نصوص أدبية

نصوص أدبية

فــي  شعاراتٍ العربْ

دائــماً تَــلقى الــعجبْ

*

رُبّما  المقصودُ عكسٌ

لستُ أدري ما السببْ

*

فــالــحكوماتُ تــفانتْ

شــبَّعَتْ بعضَ النُّخبْ

*

لــم  يَــعُدْ لــلشّعبِ همٌّ

غــيرَ  تشجيعِ الطربْ

*

أبــدعتْ  في مُنجزاتٍ

كــانَ أقــواها الخُطبْ

*

وجــهازُ الأمــنِ ضَبْعٌ

إنْ أتى الشّعبُ ارتعبْ

*

يجعلُ الأخرسَ يَحكي

بــلــسانٍ مِــنْ خَــشبْ

*

فــي أســاليبِ التّرَجِّي

عــلَّــمَ  الــناسَ الأدبْ

*

إنْ نَــطَقْتَ الحقَّ تغدو

جاحداً   وَدَّ  الشغبْ

*

والــعِــمَاماتُ ســتــارٌ

يــختفي  فــيها الأربْ

*

تــحــتها يــجثمُ لــصٌّ

وعــلى الــناسِ نصبْ

*

اجــعلِ الــقدسَ شعاراً

وتَــصَــنّعْ  بــالغضبْ

*

وارْتَــكِبْ كــلَّ شــنيعٍ

عــنكَ مــرفوعُ العتبْ

*

إنَّــما الــتاريخُ كِــذْبٌ

صــاغَهُ مَــنْ قدْ كتبْ

*

فــطريقُ  الــقدسِ حقاً

مــرَّ يــوماً فــي حلبْ

*

وإلــى  مصرَ عروجا

مــاسحاً  عنها الجربْ

*

نــازعاً نــابَ الأفاعي

بــعدها النصـرُ اقتربْ

*

أيُّــهــا  الأنـــذالُ تـــباً

يــا مـجاهيلَ الــنَّــسبْ

*

قـــد تــورَّطتُمْ بــذنـبٍ

و غَــطَــسْتُمْ لــلرَُكَـبْ

*

كــلُّــكمْ عَــبْدٌ ومــولى

عــندَ أصحـابِ الرُّتَـبْ

*

دَورُكُــمْ مِــثْلَ المطايا

حُــمِّلَتْ  بعضَ القُرَبْ

*

كــلُّــكــمْ زوجٌ لأروى

حَــمَلَتْ  يــوماً حطـبْ

*

فــلها  فــي الجِّيدِ حبلٌ

ولــكــمْ  مــليونُ تــبْ

*

لا يــظنُّ الــعِلْـجُ إنِّــي

مُــســتهينٌ بــالــعربْ

*

إنَّــما الــعُرْبُ رؤوسٌ

ارتــقــى فــيهم ذنــبْ

*

قد  يعاني الرأسُ يوماً

مِــنْ صُــداعٍ ووَصَـبْ

*

عــندما يَــشْفى ستلقى

كــلَّ فــأرٍ قـــد هــربْ

***

عبد الناصرعليوي العبيدي

 

تعـــــــــــــــــــال يا قمري

نتلو آيــــــــــــاتك:

آنـــــــــــــــــــــــاء العشق..

وأطرااااااااااااف الغــــرام !

*

دكان بَسْمَتي مفتوحاً...

وسِلْعَتي

ينقصها الكلمة !

*

بالأمس – وأنا - في ضيافة

(غالب بن صعصعة)...

بال (الفرزدق) على

بنطلوني الحديث الموضة

كبراً

وغروراً

وتعالياً

فَغَسَلتُهُ بــ(الدامِغة)!

*

تنوين اصطيادي

بصنَّارة ِعينيك ِ

ما (الطُعْم ُ) إذنْ !

*

ضيقي بضيقِ الضيقِ

أضيقُ من مضيقٍ

ضاقَ من ضيقٍ

يضيقُ بهِ الممرْ !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

حالة

حين اقتربت منه،

لاحظ (الميكاريوف) على وسطها،

أخفى الوردة،

وتشاغل بتنظيف البندقية.

*

امرأة

استشهد زوجها،

كبحت جوعها،

واكتفت برسائله.

أكلتها، ورقة، ورقة،

حتى صارت شجرة.

*

وصية أم

كانت أمي توصيني دوما:

يا ولدي، أحذر ... أحذر

لا تعط ظهرك للريح،

أسنده إلى صخرة أو كتف رفيق.

تحية

لعيني رفيقة، ودعتني وهمست:

ـ كن حذرا، يجب أن تعود لنا!

سأطلق نصف رصاصاتي.

*

تشابه

البنا ...  ت

والبنا... دق

يتشابهن ...

في استدارة العيون ودقة التسديد!

*

أمنية

لو تدرين أميرتي ما أريد؟

آه لو تدرين...

أن نعود صغارا، حفاة،

يد بيد، نطرق أبواب المدينة،

و(ماجينه .. يا ماجينه)

من النوافذ نهرب،

تتلقفنا المقمرات الليالي،

و(يا حوته يا منحوته،

هدي كمرنا العالي).

***

يوسف أبو الفوز – كردستان

١٩٨٢ ـ ١٩٨٨

 

عندما ولد ابنه الاول والوحيد، حمله فرحُهُ الى نافذة غرفة الولادة، وبينما هو ينظر الى العالم الفرح البسام، جاءه صوت زوجته من ورائه:

- ماذا سنسميه؟

ارسل نظره الى المناظر الغناء المحيطة بالمستشفى، متابعا بنظره هناك عددا من الخيول تنعم بالحياة وسط الاعشاب الخضراء، توقف نظره عند حصان اسود غطس، فرد على زوجته دون ان يلتفت نحوها:

- ادهم.. سنسميه ادهم الغيهبي.

حمل المولود اسم الغيهبي، بعد يوم او يومين.. توجه به والداه الى بيتهما هناك نعم بالحياة السعيدة في غرفته المزينة الفريدة،.. وكان اول سؤال وجهه الى والديه، والدِه بالتحّديد، عن معنى اسمه، وعندما اجابه ابوه انه الحصان الاسود شديد السواد، لمعت عينا الصغير، وراح يمشي في الشارع مثل مهر حديث عهد بالحياة. ما لفت الانظار اليه وعزز في ثقته بنفسه، وجعله يحب الخيول، خاصة العربية الاصيلة، حبا يستعصي على الوصف، وكثيرا ما كان الغيهبي يحلم في الليالي الغافية حول سريره، بانه يعيش بين الخيول، ويركض وراء حصان اسود، يمسك بلجامه ويمتطيه جائبا الدنيا به طولا وعرضا. وكان الوالدان كلما لمسا ما في قلب ابنهما من مدى هذا الحب للخيول، لمعت عيونهما وارسل كل منهما نحو الاخر نظرة رضا ومحبة.

كبر حب الغيهبي للخيول ساعة اثر ساعة، يوما بعد يوم وسنة تلو سنة، وعندما بلغ السابعة من عمره، حدث ان تواجد مع والديه خلال لقائهما بصاحب حظيرة للخيول، فابتعد الغيهبي عن الجميع، واقترب من حصان اسود، ناسيا المحيطين به ومركزا في بؤرة باتت محط امله وطموحه. في الحصان. في هذه الاثناء اقترب الوالد من ابنه بخفة من لا يريد ان يقلق من قبالته، وسال ابنه:

-الى هذا الحد تحب الخيول؟

فرد الغيهبي وهو يركز نظره في الحصان وراء حاجز الحظيرة قبالته:

-هل يسمح لي صاحبه ان المسه؟

لمعت عينا الوالد فرحا بوليده، وتوجه الى صاحب الحظيرة ليطلعه على رغبة ابنه، ابتسم صاحب الحظيرة وهو يفتح الحاجز ليدخل جوان وليقترب من الحصان الاسود بخطى ولي عهد حظي بالعرش للتو، وراح يلامس الحصان بخفة مُحب يود ان يشبع من ملمس محبوبه.

في طريق العودة الى البيت، ظهر اهتمام الغيهبي الجنوني بالحصان الاسود واضحا جليا، فما كان من والده الا ان نوى ان يصطحبه في نهاية الاسبوع الى بلدة مجاورة ليتعلم هناك ركوب الخيل. وفي نهاية الاسبوع كان ابناء الاسرة الصغيرة الثلاثة، الغيهبي ووالده ووالدته، في حظيرة تأجير الخيول، وما ان اتفق الوالد مع صاحب الحظيرة على ان يستأجر الحصان الاسود مدة قصيرة من الوقت، حتى امسك الغيهبي بلجام الحصان وركض، به محاولا ان يمتطيه، فعل هذا وسط اندهاش والديه وصراخهما المكتوم، وحصل ما توقعه الوالدان، الحصان جمح راكضا ولم يتمكن الغيهبي من امتطائه ربما لقلة خبرته.. وربما لرغبته الجامحة المجنونة. بعد عدد من المحاولات، تمكن الغيهبي من امتطاء الحصان الاسود، وانطلق في المدى المفتوح امامه ما جعل الوالدين يمتلئان فرحا وحبورا، غير ان فرحهما توقف فجأة ليريا الحصان وقد اطلق صهلة غريبة.. انتصب على قائمتيه الخلفيتين واوقع فارسه.

النتيجة كانت ان يد الغيهبي قد كسرت، في اول فعل حصانيّ له، غير انه ما ان تشافى وتعافى، حتى نسي ما حدث، وتمكن من اقناع والديه المحبين ان ما حدث، ما هو الا امر طبيعي، بل انه استعمل كل ذكائه في اقناعهما بما قاله لهما، متوسلا حينا بوعي وآخر بغير وعي، بقصص واقعية واخرى متخيلة وقعت لأناس عرفهم حينا واخرين تخيلهم حينا اخر، كسرت أيديهم او ارجلهم خلال امتطائهم الاول للأحصنة.

مضت السنوات، بطيئة لدى الغيهبي، وسريعة لدى والده المشغول بتوفير الحياة السعيدة له ولابني اسرته الصغيرة، الغيهبي  وامه، الى ان روى الغيهبي حكاية اختلقها من بنات خياله، وقرر ان تكون نافذته الى ما اراده وتمناه منذ اليوم الاول لتفتح وعيه، حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره. خلال احدى سهرات الشتاء الطويلة، روى الغيهبي لأبيه وامه خلال مداعبة الكرى لعيونهما، حكاية مفادها ان اثنين من اترابه عشاق الخيول العربية الاصيلة، تمكنا بمساعدة اهلهما من شراء حصانين رائعين، وهنا انتبه الوالد من غفلته وسال ابنه ما اذا كان يود ان يكون ثالث الاثنين المشار اليهما.. فهز الغيهبي راسه ان نعم. فما كان من العالم حول ابناء الاسرة الصغيرة، الا ان اهتز قليلا فمن اين يأتون بثمن الحصان، لا سيما ان الاحصنة خاصة عربية الاصل لها سوق.. وباهظة الثمن؟ غير ان العالم ما لبث ان عاد الى هدأته السابقة، كان ذلك عندما رسم الاب خطة مالية محكمة لشراء الحصان الاسود لابنه الغيهبي، ووقف في مركز هذه الخطة سؤال مركزي وجهه الوالد لنفسه ولابني اسرته الصغيرة، الغيهبي وامه، مفاد هذا السؤال هو اننا سنعيش في السنوات المقبلة حالة استنفار بانتظار ان نحقق حلم ابننا وحامل اسمنا الغيهبي.. بماذا يستطيع كل مما نحن ابناء الاسرة الصغيرة ان يساهم من اجل انجاز شراء الحصان الاسود.. وعندما ادلى كل من ابناء الاسرة بما يمكنه التنازل عنه: الاب سيتوقف عن التدخين وشراء السجائر مرتفعة الثمن، الام ستدخر كل ما بإمكانها ادخاره عبر خطة تدبير منزلية صارمة، الغيهبي سيكتفي بربع مصروفه اليومي.. عندما توصل ابناء الاسرة الصغيرة الى هذا الاتفاق، انتشرت الابتسامات الحقيقية على الوجوه.. لا سيما على وجه الغيهبي.

ابتدأ الجميع بتنفيذ هذه الخطة، وكانوا يجتمعون في نهاية كل سنة متسائلين عما توفر لديهم من المال لشراء الحصان الاسود الموعود. في نهاية السنة السادسة زف الوالد لأبناء اسرته انه تمكن من ادخار مبلغ اقل بقليل من المبلغ المطلوب لشراء الحصان، فساله ابنه الغيهبي عما ينوي فعله؟ فما كان من الاب الا ان قضى الليل مفتحا عينيه.. ضاربا الاخماس العربية بأختها الاسداس..، وتوصل الاب قبل صياح الديك، الى انه سيزور من فوره حظيرة الخيول وسوف يطلب من صاحبها ان يُقسّط له ما تبقى من ثمن الحصان الاسود. ما ان وصل الاب الى حظيرة الخيول حتى شرع صاحبها بالترحيب المبالغ به. وكان ان اتفق الاثنان، على ان يدفع الوالد ما ادخره من مال ثمنا للحصان الاسود على ان يقسط المبلغ المتبقي مدة سنة.

اقتاد الوالد الحصان الاسود وسار باتجاه بيته، في محاولة رائدة لمفاجأة ابنه الغيهبي بحلم حياته. عندما اشرف الوالد المبتهج على الوصول الى بيته، فوجئ بابنه الغيهبي بانتظاره خارج البيت. احتفل الاثنان بإنجاز حلمهما المشترك الكبير، بعد لحظات امتطى الغيهبي حصانه وانطلق به في الفضاء الرحب. تاركا والده وراءه يكاد يطير من شدة فرحه بابنه الفارس العربي الهمام.

انطلق الغيهبي بحصانه تاركا لها الحبل على الغارب، لتصل الى ما تحب وتود من امكنة، وراح الحصان يسابق الريح، فيما يملأ الفرحُ قلبَ فارسه ويفيضُ من عينيه.. وفجأة ظهر له جناحان فحلق بهما طائرا الى ان هبط قريبا من حظيرة تقبع في ظلام رومانسي شحيح..، توقف هناك الحصان، ليقترب من فرس تشبهه بصورة لم تركب على عقل صاحبه الغيهبي، حتى انه تساءل، من اين جاء كل هذا الشبه بين حصاني وتلك الفرس. دخل الغيهبي وحصانه الى حظيرة الفرس المحظوظة، لينعما بأجمل اللحظات بعيدا عن العالم وما فيه، وبعيدا عن الجميع.. بمن فيهم والداه المحبان.. المتيمان عشقا.

***

قصة: ناجي ظاهر

خرج متثاقلاً من بيت الشراب بعد أن أنفق فيه كعادته كلما يملك، وسار بخطى متعثرة في تلك العشش المجدبة التي لا توجد بها بيوتاً قائمة، أو شوارع منظمة، نحو بيته المتداعي الخرب الذي يسكن فيه وحده، في أحد أحياء مدينة "الدمازين" البائسة، كان إدمان "محمد عبد الوهاب" الشهير "ببرينسة" على شرب "العرقي" آفة من ضمن الآفات الكثيرة التي تضطرب بها حياته، ولقد زادت هذه الآفات على مرّ الأيام بشاعة ونكرا، وأكبر الظن أن هذه الآفات قد سايرته في حياته منذ أن غاب عنها شبح تلك الجميلة، النحيفة، الضئيلة، التي رفض والدها أن يزوجه إياها، لقد عذبته هذه العاطفة عذاباً شديداً، وأصطلى بنارها المحرقة، وأضناه هذا الصد الذي انتهى به إلى طرق شائكة يحفها الشوك، لقد كان ينتظر من والدها الذي أمضى ربع عمره في الحبشة، شيئاً آخر غير هذا الصد، والشيء الذي نرجحه ونوشك أن نقطع به، أن "برينسة" لم يطوف في ذهنه أبداً أن يرفض "عصام سراج" والد" خدوج" زواجه منها، لأن "برينسة" تغاضى عن حقه في الميراث، فعمه "عصام" قد استأثر بكل نصيب والده، وبدده في نزواته التي لم يتطهر بعد من أوضارها وأدرانها، ولأن "برينسة" طيلة فترة غياب عمه في الحبشة، كان هو الذي ينفق على عائلته في سخاء واسراف، و"خدوج" الطفلة العذبة الجميلة التي كبرت أمام مقلتيه، والتي كانت تؤثره بحبها دون غيره من الناس، والتي كان يتضاءل قوامها السمهري ويتقاصر، أمام عنفوانه الجامح في خلواتهما، التي كانا ينفقان فيها بقية الليل كما أنفقا أوله في لثم، وعناق، وضم، هاهي "خدوج" ترفضه وتغالي في رفضه، وتقسو عليه، وتمعن في هذه القسوة حتى تبلغ بها أقصى غاياتها، لتقسم جهد أيمانها أنها لن تتزوج غير بن خالتها الغني، الفرح، المرح، القادم من "الحجاز" خصيصاً ليكمل زواجه منها، ويمضي بها معه، و"محمد الشهير ببيجو" بن خالتها الذي لم يكن يعنيه أن يقبل" برينسة" هذه الزيجة أو يرفضها، أو يرضى عنه "برينسة "أو يسخط عليه، لم يطيل الوقوف، أو يطيل النظر، في هلع "خدوج" وجزعها من تهديد "برينسة" لهما، فقد أخبرهما في أصيل يوم شاحب، بحضور "عصام" عمه في ووضوح وجلاء، بأنه لم ينفق على ابنته، ويتسع في هذه النفقة، ليأتي "بيجو" بعد كل هذا البذل، والتعب والعناء، ليتزوجها ويمضي بها بعيداً، ويتركه لهذا الحزن اللاذع، والألم الممض، والأسى العريض، وأسمعهم أحاديث رعناء ملتوية، جعلت القلق والحيرة تعصفان بخدوج وأبويها، وقال لهما "برينسة" في بعض ما كان يقوله:" أنه ينتظر من عمه "عصام" أن يوافق على زواجه من بنته دون قيد أو شرط، وإن تمسك عمه "عصام" بالرفض، فإن خياله الضيق المحدود لن يسعفه بتصور الأحداث والخطوب التي سوف يجريها هو عليه، وما يستتبع هذه الخطوب من شدة وقهر، لقد أخبرهم "برينسة" في صوت هادئ عميق، أن رفض عمه سيتيح لهم أن يروا له وجهاً مغايراً لما ألفوه وعهدوه عنه، وأنه سيظهر لهم هذا الوجه بصورة واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض، إذا لم يرضخوا لما اقترحه عليهم.

