نصوص أدبية

سليمان عميرات: مطبخ زوجتي

كثيرا ما كانت زوجتي تجلس بجانبي بالصالون وتتحدث إلي بشتى أمور لا أهمية لها، تستند على الأريكة بالقرب من مكتبي العريض المتواضع وقد أهملت ترتيب الأوراق التي تكدست عليه، وربما هكذا أحبذ أن أراها، مازلت أفتح الحاسوب لأكتب بعض المقاطع الأدبية لرواية ما بدأت فيها منذ مدة، لم تنشر ولست مستعجلا لنشرها لأني أعرف عزوف القراء عن الرواية العربية، وربما تنقلت بعد ساعة إلى مراجع التاريخ وأوراقي القديمة فأنسخ ملخصا من تاريخ معين لمنطقة معينة، أبات أدن وأنقح المسودة دون ملل أو كلل. في يوم جميل كنت مبتهجا وفرحا بحديث زوجتي وإذ بها تعيد علي موضوع قد همها واهتمت به منذ مدة، فقالت بعد أن صنعت خدعة طريفة وركبت حيلة ظريفة، والخوف بادي على محياها:

- متى تعيد تهيئة المطبخ كما وعدتني؟ صمت برهة ثم قلت:

- وهل يوجد المال الكافي لنغير ما به من أجهزة ونعيد تجديد الحيطان بالدهن وتبديل خزف الحائط وربما رخام طاولة الطبخ؟ الأمر مكلف وشاق، أنظري إلى الطباخة والثلاجة وإلى الأواني كيف صارت قديمة ومتهرئة، أم تنصحين بتركها لنغيرها في وقت لاحق. هنا ثارت ثائرة زوجتي وبدأت بالصراخ والعتاب، وقالت:

- أفعل مثل الرجال واستلف من أصحابك الذين استلفوا منك أيام أزمتهم. قلت مجبرا ومستسلما:

- سوف أتدبر الأمر، لكن توقفي عن الحديث في الموضوع كي لا تربكيني وتشوشي علي خطتي. أي خطة؟ ردت والفرحة تملأ وجهها ابتساما وضحكا. سأخبرك بحر هذا الأسبوع.

امتثلت لأوامر زوجتي بعد أن أقنعتني وأنه لا مجال للتسويف وتأجيل العمل أكثر من ذلك، فلا بد من إعادة سيراميك جديد ووضع سقف من البلاستيك بجودة مطابخ اليوم، وشراء ما لزم من أجهزة كهرومنزلية وأواني الطبخ. وما هي إلا أيام وصار المطبخ جيدا يلمع بأثاثه التي اشتريتها بالتقسيط، وعمدت في دعوتها لترافقني إلى المتجر، فاختارت ما تحتاجه وما يحلو لها من نوع وحجم ولون، لأنه مطبخها الذي ستمضي به جل أوقاتها وتبرهن لنا على مهاراتها في الطبخ والتفنن في صنع الحلوى والكعك.

كنت جالسا على مكتبي بالصالون وإذ بي توتر وانزعجت انزعاجا لم ألحظه من قبل، فخرجت مباشرة إلى المطبخ أتفقد زوجتي التي غابت عني لأيام ثم لأسابيع، فاكتشفت أن غيابها بدأ منذ جددت لها المطبخ الذي شغلها عني، .. يا لطمع الأزواج وجشعهم، يريدون كل شيء من الزوجة، الطهي الحلو والممتاز مع الجلوس إليهم ومؤانستهم في كل حين، أصبحت أتنقل إلى المطبخ من حين لآخر أزور زوجتي الغائبة عني كي أسمع منها أحاديث الأمس وأفضي لها بهواجسي وما يقلقني، فأجدها منهمكة في تقطيع البطاطس والطماطم وغسل السلاطة وهي تلتفت إلي حينا وتعود لخضارها وتقول:

- اليوم سأطبخ لك كل ما تشتهي نفسك، فبعد أن صار عندنا طباخة جديدة وفرنها الجيد ستكون لك كل يوم طبخة جديدة وحلوة.

- أما زلت تشاهدين قناة الطبخ وتستمدي منها أكلاتك؟ تضحك مجيبة بكل ثقة:

- بالتأكيد، فالطبخ قد تحسن بعد انتشار الحصص التلفزيونية وقد استطعت مشاهدة كل أنواع تحضير الأكل بالبلدان العربية.

