نصوص أدبية
كريم شنشل: زمن المصلح

الكتب والبحوث أكلت عيونه في دورة العمر التي أمضاها بين كتب الفلسفة والأخلاق والشرائع والسلوك السوي، مضت به السنين حتى عاد بلا أسنان ولا عمل. في يومٍ ما فُتح له باب الحظ بعمل، فرح جدا، وفرحت هي معه كذلك، أخيراً سيخرج منْ كَرْبِ الأيام وعزلته وتقليب أوراق الكتب لرحاب حياة العمل، وتنال هي بعض الحرية أيضا. حين وصل ذلك الباب الملصوق في جدار منزل عالٍ في أحد الشوارع الفرعية من الشارع الرئيسي المكتظّ بالمحال التجارية والمتسوقين والمشاة بشتى النوايا، طرق الباب، فخرجت له امرأة تضع على رأسها "شال" أبيض يتدلى من الجانبين وتحته "شال" أسود يحصر رأسها ليغطي منتصفها تقريبا، وبيدها مسبحة طويلة ومن أصبعها الوسط في يدها اليمنى التي وضعتها على صدرها حين ردّت عليه التحية لمعت خرزة خضراء عاكسة لون الشمس:
- أهلا بك أيها الرجل الجليل قالت له:
- شكراً لك، أتيت طلباً لفرصة العمل التي أعلنتم عنها في الصحيفة المحلية.
- أهلاً بك، تفضّل إلى داخل المنزل.
في الممر الواصل بين الباب والمكتب أخذت تردّد كلمات الترحيب به ثم أشارت له بالجلوس بعد أن دخلوا المكتب. أخذت مكانها خلف طاولة مكتبها الخشبية ذات اللون الخمري الغامق، لوحة منمنمة لسورة يس بغلاف زجاجي، فوقها، زينت الجدار، وعلى جانب الجدار الآخر لوحة كبيرة من دون أيّ إطار، فقط لوحة ورقية لمنظر جبلي، انحدر منه شلال بمياه يشابه تطايرها لون الحليب، حلقت فيه بعض الطيور والماء نازلا متكسرا على الصخور الكبيرة، فيما غطّى البلاط بألوانه الزرقاء والبيضاء أرضية المكتب، الذي ملأ جوّه الهواء البارد الصادر عن جهاز التبريد على عكس ذلك الهواء الحار الذي يلفح الوجه في الخارج، جلس أمامها تماما يفرك بيدية متمتماً بالشكر، فيما هي تردّد كلمات الشكر والترحيب به بصوت عالٍ حين قطع خلوتهما رجل كبير السنّ دخل المكتب في تلك اللحظة بـ"صينية" وضع عليها كوبين من الشاي، وتوسطهما كأس من الماء، ساد صمت للحظات، كسره صوتها بحديث عام عن الحياة ومشاكلها والبشر وطبائعهم والجو وحرارته، وغيرها الكثير، فيما هو يجلس أمامها منصتاً، أضافت بغتةً:
- يمكنك البدء بالعمل لدينا من الغد، وبراتب جيد، وقدره سبع مائة دينار، تبدأ الدوام من الساعة الثامنة صباحا، وينتهي الساعة الخامسة مساء، ولك ساعة استراحة للغداء، وربع ساعة للإفطار، وجبتَي الطعام مجانية، يوم الجمعة يوم عطلة طبيعي، ولك إجازة سنوية لمدة شهر براتب مدفوع، فضلاً عن ستة أيّام مدفوعة أيضا كإجازات مرضية إن حصل أيّ مرض لك خلال عملك أو لأحد أفراد عائلتك.
امتيازات كثيرة برغم عدم معرفته لطبيعة مهماته اليومية، ولكن الامتيازات دفعته لإعلان موافقته على العمل والبقاء صامتاً مصغياً لها حين عاودت الحديث ثانية. نهض مودّعاً وروحه تنتفض من الفرح بهذا العرض المغري للقبول بالعمل.