مضى برينسة لحال سبيله، ومضى بيجو السعيد النشوان يكمل ما بدأه من ترتيبات زواجه، وسار عصام سراج كعادته نحو بيت من البيوت التي تباع فيها الخمور البلدية في أقصى نواحي القرية، وجلست خديجة تحادث والدتها والخوف يدنو منها ويخلط نفسه بها، وربما كان من الحق علينا، أن نسجل هذه الحركات التي تدل على أن خدوج تهاب برينسة وتخشاه، وأن هذا الخوف قد تعدى اطار اليقظة ليطارد المسكينة في نومها، فما أن تأخذها سِنة من نوم، إلا عبثت بها خواطر خشيتها من برينسة، فتنتبه من نومها وهي مذعورة أشد الذعر، و لا تكاد تستطيع أن تسترد روحها النافرة الجزعة إلا في مشقة وجهد، وبرينسة في المنام غير برينسة الذي كان تألفه وتهرع إلي غرفته في دياجير الليالي، لتستقي من حبه وعنفوانه، فأحلامها تصور لها بن عمها بأنه صاحب نفس بشعة، وقلب قاسي، وسيرة منكرة، وأنه لا يريد شيئاً في هذه الدنيا غير تعاستها، إذن باتت شخصية برينسة البشعة في عالم أحلامها، هي التي تسيطر عليها وتتحكم فيها، وخدوج التي لا حظ لها من قوة، ولا قدرة لها على مقاومة هذا الخوف، أرسلت إلى بيجو أن يأتي إليها، وأن يأتي إليها في عجل، وتساءل بيجو ترى ما هي الحاجة الملحة المشتدة في الالحاح، التي تحتم عليه أن يترك سفره للعاصمة، ليستمع لهذه الفلسفة المسرفة في التشاؤم والاستسلام؟ ولما تدبر في عاقبه ذهابه، انتهى به الأمر إلى سأم كاد ينتهي به إلى أن يمضي في سفره، لولا أن تفاجأ بحضور خديجة إليه في منزله، وابتهج بيجو النشوان بمقدمها، وتهيأ لأن يستوفي حظه من لذة العبث والمجون بأكبر قسط مستطاع، إلا أن خدوج ردته في عنف، وبيجو الحريص على أن يلم بهذا الجمال، بات يرى أن فؤاد محبوبته من أفرغ الأفئدة، وعقلها من أسخف العقول، لأنها لا تطنب إلا في هذه الأحاديث الشوائل، طلب منها بيجو في كثير من الرفق واللين، أن تريح نفسها من هذا العناء المهلك، وأخبرها أن مثل هذه التهديدات شائعة مألوفة في دنيا الحب، وأن وعيد برينسة له، لم يزده إلا قوة، وقوة على اكمال هذا الأمر، ومضى بيجو مندفعاً في نحو هذا الكلام لا يلوي على شيء، ولا يثنيه عن الحديث شيء، حتى استمالت له خدوج، وتخلت عن بعض خشيتها، و أظهرت له هذه الحدة والحرارة، التي أسعدته بها في زيارتها السابقة، ولكنها عادت لما يتمثل فيها من عيوب وخلال، لتحتدم مع بيجو، طالبة منه أن يرتفع عن هذه اللذات الآثمة، وأن يفكر معها في كيفية التخلص من كوابيس برينسة، وخدوج التي كانت ترى أن عقل بيجو حافلاً بصغائر الأمور، مصروفاً عن عظائمها، لم تجد مشقة من أن تظفر بقدر ضيئل من المتعة تعيد إليها شيئا من توازنها النفسي، وتجعل بيجو الذي لا يسكن إلا ليتحرك، ولا يستقر إلا ليضطرب، ولا يهدأ إلا ليثور من جديد، يحس بشيء من خوفها وذهولها، ويشجعها على تجاوزه، أخذت خدوج تكفكف من عبراتها، وبيجو يأمنها تأمين الخائف، ويطمئنها تطمئنة المذعور، حتى ثاب إليها شيئاً من اتزانها، وتركها بيجو حيناً ليفرغ من حزم أمتعته، كانت خدوج جالسة على حافة السرير، وهي تعبث بجدائلها، وترقب بيجو الذي ما أمضاه معها في عبث يكفيه أن يقضي سائر يومه هادئاً راضياً، لقد أوشكت خدوج وهي في منزل بيجو، أن تستقبل أول النهار وهي فرحة، مرحة، لولا تناهى إلى سمعها صوت بكاء حار قادماً من تلك الناحية التي فيها دار عائلتها، ولم تلبث إلا قليلاً حتى أتاها الرسول الذي قطع عنها لحظات التوجس والخشية، ليصدمها برحيل والدها، لقد مات عصام سراج بعد أن استيأس من إدراك التوبة التي تطهره من دنس الذنوب، وفي الحق أن سراج لم يمعن يوماً في الضراعة، أو يلح في الدعاء، حتى تتجاوز هذه الابتهالات الصادقة حجب السماء، كلا، لم يحدث شيئاً من كل هذا، هي مجرد توبة تحدثت بها نفسه، ولكنها لم تنهض على ساق، وكان سراج يخفي من أمرها ما يستطيع، ويبالغ في هذا الاخفاء، فلم يتحدث بها لندمائه إلا لماما، لقد أهمل سراج سبل التوبة وكان من الحق أن يسلك دروبها، ولكنه اختار أن تمضي حياته بمعزل عنها، و أن يظل طرفه الوسنان لا يحدج إلا الصهباء التي لا يحول نظره عنها إلى يمين أو شمال، والخمر المدسوس إليها شيء غير قليل من السموم، هي التي أودت بنهايته على كل حال.

لقد نهض برينسة بواجب العزاء، وتكلف بكل مصاريفه، وظل طيلة أيامه لا يستريح ولا يعرف الراحة، ولا يطمئن ولا يميل إلى الطمأنينة، ومضى يضطرب في الأرجاء، يستقبل الوفود، ويقف بنفسه على كل التفاصيل.

حتى إذا انقضت أيام العزاء، التفت إلى بنت عمه وقد بلغ الحزن منها ومنه أقصى مبلغ، وأخبرها في حنو وعطف أنه يعتذر عن رعونته السابقة، وأن وفاة عمه أجبرته أن ينكر هذه التصرفات السخيفة التي بدرت منه، واعترف لها بأنه ما زال يحبها، ولكن حب روافده هي الرحمة، والحنان، والمواساة، وليست العاطفة ولا الشعور، وقال لها أنت عندي مخطوبة وستتزوجي قريباً من رجل غني، وقد أدهش هذا التغير المفاجئ خدوج وأمها، وأدهش بيجو النشوان أيضا، ومضت الأيام رتيبة ثقيلة، حتى انقضت أول سنة على رحيل عصام سراج ولم يحدث طيلة هذه السنة ما يريب خدوج من بن عمها، فهو لم يلقي التحية عليها إلا وهو كاره، ولم يتحدث معها إلا وهو مضطر، وعاد بيجو النشوان من اغترابه ليستأنف حياته الغرامية، وليتزوج ممن نأى عنها بعد قرب، عاد بيجو ليظهر هيامه بخدوج ليثيرها من جهة، ويثير سخط بن عمها برينسة من جهة أخرى، كان بيجو مرتاباً في برينسة، شاك فيه أشد الشك، فكيف يضحي بخدوج الجميلة التي آمن بحبها، كيف يتنازل عنها بهذه البساطة، خاصة بعد أن آلت إليه الأمور بعد وفاة والدها سراج، كان بامكانه أن يتزوجها رغم رفضها وأعراف البلد، وعاداته وتقاليده تمكنه من اتخاذه هذه الخطوة.

أراد بيجو الفرح النشوان الذي لم تبقي له أقداح الراح شيئاً من رشد أو صواب، أن يمضي في عبثه، ويندفع في دعابته، مع خلانه الذي أتوا معه في نفس الباخرة، ولكنه آثر أن ينال قسطاً من الراحة، يكفل له تحمل عناء السفر إلى قريته الواقعة على مشارف الخرطوم، قاد بيجو سيارته التي انتهى من تخليص أوراقها اليوم، ومضى بها مسرعاً في طريقه إلى الفندق الفخم الذي يستأجر غرفة فينانة فيه، ونسيم الثغر الحبيب ينشر على نفسه وعلى الأشياء من حوله باقة مزدانة من التفاؤل، والبهجة، والسرور، وبيجو الذي كان يحتاج فعلاً أن ينظم أفكاره وآرائه حيال موقف برينسة من زواجه، لم تبلغ رحلته إلى غايتها، فبيجو النشوان لم يصل قط إلى غرفته، ولن يصل قطعاً إلى خدوج محبوبته الجميلة التي طال شوقه إليها وشوقها إليه، فثمة شيئاً غريباً قد حدث،لقد كان بيجو يحدث نفسه الشاردة تارة، وتارة أخرى يغني بصوته الأجش المبحوح، وفجأة أبصر أمامه شاحنة ضخمة ثقيلة الوزن، بطيئة الحركة، فضغط على كوابح سيارته حتى يتفادى الاصطدام بتلك الشاحنة، ولكن تلك الكوابح ليس لعملها من سبيل، فقد عبثت بها أيادي محترفة من أجل أن تقصي قائد هذه المركبة عن الوجود، وقد نالت هذه الأيادي نظير هذا الصنيع أكثر ما نالته بائعة الخمر التي دست السم لعصام سراج، لقد أخذ برينسة نفسه بضروب النشاط العقلي حتى وصل لهذا التدبير، إذن برينسة الذي دُفِع إلى هوى خدوج دفعاً، وهام بها هياما، لم ينسى لذته ومتاعه معها، وعجز أن ينسى نشاطها وكسلها، وتهدج صوتها وحركاتها، ولم يبرء من سهام لحظها، لأجل كل هذا أفسد برينسة ما بين الناس من صلات، وأهدر حياة كان أصحابها بيتغون أن تأخذ بحظها من العيش ولا تكون ضحية لعدوانه، لم تشيع في جنبات روحه الرحمة لهؤلاء المساكين، بعد أن تحققت صلاته مع البغضاء، واستوثقت علاقاته مع السخائم والأحقاد، وذهب بحريته إلى غير مدى، وبرينسة الذي لم يؤخذ بظن، أو تلحقه ريبة من خدوج وأهلها مضى مشيعاً جنازة بيجو، ويظهر الحزن، ويتكلف اللوعة على موته، وبعد أن عاد إلى مقر العزاء تحلى بصمت كاذب حاد بينه وبين الحركة والنشاط، ولكن كارثة حدثت أخرجته عن الصمت إلى الأنين والبكاء، ثم إلى العويل والصراخ، لقد انتحرت خدوج، لم تقوى على العيش والحياة بعد أن مات من كانت تركن إليه، وتلوذ به، لقد كانت حياتها غنية بالحب، وبالحبيب الذي وعدها وألح في وعده بأنه سيعود إليها، وأنه سيرعاها ويحتفي بها، ويطوف بها أصقاع الكون، لقد أيقنت خدوج أنها لن تستطيع أن تصمد أمام هذه الخطوب المتصلة، وأن ترضخ لهذه الحياة الخاملة التي لا يوجد فيها شيء غير الفجيعة والوجوم، لقد ذهب عنها الحب، وغادرها الحبيب إلى غير رجعة، إذن لابد من الانتحار، وخدوج انتحرت في سرعة وعجل، لم تنتظر طيف انتحارها ليداعبها وتداعبه، ويغاضبها وتغاضبه، ثم يراضيها وتراضيه كما يقول الأديب الأعمى، بل ألحت عليه، وأمعنت في الالحاح حتى رضخ لها، لقد قطعت خدوج شرايينها بعد أن أوصدت بابها، وأحكمت اغلاقه، ثم أغلقت عيناها في هدوء، وبرينسة الذي لم يرفق بهذه الفتاة أو يرحمها، كان ينتظر أن ينتصر وأن يسود، وأن يعيش مع خدوج عيشة هادئة بعد أن تشفى من حزنها على فراق حبيبها بيجو، كان برينسة يهيئ نفسه لمواساتها وعونها حتى يندمل جرحها، هو الآن أجدر بهذا العون، وقمين بهذه المواساة، أمسى برينسة ينفق يومه في الحسرة، والندم، والأحلام المروعة، وقرر أن يترك قريته ويمضي للحبشة، حتى ينقضي عمره فيها، ولكن الحرب التي كانت مشتعلة بين الجيش وقوات التمرد في الكرمك الحدودية، هي التي أجبرته أن يبقى في الدمازين حاضرة ولاية النيل الأزرق، وفي الدمازين احترف برينسة بيع التبغ، وما زال برينسة يبحث عن خليل يذود عنه الحزن، أو مومس ترد عنه البؤس، أو كأس ينسيه مرارة الذكرى.

***

د. الطيب النقر

 

في النصف الأول من الستينات من القرن الماضي وفي القطاع الشرقي من برلين وعلى كتف الشارع الجميل (تحت أشجار الزَّيزفون Unter den Linden) تقع مقهى الصحافة Presse Café التي:

يرتادها الوزيـرُ والأجيـر،

والصَّحفي والطالبُ الفقيـر،

تغصّ بالصَّـبايا الملاح،

يأتـون من كل حدب وصوب،

يتـنادمون ويشربون ويضحكون.

كان جالساً مطرقاُ يفكـر في وطنه

الذي اغتاله الـفاشـيّون والتتـر.

جلس إلى جنـبه صحفي ألمـاني،

نظر إليه ملـيّـاً وسأله:

من أيِّ بلد أنت؟

أجـابه الكـئـيـب:

من العراق!

أنـا من العـراق

من بلد الدّمـوع والضَّـحايا

أنـا من الأرض التي يعـمُّـها

الضَّـبابُ والظَّـلامْ

وتـُحـجَـزُ الآراءْ

حـقَّـتْ عليها لعـنة ُالسَّـماءْ

فنَـضَـبتْ مياهـُها وذبَـلـتْ أزهـارُها

وغاب عن حقـولِـها المـطـرْ

فاصفَـرَّ فيها العشبُ ينعى حظَّـه الكئيبْ

وزاغ في سمـائـها البصـرْ

فتمتمَ الآخـرُ مُستـفـهماً:

وكيف حال المـرأة الفـتَـيِّـةْ؟

هـل تعـملُ؟

وهـلْ تُـرى تخـرج في حـريّـةْ؟

في الحقل أم في مصـنع ٍتشـتـغـلُ؟

أجـابَ: ليس كلَّـهُـنَّ ؛

إنَّ لنـا تـُراثـَنـا العتـيـدْ

ومجـدَنـا المُـخَلـَّد التَّليـدْ

أجـابَه:

يا سيِّـدي إنَّ الذي تـقولُ

ليس له من صحـِّةٍ أصولُ

فَلوْ لديكمْ كانتِ المعـاملُ

وانتعشتْ بمائـها الخمائلُ

وغمَرَتـْكمْ سُحُبٌ هواطلُ

لكسَرتْ قيودَهـا العوائـلُ

لكنَّـكمْ تـُعوزكمْ صـناعةْ

فأطرق المسكين في قناعـةْ

*

وبعد أن جاءتْ عقود أربعةْ

مـرَّتْ ككابوس على العراقْ

فأظلَمتْ سماؤُه وغارَ فيها ماؤهُ

واسـودَّتِ الآفـاقْ

وبعد أنْ تحطَّمتْ سلاسلُ الأعناقْ

لمْ يجـدِ العراقُ مـا قد ضيَّـعَـهْ

فتـاهَ في الآمـال والأحلام ْ

وجاءت الذِّئـابْ

تـفـتـكُ بالأشجار والبشـرْ

وتطَـأ الحـقـوقَ بالأقـدامْ

ونصّبوا حاشيةً تخشى من التـفكير والكلامْ

فتـبعـث الأوهـامْ

فَهُضِمَـتْ حـقـوقُـها، المرأةُ الجميـلة

لذا على الدَّوام طاح حظّـُـنا

لأنـَّنا دومـاً بساق ٍواحـدةْ

لأنّنـا بأذرع ٍ يتيـمةْ

نحـارب الأعـداءْ

ونـقبـل الهزيمـة

نعـرُج في مِشـيـتِـنا لا نبلغ الأهـدافْ

وغيرُنـا ينـتـزع الدّ ُرَّ مـن الأصدافْ

فـهلْ رأيتمْ طائـراً يطيـر في السـَّماءْ

وذا جنـاح ٍ دبَّ في عـروقها الفنـاءْ؟

نسـتـرق السَّـمعَ بأ ُذنيْ فرس ٍ

ونـنظـر الدّنـيـا بعين حاقـدةْ

وهـل سمعـتمْ مرة بامرأة قد أحرقتْ بلادَها

وقادتِ الشَّعبَ إلى العَـفـاءْ؟

لا تظلموهـا! إنَّـها زوجتُـكمْ

وإنـَّها أمّكمُ واخـتُكمُ وابنتـكمْ

يا من بكم قد فاخرتْ صحائفُ الظَّلامْ

يا من بكمْ قد بُـلِـيَ العراقُ والأنامْ

كان لنا يوماً زعيمٌ طيِّـبٌ

أراد أن يحتطـبَ النجومْ

ويَخطِـفَ القمـرْ

ليـُسعِـدَ البشـرْ

أراد أنْ يـُحرِّرَ المرأة من قيودهـا

وينسفَ القـدرْ

لكنـَّهم، عنـاصرَ الظَّـلام والتتـرْ،

قد ذبحـوا الصَّـباحَ من وريـدهِ

واقـتـلعوا الأشجـارَ من جذورها

وعصـفوا بالروح والحياةِ

وأحرقوا الغـاباتِ

ورجعوا بالبلد المنكـوبْ

إلى عـهود غابـرةْ

مُـخضَّـباً بالدَّم والنّـدوبْ

وأسدل الظلام أستاراً على العقول والفِـكَـرْ

وكان للمرأة حظ ّ عاثـرٌ

مُـذْ أ ُسْـدِلَ السِّتـار !

***

د. بهجت عباس

آذار 2004

......................

* من مجموعة (زنابق السّنين، فيشون ميديا، السويد 2009)

مع ترجمة  الدكتور يوسف حنا فلسطين

***

لم نجد أحدا

لم نجد بيتنا القديم

أقواس الدموع السوداء

زيزان شجرات الكاليبتوس

لم نجد ذهبا ولا حصان العائلة

لم نجد وردا في الحديقة

أو فراشة تئز في الهواء

أو يعسوبا ينقل حجرا كريما إلى سعادة الملكة

لم نجد فهد الندم الأزرق

أو نورس المخيلة السكران

لم نجد ذاك الكناري

الذي يحرس الجارة المسنة

من ثعالب النسيان

لم نجد إلها ببنطال فضفاض وقبعة طرطور

لأفرغ غيمة شقائي اليومي في جيبه المثقوب

لنخرج كيس صلواتنا بيد ضريرة

لم نجد نوحا ولا سفينة التيتانيك

لم أجد صديقا واحدا لتشييع جنازة المسكوت عنه.

لم أجد بحيرتي الصغيرة في نبرتك المبحوحة

لم أجد بابا مشرعا لأخرج من الشك إلى اليقين

من ظلمات رواسبي إلى مرتفعات الضوء

خذلتني نار المتصوف في كثافة القبو

وأزهاري ذبلت بزرنيخ الصيارفة.

**

نقتل كل يوم

ندفن كل يوم

لم يك ديكور الجنازة لائقا

المشيعون على أصابع اليد

والحاجب افترس قطيع التوابيت

والحفرة عميقة جدا

النسيان بطول ستين مترا

يجر عربة الأموات إلى الميتافيزيقا

بدلا من الأرامل تبكي العجلات المشتعلة

بدلا من صلاة القس

تصلي طيور الغاق

إبتلعت هذه الأرض العجوز إخوتي بفم أدرد.

والحاجب أخفى قطيع التوابيت في الماريستان

أيها المعزون أنصتوا جيدا

لخشخشة دموع الأرمل.

**

كانوا في الهزيع الأخير من الجنون

سيسقط القطار في الفخ

ويطير المسافرون إلى لامكان

بدلا من الشمس أشرقت غزالة في الكازينو

يأكلون قلبي بمعالق من ذهب

فهود لا تفكر في صخب البنادق

خسرت الله في الحرب

وحملت المياه على ظهري لإسعاد الجثث

اكتشفت قناعك أيها الظل

وجهك الملطخ بالوحل والجريمة

إكتشفت أرومة اللاشيء

الغبار الذي يقاتل جنود المرئيات

آه أيها اللاشيء الذي يخطف الجيران بدم بارد.

أيها الجاسوس الأعظم.

***

بقلم فتحي مهذب تونس.

....................

The Lost Lautréamont * Kingdom

By Fathi Muhadub / Tunisia

Translation from Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

We did not find anyone

We did not find our old house

black tears bows

Cicada eucalyptus trees

We found neither gold nor the family horse

We did not find roses in the garden

Or a butterfly sizzling in the air

Or a dragonfly transporting a precious stone to her highness the queen.

We did not find the blue leopard regret

Or the drunken gull of imagination

We didn't find that canary

guarding the elderly neighbor

from the foxes of oblivion

We didn't find a god in baggy pants and a foolscap hat

To empty the cloud of my daily misery into his pierced pocket

To take out our prayer bag with a blind hand

We did not find Noah or the Titanic

I did not find a single friend for the funeral of the unspeakable taboo.

I did not find my little lake in your hoarse tone

I did not find a wide-open door to move from doubt to certainty

From the darkness of my residue to the heights of light

The fire of the mystic let me down in the dense basement

And my flowers withered with the arsenic of the money changers.

