نصوص أدبية

جودت العاني: الخوف والوهم وإسقاطات الشمس..

حلقة من: المدينة الغافية في احضان البوسفور

في صبيحة اليوم الثاني واثناء مروره بالقرب من المقهى، كان صاحبه الأكاديمي أمامه وجهاً لوجه.. فبادره بابتسامة عريضة.. يا لهذه الصدفة الجميلة هل تناولت فطورك ؟، دعنا نجلس عند ذلك الركن القريب من شجرة الظل الداخلية لنتناول شيئاً. 

طلبا الفطور.. ثم سأله عن الفترة التي سيبقى في هذه المدينة، بعدها ألمح إلى آخر حديث دار بينهما في اليوم الفائت.. وذكرَهُ بحديثهِ عن دوافع الخوف الذي أبدع في تحليله.. قال: ليس ذلك إبداعاً بقدر كونه يدخل الأختصاص السوسيولوجي في التحليل.. وتابع حديثه وهو يركز نظره على فتاة جميلة دخلت تواً إلى الركن المقابل لكافتيريا المقهى، فيما كان يرشف قهوته التي تتصاعد منها خيوط بيضاء تتلوى ثم تتلاشى لتملأ ذلك الركن برائحة البن العطرة.

نعم ، الخوف ، كنا نتحدث عن الخوف اليس كذلك.. هو يأتي من الداخل.. تلك حقيقة.. وأضاف، وعلى أساس هذه الحقيقة تعمل الإدارات الأمريكية ومؤسساتها السياسية والاعلامية والاجتماعية على إستراتيجية تسمى (شد الداخل الأمريكي ومنع إنفراطه).!!

ولكن كيف يتم الشد وبأي الأدوات؟

يتم ذلك عن طريق خلق عدو خارجي كما قال “هنري كيسنجر” حتى لو كان وهمياً.. مثلاً : بعد الحرب العالمية الثانية، كان الصراع بين معسكرين، شرقي وغربي، والتخويف كان من هجوم الشرق أو إختراقه للنظام السياسي والإجتماعي الغربي.. وحين سقط الإتحاد السوفياتي.. سقط ركن أساسي من أركان لعبة الخوف في الإستراتيجية الأمريكية.. والمعنى هو سقوط أحد أهم أعمدتها، ولم يعد هناك ما تخيف به الأوربيين، وما تخافه الأدارات الأمريكية سوى مجتمعها واحتمال انفراطه، فعمدت إلى خلق استراتيجية صراع جديدة هي (محاربة الإرهاب)، وجندت كل طاقاتها السياسية والعسكرية والاعلامية على وجه الخصوص لإظهار أن هذا الإرهاب يهدد الداخل الأمريكي، وحددت عناصرهذا الإرهاب بـ(القاعدة) والدول الحاظنة للإرهاب، التي سميت بالمارقة.. ثم ظهرت تسميات  أخرى، الإسلاميون المتطرفون والمعتدلون والتكفيريون والأصوليون، وحسب التصوير الأمريكي كلهم يهددون الأمن والرفاهية الأمريكية.. والهدف هو (شد الداخل بكل مكوناته وتناقضاته صوب عدو وهمي خارجي).!!

وتابع حديثه.. في بعض مدن الشرق الأوسط مثلاً، الناس يخافون، ليس في كل الأوقات، إنما في بعضها حين يكون الخروج إلى الشارع مغامرة مخيفة، لأن العودة غير مضمونة.. ومن هنا يبدأ الخوف.. يسير أحدهم على رصيف الشارع، وفجأة يتناثر لحمه في كل مكان، ويصبح مجرد رقم في إحصائيات القتلى، أو مجرد خبر عابر.. يبدأ الخوف حين يعتقد الفرد بأنه قادر على محاسبة الآخر في أي وقت أو مكان حتى لو أدى الأمر إلى قتله، أو الثأر منه أو لأنه يؤمن بما لا يؤمن به الآخر، حتى أنه من لون آخر.. في خضم هذا الواقع الذي ينعدم فية النظام والقانون تحل شريعة الغاب تماماً، حيث تتحلل المعايير الأخلاقية للمجتمع ويتحول المجتمع إلى مجرد قطعان من الذئاب والحملان.!!

كان الحديث مع الأكاديمي عابر الطريق هذا، ممتعاً ومهماً لآمسَ السياسة والمجتمع وشخصَ الخوف ومسبباته ودوافعه وحدد إشكالياته.. استمتع بفطور الصباح وهو يتطلع نحو الخارج الذي تظلله اغصان الأشجار التي تزدحم عليها اعداداً لا تحصى من طيور الحب الملونة المهاجرة، كما أنه قد استمتع فعلاً بهذه المداخلة والأفكار التي انتهت إليه.. إذ انه من المهم أن يتحقق عنصران مهمان، هما الحديث الرصين والإصغاء، الذي يحقق جوهر نجاح الحوار الحضاري بين طرفين.

