نصوص أدبية

محمد عجرودي: زيناتمام والسالمونيلا

سأبدأ بلعنه أولا، ثم لعن زوجته ذات الوجه الدقيق الرقيق المدقق والأنف الخارج بين خديها الأصفرين صفار لون البلح.. زوجها ذاك الأبله المعتوه، السمين سمنة فائضة بدون تقويم حسن يا لطيف.. كلما مر بالزقاق المطل على الساحة، يناديه مجنون الحي بفمه المشرع للذباب، وبأسماله المزركشة الألوان.. يناديه مقهقها وهو يشير إليه بأظافره الطويلة المتسخة:

هذا الغليظ عمي جلول، لقد أكل زوجته هذه الليلة وكل يوم يأكل بعضا منها.. ويستمر بالقهقهة إلى أن يغيب عن ساحة الحي.. مهرولا وهو يقبض بسرواله الآيل للسقوط.

ملعونة هي وأبناؤها الثمانية، لا أعلم كيف تستطيع هذه النحيلة أن تلد؟، كيف ولدت هؤلاء الخنافيس دون توقف؟

كل سنة نرى بطنها منتفخا وباقي جسمها يتمايل لدرجة أنها في أحايين كثيرة تجلس القرفصاء بباب الجيران لتأخذ قسطا من الراحة والهواء، وهي عائدة من الأسواق.. تعشق الأسواق وكل حوادث الحي تعلم تفاصيلها، فلان دخل المستشفى، فلان ضربته زوجته بالزيت المقلي على قفاه، علان أكل حق أخته في الميراث، فلان تزوج للمرة الثالثة، فلان سرق فلانا، فلانة تخون زوجها مع ابن عمها.. تعشق الكلام والرغي الزائد.. يلقبونها بأم اللسان القرطيط.. لا يسلم من لسانها حتى المواليد الجدد، إذ ترى فيهم عيوبا، لايمكننك أن تراها بعينك المجردة..

ملعون ذاك الجرذ الصغير إبنهما لا يسلم أحد من أذيته، حرفته سرقة لعب أطفال الجيران..

وإبنتهما الثالثة كانت تشاكس كثيرا عمي السفانجي وتنعته بالأعمش ولن تتركه إلى أن يعطيها واحدة حتى ولو لم يكتمل طهيها ليتخلص منها بسرعة.

الملعون زوجها وأب الجرذان الثمانية كما كان ينعته الحاج سلام القمحي السحنة.. كلما هم بالخروج من الحوش إلا وشم رائحة الأزبال المكومة قرب الدار..  بالزقاق الضيق وجيش الذباب والحشرات في استعراض سبحان الخالق.. يسب ويلعن اليوم الذي سكن بهذا الحي المشؤوم رغم أنه يعيش بينهم، يصلي بهم بالجامع القديم ذو الجدران الباردة.. الحاج سلام الأسمر اللون القادم من الجنوب، يقوم بختان الأولاد وعلاج أمراض اللوزيتين ويكتب الأحجبة والتمائم للناس كتميمة جلب الرزق، وتميمة جلب الحبيب والعريس، وتميمة الحظ والنحس والطلاق والكشف عن السحر وإبعاد الأرواح الشريرة والجن..

 الحاج سلام يعيش بينهم ويسبهم وينعتهم بحطب جهنم.. (الله يسلط عليكم الصواعق والرعد والبرق والبق وشجرة الزقوم، أيها اللقطاء..) كلمات غالبا ما يرددها أمامهم وفي قلبه.

الملعون جلول السمين، لا يعرف أحد من أين جاءته تلك البدانة أهي من كثرة الغم والهم أم ان الرجل لا قلب له ولا يهمه هم الدنيا كما سمعته يقول عند عمي البقال مول الحانوت وهو يشتري منه بعض لوازم البيت.. (اللي بغاها كاع خلاها كاع)..