**

We are killed every day

We are buried every day

The funeral decoration wasn't appropriate

Mourners could be counted on one hand,

The porter devoured the flock of coffins,

And the hole is very deep.

Oblivion is sixty meters long

dragging the dead chariot into metaphysics.

Instead of widows crying burning wheels,

Instead of the priest's prayer,

Great Cormorants are praying.

This old land swallowed my brothers with a

edentulous mouth.

And the porter hid the flock of coffins in the madhouse

Dear mourners, listen carefully

To the rattle of widower's tears.

****

They were in the last night watch of madness

The train will fall into the trap

And travelers will fly to nowhere

Instead of the sun, a deer in the casino has shone on

They eat my heart with golden spoons

Cheetahs don't think about the uproar of guns

I lost God in the war

And I carried water on my back to please the corpses

I found your mask, O shadow

Your stained face with mud and crime

I discovered the lineage of nothingness

Dust fighting the soldiers of visible

Oh you, nothingness that snatches neighbors in cold blood

O Great Spy!

حوَّاءُ، مَهلاً

لا، ما كانَ ذاكَ ضِلعاً

فحسبُ

بل روحاً وشَغفاً وجَناناً

*

حواءُ ما كانَ

جُزءاً من جَسدٍ

بل كان في الكُلِّ

هو الكُلُّ

كيف يكونُ قِسماً

وأنتِ مَن يُعطي للحياةِ

كُلَّ هذا الزَّخَمِ؟

*

لِمَن غَيْرِكِ

سيُزرعُ الوردُ؟

ولمَن ستنحنِي بإجلالٍ

رايةُ الغَزلِ؟

*

إذا نونُ النُّسوةِ يوماً

عن الوَرى توارتْ

لِمَن سيُمنحُ

تاجُ الدَّماثةِ والُّلطفِ؟

وكيف ستَعرِفُ الكلماتُ

مَعنى العُذوبةِ؟

ولمَن سيُكتبُ الشِّعرُ؟

*

مِن دُونِكِ، سيِّدتي

سَتَنسى الفراشاتُ التَّحليقَ

وستَعزِفُ كُلُّ البلابلِ

عن التَّغريدِ

وسيكفَهرُّ وَجهُ الفَجرِ

ويَختفي القَمرُ

*

مِن غَيرِ لَمسةِ الأُنثى

يُصبحُ البردُ أقسى

وتُبتلى الأشجارُ

بآفَةِ العُقمِ

ويصيرُ الكونُ

مِن غيرِ مَعنى

*

حوَّاءُ مِن غَيْرِها

لا يَجودُ البحرُ

ولا تَحبَلُ السُّحُبُ

ويَسهو مُرغَماً

عن الهَطلِ

المَطرُ

*

حوَّاءُ، سلامأ

وكُلُّ التَّوقيرِ والإجلالِ

إلى الخَالقِ البارئ

لنِعمةِ العَطاءِ

وكلُّ الحُبِّ إلى ذَلك الضِلعِ

الَّذي صار أنتِ

وصِرتِ فَوْعَةَ البَريّة

*

جورج عازار

ستوكهولم السويد

لـــــغـةُ القــرآنِ حِصْـنٌ

حــفـظ اللــه مَـــــــــداه

*

صـانه مِـــن كـل كـيْــدٍ

واخــتِــلاقٍ واشــتــبـاه

*

صــدَحَ الــحــقُ يُـنادي

طافَ فـي الأفق نِــداه :

*

تــوَّج الـلــهُ كــتـــابــاً

عَـمَّ فـي الكـون شــذاه

*

بــكـــلامٍ عَـــربــــــيّ

بَهـرَ القـــومَ سَـــنـــاه

*

فَــزَها الضادُ فَخـوراً:

قــلـمُ الــنور اصطـفاه

*

نَـبـَضُ الذوقِ تَــعـافى

بـفصيـحٍ قـــد رعــاه

*

افصحُ العُربِ نــــبــيٌّ

عـزّز الفصحى نَــــداه

*

وبـضوء الحــق طوْعـاً

حــقَّـق الوعــيُ خُـطـاه

*

فـهـنـيــئـاً لـلســـــــانٍ

يـعقِـرُ اللحْــنَ، صَــداه

*

بــبــيـــانٍ ، وبــــديــعٍ

طــاهـرُ الـثـوب كـساه

*

لايطيـبُ العِــزُّ مـا لم

يـبلغ الضـــادُ سـمــاه

*

(طــلـعَ البـــدرُ علينـا)

يحـــرسُ الضــادَ ضِيـاه

*

فتجلّى النـــورُ يُوصــي:

امنحوا الحـرفَ عُــــلاه

*

إنْ تَــحَـلّـى بــنَــقـــــاءٍ

وعَـــفافٍ قـــد حَــــواه

*

وصفاءٍ فــــي النوايـــــا

رافــدُ الـطِـيـبِ سَــــقاه

***

(مجزوء الرمل)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

مازلتُ منتظرًا على نيرانِ

أنْ يطلع البدرُ على الأكوانِ

*

أن تلتقي عيني وعينك برهةً

مثل احتضانِ الطيرِ للاغصانِ

*

كلّي إليكِ مشاعرٌ جياشةٌ

مَنْ يحملُ الظمآنَ للغدرانِ

*

أتنامُ عينٌ وهي تدري أنّها

يومًا ستبكي فرقةَ الخلانِ

*

وتعودُ تنظرُ في الوجوهِ طريدةً

لا شيءَ يؤنسها عن الهجرانِ

*

شغفتْ فؤادي وهي بدءُ ربيعِها

وأنا الخريفُ يدبُّ في بستاني

*

قالت تخاطبني بصوتٍ ناعمٍ

أهواكَ رغم الشيبِ والفقدانِ

*

قل لي متى ألقيتَ فيَّ محبةً

وغدوتَ محترقًا بلا نيرانِ

*

ارجوكَ لا تجعلْ فؤادي دميةً

فانا ابنةُ العشرينَ، غضُ بناني

*

وعرفتُ انَّ الحبَّ نعمةُ خالقٍ

جعل الجمالَ مموسقَ الألحانِ

*

واتيتَ لا أدريك كيف أتيتني

وطرقتَ بابي بعد طولِ رهانِ

*

قلقي سيُفضي بيْ الى الخذلانِ

فأغِثْ فؤادي من لظى نيراني

*

أدري بأنك مُذ فُجِعتَ بنكبةٍ

أمسيتَ محرومًا من السلوانِ

*

فاخلعْ ثياب الحزنِ واسكنْ مقلتي

لألوذَ من نفسي الى سجّاني

*

خذني إلى عينيكَ، مالي حيلةٌ

الاكَ فاحذرْ أن تملَّ جناني

*

أبدًا احبُّكِ كيفَ اكتمُ لوعتي

وانا الذي قد عاش في حرمانِ

*

ارجوكِ مُدّيْنِي بفيضِ محبةٍ

ودعي النهايةَ وارتضي بحناني

*

فأنا ابنُ هذا الهمِّ ، ارقبُ زورةً

تُلقي على قلبي بصيصَ أمانِ

*

تمضي السنون، فكيف أوقف زحفها

لا شيء يعدل زورة الخلان

*

متحيرا بيني وبينك حاجز

ارجوك ساعدني على احزاني

***

د. جاسم الخالدي

 

- إلى روح نيتشه -

فريدريك نيتشه

نمرُ الفلسفةِ البريّ

كانَ قدْ قالَ كلَّ شيءٍ

عن الانسانِ الخارقِ

وجوهرِ الأديانِ

وسلطتِها البشرية

امّا صرختُهُ المدوّية

عن موتِ الآلهة

فما زالتْ اصداؤها تترَدّدُ

في كلِّ أَنحاءِ المعمورة

كما أنَّ الغريبَ والمُخيفَ

في سيرةِ وحياةِ وحلمِ

السيد " نيتشه "

هو انَّهُ قد أختنقَ

برؤاهُ المُضادّةِ

وجنونهِ العاصفِ

ووحوشِ قلبهِ الشرسةِ

ولهذا …

..

.

ماتَ وحيداً

***

سعد جاسم - كندا

في 3-3-2024

 

كل الأشياء التي نحبت عريها، وانثالت إلى وميض الذكرى..

لم تعد لي،

فاستعرت وجهها السائب، على درج مكتبي..

أو ليس الأمل قطيفة فاخرة،

في جسد هش لا يعذر الحياة!

2 -

حصار في حصار في حصار،

وشطر هذا الموات البليد..

حزن وسراب.

وفي غواية الحرب،

ملوك من ورق..

وعروش من سحاب..

فلماذا نحن باقون هاهنا؟

لولا أننا لا نملك مصيرنا؟!

3 -

وعندما يأفل الغضب،

وتنجلي ثورة الحيارى..

يئز النطع فوق الرؤوس،

والاحلاف..

وتدور المواجع،

وتدور..

إلى جنابها السخيم..

كأن لم يكن من عاصم،

ولا قوة إلا بهذا الجنون..

4 -

ثم ماذا بعد،

أيها الشعب الخانع الراكع الجائع،

الموجع..

أأنصاب أم خيول قاعدة،

والسيوف في أغمادها العهر..

صدوعها وضلوعها..

5 -

يا أمة لم تضحك لها سنن، بعد جهل مستدام..

يا أمتي،

ها أنا مزحوم في ذرى القبح،

سديم فطام..

يا أمة، ليس لي بعد هذا من كلام...

***

مالكة العلوي

 شاعرة وإعلامية من مراكش

لهذا.. أمريكا راضيةً عني:

تَكْفُرينَ بي

كعاشقٍ مُلحِدٍ

راسخ العقيدة.. ثري الإيمان!

وتؤمنين بي

كمسلمٍ

سياسي.. منافق

تام الجنس.. فاسد الدين!

*

ياشامية:

تشير الساعة

إلى تمام الواحدة عشقاً

والدقيقة: الرائعة

بعد منتصف الفيس

فلا تندفِسي!

*

صَوِّبيهِ نحوهــــــــــم..

إنهم يمسكون زمام الأمور

كقادة.. وقسيسين.. ورهبان

(لا رضي الله عنهم)!

وقُــــــــــــــــــــــــــوّادٌ..

(لإرضاء أمريــــــــــــكا

عليها وعليهم اللعنة)!

بإنبطــــــــــاح ٍ عاجلٍ

ونفـــــــــــــــــــــاق ٍ مُرَفَّقْ!

*

المــــرأة :

تـــــــــــــــــــــــــــــاج

على رؤوس المُحِبِّين !

*

إنهم فريسيون...

جنسيون...

أفَّاكون...

يُحَرِّمونَ علينا

(مغفِرتكِ) المباركة

ويُقَدِّسون

(مؤخِرَتكِ) المؤمركة!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

أرض المطار مالسة، أين منها ملوسة صخرات بنت النبي في مدخل قريته، مالسة ملوسة يكاد يتزحلق عليها فينزلق إلى تهوم لها أول وليس لها آخر.

يرسل نظرته إلى زوجته وابنيه، ابناه شرعا يكبران، ما كان عليه أن يخبر زوجته أن صديقا له في بلاد الفايكنج اقترح عليه أن يزوره، مرغّبا إياه بأنه سيخفف عنه المصروفات المُتعبة إلى أقصى حدّ. فعلا ما كان عليه لكنه تورّط، هذه ليست المرة الأولى التي يتورط فيها ويجد نفسه مسوقا إلى حتفه سوقا، كل ما ارتكبه من أخطاء في حياته كان هو الملوم رقم واحد فيه، أمه رحمها الله كانت تقول له وهما جالسان في فيء شجرة الزيتون أنت تبثّ طيبة، أنت يا ولدي من تورّط نفسك، لسانك يجرك فتنجر وراءه.

يتوقف يتقدم خطوة يتأخر أخرى، أمامه طائرتان، آه لو كانت طائرة الكونكورد هي التي ستقلّه هو وأحباء قلبه إلى تلك البلاد، أما تلك الطائرة الأخرى الصغيرة إلى جانبها فقد تمنّى ألا تكون وان تختفي من على ارض المطار.

يرسل نظرة رزينة يتعمّد أن يزوقها بالفرح إلى ابنيه، شدّوا حيلكوا هاه، إحنا مقبلين على سفر في الطائرة، هذه هي المرّة الأولى، دائما ستكون مرة أولى، اسألوني أنا، أنا من سافر وخبر الدنيا..، يتوقّف عن الكلام. شيء ما يوقفه يعود لمراقبة الطائرة الجاثمة أمامه مثل أبي الهول، يشعر أن ابنيه يبتسمان، يقول في سرّه ابتسما.. ابتسما.. مَن يبتسم إنما يبتسم في النهاية. تخطر في باله خاطرة لا يلبث أن ينبذها، هل يمكن أن تكون هذه المفتئة.. زوجته قد شبّلتهم عليه إلى هذا الحدّ؟ هل يمكن أن تكون كشفت خوفه أمامهما إلى هذا الحد؟ ينبذ الفكرة نبذا شديدا زاجرا إياها، ومن قال إنها تعرف أنني أخاف، من أين لها أن تعرف، لكن صوتا من أعماقه يخرق طمأنينته المؤقتة، صوت أمه المُحبّة يطلّ من أفق شجرة الزيتون البعيدة، دير بالك يمّا.. المرة بتعرف كل اشي بدون ما إنها تشوفه، المرة بتعرف كل اشي، وهي مش بحاجة لحدا يقلّها، لأنها بتفكر بإحساسها. معقول يمّا؟ معقول إني أكون ضحية هؤلاء المرافقين، طيب ما أنا مش خايف على حالي قد ما أنا خايف عليهم، أنا أخطأت ما كان علي أن أوافق على أن نسافر جميعنا معا، على الأقل كنّا نبقي واحدا من الابنين، أما إذا ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هو لا يمكن أن يتصوّر مثل هذه الأفكار الشيطانية، لا يمكن أن يتصوّر أن الطائرة يمكن أن تتفجر في الجو و.. ان تتفجر معها أحلامه، أما اليهود فإنهم يفعلونها ويفجّرون الطائرة مثلما فجروا البلد.

إشارة من شخص بدا انه مسئول هناك، جعلته يتروحن ويرتاح قليلا ناسيا ما انتابه من وساوس وأفكار، رقص قلبه فرحا، هي الكونكورد إذا، مخاطرها اقل بما لا يقاس من مخاطر أي من الطائرات، ثم انه كان حذرا وقرا عن أنواع الطائرات المختلفة، على مين ممكن إنهم هؤلاء يكذبوا؟ اخذوا بلده أي نعم، أما أن يأخذوا عقله فهذه من رابع المستحيلات.. نفدوا بالبلد إلا أنهم لن يتمكنوا من أن ينفدوا بكل ما يريدون.

قدماه ترتعدان كلّما دنا من الكونكورد، آخ لو أن جناحين ينبتان له فيحمل ابنيه وزوجته ويحلّق بهما عائدا إلى بيته، ويا دار ما دخلك شر.

مع هذا يتخذ مقعده على متن الكونكورد، يمسح المقاعد، يتفحص جميع الوجوه، دون أن يحس به أحد هو يعرف كيف ينظر من تحت لتحت، هذه مهنته منذ كان صغيرا، لا أحد يباريه فيها، يرتاح حينما يرى إلى وجه ذاك الذي أشار إلى أنهم سيستقلون الكونكورد، اليهود يعملونها بكل الناس إلا بأنفسهم، من هذه الناحية اطمئن لن يفجر الطائرة أحد منهم، لكن يبقى في هذه الحالة، خطر أن تتفجر الطائرة لعطل ما.

تدنو منه مضيفة الطائرة، تسأله عمّا إذا كان مرتاحا، يردّ عليها بشمم عربي، انه مرتاح تمام التمام، آخ لو تعرفين عن أية راحة أتحدث. يهز رأسه للمضيفة، يرسل نظرته إلى ذاك الذي اشّر للكونكورد، هي مناسبة لان يهز له رأسه، مَن هزّ رأسه للآخرين امن شرهم، يهزّ ذاك رأسه، تدخل الطمأنينة إلى قلبه للمرة الأولى.

ما أن تأخذ الطائرة في الارتفاع حتى يتوجّه إلى زوجته وابنيه، ليطمئن عليهم. يبتسم لهم هل أنتم مرتاحون؟ لا تخافوا في المرة الأولى يخاف الواحد منّا لكنه في المرّات التالية لا يخاف يعتاد على ركوب الطائرات، يبتسم ابناه، ماذا يقصد هذان الملعونان، وهل يمكن أن يكونا عرفا بماذا يشعر هو الآن، طيب أمهما تفكر بأحاسيسها فهمنا، وهما هل يفكران بأحاسيس أمهما؟ كم يود لو انه تمكّن من صفعهم جميعا. دوّامة من الأفكار تستولي عليه، .. وفجأة، فجأة وززز، ما هذا؟ يحاول أن يسال إلا انه يتردّد، ينتظر أن يسال آخر من الركاب، لكن انتظاره يطول، يغيب الوزّ، قبل أن يعود إلى ارتياحه القديم، يعود الوزّ، يتبّلها كابتن الطائرة، مَن لم يربط الحزام من المفضّل أن يربطه، سندخل في منطقة غائمة قد تفقد الطائرة بعضا من توازنها.

يشعر بجفاف في حلقه، طيّب إذا كانت الطائرة ستتعرّض إلى بعض من فقدانها لتوازنها، لماذا لا يعطون كلا من الركاب باراشوتا، ليستعمله في الهبوط عند الخطر؟.. آخ لو انه تعلّم الهبوط في المظلة على الأقل، قال ايش اربطوا الأحزمة، أي هو إحنا إذا ربطنا الأحزمة يمكن أن نفلت؟ تتقدّم منه المُضيفة لماذا لم تربط الحزام بعد؟ لا تعرف أن تربطه، تدني صدرها من كتفه، هكذا يربطون الحزام. يبقى صامتا شعور بالتجمّد الداخلي يستولي عليه، يتوجّه إلى ابنيه هذه المرة، لا تخافا هذه إجراءات روتينية، يبتسم ابناه بخبث، لا يردّان بل يرسلان نظراتهما إلى البعيد من نافذة الطائرة، يشعر بغصة في حلقه وهو يراقبهما ما كان عليه أن يصطحبهما معا، ما كان عليه أن يقبل رأي زوجته فيصطحبهما على اعتبار أن تلك رحلة من العمر، ألا يجوز أن تقضي هذه الرحلة على العمر فلا تبقي ولا تذر، والله اللي برد على مرة هو مرة.

وزز، يزداد الوزّ كلما أوغلت الطائرة مبحرة في غيمها، ما هذا الوز؟ أيكون عطلا في المحرّك؟ والى إلي مدى يشكل من خطر؟ يرسل نظره إلى الوجوه كلها وادعة مطمئنة، يبحث عن مرآة ليرى وجهه فيها، المرآة بعيدة، طيّب اجت منها وليس منه، إذا نظر إلى وجهه، فقد يرى ما لا يسرّه، أفضل له ألا يرى، ما الذي يحصل له، أيكون هو المتحسّب الوحيد في الطائرة؟ كلهم لا يفهمون وهو وحده يفهم؟ نعم ولم لا؟ لم لا يكون هو الفاهم الوحيد، هو لم يخف من أمر في حياته إلا وحصل، فلماذا لا يحصل الآن ومَن يضمن له؟

يتواصل الوزّ، يفكّر في أن يتوجّه إلى ابنيه أن يطلب من احدهما أن يسال عن ذاك الوزّ، إلا انه يتردّد، يقول لنفسه بعد ساعة أو اقل نصل ويزول هذا الكابوس لكن مَن يضمن له أن يصل سالما غانما؟ أو لا يمكن أن تكون رؤيته لصخرات بنت النبي، صباح اليوم، في مدخل قريته هي المرة الأخيرة؟

تخرج الكونكورد من غيومها، هيّئوا أنفسكم.. بعد قليل يكون الهبوط، الرحلة تمت بسلام، يرتفع الوز، يرتفع يرتفع.. يرتفع حتى لا يكون بإمكانه أن يتحمله، ما إن تهبط الطائرة على ارض المطار في بلاد الفايكنج، حتى يتصاعد الوزّ إلى أقصى مداه، يشعر بان كل شيء انتهى أو قارب النهاية، يُطلق صرخة حبسها منذ صعد درجات الطائرة، وربّما قبلها بكثير، تنطلق من فمه منغّمة كأنها ترنيمة لموت محتّم: يمّا..، يطلقها مثل قوس فلت من عقاله، تتبعها يمّا أخرى اشد والعن من سابقتها، تقابلها قهقهات يرسلها ابناه وزوجته هذه المرة.. دون أن يخفوها عنه.