وقبل أن يغادر صاحبة لموعد عاجل، ولفرط تركيزه الذهني الذي أثاره الحوار، شعر بشيء من الحاجة إلى التجوال في تلك الشوارع الخلفية الجميلة.. اشترى صحيفة الشرق الأوسط التي كانت تحمل عناوين مثيرة للجدل في عالم السياسة ، وبعد اكثر من ساعتين، توقف عند مقهى أنيق وهاديء اختار مقعده المريح في ركن منه يطل على فسحة داخلية تظللها شجيرة وارفة محملة بورود صغيرة بنفسجية رائعه ومتسلقات تملء الجدار الحجري، ويبدو أن المقهى هو أحد الدور القديمة قد تم تحويل واجهته ليكون مقهى بهذا الجمال، فيما كانت الموسيقى تصدح نغماً كلاسيكياً يبعث فعلاً على الهدوء والراحه.

وحين استسلم لهذا الهدوء، راحت مخيلته تقتحم عليه خلوته باصرار لتستعرض له شريطاً من الإنهيارات التي حلت بهذا العالم، وخاصة تلك النوازع والدوافع التي تظهر بأغطية هي لا تعبر عن حقيقتها.. مثل، الديمقراطية، وحقوق الإنسان، واحترام الرأي الآخر، والتعددية، والتوافقات، والأكثرية والأقلية، والمظلومية، وتوزيع الثروات، ثم الإسلام السياسي، والإرهاب، والتطرف والإعتدال.. وكل هذه المفردات قد تجمعت في تلك الصحيفة وفي يوم واحد.!!

وفي خضم هذا الكم الهائل من المفردات التي صاغتها مطابخ الغرب.. ضاعت الكثير من الحقائق، أو بالأحرى غطت تلك المفردات على مجموعة من الحقائق، مثل : الإحتلال سمي تحرير، وحركة التحرر سميت إرهاباً، وتقسيم المجتمع جاء تحت اسم الأكثرية والأقلية، وتحت مسمى حدود الأقليات القومية والدينية.. في الوقت الذي لم يعد الحديث عن الوطنية الحقيقية الجامعة المانعة المحققة لوحدة الأرض والشعب في القاموس السياسي والإعلامي.. أما حدود السيادة فقد تلاشت أمام مدعيات الآراء العابرة للحدود التي باتت تحت رحمة العولمة الإعلامية، التي هي تعبير عن العولمة الإمبريالية في كل أبعادها الرأسمالية.

هذه المفردات قد مرت كالبرق في ذهنه وهو يحاول أن يسترخي قليلاً ليريح تفكيره من عناء التركيز الذي تخلل الحوار مع الآخر العابر أيضاً للطريق.. ولكنه كان حواراً مجدياً وعميقاً.. هكذا إذن.. هي معطيات الهجمة الشرسة على الوطنية والقومية وحدود السيادة وحقوق الشعوب في حريتها واستقلالها الوطني.

شعر بثقل جفنيه المتعبين، وراح في غفوة خاطفة، استغرقت بضع ثوان معدودات وربما دقيقة مرت مسرعة استفاق على وقع اقدام كانت تتسلق السلالم الخشبية التي تحتل الركن الآخر.. وكانوا عدداً من الأشخاص مع إمرأة ذات قوام رشيق، ولكن الإغفاءة العابرة قد انتزعت من جفنيه التعب، إذ سرعان ما ذهب ليسكب على وجهه الماء في الفناء الخلفي، عندها شعر بالإنتعاش، وَهَمَ بالخروج إلى حيث الصخب الذي يملاْ الشارع.

وما أن شرع يسير حتى ظهر له شيء من مرتسمات ذلك الفهم للأشياء، التي تتحدث عن تصور الحقيقة وعنها في ذاتها، والعقل الإنساني يتصور هذه الحقيقة وهي معكوسة أو يراها ناقصة أو مشوهة وربما يرى فيها حتمية.. قد يرى في الأشياء حتمية.. الإنسان والطيور والشوارع والموسيقى والكلاب المسترخية عند مداخل المحلات الأنيقة والنوارس التي تحلق ولا تكف عن الصياح واصوات السفن المتنائية من بعيد والنساء الجميلات اللآتي يتحركن بغنج طافح بالجنس.. كل شيء في هذا المشهد قد يتصور أنه حتمي في وجوده.. الإنسان حتمية في كينونته الإجتماعية وهو حتمية في صيرورته الإنسانية.. ولكن حتمية الإنسان الوحيدة هي العدم  كما قال ” البير كامو” وخارج هذا العدم لا توجد حتمية في كل الأزمنة.. ولكن ما من شيء ثابت ليصار إلى الحتمية.. فالحتمية هي الموت والحياة معاً، وهي الوجود والعدم معاً في وحدة الوجود الكلية.. تلك هي الحتمية المطلقة.