نظرت إليها في سكون وإعجاب لأن هيأتها أعجبتني، بعد أن احمر الفرن بالنار المشتعلة، فاحمرت وجنتاها ولمعت من وهج النار وهي تنظر إليها منتظرة وضع طاجين البطاطس داخل الفرن، وقد تحاول أن تظهر لي انشغالها الزائد بالطبخ وإعداد أشهى المأكولات. وهاهي تنتقل لإعداد تحلية جميلة بعد أن كلفت نفسها كثيرا لتعلمها وإتقانها بمهارة. دمجت معها ابنتنا فتناديها لتساعدها في التحضير والطهي وقراءة وصفة الطهي بمقادير مضبوطة، بعد أن نجلس على الطاولة وتبدأ زوجتي بتوزيع الأكل على الصحون وتطلب من كل فرد إن يرغب في الزيادة وهي مبهجة وفرحة ونحن نشكر حسن الطبخ من يديها الذهبيتين.

صارت زوجتي الفاضلة تدعو بعض نسوة من أقاربنا وجيراننا لزيارتها فتقدم لهن ما طاب من أكل وحلوى وتحلية هكذا تسميها كما سمعتها من التلفاز، فيمدحنها أكثر منا على حسن الطهي ومهارتها التي لا تضاهى بالحي كله، وعندما يجلسن بالصالون فيستمتعن بالتحلية وأطرد منه طردا جميلا، فأنزوي بغرفة النوم وحدي وأمكث للصمت والهدوء.

صبرت على هذه الحالة التي لا تكاد تنهي قريبا، وقد اتسعت الفجوة بعد أن أحكمت قبضتها على المطبخ وأخذت معها ابنتها تعلمها في أيام نهاية الأسبوع والعطل الجامعية، فلا أراهما إلا عند العشاء وبالأحرى عندما أحمل نفسي وأقصد المطبخ الذي تفوح منه رائحة الطبخ والقلي فلا أكاد أطيقها، وأن ابني لا أراها بعد أن شبّ، يخرج ويدخل المنزل متى شاء ولا يجلس معي إلا نادرا، وإن حضر يوما فلا يبالي بي وإنما يركن إلى مكانه المعتاد متوغلا بذهنه وحواسه كلها في الهاتف النقال يشاهد ويسمع ما شاء من صور وفيديوهات متنقلا بين صفحات التواصل الاجتماعي والسماعتين في أذنيه، ولقلة تعلقي بالمطبخ والجلوس فيه أصبحت وحيدا مع أني أمل الوحدة ولا أهتم لمشاهدة التلفاز بعد أن صارت الشرائط الوثائقية مملة لإعادة بثها مرات ومرات.

رويدا رويدا أمسيت أغار من هذا المطبخ الجامد الأصم، ووددت لو تركته على حاله الأولى متهرئ الجدران بأجهزته القديمة البشعة، كي لا يأخذ مني زوجتي ويسعدها فأبقى وحدي بهذا الصالون الموحش ومكتبي الممل الذي أضحى لا يلهمني للكتابة والمطالعة مثل السابق، وصرت في حيرة من أمري، ربما بحثت عن طريقة لاستعادة زوجتي إلى جانبي والولدين من حولي نتجاذب خير الحديث ونضحك من نكات بعضنا.

حاولت مرة أن أنتقم من هذا المطبخ العجيب وقلت في نفسي لو كان رجلا لخنقته، وإن كان أقرب من أخيها وأبيها وأعز الناس إليها، ولكني تذكرت حينها الأيام الخوالي وما عانته زوجتي المسكينة حينما كنت أعود إلى المنزل متأخرا بل ومتأخر ا جدا، أغيب عنها في حضور أغلب الأمسيات الأدبية والندوات التاريخية حاملا  محفظتي التي ملأتها بأوراق تافهة مكدسة داخلها بلا نفع ولا فائدة، وقد وصل بها الأمر أن تغار من محفظتي وتبغضها كما أفعل اليوم مع مطبخها، وعندما أقنعتني أن الكتابة لا تنفعني نفعا ماديا ولا معنويا عدا بعش الشهادات التشجيعية أو بالأحرى منحت مجاملة وقد ملأت مكتبتي، فلا مكان للأدباء اليوم ولا يوجد من يقرأ ولا من يسمع القول وكل الكلام يذهب هباء منثورا مع الريح، فعدلت عن الانتقام من مطبخ زوجتي وحاولت التصالح معه في أن أقبل الأمر المفروض علي وأن أصبح من ذلك اليوم جليس المطبخ واستمتع بالطهي وتذوق الحلوى وصرت أعطي رأيي في طبق اليوم والكعك والسلاطة وحتى الماء البارد الذي نشربه في حر الصيف.  

 ***

قصة قصيرة

سليمان عميرات

في نصوص اليوم