***

قصة: ناجي ظاهر

فجراً، أتلمس طريقي من خلال نور الفانوس الكابي. أتوجه نحو باب الحظيرة متسلقاً سلم الملجأ الترابي اللزج، ثم أغسل وجهي من ماء (الجلكان*) المركون جوار الباب. أملأ إبريق الشاي ثم أوقد (جولتنا*) الأنيسة، وأجلس عند دكة الملجأ بانتظار خيوط ضوء الفجر المتثائبة. أتملى الهروب الأخير لدكنة الليل.. أطياف تائهة هائمة في الفضاء تخطف أشباحها من ظلمة الليل الكثيفة. أسمع زحف الحشرات ودبيبها فوق سبخ الأرض، وأتنصت شراهتها المستيقظة بحيوية لاستقبال يوم جديد. الهواء الرطب الراكد يملأ الحناجر فيثقل التنفس، يغشاني ضباب كثيف لزج. بدأ الفجر ممتلئاً بهذيانات هائمة تتسرب من شقوق الأرض. دم جديد، نسغ ينبثق من زغب الجسد ويومض في الكون، تُنشر الأذرع والقلوب مثل الصواري تتلمس وجودها في بروق الكون الساحرة المتدفقة من فضاءات أرجوانية متوقدة، إنه استيقاظ الأطياف الأبدي..

يحضرني الآن وجه جدي المثقل بالأخاديد، المولول أبداً، الباحث عن زمن سعيد هجر مثل غانية وعاف مثل عاقّ.دائما ما كان يناديني ويهزني بكفه الثقيلة المتيبسة. فأنهض ملْء جفوني نعاس.

ـ استيقظ أيها المدلل فقد فاتنا سمك كثير. (الرفش*) لا يرحم حين يجدك نائماً. سوف يمزق شِبْاك الصيد ولن يهابك. استيقظ  وتأمل وهج الأصداف قبل أفول لحظتها.

أدس ثوبي المرقع في سروالي وأنتعل بقايا حذاء. أغمر رأسي الصغير بين كلمات جدي المنثالة، بينما تسحبني كفه الخشنة  بين طيات الأزقة المتربة نحو شاطئ النهر، فتلطم وجهي نسائمه، ويغمرني موجه الشفاف الفسيح. رذاذ الماء يوقظني. تلتصق برودته فوق الجلد. يقشعر البدن فتومض العيون وتنفض خدرها. وتروح الأيدي تتلقف بحيوية ركائز الكرب * العالق فوق سطح الماء.

ظل رذاذ الماء ذاك يوقظني فجر كل يوم مع صيحات قبراته الأنيسة. يتمدد جسدي ليأخذ سعة الكون، ويتشح بسطوع الأعشاب وروائح شط العرب النافرة.

ليس كل ما يسمى له دلالة، إلا زقاق زينب وكف زينب. مسافة الجسد تتناسب ومساحة النافذة، فيتناثر الدفء فوق سطوح الأزقة الضيقة المضببة بالندى من عطر شط العرب. رطوبة تنثال عند الشفاه تدعك الوجه الشاحب لينهض الدم، فيشتعل بين الأنامل المتشابكة المتنازعة من خلال حديد النافذة الصدئ. مكبوتة مهتاجة تمور فيها رغبة جامحة تكبلها عفة القربى والخوف من الفضيحة وأسلاك النافذة.

ـ سوف نبني بيتنا عند حافة البستان. وعند جرف النهر، نصنع لأطفالنا (سرسيحة*) نحو الماء. تنتظريني لأملأ تنورك بالخبز والسمك.. سوف أوقظ أطفالنا في الرابعة صباحاً ليقيموا الصلاة ويتعلموا الصيد.. سوف.. وسوف وسوف.

ويلتمع وجهها في ظلمة ليل الفاو الآمن، يومض نبض قلبها ابتسامة تنسجها الطفولة.

تزحف من صدري آلاف المتاهات لتنفرط فوق تراب الشارع وتندس بين شقوق الجدران. يسكنني طنين السعادة الذي يؤرجح روحي بانتشاء، فتنسل راعشة بسعادتها. من خوفها وتوجسها. من لعنة الأقاويل لو حصل وإن اكتشفنا أحدهم.

ـ زينب.. اخلعي نعليك فأنت في الوادي المقدس.

ـ ما هذا الهذيان.. ما الذي تتكلم عنه ؟!

ـ إنك مقدسة يا زينب، لن أطأ.. لن أدنس المقدس.. أنت الوادي الذي سيضم قلبي.

ـ أوه  ما الذي تهذي به.. لا أفهم ما تقول !!

ـ أحبك..

ـ يكفيني هذا...

كان الفجر يتكشف بكامل جلاله، بهياً يكشف خطواتي الحذرة الوئيدة وأنا أنسل نحو الزقاق الجانبي مبتعداً عن نافذتها، ملوحاً بكفي فأسمع همس كلماتها.

ـ لا تنسى موعدنا غداً..

ـ نعم..نعم.. أهمسها بحرارة الجسد المثقل بضجيج الشوق.. الثالثة فجراً موعدنا يا زينب.

يضطرب جسدي حين أعود لأدسه في الفراش البارد، لأمثل بعد ذلك نهوضاً ميكانيكياً لرجل عاف الكسل وشبع نوماً حدّ الثمالة. لأسلم يدي بعدها لكف جدي وهي تسحبني نحو شط العرب.

في ذاك الزمن حيث علق في رأسي نشيج الفراق. ما عاد لخطواتي مستقر. كان قدري يقودني مثقلاً بالهموم، ومع ترنح الأرض ما كان ليكتمل إلاّ ما هو بشع موحش. ويزوغ من بين قطرات الماء عند الشط وليد مشوه. يمور الماء وتتصاعد أبخرة الكره مثل دخان بركان. شرنقة تشبك الخوف فوق البيوت، تلتهم نبات (السعد*) عند الشواطئ، وتأكل جرف شط العرب ومرجاناته. تفرش سطوتها القبيحة فوق نخيل الفاو عند أعشاش البلابل وبيوت القبرات. يقطر مع الطين المندلق من المزاريب رنين أهوج يتقمص روح الشيطان وتطفئ النور صرخة شوهاء.

ـ الحرب قادمة يا زينب..

ـ ولم الحرب..؟؟

ـ ولم الحب..؟ لكل منهما اسمه ومريدوه و دعاته. فأين نحن من هذا وذاك؟.

ـ يقول أبى.. إننا سنرحل إلى سوق الشيوخ، عند أقاربنا، هناك أيضاً يمتهنون الصيد.

ـ ترحلين يا زينب ونرحل نحن أيضاً.. يقال إن بين السماء و الأرض سبع طباق.. سبعة أكوان.. سبع عجاف.. سبع خرائب تسكنها الغيلان.. نرحل يا زينب ونعاف نافذتنا المورقة بالورود، برذاذ المطر الرقراق المختلط بالشفق السحري. نرحل يا زينب بعيداً عن مدينتنا، عن أزقة الطين المهروسة بالمودة، عن طنين الحياة المشع بين سواقي البساتين. نرحل..؟ ولمن نترك رائحة العشب ونداوة الماء في شاطئنا؟ أنرحل عن مدينتنا..؟؟؟

ـ أبي يقول إنها الحرب.

ـ إنها الخراب،الموت،الجذام..نرحل يا زينب.. أتسألين عني..؟؟

ـ وكيف يكون لي ذلك؟

ـ سوف ألتحق بالخدمة العسكرية ويرحل أهلنا عن المدينة وتكونين أنت بعيدة عني..ولكن سوف أبحث عنك في بيوت مدينتكم الجديدة. أنثر صوتي عند سـمائكم. أطرق بقلبي كل الأبواب لاغترف من وجيف قلبك. اذكريني فإن الله سوف يلملم ارتباك أناملنا، يجاورنا ويهبنا من غمر ألطافه.  الحرب يا زينب هي الترحال، الخوف، الجوع، الهجر، الخراب. عيون تخبو وهي تطالع اندحار بهجة الألوان.هي الشوق، اللوثة و الهلوسات.

أسماء تترى في سجلات يومية تحمل طقوسها الهمجية مزروعة في حواس الجسد مختلطة برعشة من شوق. من نحيب مكتوم ينمو مثل الطحالب يغطي مسام الروح.. سربيل زهاب، بيلولة، كَيلان غرب،سيف سعد، عيلام، زبيدات،كتيبان...أسماء لا أفقه كنهها. لا صلة تربطني بها سوى الضياع والخوف والمجهول، ولكني أغل هلوساتي فيها بانتظار رجفة يديك وهما تمسدان وجهي، وتطمئنان يدي المرتجفتين.

ـ تنتظرين يا زينب.. تعدين الأيام.. موسم لصيد السمك. موسم للترقيد..موسم لجمع الثمار، مواسم...   أم ماذا؟

***

فرات المحسن

في زحمة الاشواك

انحت وشم الصمود

وبقلم الحبر الدائم

اكتب مرثية لاطفال غزة

لعل الجرح الغائر

يندمل ويفقأ عين الظالم المستبد

*

حتى أنا عندي الحق

لأدافع عن نفسي

و لدي أيضا حق الفيتو

لا أعول على الجبناء

ولا صانعي القرار

اما الحاكم العربي

فهوضعيف ومستكين

مغلوب على أمره

*

سمعت عن زعيم عربي

كان قد قدم استقالته

وهو يحتضرعلى فراش الموت

يحلم بحور العين

وزعيم آخر

سقط عن سرج حصانه

خرج من غرفة التخدير

وهو يردد:

ما دمت جالسا على كرسي متحرك

لن أتخلى عن فلسطين

*

في مغسلة الاموات

رأيت الليل يكفن النجوم

تحت ضوء القمر

ثم رأيت   ثلاث  حمامات  سوداء

تستحم في بركة الدم

فتيقنت انني هنا باق مع العدم

وتذكرت ان غدا يوم آخر

*

سأظل بجوار ظلي

اراقب العمائم السود

وشتول النخل اليتيمة

وغربان عربية لا لون لها

*

رغم الدمار والخراب والابادة

غزة صامدة على الارض

متشبثة بجذور الزيتونة الشامخة

ونبع الغديرالذي يتدفق  دما طاهرا

وابطالها الأشاوس الميامين

رافعين راية: من النهر الى البحر

ذلك هو الوطن المنشود

ولن نرضى بديلا عنه

*

كما لو ان شيئا لم يحدث

صمت العالم المتصهين

يدوي في أذن رضيع فلسطيني

أما صمت العرب الرهيب

فهو معلب في قوارير مكدسة

على رفوف جامعة  شبه الدول العربية

*

ثمة غريق ينقد غريقا

وسراب يبلل عطش الظمآن

هل اتاك حديث المجازر والابادة الجماعية

التي ارتكبتها الوحوش الصهيونية  النازية الفاشية

في حق الاطفال والشيوخ والنساء الحوامل

والمرضى بالمستشفيات

والرضع بالحضانات

*

وهل اتاك حديث جنود الانظمة الخائنة

التي انهزمت قواتها الواهنة

في ستتة ايام متوالية

وتسببت في النكسة والنكبة

وفشلت في تحرير

المسجد الأقصى والقدس وغزة

***

بن يونس ماجن

 

وبـدمـعة مــن خـشـية الله اكـتـحل

هـو فـارس خـاض الـغمار وما وجل

*

مـــن أمّـــة بصق الــعـدُ بـوجـهها

لــكـنـه رغــــم الـمـذلـة مـــا خــطـل

*

قــــال الـعدُ لهم صهٍ لا تـنـبـسـوا

خــرسـوا كـجـرو خـائـفٍ وبــه بـلـل

*

ومـضـى يـذودُ مـزمجرا عـن أرضـه

لــبـس الـمـعـالي بَــذْلُـهُ بــذل الأوَل

*

نـهـج الـحـسين عـلا بـهِ فـوق الـملا

من سار في درب الحسين إذن وصل

*

لــرضـى إلـــهٍ واحـــدٍ يـهـدي الـدمـا

فــي كـفه صـار الأجـل وبـه احـتفل

*

هــانت لـعـمـرك أمـــة قــد أوهــمـت

أن الـعـدو صـديـقها مـا ذا الـخبل؟!

*

حـكـم الـسـفيه بـأرضـنا فــي أهـلِـنا

بــاع الـربـوع إلـى الـعدو بـلا خـجل

*

يــــا أمّــنـا تــحـت الــركـام كــرامـةٌ

لـلـعـربِ كــم بـقـلوبنا مــن ذا أســل

*

يـــا طـفـلـنا الـمـقـهور تـبـكـي أمـــةً

إن كـنـت تـرجـو نـصـرها فـبها تَـفَلْ

*

تـتـفـتت الأطــفـال تــحـت مــنـازلٍ

وشــبـابـهـا مــتـشـاغـل بـالـمُـبـتـذلْ

*

فـمـنـائـر الإيــمــان فــيـنـا هُــدّمـت

والأمــة الـنـعساء فــي نــوم الـعسل

*

والـقـدسُ تنقصُ كــلّ يــومٍ بـعضها

من باعَ شبراً خاسرٌ وبلا مَطلْ

*

قــالــوا لــنــا شـرقـيـة مـنـهـا فــهـل

يـرضى بـنصف الحق من يوماً عَقل

*

قــولـوا لــهـم بـــل كـلـهـا يــا أهـلـها

مـن فـاوض الـمحتلّ أخـزاهُ الـفشل

*

مـــــن نــهـرهـا ولـبـحـرهـا عــربـيّـةٌ

صـدّاحـةٌ بـالـرغم مـمـن قــد خــذَل

*

هـــذي عـقـيـدة مُـسـلـم أو يـعـربـيّ

الـحـرف يـصرخُ بالـقصائدِ والـجُملْ

*

وكـــذا عـقيـــدة كـــلّ حـــرّ شــامخٍ

ثَبتُ الـجـــنان وراسخ مثل الجـــبل

***

صلاح بن راشد الغريبي

 

رُبَّ حُـسْـنٍ غَـدَا * مَـثَـلًا يُضْرَبُ

مَا رَأَى شِبْـهَـهَا * مَـشْرِقٌ مَغْرِبُ

فَإلَـيْـهَا اَلْـبَـــهَا * دَائِـمًا يُـنـسَبُ

إِذْ سَنَاهَا بَـدَا * فِي السَّمَا كَوْكَبُ

حُـسْـنُـهَا آيَــــةٌ * بِـدْعَـةٌ عَـجَـبُ

أَقْبَلَتْ تَـرْفُــلُ * مِثلُهَا اَلْمَـوْكِـبُ

نَشَرَتْ شَعْرَهَا * نَسْمَةً تَلْـعَـــبُ

عَقَدَتْ شَالَهَا * إنْ نَـضَا تَسْـحَبُ

وَالْخُطَى نَغْمَةٌ * كَـعْبُـهَا يُــطْرِبُ

فَاعِلُنْ فَاعِلُنْ * دُمْ وتَــاكْ تُضْرَبُ

مَـائِـدٌ غُصْـنُـها * رَقَـصَتْ رُطَـبُ

قَدُّهَا هَـيَـفٌ * فِي الْمَدَى مَرْكَبُ

بَـحْـرُهُ زَاخِـــرٌ * هَائِــجٌ يَصْـخَب

مَـــدُّهُ جَــزْرُهُ * سَـاحِـلٌ أرْحَبُ

بِكَثِيـبٍ عَــلَا * فِي النَّقَا كَعْـثَـبُ

قَـدْ حَوَى دُرَّةً * غَوْصُهَـا يَصْعُبُ

نَظَرَتْ رَشَقَتْ * نَـبْلُـهَا أصْـوَب

مِثْلَ رِيمِ اَلْفَلَا * مَا لَــهَا مَـقْـرَبُ

وَرْدَةٌ خَدُّهَـا * وَالـشَّذَى أَطْـيَـبُ

ثَـغْـرُهَا كَـوْثَـرٌ * عَـسَلٌ يُسْـكَبُ

ُوَاَلْجَبِـينُ صَـفَا * صَفْحَةً تُحْسَبُ

فَكَتَـبْـنَا اَلْهَوَى * وَاَلْهَـوَى يُكتَبُ

أَحْرُفًا مِنْ سَنَا * نَـقْـطُـهَا ذَهَبُ

حُـسْـنُـهُا كَامِلٌ * تَـــمَّــهُ اَلْأدَبُ

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

في مَقهىً

وعلى ناصيةِ الطَّريقِ

باحَتْ بمكنوناتِ الفُؤادِ

وسكبتْ من سِلالِ الصَّبابةِ

فوق طاولتي

كؤوساً مُترَعَةً

وما تبقَّى بين شُقوقِ الرَّصيفِ

تَبعثَرَ وانسَكَبَ

غَمرتْني بِدفءِ الهُيامِ

فما عُدتُ أدري

إن كنَّا في تشرين حينها

أو أنَّ الصَّيفَ

قد جاء مُبكراً

قبل الأوانِ

قالت: ليتني جاريةً

في مِحرابِكَ أكونُ

قلتُ لَها: أما عَلِمتِ

أنَّ تَّاريخَ الجَواري

قد اندثرَ وانمَحى

فلا قِيانٌ هُنا ولا سَراري

كوني لي عبلةَ أو ليلى

أو إن أردتِ بثينةَ

ولكن أبداً لا تكوني لي

سَريةً

قبل أن تمضي بعيداً

جادت عليَّ بِعناقٍ

حتى صِرتُ إِخالُ

أنَّ الرّوحَ في جسدين

قد انقسَمَ

وما مرَّ من الزَّمانِ

سِوى بُرهةٌ

حين لمحتُها مُنهَمِكَةً

تَجمعُ بقايا نِثاراتِ العِشقِ

الَّذي كان قد اندَفَقَ

ومَضت مُسرعَةً تُهديه

إلى الرَّفيقِ الجَديدِ

الَّذي على حينِ غِرةٍ

كان قد ظَهرَ

فعلمتُ أنَّ الزَّمانَ

حين حرَّر كُلَ الرَّقيقِ

والإِماءِ

قد ضَلَ عنها

فبقيتْ في قصرِ السُلطانِ

جاريةً مَحظيةً

تائِهةً

***

جورج عازار - ستوكهولم السويد

العقاب يحلِّقُ منفرداً

اموت على بيدر من سراب ْ

ولي وجه حقلٍ فسيح اليبابْ

طيور الظلام على جفنه

ترف باجنحةٍ من حرابْ

على ريشها يرتمي غسقٌ

لبستان دمعٍ واحزان غابْ

وفي مقلتيه تذيب النجوم

بريق التمني بطيء العذابْ

*

اموت وفي شفتي ساحلٌ

بهيمٌ فناراته من ضبابْ

على صخرةٍ من مساءٍ اخير

تركنا الهوى وبقايا الشبابْ

وسرنا على جرفٍ ينتمي

إلى شط ليل النوى والعتابْ

يلملمنا الفجرُ في شهقةٍ

تؤرّخُ منّا حضورَ الغيابْ

*

اموت ولي بلدٌ جرحهُ

تعاظم ان يحتويه مصابْ

تقرّح همّاً على صبره

وعضّ عليه من الضيم نابْ

ورغم اندكاك المنى بالمنون

ورغم البلايا ورغم الصعابْ

اطلّ على الدهر فيض ندىً

وألّف في المكرمات كتابْ

*

اموت ونسغ الهوى وطنٌ

تبرعم بين دمٍ وترابْ

نما من ملاذ السنى ظلّهُ

وحلّق حزناً فأبكى السحابْ

فيا موغلاً في احتراف الاسى

ويا ممعناً في الرزايا ارتكاب ْ

لماذا دعائي اليك صدىً

وكل دعاءٍ عليك مجابْ ؟

*

شهدت عليك بأن الهوى

لغير هوائك لن يستطابً

وانك في العشق سجلتني

سؤالاً يخلّدُ دون جوابْ

سلام عليك إذا اينعت

رؤوس المنايا وحان الحسابْ

وجمّل وجه الردى زمنٌ

تعالى به الخير رغم الخرابْ

ومتُّ وبي لوعةُ المبعدين

احلّق منفرداً كالعقابْ

فإن كان سيف الردى مرةً

يجيء ليوصد باب الايابْ

فسيفك يمنحني وردةً

إلى الموت تفتح لي الف بابْ

***

امجد السوّاد

 

إذنْ ..