ااآه.. يا لهذا التفكير الذي جعله يفقد أعصابه.. وأراد في تلك اللحظات أن يتخلص من تزاحم الأفكار وشظاياها التي تتناثر في فضاءات العقل كلما أمعن في التصور.. وقرر أن يحتسي قليلاً من الجعه في أقرب بار يصادفه على الطريق.

دلف في زقاق ضيق، نظيف وأنيق، وعلى يساره كانت واجهة لبار كل ما فيه يذكر بالماضي القديم وخاصة طبيعة الأخشاب والوانها الداكنة التي تمتص الضوء وترتيب المقاعد الجلدية ذات اللون البني التي تنزوي بمواجهة البار المزدحم بالكؤوس. اتخذ الركن القريب من الشارع.. وسرعان ما جاءه النادل وجاءته الجعه بعد ثوان أفرغها في جوفه وطلب زجاجة اخرى.. شعر بشيء من الهدوء والإرتياح حتى أنه بات ينظر إلى الأشياء التي تتحرك في الخارج وكأنها لا تثير اهتمامه بقدر اهتمامه بصفائه الذهني.

والغريب في الأمر، أنه نادراً ما يخالج الإنسان صفاءً خالصاً يستطيع من خلاله أن يرتقي بتفكيره إلى مستوى التركيز الذهني، حيث الإبداع والنتائج الصحيحة غير الناقصة وغير المشوشة.. وكما هو معروف، هنالك حشد من الأفكار الثانوية يتجمهر، عادة لتفكيك محاولة التركيز الذهني، بتداخلات تجعل من الفكرة الرئيسية ثانوية، وتبدد بنائها.. لأن لا فكرة أساسية إلا بصفاء ذهني خالص، ولا بناء فكري مركزي إلا بتركيز ذهني حاد يشترط الصفاء وفلترة الأفكار الزائدة.. ومن العبث الجمع بين الأفكار الثانوية والأساسية المحددة في البحث، على الرغم من أن الأمر لم يعد في جانب الجمع بين الرئيسي والثانوي، إنما المقصود هو، كيف يمكن أن يصل الإنسان إلى صفاء ذهني خالص خالٍ من شوائب الأفكار التي تقتحم عليه صفاءه في كل مرة وتشوش عليه تفكيره.؟!

غادر البار صوب الفندق الذي يقيم فيه على عجل، وحين وصل غرفته، أسرع إلى فتح الكمبيوتر لكي يطلع على بريده اليومي.. وكان فعلاً يضم عدداً من رسائل الأصدقاء وتقارير إخبارية ومقالات تتابع أحداث العالم المتسارعة، التي من الصعب متابعتها.. وكان هنالك كم منها تراكم حصيلة عدة أيام.. وكان عليه تصنيفها وحذف بعضها كالعادة.

انجز القسم الأول، وبعد أن خلع ملابسه وارتدى سروالاً وقميصاً مريحاً، بدأ بالرد على الرسائل، وكان عددها ست رسائل جاءت من اصدقاء أحدهم يروم مصادر لإطروحة الدكتوراه في علم الإجتماع، فيما كانت رسالة احدهم لم يره أو يسمع عنه منذ اكثر من عشر سنوات، وهو دكتور متخصص بالترجمة، يسأل عن أموره واحواله وصحته ويذكره بلقاءات سابقة لهما في بعض الدول الأوربية ، ويشير إلى أنه حصل على إيميله من أحد الأصدقاء حين زار احدى الدول العربية.. كانت رسالته قد أدخلت في قلبه البهجة فعلاً، وعبرت عن الوفاء الذي بات نادراً في هذا الزمان المليء بالجحود.!!

بعد يوم متعب، كان جسده مثقلاً بالإرهاق، لأنه قطع مسافات طويلة بين أزقة متعرجة فيها منحدرات حادة وجد صعوبة في صعودها ثانية عند العودة إلى منطقة تقسيم، فيما كان رأسه مثقلاً بالأفكار التي تحلق في مخيلته ، كما تحلق أكداس النحل على طبق من السكر، هذه الصورة الجميلة لا تفارق مخيلته أبداً  لواجهة أحد محلات بيع الحلويات في الشام.. لا أحد يستطيع منع النحل من الرحيق، ولكن تلك الأفكار كانت تستهدف التشويش واستبعاد أي محاولة للتركيز الذهني.

غط في نوم عميق، بعد أن انحدر بتفكيره نحو الغد الذي يحفه المجهول.. وحين استيقظ عند الساعة الثامنة صباحاً انتعش بحمام دافيء ارتدى ملابسه بعد ان تطلع من النافذة ليرى الشمس تسقط على حافات المبنى المقابل، فيما كانت أصوات المارة في الطريق تتعالى، تؤذن ليوم جديد.

***

د. جودت العاني

11 / 4 / 2024

في نصوص اليوم