يمضي يوم العمل في مكتبه ملتقياً بنساء زينَّ وجوههنَّ وسبلنَّ شعرهنَّ الذي يغطيه من الأعلى شال مفتوح مقصب بخيوط ذهبية، فيما خطوط كحلة العين تسرق النظر منه وتعمّق العين الأخرى، فيمضي يوم عمله وكأنه طبيب نفسي لهن، وجوه تتكرر، ووجوه جديدة، جلسات تنقطع وأخرى تتواصل، دموع وأهات في جلسات وضحكات بأصوات عالية وغنوج في أخرى، فيما هو يمضي يومه بالحديث الذي لا يقطعه إلا طقطقة خرز مسبحته، وأحيانا ضحكات غاوية أو مستخفّة من تلك النسوة، حتى حين يصل منزله، يكون قد فقد قدرته كلياً على الحديث مع زوجته، فيبقى صامتا متأمّلاً، والسؤال الذي يتكرر كثيرا بداخله هو ما هذا العمل؟ وما هو الخير الذي قالت له إنها تودّ تقديمه للناس؟ ذات يوم وبعد إفطاره في المكتب، وبعد أن تلذّذ بكأس من الشاي، طرق باب مكتبه، فنادى على الطارق بأن يتفضل.
فتح الباب، وطلّت من خلفه امرأة طويلة القامة، يزيّنُ قدها الممشوق فستان حريري أزرق غامق مفتوح من الجانبين حتى الركبة، وفتحةٌ الصدر بان منها وادٍ عميق، تلجلجت ضفتاه كفجر يوم مثلج وضاع في انحناءاتهِ خيوط بقايا ليل ينادي للعيون بالسهر، انحناء منحسر بين جبلين حتى المنتصف، وتباعد قليلا عن رقبتها منحسرا على أطراف كتفيها، وشال سمائي مقصّب بخيوط فضية وقليلا من حمرة الشفاه والخدين وكحلة عينين أضافت لعينيها وسعاً وعمقاً وسحراً…
- تفضلي استريحي…قال لها.
- شكراً لك يا حضرة.
- عسى أن يكون الأمر خيراً.
- سمعت بأنك تنصح البشر الالتزام بالشريعة، في هذا المنزل الذي نعيش نحن فيه، قالت له. اعتلت حاجبيه قليلا، وفتح فمه استغراباً بعض الشيء، وجحظت عيناه وهو يردّد بداخله، يعشنَ في هذا المنزل، جميعهن يا إلهي!!
- يمرّ علينا يوميا أشكال مختلفة من الناس قالت له الفقير، الغني، الطيب والشرير، فاعل الخير والقاتل، من يترك لنا ذكرى ومن نكرهه إن رأيناه مره أخرى، أو من نبكي غيابه إنها قسوة الحياة أيها الشيخ الجليل، أنت تعرف قسوة الحياة؟؟
ولابد لمن تعمل هذا العمل في خدمة الزبائن أن يحصل معها بعض القضايا الطبية وأخرى نفسية اِجتماعية، والتي لا تنتهي إلا بالجراحة، تعبتُ كثيرا منها أيّها الشيخ، لهذا أتيت لأسألك، وهنا تهدل فمه تماما، لو مرّ طير لدخله بيسر وليس ذبابة وسال خيط لعاب منه من دون أن يشعر إلى حين مدّت هي بيدها ومسحته بمنديلها، فيما يدها الأخرى توسدت بين فخذيه، لم تعود طقطقة مسبحته تسمع ولا تلك الجمل، جمل الاستثابة والاستغفار التي يردّدها بين الحين والآخر، فيما هي تلتصق به شيئا فشيئاً، حتى فاجأ الضوء طرق الباب القوي، حينها نهض على عجلة وصوته يرنّ في الجدران مسبحاً مستغفراً قائلا: يا ابنتي عليك الحضور لمكتبي في الأيام القادمة، وبذات التوقيت داعياً المولى أن يمنحك الصحة والعافية.
***
كريم شنشل
من المجموعة القصصية – نثار الروح.