زوجته رغم نحالة جسمها لا تترك أحدا من الناس إلا وتعاركت معه.. في أحد أيام الصيف الحار بلهيب حارق، لا شيئ يتحرك في المكان ولا في سماء الكون.. في صيف قائض يومه كان إبنها الأوسط يتسلق جدران الجيران ليجلس فوق السطح كي يدخن سيجارته المسروقة من عباءة الملعون أبيه، بعد أن أتم سيجارته والتي شربها بنهم وسرعة، دون اكتراث ألقى بها وسط حوش عمتي لويزة الوقورة النقية الطاهرة.. والتي لها بنت واحدة عانس تجاوزت الأربعين من عمرها.. تتكلف بأمها وبنظافة البيت.. أبوها مهاجر لا يعود إلا نادرا.. حتى ألفنا أن عمتي لويزة لا زوج لها.. هذا قدرها وقدر الكثيرات من بنات البلد.. لكن البلاء الحقيقي هو الملعون وأبناؤه الذين يجاورونها كالبلاء والوباء والقضاء المقدر.. وهي الورعة الزاهدة دوما تقول كلما رأت مالا يعجبها.. اللهم نسألك العفو والعافية والصبر والسلوان على هذا المصاب الجلل..

لما استيقظت عمتي لويزة صباحا وجدت عقب السيجارة وسط الحوش، فنادت يا ربي السلامات من أين جاء هذا الويل فنادت حورية بنتها الوحيدة.. لما العجب يا مي؟

إنه ابن الملعونة هو من يدخن فوق السطح ويلقي بزبالته عندنا..

كان السمين جلول عاشقا للأفلام الهندية، وخاصة الطويلة منها والتي تلتهم من عمرك ثلاث ساعات بين الحقول وأحضان الفولكلور الهندي والحب والإنتقام والفقر وبؤس المهمشين وقضايا العدل وظلم ذوي القربى.. وخاصة في فصل الشتاء، جلول كلما كان يلج إلى قاعة المسرح إلا وبيده قرطاص مملوء بالزريعة، يلتهمها باشتهاء ضبع لضحيته ويتلذذ بملوحتها..

يشرد بذهنه بين جبال وهضاب ووديان وأشجار سرو الهيمالايا والمطر يهطل بغزارة، وبطلة الفيلم بين مخالبه وكأنها الزريعة يقشرها..

وفي لحظة ما ينتهي الشريط وتموت زيناتمام البطلة، يحزن الملعون جلول، يحزن بعمق، يتأسف، ويلعن المخرج والشعب وبائعي الساندويتش على ناصية الطريق قرب السينما، تمنى من أعماق قلبه لو ماتت زوجته النحيفة المنحوسة الملعونة وبقيت البطلة على قيد الحياة

.. يحزن عليها، كحزنه يوم سقوطه من الشاحنة، التي كانت تقله إلى حقول الفلاحة لجني الثمار.. مع آخرين من المياومين والموسميين الجدد المستقدمين من بلاد الله الواسعة.. سقط وتركوه مرميا يتمخط في التراب المخلوط بماء السواقي المتدفقة، على جوانب المسالك المتربة..  ويصرخ مرة، ويئن مرات أخرى..

عاد جلول بعد انتهاء الفيلم الهندي الحزين إلى زقاقه وهو يغني كل ما حفظه من كلمات هندية بنغالية وتامولية أو بنجابية..  بأعلى صوته كعنزة أو كلب مسعور.. والناس نيام..

فيستيقظ الحاج سلام فقيه الحي وحجامه ومطهره ومغسل جثثه عند الممات برفقة جاره الجزار المخمور دوما ذو البذلة المليئة ببقايا الشحوم وبقع الدم وروائح اللحم، يستيقظ.  الحاج سلام مفزوعا على نهيق وصراخ الملعون جلول السمين، فيركل الباب الحديدي بركلة واحدة حتى يتردد صداه عند نهاية الشارع الخلفي، ثم يرتطم الباب الصدئ بالحائط أكثر من مرة، 

عند عتبة الحوش المشرع على الزقاق الضيق يقف الحاج سلام وبيده عصاه الغليظة ذات النتوءات الحادة الرؤوس..