قفي عــــــــــاريـة الكلا م

يَسْتُرك ِ الصمْتُ بثوبِه!

*

القحبة (الحركة) التي

جَزَمَتْ قلبين

ونَصَبَتْ الثالث

على (الشرخية)- والخاء عين -

لا محل لها من الإعجاب

سوى الدونية!

*

للبحر عروسةٌ بجدارة..

تفترشُ لهُ أنوثتها..

و تلتحفهُ بدفءٍ حيْ

يَعُودها

كلما ازرقَّتْ عيناهُ..

وتبلل ثوبهُ بالحُسْن!

*

آمَنَتْ بلحيتهِ الوسيمة

فوقعت في شَرَكِ حُبِّه ِ

وكانت الكارثة :

في طويِّاتِ لحيتهِ (الممنوعات)

فــــــــــات الآوان!

*

...وقبل أن أختم إطلالتي الليلية

تذكّرْ جيداً أنني:

أبقيتُ لكَ

(قُبْلةً جريحةً) على المخدّة

فَدَاوِهَــــــــــــــــا!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

احتضنت حقيبتها اليدوية كما تحتضن الام ابنها المشوها. فتحت خوخة البوابة الكبيرة وانطلقت في شوارع البلدة الغافية. هذه الساعات المتأخرة من الليل هي الافضل لها ولأحلامها الجميلة. في النهار.. هي متأكدة انها لن تعثر الا على ما يغيظ وينكد عليها. اما في الليل فقد تحدف الظلمة القاتلة من يملا حياتها ووحدتها، فيغير حياتها ويدخلها الى جنانِ نعيمٍ طالما تمنتها وحلمت بها، رغم الشانئين والحاسدين التاريخيين.

عاشت وديعة بنت ابي وديع وما زالت تعيش بعد رحيل والديها، في غرفتها القديمة مع اختها. في الغرفة الضيقة المعتمة في بيت العائلة.. يقضي اخوها سحابة يومه متآمّرا، منبها وموبخا. المصيبة ان اختها تبرعت في ان تكون عينا عليها، تنقل اخبارها الى اخيها وديع اولا بأول. ها هي وديعة تصل السابعة والثلاثين دون ان تكون لها قصية حقيقية تكون هي بطلتها ويكون بطلها شاب متميز ذو اطلالة بهية، شعره مثل الليل ووجهه مثل القمر. ومن اجل ان تكون وديعة جديرة بفارسها المنتظر، عملت المستحيل لان تبدو في هيئة المرأة المثقفة و.. حتى الدارسة الجامعية المتفوقة. بحثت عبر اكثر من طريقة لان تطور نفسها.. وما ان التقت بمن تخبرها انه بإمكانها الالتحاق بدورات جامعية حرة.. حتى وجدت حبل النجاة فتعلقت به.. وتعلق بها، حتى انه بات من الصعب على المحيطين بها التمييز بينهما.. هي وحبلها.

مضت وديعة تخب في شوارع بلدتها مثل حصان نسيه اصحابه في الخلاء. وراحت تتنقل من شارع الى اخر. كم هي بحاجة للخروج من مكانها وزمانها. يا الله.. كم هي تحتاج الى من يأخذ بيدها ويرشدها الى سواء المصير في ظلمة الدرب العسير.. كم وكم والف كم تعبث بها وتتنقل بها من شارع ضيق الى ساحة اضيق.. ومن ساحة منخفضة الى شارع اخفض. لم تكن في كل مكان تقع عيناها المتعبتان عليه سوى الظلمة، ورغم ان اشعة شحيحة كانت تفد من الأقاصي البعيدة، لتنعكس على واجهات الحوانيت الخالية من اصحابها، فهي لم تر سوى اللون الاسود يصبغ مدينتها.. وكل ما وقعت عليه عيناها.

شدت وديعة على يدها مصممة: "الى متى يستمر هذا الوضع؟"، تساءلت ومضت تخاطب نفسها: "بعد ايام اطفئ الشمعة السابعة والثلاثين.. فهل سأشعل شمعة؟". تناولت شمعة اعدتها، دون ان تعي، لهذه المناسبة واتخذت ركنا قصيا من حديقة المدينة الغاطة في سباتها المزمن، و.. اشعلت عود ثقاب ادنته من فتيل الشمعة لينير في الحلكة القاتلة وليجعلها بالتالي في خفة محتملة.

عاشت وديعة مع شمعتها لحظات رومانسية متمناة، ما اجمل الحياة بعيدا عن اختها الجاسوسة التاريخية ووشاياتها المبالغ فيها.. الدامية، وعن اخيها وديع.." الله يرحمك يا امي.. ذهبت وتركتني وحيدة في هذا العالم.. ليسامحك الله يا والدي نقلت خيزرانتك قبل ان تولي في دربك الاخيرة الى وديعك ليواصل تأمّرك.. تنبيههك وتوبيخك".

اهتزت الحديقة. بخفة لا يمكن لأي انسان ان يشعر بها سوى وديعة ذاتها. اغمضت.. وديعة.. عينيها وفتحتهما لترى اجمل ليل واروع قمر ينبق من بين الاشجار القريبة المحاذية.. ويدنو منها رويدا رويدا.. خفضت راسها خفرا وحياءً، واغمضت عينيها، فمد الفارس المقبل الهُمام يده الى اسفل وجهها ورفعه الى اعلى. لترى كل ما تمنت ان ترى طوال ليالي حياتها وسنواتها الطويلة.

"هل ستاتين معي؟"، سألها الفارس المفاجئ وهو يرسل نظرة الى حصانه العربي الاصيل، هناك تحت الشجرة الوارفة. لم تجب فعاد يسالها" لماذا لا تردين انا قادم الى هنا من اجلك..". اصابتها سكتة متوقعة وغير مفاجئة، عندها لم يكن من مفر امام الزائر الليلي المُخلّص، من دعوتها لان تتبعه وسار هو باتجاه حصانه تحت الشجرة فيما تبعته مبهورة كأنما هي مسحورة. شعور قوي شدها اليه.. جعلها تنسى اختها الواشية واخاها الظالم، وحتى امها واباها. نسيت كل ما احاط ويحيط بها، ماضيا وحاضرا، وفطنت الى امر واحد، هو انها لا يمكن ان تقول "لا" في لحظة عمرها المنتظرة. انطلق الفارس يطوي ارض الحديقة طيا، كأنما هو يقدم شوطا استعراضيا، ابتعد واقترب، وفجأة علا صوتها غصبا عنها: " انتظر"، انتشرت على وجه فارسها ظلال بسمة رضيّة. اقترب منها مد يده نحو يدها الممدودة اليه دون ارادة منها، جذبها فطارت في الهواء، لتستقر خلفه على صهوة حصانه، ولينطلق بالتالي في جنائن الارض وحدائقها الغناء.

تواصل الحصان العربي يدب في صحرائها، حاملا اياها برفقة حاملها الطائر المجنّح، الى ان وصل الاثنان الى جنات تجري فيها الانهار، تحتها انهار وفوقها انهار، وبين الانهار اشجار ذات ظلال والى جانبها اشجار ذات اثمار، كبح الفارس جماح حصانه جاذبا لجامه اليه.. وتوقف" هل يعجبك هذا المكان؟"، سألها.. وقبل ان ترد عليه لاحت لها وجوه من الماضي واخرى من الحاضر.. بقيت الوجوه تظهر وتتلاشى.. الى ان بقي وجهان اثنان .. لا غير.. وجه اختها الواشية واخيها المتأمّر .. وبدلا من ان تعرب عن فرحتها كما توقع فارسها، صرخت من اعماق خوفها:" وديع"، بدا ان الفارس فهم ما ارادت ان توصله اليه، فسالها عما اذا كانت تريد ان تعود الى بيتها، فهزت رأسها علامة الموافقة، فما كان من الفارس الشهم الا ان تناولها من جنتها الموعودة و.. العودة بها الى حديقة المدينة. هناك اتفق معها على ان يلتقيا كلما حلت ضيفة عزيزة على حديقتيهما المباركة.

بعد ان ولى الفارس مختفيا بين الاشجار ذاتها، وجدت نفسها وحيدة كأنما هي المرأة الوحيدة على الارض. بعد قليل حملتها رجلاها مجددا لتتوجها بها صوب بيتها.. وتصورت نفسها تفتح خوخة بوابة بيتها الكبيرة وتدخل منها، حاضنة حقيبتها اليدوية، كما تحتضن الام ابنها المشوها.. ومضت باتجاه غرفتها وسط وجه اختها المقطب وصراخ وديعهم.. لأول مرة لم تعبأ بما يدور حولها، واستلقت على سريرها.. واستلقى الى جانبها.. حلم.

***

قصة: ناجي ظاهر

حييتُ غزةَ إجلالاً وإكــــــراما

حييتُها تُمطرُ الأكـــــــوانَ إلهاما

*

حييتُها وشــــواظُ النارِ يَلفحُها

من كل صوبِ فما أحنَت له هاما

*

تضرَّجَت بدماها وهـــي واقفةٌ

كأنها شــــــــبحٌ من موتهِ قاما

*

وحــــــــــولها كلُّ أفّاكٍ وإمَّعَةٍ

والكلُ يوسعها رجمًا وإيلاما

*

في طُهرِ مريمَ هم يدرونَ عفتها

لكنهم نكصــوا جُبنًا وإحجاما

*

الغارقونَ إلى الأذقانِ في نَجَسٍ

يرمــــونَ قِدّيسةً إفكًا وآثاما

*

ياويحَ قوميَ لو يدرونَ ما جلبت

عِزًا وفخرًا وتمجيدًا وإقداما

*

للقاعدينَ تخلَوا عـــــن إغاثتها

الزارعينَ ببطنِ الغيبِ أحلاما

*

قُل للخَوالفِ إذ يرجونَ عَثرَتَها

قد خابَ سعيَكُمُ خُسرًا وأوهاما

*

عادَ الصليبيُّ يا عكا وجحفلُهُ

وليس مثلَ صلاح الدينِ من راما

*

عَدَت علينا خيولُ الرومِ ما لقِيَت

ذا نَخوةٍ  من سَراةِ القومِ  هَمّاما

*

إلاكِ يا غزةَ الأحرارِ يا قبَسًا

أزاحَ عن جنباتِ الليلِ إظلاما

*

يا غزةَ العزِّ يا حصنًا نلوذُ بهِ

حُصونُنا قد غَدَت في الساحِ أكواما

*

يا غزةَ المجدِ والأمجادُ نادرةٌ

كـــــلٌ يمجدُ  أوثانًا وأصناما

*

فاجئتِهم يوم زحفٍ لا مثيل له

إلا ســـوابقَ خيل الفتح أياما

*

أتى على الكُلِ طوفانٌ فمادَ بهِ

يا هيبةَ اللهِ إجلالاً وإعظاما

*

هذي دليلةُ قد عادت مُظفرةً

جزّت ضفائرَ شمشونٍ فما قاما

*

هذي فلسطينُ قامت بعدما صُلِبت

وحطمت قيدها عُنفًا و إرغاما

*

هبت فلسطين عاليها وسافلها

نادت لتوقِظَ عنها كلَّ من ناما

*

وأسمعت كلَّ من في الكونِ صرختها

إلا لمُعتصمٍ قـــد دانَ أو لاما

*

فهبُّ أحفادُ (منديلا) لنجدتِها

ومن (دي سلفا) أتاها الدعمُ أنساما

*

مشارقُ الأرضِ نادتها مغاربُها

فزَلزَلت جنبات الكــــــونِ أنغاما

*

حييتُ كل شهيدٍ فوقَ تُربتِها

برمشِ عينيهِ يوري النارَ إضراما

***

شعر: فيصل سليم التلاوي

1/3/2024

شيّعتُ ويا ما شيَّعتْ..

فِي صَحرَاءِ هَذا القَلْبِ..

اللَّوْن باللَّوْنِ..ضَوءٌ خَافتٌ رُبَّما يَطُولُ

العُمْر بالعُمْرِ..

صَبْرٌ أيُوبيّ حَتْماً يَهُونُ

اللَّيِّن حِينَ يُعْصَرُ واليَابِس حِينَ يُكْسَرُ..

يَنْفَلتَانِ ِمنْ بيْنِ الأصَابِعِ دُخَانًا.. تُرَاباً.. عَرَقاً.. دَماً..

الماء وأنَا أغْرَق

النَّار وأنَا أُحْرَقُ..

الدم وانا أهرقُ..

فِي صَلاتِي آخِرَ دُعَاءٍ للرَّبِ أنْ تحْرقَ الشَّمْسُ شَظَايَا الأجْرَامِ

فَعُيونُ نِسَائِنَا بِلَا كُحْلٍ مُغْمَضَة..

والسِّيقَانُ بِلاَ وَشْمٍ لا تَعْصِرُ خَمْراً.

مَسْحُوقُ القَمَرِ فِي  يَدِي

لِكِتَابَةِ قَصَائِدَ المَطَرِ

وتلْوِينِ مَدْخَلِ المقْبرَةِ..

*

الرِّيحُ وأنَا أطِيرُ نِصْفَ مَلاَكٍ هارِبٍ مِنْ وَهْجِ العِبادَاتِ..

مَكْمُولَ الشَّهوَةِ لِطَمْسِ  خَرَفِ الحِكَايَاتِ..

زَاهِدٌ فِي عِشْقِ نَجْمةٍ

تَشِعُّ فِي سِرْدَابِ اليَّقَظَةِ

تَخْلِطُ الحُلْمَ بالرُّؤى..

تَخْلِطُ بَيْنِي والجِنَّ الذِّي لَسْتُ أنَا مَائِيَتِي بِنُزُولِ المَطَرِ..

سَمَاءَهَا بِأدْخَاشِ البَشرِ..

تَلْطِمُ سَلْوَايْ بِأبْرَاجِ الحَجَرِ

وآهٍ منَ النِّكَايَاتِ !

وسَاعَاتِ الضَّجَرِ

وآه مِنْ لَسْعَةِ النِّهَايَاتِ !

ومَا غَمَّضَهُ القَدَرُ

*

شيَّعْتُ أغْلَى الذِّكْرَيَاتِ عَبْرَ الرِّيحِ ولاَ كَفَنٍ..

فَمَا طَارَتْ سوَى عَيْنَايْ..

تعُدُّ طَعَنَاتِ غذرِ الزمانِ..

خبَّأتُ في عَرْضِ السَّمَاءِ دَمْعَة.. ثمَّ قبَساً مِنْ نَارٍ..

وعُدْتُ أكْنِسُ غُرَفَ المَتَاهَةِ مِنْ عَوِيلِ الذِئابِ..

ومِنْ بَقَايَا القُبَلِ الكَاذِبَةِ..

ومنْ سحْرِ الجَاذبِيَّةِ العَمْيَاءِ علَى طَاوِلَةِ الحُمْقِ..

وَكَسَّرْتُ زُمَّارَةَ الأنَا عِنْدَ الرَّتَاجِ الرُخَامِي..

مَزَّقْتُ مُلْصَقَات العَهْدِ القَدِيمِ..

اقْتَلَعْتُ ِمنْ مِزْهرِيَاتِها أكَالِيلَ الأظَافِرِ التِّي تَنْمُو بِبَشَاعَةٍ

غَرَسْتُ أغْصَانَ رَيْحَانةٍ لا تتَوقّفُ عَنِ الصُّعُودِ..

وَكَمْ كَانَتْ ثَمَالَتِي بِلَا شَقَاءٍ..؟ورقْصَتِي علَى نِصْفِ الڤَالسْ مُحْكَمَةٌ..

وانا أصِيحُ بِطَبْعِي الغَجَرِي بينَ الرُّبَى والتِلاَل..

عَنْ ضَيَاعِ العِشْقِ الأبَدِي

صَرَخْتُ فِي وَجْهِ طُفُولتِي..

ولَمْ يَحْمَرَّ وَجْهِي..

انا منْ  كسَّرَ المَرَايَا عُنْوَةً، وكدَّرَ صَفَاءَ السَّوَاقِي ليَتَأَكَدَ الجَمِيعُ بِخُبْثِهِ بالبصِيرَةِ..

لَعَنْتُ لَحَظَاتَ الحَظِّ الهَارِبِ مِنِّي..رَمَيْتُ سَفِينَةَ النَّجَاةِ بِعَيْنٍ حَاقِدَة فَتكَسَّرَتْ..

تَيَّكْتُ أمْوَاجَ البحْرِ فَصَارَ لِلْجَنُوبِ شَمْعَة وللِشَّمالِ شَمْعَة..

وأذْكُرُ أنِّي قَبَّلْتُ يدَ شَيْطَانِي  فَفُزْتُ بابْتِسَامَة..

واقْتَرَبْتُ مِنْ ظِلِّي وجَدْتُهُ مَخْمُوراً..

خَرَجْتُ عَارِياً وكَشَفْتُ  انَّ المَجَانِينَ علَى صَوَاب..

*

أنَا حِينَ أرَى جَدَّتِي تُضِيفُ للّبنِ كَأسَ مَاءٍ أدْرِكُ أنَّ اللُّعْبَةَ مُدْرَجَة بَيْنَ سَنَابِلِ القَمْحِ..

وحِينَ تَرْشقُ كَلْبَها بالحَجرِ                     أيقنُ بِلزُومِيَّةِ الاسْتِمْرَارِ..

تمشي بدلال..

تُلَوِّحُ بأكْمَامِهَا وَلَا تُسْقِطُ مِنْ يَدِهَا  دُمْلُجاً وَاحِداً

تَجِدُ جَدِّي يُلاَعِبُ سِكِينَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ  ينْجُرُ قَلَماً مِنْ قَصَبٍ..وينقبُ في محفظتهِ عنْ سِرِّ شَبَابِي..

أعِي تَمَاماً أنَّ حَرْبَ المشَاعِرِ  سَتَقْصِفُ القَاصِّي فِي القَلْبِ..لِحِمَايَةِ أصْلِ الشَّجَرَةِ

وحْدَهَا الحَرْبُ فِي مُنْتهَى الغُمُوضِ، لِكُلٍّ طَرفٍ حِيَّل

*

شيّعتُ ويا ما شيَّعتْ..

فِي صَحرَاءِ هَذا القَلْبِ..

هَذِهِ الإشْفَةُ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ..

وهذه الكأسُ مِنْ فَرْطِ بُكَاءكَ يا قَمَرُ أغُوصُ فِيهَا حتَّى الصُّبْحِ

أمَّا ثَالِث أصَابِعِي فلاَ يُحرِّكُ أُسْتَ الخِيَانةِ..

وَأنْفِي لاَ يُقَاسُ بِشَقَّةِ البَابِ..

لِي مِزْمَارٌ مَخْرُوطٌ يحْفَظُ نَفْخَةَ أبِّي الأخِيرةَ

أُرَقِّصُ بهِ ثعَابينَ غَضَبِي كُلَّ لَيْلَةٍ

كيْ أنامَ علَى هَوِيَّتِي القَديمَةِ..

