نصوص أدبية

سنية عبد عون رشو: خوذة مرقطة

.. دخلت استوديو التصوير سيدة فارعة الطول ناعسة العينين تقترب من الخمسين عاما رشيقة القوام شديدة الاناقة.. رفعت عباءتها وعلقتها خلف الباب الخشبي داخل غرفة مخصصة لتصوير زبائن المحل..

 متشحة بملابسها السود من رأسها حتى أخمص قدميها.. نظرت في المرآة التي عكست صورة كاملة لجسدها.. انتابها احساسان أولهما انها مازالت شابة ومتمسكة بأذيال الحياة تحب الموسيقى والرسم والتنزه في المروج الخضر أما روحها الثانية فهي مهمومة ومنكسرة بداخلها فقط.. دون ان تبدي ذلك للناس وحتى لزوجها الذي هو بحاجة لمن يسنده ايضا.. لكنها أدركت فجأة ان عليها أن تجهز نفسها ولا تظهرها اضحوكة للآخرين

الحياة تناديها والقمر ما انفك يغازل جفنيها.. واليأس يسحبها وأجنحتها المتكسرة تؤلم روحها.. لديها حلم طويل تنتظره الى الأبد.. تتناثر أمانيها مع أحلامها كل يوم ثم تبدأ في اليوم الثاني لترسم أحلاما جديدة..

.. كان الجو يبدو ربيعيا وقد منح روحها شيئا من انتعاشه وعليها ان لا تبدو قلقة رغم شعورها ان قلبها منقبض.. العواصف لا تهدأ داخل روحها رغم محاولاتها كي تتأقلم مع وضعها الذي أجبرت ان تتعايش معه..

انفتح الباب الخشبي وظهرت عاملة الاستوديو.. هل جهزت نفسها سيدتي أو تحتاج لمساعدة ما..؟

بأدب شديد اللهجة طلبت منها السيدة ان تقوم بمساعدتها في ترتيب وأناقة شالها الحريري.. بذلت العاملة مجهودا لإقناعها بوضع حجابها مرتفعا قليلا عن عينيها الواسعتين الجميلتين كي تظهران بشكل أجمل في الصورة....

إلا انها قطبت ما بين حاجبيها وأظهرت انزعاجها.. مع شعورها ان العاملة ليست مخطئة لكنها لا تعرفها ولا تعرف شيئا عن مصدر حزنها ولكن.. عليها ان تتحاشى من شفقة أي انسان..

فتذكرت وجهه الأسمر وهو يبتسم لها وكأنه يقول لها.. حذاري من الضعف.. لاح لها وجهه في المرآة.. فلوحت له وهي مبتسمة ثم أغمضت عينيها..

احترمت العاملة صمتها وشرود أفكارها وكان عليها ان تنزوي جانبا واكتفت بالنظر اليها من طرف عينيها وهي مندهشة لتصرفها الغريب....

 أخرجت المرأة الخمسينية من حقيبتها اليدوية خوذة عسكرية مرقطة ووضعتها فوق شالها الأسود وهي تنظر للمرآة ثم طلبت النصيحة من العاملة ان كان وضعها مائلا لجهة اليمين أو ان تتوسط رأسها.. فإيهما هو الوضع الأفضل.. ازدادت دهشة العاملة لهذه المرأة ولغرابة تصرفاتها التي لا تليق بعمرها.. فحاولت ان تخبرها ان الخوذة المرقطة ستجعل الصورة غير لائقة ومنظرها غير مناسب للصورة البتة....

الا ان المرأة أصرت ان تظهر الخوذة فوق شالها.. مما أثار في نفس العاملة طرافة حكايتها.. وربما شككت بعدم اتزان عقلها....

حاولت العاملة ان تخنق نوبة ضحكتها بصوتها المسموع.. فهربت خارجة من غرفة التصوير الى واجهة المحل وطلبت من صاحبتها التي حضرت توا ان تحل محلها.. كي لا تسبب للمرأة احراجا أو ربما تثير غضبها ثانية....

دخلت صاحبتها وقد أصيبت بالدهشة عند رؤيتها للمرأة.. نعم اتضح انها تعرفها وتعرف حكايتها فهي احدى قريبات أمها.. فأخبرت السيدة ان القبعة المرقطة منحت الصورة اشراقة وجمالا.. فما كان من السيدة الا ان تطبع قبلة على خدها.. ومضت بعد استلامها وصل المراجعة في يوم آخر لاستلام صورتها..

غادرت السيدة محل التصوير وما زالت تردد هامسة مع نفسها لن أنساك أبدا من الغسق وحتى آخر نهار في عمري ستبقى حبيبي الى الأبد ولن يفرقنا سوى الرمس..

 انزوت العاملة مع صاحبتها وأخبرتها على الفور حكاية هذه السيدة.. ان هذه الخوذة المرقطة طالما ارتدتها في مناسبات عديدة وحتى في دارها أحيانا.. وانها تعود لأبنها الوحيد الشاب الذي اختفى قبل عدة أشهر ولم يحصلوا حتى على جثته في معسكر (سبايكر).. كما يسمونه.

***

سنية عبد عون رشو

2014

 

في نصوص اليوم