ليسبه بصوته الجهوري المسموع من داخل الدار.. ينعته بجميع الصفات، يا بن الكلب، يا وجه النحس، يا حطب جهنم..

.. فلما رآه جلول انحنى على ركبتيه وهو يطلب السماح والمغفرة ككل مرة..

كلما رآه بعد منتصف الليل وهو يترنح يسارا ويمينا وصراخه يملأ الزقاق الفارغ خاصة أيام الشتاء.. انحنى على ركبتيه يطلب المسامحة وهو يقول عمي الحاج هاذي والتوبة.. سأتوب وإن لم أفعل إكسرلي عظامي..

فرد عليه الحاج سلام:

من شر ما خلق..

لو لم تكن لديك تلك الطزينة المنحوسة لقتلك أيها العفن..

وزاد مسترسلا:.

لكن أبناءك عقوبة من الله في الدنيا، وزوجتك سخط السماء عليك..

جلول اغرورقت عيناه على ما سمعه، فهمهم بشفتيه بهمس غير مسموع، وبدأ بالبكاء رافعا يديه إلى أعلى ملتصقا بجدران منزل الحاج سلام المهترئ وبدأ بتهشيم رأسه الغليظة..

 السي الفقيه سلام، غير مبال بما يصنعه جلول برأسه المنتفخة، وهو يصفعها مع الحائط المهترئ الرطب.. ومع ارتفاع صراخ السي جلول وهو يعيش حالة من الهستيريا كمن أصابه غبن موت بطلة الفيلم الهندي وتهديد وسب الحاج سلام له، وفقره وأميته المزمنة وعطالته وحياته من بدايتها إلى هذه اللحظة.. بعواء الذئاب ونباح الكلاب المسعورة ومواء القطط المتشردة ينبعث صراخ جلول من أعماق بطنه وصدره..

الحاج سلام فقيه الحي وحكيمها غير مبال رافعا عصاه إلى السماء يزيده قائلا: يا بن الكافرة لو لم تلد تلك الرزمة من حطب النار لقطعتك ودفنتك في مزبلة البايلك أيها العربيد،

رد عليه جلول بعد أن سكت عويله بشكل مفاجئ والدم يسيل على حاجبيه الكثيفي الشعر..: ماذا فعلت لك عمي الحاج ؟ أنا مغرم بالأفلام الهندية آه يا عمي لو ترى تلك الهندية التي تتزحلق من أعلى الهضبة وهي تتلوى كالحية، آه يا عمي لقد ضاع عمرك بين أهل الحي المتسخين والمرضى.. ما ذنبي إن غنيت لهؤلاء التعساء ليلا وهم أرواح ميتة لا ترقص ولا تغني.. ألهذا ستعاقبني يا عمو.. ألم يقل الله ولا تنسى نصببك من الدنيا..

أسكت أيها الملعون واغرب عن وجهي، رد عليه الحاج سلام وهو يغيب داخل الحوش ليستعد لصلاة الفجر.. متمتما لا حول ولاقوة.. إلى أن انخفض صوته داخل بيت الماء..

بعد أيام من هذا اللقاء، عمتي لويزة وهي تتفقد سطح البيت لتجد دجاجاتها غير موجودة في الخم.. وهي تنتحب وتنادي ابنتها لقد سرقوها أولاد الجنية.. فهرولت للزقاق تبحث عن إبن الملعونة، إذ لا يمكن لأحد آخر أن يتجرأ لسرقة عمتي لويزة إلا هؤلاء الملاعين، (حطب جهنم) هذا ما تقوله في دواخلها، وهي تلتفت في كل اتجاه إذ وجدته كما العادة يرتكن زاوية المقهى الصغير قرب ساحة الحي، وهو يتوسد كارتونة وبيده علبتان من السجائر يبيعها بالتقسيط للشباب المبتدئين وحتى الشيوخ المهترئة أسنانهم..