نَفِيخُ إنْذَارٍ عَنْ عَصَبِيَّتِي إزَاءَ

الَمرْأَةِ التِّي أجُرُّهاً منْ شَعْرِهَا

هَيَّ فَقَطْ:

دُمْيَةً  مِنْ خُيُوط الشَّجَرَةِ  العَنْكَبُوتِيَّةِ التِّي نَظَمْنَا مِنْهَا عَقِيقَ العَرَائِسِ..عُذْرِي قُرْبَهَا أنَّ المَسِيحَ يسْمَحُ لِي بالمُعٌصِيَّاتِ..

*

شيّعتُ ويا ما شيَّعتْ..

فِي صَحرَاءِ هَذا القَلْبِ..

أحْفُرُ قَبْراً لا يُشْبِهُ قَبْراً

فإمَّا  حَمَامَة

أو ثَعْلَبٌ مَاكِرٌ..

لا خيَّارٌ..

كُلٌ جَسدٍ يَشْتَهِي هَوَاهْ

وجُفُونِي تَشْفَطُ  عنْهَا الرِّمَال

وأهْرَقُ دَمْعِي عَلَى الشَّهِيدِ

فَهُوَ مَنْ أخَذَ المِفْتَاحَ وأخَذَ البَالْ

*

شيّعتُ ويا ما شيَّعتْ..

فِي صَحرَاءِ هَذا القَلْبِ..

ما رماهُ اليّمُ في اليَّمِ

وما أقعدهُ السَّقَمُ في العُقمِ

وما هَمَّهُ الحُزْنُ في الركنِ..

في أذْنَى مِنْ رَمشَةٍ خَمَدَ مِصباحُ سمائي

سَطَا اللَّيْلُ علَى لَيْلتِي

تَجرَّعَ مِحْبَرَةَ دَمِّي

وأغْرَز في العَيْنِ الوَجِعَة يَرَاعَ القصَبِ            الآخِذُ بِالثَّأرِ..

وحَفَارُ القُبورِ

يدٌ واحِدة..

سَاكِبُ الدَّمْعَةِ حَجرٌ

وسَاكِبُهَا آخرٌ ،أفاضَ تَلْتَلَةَ الطيُّورِ قبلَ هَطْلَةِ المَطرِ

بِلِسانٍ أطوَلَ منْ أنهُرِ العَذابِ..

رُضَابُ البنْدُقياتِ خيْطٌ منْ سَماءِ الإنْتفَاضَةِ..

دُخَانُ الِمدْفعِيَّاتِ تَكْمِشُهُ الأيَادِي قَبْلَ أنْ يَصِيرَ مَاءاً

لا أحَدَ يخْتَبِئُ بظِّلِ شَجَرَة ولاَ  فِي الطَّرِيقِ مِنْ يدْعُوكَ ِلسَلاَمٍ..

وحَالُ أصَابِعِي مُهَلْهَلَة تَعْزِفُ أجْوَاءَ حَزِينَة..

لَيْتَهَا أخْطَأَتِ الزِّنَادَ..

ليْتَهَا مَلَّتْ العِنَاد

***

بقلم عبد اللطيف رعري - مونتبوليي

ألا هُــزّي الــترائبَ والــمتونا

فــمِــثلُكِ مــا رأيــنا حَــيزَبونا

*

لــقد  بــاتَ الجهادُ بهزِّ خَصْرٍ

نــدكُّ بــهِ حــصونَ الــمُعْتَدينا

*

يُكرّمُكِ  الملوكُ فَصَرتِ رمزاً

كــــأُمٍ  لــلــبــناتِ ولــلــبــنينا

*

دَعِــينا مِــن حَــلالٍ أو حــرامٍ

فــتــيهي بــالضّلالِ و رَفِّــهينا

*

لــقد  أزرى بــنا التَّشْدِيدُ دَهْراً

حَـــرِيٌّ بــالــمُشَدِّدِ أنْ يــلــينا

*

إذا  أمــسى الــعواهرُ داعياتٍ

فــفــتواهنَّ عــنــد الــرّاقِصِينا

*

شَــرِيــعَتُهمْ تُــحــدّدُها ســدومٌ

تــؤيّــدُها عــجــوزُ الــغابرينا

*

فــأخرجنا لــكمْ شــيخاً حــديثاً

بــمــظهرِهِ يَــســرُّ الــناظرينا

*

إذا مَــضغَ الحشيشَ أتاهُ وحيٌ

يُــحــدّثُكمْ حــديــثَ الــعارفينا

*

فــلــقّنّاهُ مــن أســفارِ مــوسى

لــيصبحَ شــيخكمْ عِجلاً سمينا

*

كــعجلِ  الــسامريِّ لــه خُوَارٌ

يــــردّدُه  شــمــالاً أو يــمــينا

*

يــثرثرُ كــي يُثيرَ لنا ضجيجا

ذبـــابٌ  يــمــلأُ الــدنيا طــنينا

*

رَحَــىً قــد كــانَ لُهْوَتُها هواءً

لــجَعْجَعَةٍ سَــمِعْنا ولا طــحينا

*

لــقدْ زرعَ الــعدوُّ بــنا ذيــولاً

شــياطينا وقــدْ وضَعتْ قرونا

*

كــحــرباءٍ لــهــا جــلــدٌ بــهيٌّ

تــخــبئُ تــحــتَهُ حــقداً دفــينا

*

ســئمنا والــنفاقُ غــدا ســبيلاً

لــكــلِّ مُــخنثٍ أمــسى قَــطِينا

*

يُــدَاهــنُ كــلَّ ذي رأيٍ ســفيهٍ

يَــصِيرُ  لــمَنْ يُــجاملهُ عجينا

*

فــلو دخــلوا بيومٍ جحرَ ضَبٍّ

رأيـــتَ  كــبارَهُمْ مُــتَقاطرينا

*

يــحــبون الــسفاسفَ والــدنايا

كــجــعلانٍ تُــلاحقُ غــائطينا

*

بــديــنِ مــحمدٍ عــاثوا فَــسادا

ولــلأعداءِ مَــحْضُ مــروجينا

*

لــقد خُــلِقَ الــبغالُ لــتركبوها

لــها بــاتَ الــخلائقُ مُهْطِعينا

*

هــمُ الــخبراءُ فــي علمٍ ودينٍ

و  بــاتوا فــي الــبلادِ مُفكِّرينا

*

عــلى الإعــلامِ أعــلامٌ كــبارٌ

فــصــاروا لــلكتابِ مُــفَسِّرِينا

*

وكــيفَ يُــفَسِّرُ الآيــاتِ رَهْطٌ

بــنُطقِ الــضادِ كــانوا مُلْحِنينا

*

فــــلا  فِــقْــهٌ يُــؤَيِّــدُهُ دلــيــلٌ

ولا اســتنباطُهمْ أضــحى مبينا

*

ولا قــولُ الــرسولِ له اعتبارٌ

وبــاتوا في الصّحاحِ مُشكِّكينا

*

فــساروا  بالكتابِ على هواهمْ

وصـــاروا  لــلعبادِ مُــضللينا

*

خــراتــيتٌ يُــشــجعُها خــبيثٌ

لكي يغدو الخنا في الناسِ دينا

*

ولـــولا  أنْ تَــبَــنْتهمْ عــجولٌ

رأيــتَ  الــناسَ منهمْ ساخرينا

*

مــسيلمةُ الــكذوبِ إذا يُــبَاري

دعــاةَ الــسوءِ كــانوا السابقينا

*

تــراهمْ  مُــمْسكينَ بكلِّ سُخْفٍ

وفــي الحسناتِ كانوا زاهدينا

*

لــمَ الــتّقليدُ في الأديانِ فرضٌ

وفــي باقي الأمورِ غدا مُشينا

*

إذا حَــدثَ انتخابُ جمالَ عنزٍ

لــفازَ  الــتّيسُ دونَ مُــنَازِعينا

*

فــفي أمــرِ الــسياسةِ لا كــلامٌ

وإنْ دامَ الــبــلاءُ بــهمْ ســنينا

*

وإنْ ظــلَّ الــتخلفُ والــرزايا

كــطــاعونٍ  يــحاصرُ مَــيّتينا

*

فــهلْ  يــأتي التطورُ ذاتَ يومٍ

نــراهــمِ لــلوجوهِ مُــغَيِّرينا..؟

*

جــمعتمْ  بــين تــوحيدٍ وشركٍ

وأصــنــامٍ  وقــولِ الــصابئينا

*

فــلو كــلُّ الــعقائدِ صــالحاتٌ

لــمــا بــعثَ الإلــهُ الــمرسلينا

*

وأحــمــدُ كــان خــاتمهمْ نــبياً

أتـــى لــلناسِ طــراً أجــمعينا

*

لــينسخَ ســائرَ الأديــانِ حُكماً

ومــا  كــتبَ الــبغاةُ مُــحرِّفِينا

*

بدينِ سجاحَ لايرضى حَصِيفٌ

ومــا خــطَّتْ أيــادي المُفْتَرِينا

*

كــفرتُ بــهِ ولــيسَ الكفرُ إثماً

إذامــا الــكفرُ نَــجّى المؤمنينا

*

كــكفرِكَ بــالطواغيتِ امتثـالاً

لــــقــولِ اللهِ ربِّ الــعــالــمينا

*

وآمــنــتمْ بــطــاغوتٍ وجــبتٍ

عــلــى الآثــارٍ كــنتمْ مُــقتدينا

*

ألا يـــا أيُّــهــا الــشــذاذُ إنِّــي

بَـــراءٌ حــيثُ كــنتمْ رائِــحينا

*

لــكــمْ  ديـــنٌ تُــفضّلُهُ ســدومٌ

ونــحنُ بــديننا طــوعاً رضينا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

أصنع من شراييني حبال أرجوحة لليتامى

أو حبل غسيل لأرملة

لتنشر سنواتها الأخيرة

مبقعة بالدم ورائحة البارود

أو جسرا متحركا

ليعبر العميان إلى بحيرة الضوء

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

لم أفتح النار إلا على مخيلتي

لم أظلم غير الكائنات  التي تعج بداخلي

لم أحلب عنزة أو بقرة

بل حلبت شطري الأسفل

في مكان مظلم مليء

بطبول غرائزي

وقرع النواقيس في دارة قلبي

أضحك مع الجدران على حياتي البائسة

إذ تزعق كل مساء

مثل جدجد ضرير

لم أكن سيئا مع الآخرين

مع الناس الذين يزرعون التوابيت

في حديقة رأسي

يملأون نهاري الأشيب بنعيق الغربان

يكسرون زجاج حواسي بإشارات مؤذية للغاية

ينتظرون المعجزة الكبرى

سقوطي المفاجىء في حفرة الماليخوليا

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

لم أعاقب أحدا غير كلماتي

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

أحترم الأشباح كثيرا

أحترم الموتى كثيرا

أدعوهم إلى الصبر والصلاة والموسيقى

في انتظار قيامة اللاشيء

أرمي ثيابي القديمة في البئر

لصديقي الذي انتحر

مساء الأحد الفائت

بسبب الفقد والفقر والنميمة

وهروب اللحظات الجميلة

من قبضته الهشة

لم أكن سيئا إلا مع ذئاب متناقضاتي

مع ينابيع جسدي المتوحشة

مع دببة الشك واليقين

التي تتقاتل تحت جلدي المغضن

أحترم السماء كثيرا

أحيانا أرشق بصري طويلا

منتظرا صحنا طائرا

أو نبيا رائعا يمر من هناك

حاملا مصباحا أو سلة مليئة بالأرز

كنت أضحك دائما

عندما تسقط تفاحة القلق على رأسي

أو في جنازة أحد الرهبان

عندما يطردني الله يوم الأحد

لأني أشرب طوفانا من الخمور المعتقة

وافترس ساعات طوالا من حياتي العابرة

لم أكن سيئا مع الذين ملأوا

فمي بالقش والضباب

وحياتي بالأكفان والنواح

الذين يخططون لقصف ما تبقى

من حياتي البائسة

لم أكن سيئا مع الآخرين

رفعت يدي طالبا  من  الله

بأن يرمي لي حبلا من السماء

لأكتشف مجوهرات اليقين

وعذوبة الفناء في الضوء الأبدي

غير أن جاري العربيد

سبقني مختطفا الحبل في رمشة عين

بينما  بقيت أتخبط

مثل نسر مكسور الخاطر

بين الأماكن المحرمة

***

فتحي مهذب - تونس

في المساء استرخى على اريكته الجديدة في بيته الجديد. وهو يقول لنفسه حمدًا لله لقد ارتحت من ذلك البيت القديم وكوابيسه المتواصلة. الآن سأبدأ فترة جديدة في حياتي. فترة بعيدة عن الشرور والاشرار. ولمعت في خاطره أضواء قادمة من بعيد" أن تكون مرتاحًا يعني أن تكون موجودًا"، قال في نفسه وهو يُغمض عينيه مُقتربًا من وسنه الخفيف المُقبل. اجتاحه شعور بالارتياح طالما تاقت إليه نفسه، إلا أن ذلك الشعور ما لبث أن ابتدأ يخفّ رويدًا رويدًا. في المقابل له كان هناك أنين مستغيث يأتي بخفّة طير اسود.. يأتيه مِن هُناك مِن مكان حاول أن يرصده.. إلا أنه لم ينجح.

زحفت العتمة على أغراض البيت ببطء أنساه انتباهته. ارتفعت الاستغاثة. وقف.. فتوقّفت الاستغاثة. تجوّل في انحاء البيت علّه يجد مصدرها. إلا أنّه عجز.. هدّه النُعاس فألقى بجسده على أريكته الجديدة. شعور غامر أكد له أنها لا تختلف عن تلك القديمة.. إلا في الشكل. سوى أن نعاسه غلبه فنام، نام بملابسه.. تورّط في نومته تلك بسرعة فلكية.

كان كلّما غفا.. توقظه تلك الاستغاثة. ترتفع بشدة وعندما يلتفت إليها تخفت.. حتى تكاد تختفي وتتلاشى. يتحرّك على أريكته.. ترتفع الاستغاثة قليلًا.." هل كُتب عليّ أن أعيش كلّ هذا القلق في هذه البلدة المنكوبة بالدم"، قال في نفسه، وتابع" هربت مِن الدم إلى الدم.. ما أقسى هذا"، .. كان لا بُدّ له من أن يبحث عن تلك الاستغاثة. فتّش عنها في كلّ أنحاء البيت، لم يجدها. كان يشعر بها قريبة جدًا منه وبعيدة جدًا عنه. أصرّ على البحث. مع هذا لم يخرج بأية نتيجة.

غلبه النعاس فنام.. في منامه تراءى له مَن يشهر سكينه ويغرسها في عنق مارّ بالقرب من بيته.. ارتفع أنين الاستغاثة. فتح عينيه. ارتفع الانين أكثر فأكثر، أطلّ من نافذة بيته كان كلّ شيء هناك هادئًا.. هادئًا.. مِن أين يأتي هذا كلّه.. ولماذا يلاحقه إلى هُنا..

الانين يدفعه لأن يتوجّه إلى المطبخ. يتناول ساطورًا اشتراه لوقت الحاجة، يضعه تحت مخدته. ويرخى رأسه عليه. ارتياحه ذاك لا يطول. يعود الانين إلى ارتفاعاته السابقة.. تدفعه الاستغاثات المتتالية للتفكير في اتجاهات شتى. كلّها تفضي إلى أمر واحد.. ما دام الخطر بعيدًا عنه.. فإنه سيكون بخير. منذ طفولته كان يشعر أنه حالة استثنائية وأنّ الخطر سينال العالم كله ولن يناله.. سيكون بعيدًا عنه.

عاد إلى غفوته ليعود الانين الاستغاثي إلى الارتفاع. اختلط الواقع بالحلم. فتراءى له هذه المرة مَن يركض في الشارع.. إنه يشبه قريبًا له.. ومَن يركض وراءه.. فجأة يتراكض الخلق.. تعود الصورة لتتركّز في القريب الهارب وملاحقه.. الدم يتنافر في كلّ مكان. الهارب يتحوّل إلى قوة جبّارة. يغرس مخالبه في عنق ملاحقه. يتركه ينزف هو وساطوره. يتوقّف في منتصف الشارع المحاذي لبيته. يتوقّف منتشيًا أو ثملًا أو.. ينهض الملاحق الملقى على الارض.. يقترب من الهارب المتجمّد.. يقترب ببطء عدسة مركّزة.. يحتضن غريمه الواقف وسط الشارع.. يحتضنه كأنما هو أخ يحتضن أخاه في لحظة غريبة خارجة عن حدود الزمن.. يحتضنه.. يسحب حدّ ساطوره مِن أسفل رأسه.. هناك في خلفية عنقه بالتحديد.. يسقط رأس الهارب.. تبقى جثته منتصبة بين يدي ملاحقه. بعدها يترك الملاحق ذلك الهارب ليتهاوى.. ولينطلق رأسه بأنين استغاثيّ يقطع نياط القلب.

يشعر صاحب البيت الجديد بجفاف في حلقه. يفتح النائم عينيه، يتواصل الانين وتتواصل الاستغاثة.. عبثًا يحاول أن ينام.. يتناول ساطوره من تحت مخدته.. يتوجّه إلى نافذة بيته المطلّة على الشارع المحاذي.. يرى الظلام هناك منتشرًا في كلّ مكان.. يعود إلى أريكته.. يعود متحسّبا قلقًا.. كيف سينام بعد ذلك الكابوس الثقيل؟

يلجأ إلى طريقة طالما استعملها في ساعت قلقه الملحّة ويكاد يقول القاتلة.. يتصوّر سُلّمًا يصلُ الارضَ بالسماء.. يرتقي السُلم درجة إثر درجة.. في أعالي السُلّم.. في أعاليه قبل درجته الاخيرة بدرجات معدودات.. يرتفع الانين المُستغيث.. هذه المرة يرتفع قريبًا جدًا منه.. إنّه يكاد يلامسه.. يتراءى له أنه ممثلٌ سينمائيٌ مشهورٌ.. يتوقّف قُبالة غريمه الممثل المنافس.. كلّ منهما يغرس عينيه في عيني الآخر.. غضب أسطوريّ يشعّ من عيني غريمه.. يرسل نحوه غضبًا مماثلًا.. لكن ممزوًجا بشيء من الخوف.. يده تشتد على ساطوره.. يرفعها ويهوي بها على رأس غريمه.. يندفع الدم من الراس قبالته.. مثل نافورة محتبسة.. يسقط غريمه على الارض.. يشهر مسدسًا و.. يطلق عليه.. يتهاوى.. رصاصة إثر رصاصة.. الرصاصة السابعة تسقطه أرضًا.. يخرج مِن جسده.. يُرسل نظرة إلى غريمه الممثل المنافس.. يركض هذا متلفتًا حذرًا.. بعد امتار بالقرب من بوّابة حجرية قديمة.. يتوقّف.. يخرج من جسده.. ويولّي بعيدًا.. فيما ينطلق هو في الاتجاه المُعاكس.. يبتعد عن بيته.. عن أريكته.. عن ذلك الانين اللعين.. ويتوقّف هناك حيث لا سواطير ولا استغاثات.. عندها يتوقّف كلّ شيء.. كلّ شيء.. أخيرًا.. أصبح .. واحدًا.. واحدًا منهم.. يا للهول.

***

قصة: ناجي ظاهر

قالَ قُلْها .. لا تَخَفْ

أنتَ قصّرتَ المسافاتِ

و واريتَ الدَّهاليزَ

و جاوَزْتَ حُدُودَ المُنْتَصَفْ

لَمْ يَعُدْ يَسْمَعُ صوتَكْ

أحدٌ يُوجَدُ قُرْبَكْ

فَلِمَ الخوفُ مِنَ الصّوتِ

أو  المشيِ

وما مِنْ أحدٍ كانَ سواكْ؟

و خُطاكْ

تَعْرِفُ الدّربَ

وتمضي مثلما شاءتْ رؤاكْ

.................................................

.................................................

