقال:

- كونك طفل أنانيب، يرتبط بالتقدّم العلمي، القرن العشرون الذي ولدت فيه قرن الاختراعات العظمية، وقد أزال الطبيب خلال دمج الحيمن بالبويضة كل السلبيات الموروثة منك.. فقر الدم، العوق الذهني، الضعف، أمراض الكلى، أيّ سلب.. فكنت صورة إيجابية لا تحمل أيّة ملامح سلبية.

قاطعته مؤكّدا:

- الشئ الغريب أنّي لم أكن أعرف ذلك وأشعر بسعادة أني لا أحمل أيّ مرض.

- تلك هي المشكلة التي واجهت الكامرات الراقية، إنها ذات قدرة على جمع مظهرك الخارجي بما يدور في أعماقك من أحاسيس وموروث، فلم تكتفِ بجانب واحد ورفضت استقبالك..

- إلى هنا الأمر منطقي ولا علاقة له بالإرهاب بل بعمل أبي وأعمامي في جهاز الأمن عند الحكومة التي سلفت.

- نمعم أمّا نحن فقد جمعنا معلومات عنك وعن أصول عائلتك، تتبعنا الظاهرة بدقة. فظهرت لنا أشكال مختلفة، ظهرت دوائر وخطوطثمّ صورة أبيك وأمّك، ثمّ بعض أقاربك، كلّما غذينا الحاسوب بمعلومات تقدمنا خطوة.. وهكذا.

- آمل أن يظهر وجهي غدا!

فنهض، وفمت من إشارته، أنّ عليّ أن أغادر، فمددت يدي مصافحا:

- سنغذي الحاسوب بالمعلومات القديمة ليظهر وجهك غداّ.. شيعني إلى الباب وكانت يده تربت على كتفي برفق: لا تقلق.

 وخرجت من عنده، وفي رأسي تتلاعب فكرة ما، لم أخف من أن أحاسَبً بجريرة أبي وأقاربي، ومن سبب لجدتي الصداع، ولم أعلن عداوتي للروس والأمريكان والإيرانيين، بل شكرتهم لأنّهم طردوا من نهب قبر جدتي وبقية القبور، أحيانا يأتي ذكر الأسماء من دون عمد فأذكر اسم دولة قبل غيرها لا لأنني أحبّها أو أحترمها أكثر من الدولتين الأخرين، بل هي المصادفة وحدها.. المصادفة التي تجعلني لا أعير اهتماما لترتيب الأسماء.. فكم مرّة سبق على لساني اسم جدتي قبل جدي وكم مرّة ذكرت أمي قبل أبي.. هي المصادفة وحدها جعلتني أقف لحظة على الرصيف، وأتأمّل في وجهي الآتي يوم غد.. في القرن العشرين جردني الطبيب من كلّ ماهو سلبي يعيق ذهني وجسدي.. سأعيش عمرا طويلا.. جدتي عاشت 95 عاما على الرغم من ثرثرة أحاطت بها سبَبُها أعمامي وأبي، ولولاذلك لامتدّ بها العمر إلى 105 سنوات. يُقال ذلك، أمّا أنا، الآن، وقد عرفت أنّي من دون علل ولا مرض، ولست معرضا لأيّ مرض عقلي، فَلِم أعود إلى شكلي القديم، من الممكن أن ينتقل إليّ فايروس الحاسوب نفسه، شئ من الشكّ يراودني، يتحوّل إلى خوف، ثمّ رهبة..

توجّس

شكّ

وقلق

ربما أدعهم يجمعون المعلومات يغذونها في الحاسوب كاملة فينجزون العمل غدا..

أمّا أنا فالأفضل لي ألّا أزور الحاسوب، ولا أدعه يلتقط وجهي الجديد، أفكّر بالغياب ليكون الرحيل.. أو الهرب.. الهجرة بصمت.. ليقولوا أيّ شئ.. المهم إنّي لا أريد أن أرى صورتي بشكلها القادم.

***

قصة طويلة

قصي الشيخ عسكر

في نصوص اليوم