وجدته وعيناه مغروستان نحو تلك الجميلة بنت صاحب محل الخبز عمي علال الذي هجره أبناؤه وزوجه لشدة بخله إلا واحدة ما تزال تعيش معه لتساعده على تجارته، وكل شباب الحي يفضلون الإبتياع من حانوت أبيها لما تكون معه وراء الكونتوار الخشبي العالي جدا، لعلهم يفوزون بنظرة خاطفة لعينيها الجميلتين الجذابتين، أو خلف ظهرها لما تستدير لجلب بعض المواد التي يريدون شراءها.

الملعون الصغير يسافر بخياله، وهي رفقته يده تحضن يدها قرب النهر اليابس إلا من بعض البرك العفنة، وراء شجر السدر، خلف الحي..

 وعلى غفلة منه استفاق من حلمه على صرخات الحاجة لويزة: يا سارق أين أخذت الدجاجات يا بن الملعونة..  فتحلق الناس حوله، ودون أن يستفسروا عما يقع، بدأوا في سبه وشتم أمه وأبيه وجذور أصل شجرته، ولطمه الجميع على جميع جهات جسمه وهناك من راودته فكرة تكتيفه وتعليقه ورجمه بالحجارة، لولا ألطاف الله الجبار المنتقم والفعال لما يريد..   

 لحظتها تدخل أحد زبائن المقهى، يبدو أنه أحد المتعلمين، وربما يكون أحد المثقفين الذين يطالعون الجرائد اليومية ويملؤون شبكتها لقتل الوقت.. ، يبدو أنه معلم أو طالب، او عاطل عن العمل وربما قد يكون شيوعيا حسب ما يشيعه عنه بعض المخبرين الذين يراقبون كل صغيرة وكبيرة داخل المدينة، تدخل الرجل صاحب الجريدة بعد أن تحولق الكثير من الناس صغارا وكبارا ذكورا ونساءا، شيبا وشبابا، معوقين، ومجانين، في جوقة لا أول لها ولا آخر، والملعون الصغير سارق الدجاج يزعق بأعلى صوته ثم يسقط أرضا على ظهره رافعا رجليه ملوحا بهما في كل الإتجاهات، والحاجة لويزة تطالبه باسترداد الدجاجات..

لحظتها نطق صاحب الجريدة وهو يلوح بجريدته في السماء قائلا: يا سكان الحي، أسكتوا أريد أن أعرف ماذا وقع بالضبط ؟ فأجابه الكل دفعة واحدة: (هاذ ولد لحرام شفار شفناه يسرق الدجاج..) في نفس اللحظة المنبوذ الصغير، تحول إلى حلقة ضئيلة واضعا رأسه بين خديه، ممسكا بعلب السجائر لكي تضيع وسط الزحام واللغط والفوضى.. صاحب الجريدة بأعلى صوته يأمر الناس بالصمت والنظام.. متسائلا:

وهل كنتم جميعكم فوق سطح عمتي لويزة ؟ مع شرح مبسط لحيثيات الإشكالات الإجتماعية والاقتصادية. ، مع شرح البنية التحتية للحي وعلاقته الجدلية بالأفلام الهندية والحرمان..  وبينما هو كذالك تمر دورية للبوليس، في رحلة تفقدية للمناطق النائية.. لحظتها نزل ثلاثة من العربة الرمادية، آمرين الناس بالابتعاد قليلا ليتضح لهم المشهد كاملا..  رئيسهم أمر باعتقال الصغير الملعون لنصف يوم بتهمة بيع السجائر بالتقسيط، واعتقال صاحب الجريدة بتهمة الإخلال بالأمن والنظام العامين، وانتحال صفة..

هكذا تفرق المنبوذون، وبعد عودة عمتي لويزة إلى البيت تذكرت ان الدجاجات ماتت بمرض السالمونيلا التي تصيب الإنسان أيضا.  

***

محمد عجرودي / باريس

 2024       

 

في نصوص اليوم