ظلّ في أُذْنَيْكَ يَصْرُخْ

لِتَقُلْها

كلماتٍ لَمْ يَقُلْها

أحدٌ غيركَ

قُلْها

غيرَ  إنَّكْ

عندما قرّرتَ أنْ تبدأَ قولَكْ

خذَلَتْكَ الذّاكرةْ

لَمْ تَعُدْ تذكرُ  ماذا

كانَ يبغي أنْ تقولْ

مالذي كنتَ تُريدْ

أنْ يُقالْ

قلتَ ما أتعسَ هذا مِنَ مآلْ

كلّ ماكنّا سَمِعْناهُ

نَسِيناهُ

فماذا سوفَ يأتي

وأنّا ضيّعتُ صوتي؟

والسّؤالْ،

في دُمُوعي

ظلَّ يتلوهُ سؤالْ:

كيفَ تحيا؟

واقعٌ دُنْياكَ

أمْ دُنْياكَ وهمٌ وخيال؟

***

شعر: خالد الحلّي

أحيــــــاناً

يَحْمِلُني عَلَمي

بِسِنِّ القلمِ

لملاقاةِ (الجيش) الهَرِمِ!

*

أحيــــــاناً

أتَصَبَّبُ أَلَقَا

فأصُبُّ رحيقي مُختلفاً

ألوانهُ خالصةً عَبَقَا

مُفْعَمةً...

سائِغةً طَبَقَا!

*

أحيــــــاناً

تَنْشُدني البلوى

أنْ أَلْعَبَ - فسْقَاً وظَلَالاً -

دور الفَتْوَى!

*

أحيــــــاناً

يَشْرَبُني كأسي

على وَعْيٍ

بِحَوَاسٍ خَمْسِ!

*

أحيــــــاناً

يَهتِفُ بي الحَجَرُ:

(حِجْرُكَ) أكثرُ

مِنِّي خَطَرُ!

*

أحيــــــاناً

أَنْسَى أنْ أَنْسَى!

*

أحيــــــاناً

يَتَمَنَّى (الزَّمَـــعُ)

لَفْتَةُ نَعْلي...

وهُمُ (الوَجَـــعُ)!

*

أحيــــــاناً

آلامي تُزْهِرْ!

*

أحيــــــاناً

لايَغْفو ضميري

مِنْ تأنيبِ ضميري!

كيف سيغفو

وهو أميري!؟

*

أحيــــــاناً

في وجهي تَنْبَحْ:

مُعْتَقَدَاتٌ...

وعماماتٌ

ولِحَىً .. تَنْطَحْ!

*

أحيــــــاناً

مُعْتَقَدي عُقَدي!

*

أحيــــــاناً

يَسْمَعُني صوتي

فيناديني بأعلى صَمْتِ!

*

أحيــــــاناً

خَطَئي يَتَصَيِّدْ

فَلَتَاتُ صَوَابٍ يَتَبَلَّدْ!

*

أحيــــــاناً

وقتي يتأخر!

*

أحيــــــاناً

في وادي عَبْقَرْ

هَجْسَةُ ضوْءٍ

تبحثُ عني

كي تتحرَّرْ !

*

أحيــــــاناً

يسألني عنترْ

عن معنى: (حُكَّام اليومِ)؟

فلا أتذكَّرْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

2024 فبراير

 

استيقظ جبر العايش من نومه مذعورا على صراخ زوجته وهي تناديه:

(انهض يا رجل لقد مضى على حالتك هذه عدة أيام وأنت معتكف في البيت! قل لي ماذا تشعر هل أنك مريض؟

رد عليها زوجها: لست مريضا أن هناك أمر يشغل بالي.

عادت زوجته لتقول له: لقد لاحظت ذلك منذ أن رجعت آخر مرة إلى بيتك، قل ما الذي شغل بالك؟

قال جبر: (ليس الآن سأبين لك ذلك في وقت آخر.)

غادر جبر داره بعد أن تأكد له بأن الصوت الأجش لم يعد يرن عليه ولم يعاود الاتصال.3486 المسلخ البشري

سلك جبر نفس الطريق التي اعتاد أن يسلكها للذهاب إلى عمله. الطريق التي تؤدي إلى وسط المدينة حيث الساحة العامة تلك الساحة التي كثيرا ما شهدت تجمع أعداد غفيرة من الناس وخلال مناسبات مختلفة منها مفرحة ومنها محزنة وإن عدد أيام الحزن هي أكثر بكثير مقارنة بأيام الفرح!!

ما أن وصل جبر إلى تلك الساحة حتى اجتاحته حالة من الاستغراب! عندما وجد أن الساحة خالية من الناس بعكس ما كان يجدها في مثل هذا الوقت المبكر من النهار حيث تكون مكتظة  وتتعالى أصوات الباعة وضجيج العجلات فيها.

أمضى جبر وقتا في الساحة عله يعثر على واحد من المارة كي يسأله عن سبب هذه الحالة الغريبة!

لمح جبر أحد الأشخاص متجها نحوه:

قال جبر محدثا نفسه: قد يكون سر هذه الحالة لديه فأسأله وليطمئن بالي.

أقترب الرجل منه وعندما أصبح بمحاذاته بادره بالسؤال قائلا:

(لو سمحت يا أخي هل يمكنني أن أطرح عليك سؤلا)؟

أجابه الرجل: (بكل رحابة صدر سل عما بدا لك.)

وأرف قائلا: (عجيب ألا تعرفني يا جبر!؟)

تطلع جبر في وجهه الرجل مستغربا فقد بدا له غريبا! قائلا له معذرة من تكون أنت؟

ضحك الرجل وقال: هل نسيتني يا جبر أنا زميلك في العمل أنا غركان؟

تطلع جبر بوجه غركان وأخذ يدقق بمعالمه عله يتذكره لكنه لم يتوصل إلى نتيجة، وفضل أن يعرف منه أولا سبب خلو ساحة المدينة من الناس في هذا الصباح الباكر.

لقد دار بخلد جبر أن يبين لغركان سبب عدم تذكره وعندها قال له:

بكل أسف فقد تخونني الذاكرة بسبب أحداث صعبة ورهيبة مررت فيها تركت أثرا في نفسي وجعلت أفكاري مشتتة وخاصة بعد حادثة (المسلخ العمومي) وعلك قد سمعت فيها أنت أيضا.

عندها صرخ غركان: (كأن حالة من الجنون قد أصابته)

يا صاحبي أنا أحد ضحايا المسلخ العمومي وكان معي عديد من الناس دخلوا إلى ذلك المكان الرهيب أفواجا لا يمكنني أن أتذكر عددهم ثم أردف قائلا أنت ذكرت (المسلخ العمومي) وهل كنت هناك أيضا؟

قال جبر نعم كنت قد دخلت اليه لكنني نفذت بجلدي وتركت المسلخ هاربا عندما بدأت عملية سلخ الأجساد حيث إنني لم أخلع ملابسي ولم اتعر عند سماعي أمر صاحب الصوت الأجش وعليه لا أعرف ما لذي جرى من بعدي؟

قال غركان: هنالك في الركن مسطبة لنذهب ونجلس عليها وسأقص عليك ما جرى بالتفاصيل. بدأ غركان يسرد ما دار في ذلك المكان الرهيب قائلا: الغريب إن أعدادا غفيرة أخذت تتدفق داخل المكان وذلك بفعل نداءآت وشعارات مغرية كانت تتطلق من مكبرات صوت تم نصبها فوق المسلخ تدعو الناس للقدوم إلى المسلخ لينالوا حصتهم!!

كان غركان عندما يتحدث يصاحب كلامه صفير أشبه بصفير البلبل كما أن جبر قد لاحظ تغيرا كبيرا قد طرأ على وجه غركان بحيث لم يتمكن من معرفته للآن ,حتى بدا اليه خاليا من أي أثر للشعر فقد أختفى من رأسه وحاجبيه وأهدابه وذقنه وشاربه والناظر اليه يظن أنه قد أخذ جرعات من الكيمياوي بسبب أصابته بداء السرطان!

شعر غركان أن جبر ينظر إلى وجهه باستغراب عندها قال له: لا تستغرب يا صاحبي مما تراه سابين لك ما حدث لي ولكل من بقي مدة طويلة في ذلك المسلخ المشؤوم.

خلال حديثهما مر واحد من الأشخاص من أمامهما عندها أصيب جبر بالذهول مما شاهده فقد وجد أن شكل الرجل الذي مر من امامهم يشبه بالضبط نفس وجه غركان!!

لم يدم استغراب جبر فترة طويلة حتى مر أمامه اثنان وثلاثة وأربعة اشخاص ثم تضاعف عددهم وكان الجميع متشابهين وبنفس الوجوه والقسمات!!

انتبه جبر لحركة عيني غركان فوجدهما اشبه بالبلور جامدة الجفون كما أن هذا الشيء ينطبق على الآخرين أيضا من الذين مروا أمامه!!

قال جبر في قرارة نفسه: عجبا كيف حصل هذا التشابه وما هي الإجراءات والعمليات التي قام فيها أصحاب الصوت الأجش ليظهر كل هؤلاء الناس متشابهي وبوجه واحد؟

شعر غركان بحيرة واستغراب صاحبه فقال له من أجل أن يخرجه من حيرته:

قلت لك أنني سأروي لك كل ما جرى وحدث في ذلك المسلخ وبما أنك قد تركته فبل أن يقع ما وقع لنا ثم بدأ يسرد تلك الأحداث المثيرة:

بعد أن أتمت الماكنة سلخ جلودنا وتعليقها بالخطافات أصدر ذو الصوت الأجش أمرا جديدا لا يختلف غرابة ورهبة عن سابقته من الأوامر!!

وهو:(على جميع المسلوخة جلودهم أن يتقدموا للدخول لحوض التطهير!)

باشر جماعة الصوت الأجش المسلحون والمقنعة وجوههم بأخذنا واحدا تلو الآخر إلى حوض ما أطلق عليه التطهير!

عند ذاك طلب غركان من صاحبه أن يمهله بعض الوقت ليروي ظمأه لأنه شعر بالدوار بسبب تذكر تلك المواقف الرهيبة قائلا له أنه سيباشر حديثه بالتفاصيل.

***

لطفي شفيق سعيد

مدينة رالي 27 شباط 2024

كتابة ما بعد التسعين

 

إلى ...؟

وداعاً !

وتصلّبَتْ شفتي

وأودعْتُ العيونَ شرارةَ الَّلهبِ

وعدْتُ بلا شفاهٍ ترفعُ الإنجيلَ

تحكي قصةَ العطشِ

مراراتُ الخطيئةِ لونُ انساني وأرديتي

شموعُ كنائسِ الغفرانِ أطفأها السَّرابُ

فضاعتِ الرُّؤيا

وعدْنا للشوارعِ نحتمي بالظِّلِّ

نُلقي في الدُّجى نظرةْ

لعلَّ يداً تمدُّ الى الرَّصيفِ

تعطُّشَ الرَّغبةْ

لعلّ يداً تمدُّ على عيونِ الصَّيفِ

أنهارَ الجليدِ، وتقلعُ النَّظرةْ

رجعْنا نحتمي بالليلِ

نرمي فوقَ أرصفةِ الشَّوارعِ

صورةَ الانسانِ:

تاريخي وعشقي

واحتراقَ الشَّفةِ الظَّمأى

إلى الرَّاياتِ تحملُها الأكفُّ البيضُ

نحوَ منابع الشُّهُبِ المُنوِّرةِ التي

تروي جياعَ الأرضِ أنوارَ المساجدِ

قرعَ أجراسِ الكنائسِ

فوق أجنحةِ السَّماواتِ الَّتي

زحفتْ إلى قلبِ الشَّوارعِ

تحملُ الغفرانَ

لكنَّ الخطيئةَ لونُ انساني

وداعاً!

وتصلَّبَتْ شفتي...

***

عبد الستار نورعلي

.................

* كتبْتُ القصيدةَ عام 1972 ونُشِرتْ حينها في مجلة (الثَّقافة) التي كانَ يُصدرها المرحومان: أ. د. صلاح خالص وحرمُه أ. د. سعاد محمد خضر، ولم تُنشَرْ في مكانٍ آخرَ. واليومَ تجدُ طريقَها الى النُّورِ ثانيةً.

(عبد الستار نورعلي)

 

على الأشواك نمضي نحو الحتف هادئين

لا الغضب فار ولا الصمت فك الحصار

لكل دمعة آية .....

لكل ندبة في الروح حكاية

ولكل جثة على ناصية الصمت الجبان....

بصمة ....لا يمحوها الدمع المتيبس في المقل...

ولا الشعارات ال تهتز غير بعيد

عن نهر دم يرسم

خارطة التواطؤ

والمؤامرات المزينة بالنياشين

*

خذوا الأكفان لا حاجة لها

عند الموتى المبعثرين على الأرصفة

سيرتقون سلالم السماء

وحدكم ستظلون في وحل الخيانة

تضربون الطين بالطين

رقصات امام ربكم العظيم

خذوا حبات الدمع المتناثرة

أمام نشرات أخبار

تقوض الحكايات والأحداث

لن تغسل العالم من النجاسة

مهما سالت أنهارا

فنحن الطرائد المبتغاة

مهما نبضت العيون بالبكاء

الأفئدة بالصراخ

مهما تناسل الورق في الورق

وتعانقت الأوجاع أمام الكاميرا

لن تبتهل المدائن ...

ولن تخجل المنابر....

مهما اختنق صداها في الافق

او توزعته المفارق

أيها الممعنون في تأثيث اعراس الانفجار

المتمرسون في احتراش الرماد

نحن في ثمر الجموح نحيى

مهما طمرتم في الريح صورنا الكلمى

سيشهرها الغضب رماحا

في وجه الظلام المستبد

أيها السائرون على درب العمى

لكل طفل جائع على جباهكم بصمة

لكل عجوز على صدوركم جمرة

لكل أرملة ثكلت حلمها ....وعد

لن تخلفه حتى يهتز من تحت الرماد

طفل الأناشيد الـ تتفجر بين كفيه الحياة

أيها المتعثرون في الوجوه والأحلام والجراح...

استبشروا شرا بغدكم

إن غدا لناظره قريب

*

قد رأيت فيما يرى المقهور

طيورا تحط على الأقبية

تنقر بذور الأرجوان

فتضيء الأيام....ويغني الزمان....

رأيت الموتى من الاكفان يخرجون

يحررون الاحياء من براثن

الخوف الاثيم

رايت ليل الأسلاف تدركه الدماء

ونهارا فتيا يطرزه الياسمين

والسماء تهدي شمسها

عيدا كبيرا لعاصفة تبشر بالبديل

وترسم  بالتحدي خارطة دليل !

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

نظر إليها بتمعن العطف وبداية النهايات، وهي تكاد تمسح بلطف ما بقي من تساقط دمع عالق بين عينيها. اليوم، كان يرغب في ترتيب فراق غير مدمر للذوات، ولا لتلك الأحاسيس المرهفة بالنكسة. استرد من السماء نفسا طريا ومُحفزا، ثم ألقى بزفير مُكره للتخلص من خلايا منغصات همِّ الحياة، ولما حتى رمي الألم العالق بالتفحم. كان يتوخى تحريك تفاعل للإفلات من ذاك العالم الصلب بالتباعد المضني. ورغم فقد بات يحس مرارا أنه يأسره بين ثنايا أزمانه، وأمكنته الروتينية، وبلا انتظار آت من متغيرات قد تكون مستجدة. كانت نفسه تتوق إلى نيل قسط بالقلة من الحرية الفر دانية، ومن طوق سنوات الامتلاك. كان يرى أن حرية ذاته لسيت توازي انتصار انقطاع الروابط الاجتماعية الكلية، بل نقطة نهاية تفاقمات الخلافات.

ذاك، ما كان يظنه في عمق تفكيره وشعوره المكهرب، والذي يُزينُ له أن الهروب بالانعطاف الدائري الكلي قد يبقيه حيا، ويجنبه مجابهة صعاب تحليل المشاكل بالتفكيك، والتي حتما لن تنقضي البتة، إلا بالتوالد المفرط وبالفبركة غير المتناهية.

بدأ القلق ثانية يتسرب إلى نفسه بعد أن انتهى من لَمِّ بعض من ذكرياته المشتتة، والتي كانت صورا ومخطوطات طفولية، وحتى هي فقد باتت في حكم الماضي من المتلاشيات. في تلك الحقيبة الصغيرة من زمن السندباد البحري، كان يُسرع ولا يراعي ترتيب ما تبقى من زمن حياته ضمن تشكيل حمولتها. من قَرفِ مشاهد حياته، فقد أحس بالفطنة أنه أحرق جزء من عمره. كان يحس ولو بالكذب المموه، أنه تحرر من قبضة ذاك الماضي العتيد، والذي لازال قريبا من ذاكرته وذاته، ويُعاكسه بالتمرد والتنغيص عن بناء الذات الفاعلة بسنن التغيير.

في تلك الزاوية المهملة، انكمشت حول ذاتها، كان النور لا يُغطي مساحة فضاءات المكان. كانت تتوجس خيفة أن تبقى تُعانق الوحدة، و أسلحة الدمار اليومي للحياة. الصمت بات سيد الحكمة، وحتى تلك الحركات بالضجيج لم تعد تَسكن الغرفة بالفوضى. وفي مشهد غير مألوف عليه، توجه نحو تلك الصورة الباهتة باللونين الأبيض والأسود. نظر إلى الجدار الذي لم يعد يقتدر على حملها، شكره من قرار نفسه بالتحدي على تحمله للوجهين المتنافرين، وأدى له تحية عسكرية، تعبيرا بأنه دوما كان يُذكره بالأيام الخوالي. كانت تشهد يوم الهروب غير المسؤول، وبلا جرس منبهات سابقة، وهي تتأسف عن تقطيع الصورة إلى نصفين، والتخلي عنها وحيدة منكسرة الأيدي بذاك الجدار المخربش بأزمات الحياة المستديمة.

كان يصعب عليه تجنب تلك التي كانت تُدعى حبيبته في سالف العمر. كان يُحس بجبن القرار المفرط في ارتكاز الأنانية السلبية. وبات اللوم يلف عنقه بالانقباض والتشنج، وكأنه مُقبل على لحظة النهاية بالإعدام الرحيم. أحسَّ غير ما مرة، أنه فقد بوصلة التيارات المتناوبة والعاملة على سد فراغات هُوة الذات المتفاقمة بالتبعثر والتلاشي، و بات تفكير ه يبحث عن تلك البدائل الممكنة للبقاء حرا وبلا قيد احترازي. كان يومها يصعب عليه التخلي ولو عن ذاك الجزء الباقي من عمره بذاك المكان، والذي بات يشكل له سجنا عميقا بالاختيار. تساءل بشك وحيرة، وحتى بالاستنكار الفارغ من دلالة الأجوبة: لقد آن الأوان لكي أعرف أين أنا من هذا الهروب!! فسفينة سيدنا نوح قد تحجرت حتى هي!!

في عينيها الحمراء بدموع البكاء الجاف، كانت تُشاهد ممرات فواصل من حياتها برفقته في ملحمة الشِّدة لا الفرح. مرات كانت تمرر كرة الثلج الهاوية باللوم إليه بأنه كان فظ القلب، غليظ لسان الكلام. و في لحظات أخرى، كانت تُرسي مركب حياتها جلمود صخر، بأنها لم تستطع يوما من فهم أمانيه المتزايدة، ومساندته في آلامه المتبقية، وإتمام أحلامه المفتقدة. لفترة طويلة تسترق البصر، كانت تُلاحق تحركه القصير بتلك الغرفة الصامتة في قعر الحزن، والتي أفزعها نور النافذة المتعرية على الشارع بالكامل. كانت تتوسل إليه طويلا برمزية عيون الإحساس الداخلي، وبدون لغة. وقد كانت كل نظراتها المتأنية تحمل تعبير كل لغات العالم : أعتذر منك، وعن كل ما صدر منِّي، ومن حب ساويته بالامتلاك لروحك المرحة!!

في تراخي الضوابط الشعورية بالدفء، والإفراط في رسم نقاط التباعد، بات ما تبقى من الحياة منتهية بالحتمية الجبرية. فقد انتهت المنفعة المتبادلة، انتهى العنف المتقاسم بينهما بالدوام، انتهى الخوف من لحظة الهجر، ومن الفرار الاضطراري. لكن الآفة التي يصعب تجنبها بالتحمل حين قرر الرحيل وبلا لمسة متبادلة. نظرت إليه من الخلف وهو يغادر المكان وحياتها، كانت تبحث عن مصداقية بداية إعادة تدوير بقايا الحياة بالنسبة إليهما، لكنه أغلق الباب برفق خلفه وانصرف...

(يتبع...)

***

محسن الأكرمين

 

دشّـنتُ عـامي وقـاك الله بالـمـرضِ

هـو ابـتـلاءٌ أتى في عـارضٍ عـرضي

*

فـالـحـمدُ لله عـند الله أحـسـبُهُ

فـهـو الكريـمُ وحـسبي مـنه بالـعِوضِ

*

ومـا الحــياةُ لـنا إلّا كـمـرحلةٍ

والـحُـــكـمُ لله لا حُـــكـمٌ لـمُـعـتـرضِ

*

دُنـيـا نـعيـشُ بـها قـد لـوّنتْ وجـعي

عـانيـتُ مـنـهُ وفـيـها لم أنـلْ غـرضي

*

عـمـري تـبـدّدَ لا أدري نـهايـتَـهُ

عَــلَيَّ أُحـسِـنُ تـسـديـدًا كـمُـقْــتَـرِضِ

*

ومـا تـبـقّـى عـليَّ الـيومَ أُنْـفِـقُـهُ

في طـاعةِ الله مَـحـسـوبًـا على نَـبَـضي

*

والـعــودُ أحـمدُ للـباري ورحـمـتـهِ

مِنْ أنْ أعـيـشَ مـع الاوجـاع والـمَـرضِ

*

فـهي الـثـمانـونَ حُـلـمًـا حـيـن أحـسَـبُـها

قـضـيـتُـها هـكـذا بـالـطـولِ والـعَــرَضِ

*

وهـيَ الـثـمـانـونَ صـارتْ ظِـلَّ راحـلـتي

ومــا تَـــبَـــقّـى بــعـــــلـمِ اللهِ للــحَــرِضِ

*

أرجـو رضـى اللهِ فـيـهِ حـين أخـتـمُـهُ

هــو الـحـفـيـظ لــمحـفــوظٍ ومُـقـتَـبَـضِ

*

هـي الـثـمـانونَ فـي دُنـيـا تُـنـازعُـنـي

والـحــالُ حِــيـلَ لـمـفـروضٍ ومُــفـتـرَضِ

*

دُنـيـا نـعـيـشُ بـها أحــوالُـهـا غِـيـرٌ

والـناسُ فـيـهـا على الـحــالـيـنِ في رمَـضِ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

- الدنمارك / كوبنهاجن

الاحـد في 25 شباط 2024

........................

* القـصيـدة جـاءت لـسـؤالٍ سـألـني ألاخ الأستاذ الـمـفكر الـتـنويري ماجـد الغرباوي على الـفـيسـبوك،  فأجــبـتُـهُ وكان جوابي هو مطلع القصيدة والحمد لله على كل حال. 

 

القصيدة الأولى

لكي نتغنّى بعذوبة حتى الأبد / فيليب تيرمان*

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

كم يلزم من الوقت لنكشف عن قيامتنا.

وأن نتساءل ماذا أو من سمح لنا بمشاهدة

تبدد هذا الضباب، ورؤية هذه المياه، وهذه الوردة،

يعني أن نتساءل لماذا يجب على اليمامة الحزينة

أن تنظر إلى الخلف نحو الغصن الذي

قفزت منه إلى فسحة عريضة

من السموات لتحلق وتطير، أو لتتكهن لماذا

يعاهد ظل الشجرة شجرته على الوفاء،

حتى يحل الليل فيختفي

كلاهما في عهد وفاء وإخلاص أشمل،

في المكان الموجود وراء الأضلاع، وهناك

نودع كل شخص أحببناه

إلى نهاية حياتنا. والآن

الزنبقة البيضاء أغرقها مطر

يقودنا إلى قصة حب، فيما العالم يشرق، ويتكون

ويزدهر، والشمعة تحترق

طيلة الليل حتى الفجر، وحينها

يتضاعف نورها في النافذة. لذلك هيا بنا

نملأ أرواحنا بالجمال، والحقيقة،

ومثلما تأتي الروح معها، تتابع

مع حياة عشنا كل ما فيها، كأنها عصفور يدخل

من نافذة ويغادر

من النافدة التالية.

حياتنا فرصة

لتلك الروح كي تغني، بعذوبة، وحتى الأبد.

***

................

* شاعر أمريكي. والترجمة من مجموعة ستصدر عام 2025 بعنوان &quot، إزهار كل شيء".

..............................

القصيدة الثانية

لكي نتغنّى بعذوبة حتّى الأبد

قصي الشيخ عسكر

***

البدء أنا

حين يرافقني الظلّ

أستدرج في صدري

بعضا من شكّ والمعنى الآخر أبحث عنه في الوردة والماء

إنّي أضع اللحظة في كفي

أكرعها

وأغنّي

تلك اللحظة كان الظلّ يراودني عن صدري

فأنا أعرفه لايتركني

يصبح ليلا

في نفس اللحظة يدلف في إحدى الشمعات

هذا الكون الهائل والمرعب شتّته نور يتوقّد من صدري

كان هناك بعض ضباب

يبحث عنّي بين الوردة والماء

يحزنه أن يصبح ظلّي ليلا  لايبعد عنّي حين يناغى إحدى الشمعات

من يعقل أن ظلام الكون المرعب يخشى حفنة نور

والناطق عن لغة الحزن ضباب يهزأ بالرؤيا

وبعيدا عن أجواء الصمت ورعب الليل تغنّت نافذة عطشى لهديل يمام وغناء عصافيرتهادت من جنّات الأحلام.

الغرفة حبلى بالنور

وبصدري تسبيح يمام

إنّي أنهض ثانية

بقيامتيَ الأخرى

يتغيّر وجه الكون

يصبح طيرا

ساقية

ومياه

روحي تلبس تاجا منسوجا من حقٍّ وجمال

إذ حقّقت ذهابي وإيابي

في الوردة والماء وفي البرّ، على البحر وفي قسمات النور

سأظلّ،بلا شكّ، من دون فناء

روحي وقيامتيَ الكبرى أبد الدهر!

***

قصي الشيخ عسكر:

..................

ملاحظة: قصيدة الشاعر فيليب تيرمان أشار عليّ الصديق المترجم صالح رزوق أن أضارعها بقصيدة وقد وعدته أن أترجم قصيدتي وأبعثها مترجمة للصديق الشاعر القدير فيليب تيرمان

***

I am the beginning

the shadow accompanies me

I draw in my chest

some doubt and other meaning in the rose and the water

I keep the moment in my hand

Nipping it

And I am singing

At that moment, a shadow was hovering over my chest

I know he will not leave me

It becomes night

At the same moment he entered one of the candles

This enormous and terrifying universe was dispersed by a light burning from my chest

There was some fog

he

is searching for me between the rose and the water

It saddens him that he becomes my shadow at night, not far from me when he is talking to one of the candles

Who would think that the terrifying darkness of the universe would fear from a handful of light?

The speaker of the language of sadness is a fog that mocks the vision

*

Away from the atmosphere of silence and the terror of the night, a thirsty window was serenaded by the cooing of doves and the singing of birds that guided them from the gardens of dreams.

The room is pregnant with light

And in my chest is the praise of doves

I'm getting up again

With my other resurrection

The face of the universe is changing

He becomes a bird

Waterwheel

And water

My soul wears a crown woven of truth and beauty

I achieved my coming and going

In the rose, the water, the land, the sea, and the features of light

I will remain, without a doubt, without annihilation

My soul and my great resurrection are forever!

 

يحولون الدم إلى ذهب

ويقاتلون العدو

في حديقة رأسه المهوشة

في شوارعها الأثيرة

هم تبر الأرض المباركة

يملأون الدوارق بالضوء

ثم يشربون.

*

على إيقاع قرع الأواني

تتساقط دموع الموتى على الإسفلت

الكلمات هزيلة جدا

حمام المحبة نافق

تبا لك يا معبر رفح

يا معبر اللصوص والقتلة

يا معبر العار والفضيحة والخراب.

*

مقرفون نحن يا غزة

عميان نحن يا غزة

العدو  يقرفص تحت جلودنا

يختلس مكعبات الضوء

من عيون الصغار

نحن مثل قردة الكسلان

نتسلق سياج الوراء

بأفواه ملآى بالقش والضباب.

*

سكان غزة

ليسوا هنودا حمرا

ليسوا ظلالا عابرة في يوم شتوي

ليسوا سرابا خلبا

لتطلوا به أظافركم

إرحلوا أيها الأغراب من هنا

إرحلوا إلى الأبد

من أرض غزة

من حنجرة المطرب

إذ تسقط إجاصة القلق  من نبرته المتقطعة

من شرفات البيوت المهدمة

من ألبوم العائلة المنقرضة

من الشوارع المضرجة بسبائك الشهداء

من سماء عيني هذا الطفل

المترعرع تحت الأنقاض

من مزارع غزة

وحائقها المليئة بالمجد والصلوات

سكان غزة

ليسوا هنودا حمرا

لتقيموا على أنقاضهم

مدنا من الغبار والضغينة

إرحلوا أيها الأغيار

مشتتين كما كنتم في البراري الموحشة

سنقاتلكم

من شرايين الموتى

تصنع بنادق الغول

الصواريخ التي تقض أرواحكم

قذائف الآربجي المليئة

بزئير  الأسود.

الغلبة لنا

لأن لنا جذورا وينابيع

في تلافيف الأرض.

***

فتحي مهذب

هذه المقطوعة من الشعر في محبة الله، محاكاة لشعر المتصوفة، أقدمها بمثابة هدية  إلى الأستاذ ماجد الغرباوي العالم في قضايا الفقه وعلوم الإسلام، بمناسبة ميلاده السبعين.

***

نورُ الهدى

يا هندُ ليسَ من العشاقِ إنصافٌ

إنْ لاحَ في زمن الكتمانِ إيضاحُ

*

لا فوزَ للناسِ إن أبيحَ سرّهُمو

سرُّ الحبيبِ لكل الناسِ فضّاحُ

*

لا شكرَ لي بمناجاةِ الحبيبِ هُنا

فالله نورٌ وفي نور الهُدى راحٌ

*

إني لأعلمُ أنّ العفـــــوَ مقبولٌ

فالحقُ دوما لمن يرجوهُ سَمّاحُ

*

إني دعوتكَ لا جاها ولا طمَعا

ربّ البريّةِ طهرُ النفسِ مِصباحُ

*

إني نهلتُ من العلومِ مِكيالاً

وما عرفتُ بأن الصبرَ مِفتاحٌ

*

إني سَعيتُ إلى دُنيايَ منهمِكاً

وقد ظننتُ بأنّ العُمرَ أفراحُ

*

يا من يُسرُّ لذاك الجاهِ مُبتهجاً

سرُّ الوجودِ صَفاءُ الرّوحِ صَدّاحُ

*

عشرونَ عاماً بدارِ غربتي وحدي

طالَ الطّريقُ، متى يا قلبُ ترتاحُ؟

*

أنا المسافرُ أهلُ الشام أحبابي

ففي دمي عنبٌ حلوٌ وتفاحُ

*

أهلَ الكرامةِ نهديكم مَحبتنا

حبُّ الكرامِ لأهل الجودِ لمّاحُ

*

لولا الحبيبُ لما بكت مُعذبة

ولا تندّت لأهل العِشقِ أقداحُ

*

لولا المَحبّة ُما طارت حَماماتٌ

ولا بَدتْ عندَ أهلِ الخيرِ أرباحُ

*

أخا المُروءَةِ، في الأبعادِ مازلنا

في البُعدِ تسودّ أو تبيضّ أرواحُ

*

دنيا العِبادِ تكللتْ بأعلام

فكن حكيما كما في اليمّ مَلاّحُ.

***

كتبت حسب البحر البسيط .

الأستاذ الدكتور إسماعيل مكارم

..........................

شهادة

أخوتي الأعزاء من نخبة المثقفين العرب، والأخوة من القوميات الشقيقة.

لا شك أننا نعيش زمن تزوير الحقائق، زمن تزوير السردية العربية، وصولا إلى تزوير الوجدان العربي – الإسلامي، انتشرت موجات الإسلاموفوبيا في بلاد الشرق وبلاد الغرب. أقرأ في الصحافة، رجل يسأل: لماذا جيش الصهاينة يقتحم المستشفيات في غزة ؟ تجيب واحدة من القراء: يقتحمون المشفى، كون الإرهابيون متمركزين داخل المشفى ...!!!

هذا ما أراده الغرب من تشكيل تنظيمات الإرهاب مثل داعش والنصرة وأعداد عديدة مثلهما. تزوير السردية العربية، والرواية العربية. الأمر بدأ ليس الأمس القريب، بل بدأ منذ الحملات الصليبية، ما سميناه نحن حملات الإفرنج، وسماها الغربيون الحملات الصليبية. لو صادف مراسل لواحدة من المحطات في إحدى المدن الغربية مظاهرة مطلبية في شارع، وفي شارع آخر حادث سير عادي، ولكن السائق عربي، يترك أمر المظاهرة، ويصور حادث السير ويتحقق من هذا العربي؟ ومن أين قدم إلى اللجوء؟ وهل له سوابق.. أم لا؟ ويبنى أسطورة كبيرة، كل هذا كونه مكلف في تضخيم حالة الإسلاموفوبيا.

يقابل كل هذه الهجمة على مجتمعاتنا ضعف في صفوفنا الوطنية، هذه الصفوف التي تحتاج إلى اللحمة الوطنية، تحتاج إلى الإنسجام، وعدم التشتت والضياع. من يقول أن التيارات الثلاثة من الإسلاميين، والقوميين العرب، واليساريين لا يمكن لهم التنسيق فيما بينهم لمواجهة قضايا الأمة، فهو غلطان، ويعيش في زمن آخر. إذا كان الغرب مجتمعا يود للعرب والعروبيين الشر، فعلى العرب في أضعف الإيمان أن لا يتناحروا، ويقتتلوا فيما بينهم.

الضعف أيضا أخوتي ظهر في مؤسساتنا الروحية، التي تحتاج إلى إعادة نظر في الموروث، وتفسيره تفسيرا صحيحا، والنظر إليه نظرة أكثر دقة، وأكثر إستيعابا. هنا يبرز دور العلماء المتنورين والمخلصين في الفقه، وعلوم الدين. هناك قول شعبي إذا كنت قد اقتربت من نور الهدى، وأصبحت متنورا، عليك أن تحمل قنديلا لتضيء درب الآخرين.المؤسسات الروحية بحاجة إلى علماء كرسوا حياتهم وعملوا لأجل إعلاء كلمة الحق فيما يقولون. نحن معشر المثقفين القريبين من (صحيفة المثقف) فخورون بأننا نعرف العالم الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي، هذا المفكر والباحث في أمور الدين، وقد سعى من خلال مشروعه إلى تحرير العقل من بنيته الإسطورية، وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة، وترشيد الوعي من خلال تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث، وتداعيات العقل التقليدي. رأينا كيف عمل ويعمل الأستاذ العالم الغرباوي من خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة. ورأينا أستاذ الفقه السيد العالم الغرباوي يؤكد على وجوب فهم متجدد للدين كشرط أساسي لأي نهوض حضاري للأمة. الأستاذ الغرباوي كرس عمره وكل عمله لأجل بناء مجتمع خال من العنف والتنابذ والإقتتال والتناحر، ورأيناه يعمل لأجل حقوق المرأة في المجتمع ونبذ الرؤية القرووسطية للمرأة.

أرجو النجاح والتوفيق للأستاذ العالم ماجد الغرباوي في مشروعه التنويري.

***

بقلم: ا. د. إسماعيل مكارم – أستاذ اللغة العربية، والحضارة العربية في جامعة كوبان – جنوب روسيا.

 

وكــيــفَ يــحرَّرُ الأقــنانُ جــيلاً

إذا خــلــقــوا عــبــيداَ بــالــولادةْ

*

وســيِّــدُهمْ  لـــهُ حـــقٌ عــلــيهمْ

كــمــا ربُّ الــسماءِ لــه الــعبادةْ

*

إذا  مـــا مـــاتَ يَــخْــلِفُهُ بَــنُــوهُ

كــأمْــتِــعَةٍ وأبْــنِــيَــةٍ مُــــشــادةْ

*

وهــمْ كــالعيرِ لــيسَ لــها قــرارٌ

تــمــصُّ  دِمَــاءَها بَــطَرًا قُــرَادَةْ

*

وســـاروا كــالقطيعِ وراءَ كــبشٍ

خَــصِــيٍّ كــالــنِّعاجِ بـــلا إرادةْ

*

هو المرياعُ خلفَ الجَحْشِ يَمْشي

أمــامَ الــجمعِ بــاتَ لــهُ الــرّيادةْ

*

لـــهُ  جـــرسٌ يُــجَلْجِلُ بــانتظامٍ

لــكي يــمضوا عــلى نهجِ القيادةْ

*

إذا  مـــا  شـــذَّ فَـــرْدٌ ذاتَ يــومٍ

تــلاحــقُهُ  الــكلابُ بــلا هــوادةْ

*

لــيرجع طــائعاً مــن غــير كَرْهٍ

فــفــي الإقــناعِ تــمتلكُ الإجــادةْ

*

فــمن أوبــارهمْ صــنعوا فــراشاً

ومــن ريــشِ الــنّعامِ لــهُ وسادةْ

*

ومــن  حــرمانهمْ يَــبْني قصوراً

عــلى أوجــاعهمْ يُــبدي جَــلادةْ

*

وإنْ  بــذلــوا لـــهُ مــالاً ونــفساً

يُــؤَنِّــبْهُمْ  ويــرغــبُ بــالــزّيادةْ

*

إذامــا شــاءَ خــاضَ بهمْ حروباً

نــتــائجُها الــكــوارثُ والإِبــادةْ

*

لــيسبحَ فــوقَ بــحرٍ مــن دمــاءٍ

ويــصنعَ مــن جــماجمِهمْ قِــلادةْ

*

هـــو الــسَّبَّاقُ يَــشْرِيهمْ بــبخْسٍ

فــفي الــتَّسْوِيقِ حاز على شهادةْ

*

وهـــمْ  بــالعُـرْفِ لا هَـمٌّ لــديهمْ

ســوى تَفْخِيمُ أصــحابِ السعادةْ

*

بــعصرِ الــقبحِ باتَ الزَّيفُ نهجاً

وبــالــتّلْفِيقِ تُــصْــطَنَعُ الإشــادةْ

*

فــيا  أهــلَ الــمودة، فانــصَحوهمْ

لــعلَّ  تُــفِيدُ فــي النّصحِ الإعادةْ

*

فــمــا حصلَ الــتّقدمُ فــي مــكانٍ

وفــيه الــناسُ أهــونُ من جرادةْ

*

إذا  لـــمْ يــصبح الإنــسانُ حــراً

فـــلا  و طــنٌ يَــعِزُّ ولا ســيادةْ

*

عبد الناصر عليوي العبيدي

لا اعرف حتى هذه اللحظة من كانت مع زوجي في بيتنا.. وكيف اقنع زوجي السعدية قريبته بزيارة أمها المريضة حتى تترك البيت وهومن كان يمنعها من قبل لما يعرفه عن الام من ميوعة وسوء خلق ولها يظهر كراهية قوية  حتى أنه كان لا يتوانى في تبليغ بنتها بما تقوم به دون علم زوجها..

ماذا رات ريهام بنتي ذات السنتين حتى صارت تتقمص ما شاهدت فتشخصه على وسادة سريري: تقبل الوسادة ، تتلفظ بنصف كلمة: أحبك (بك)، تريد أن تخلع ثيابها، بل صارت حين تجلس الى جانبي تقبل ساقي وتعض أصابع قدمي

كأنها تتحرش بي..

السعدية تقول:

- ابن عمي اغراني بكلمات واخافني من عاقبة سوء الخاتمة:

-كيفما كان الحال فهي أمك ويلزمك عيادتها قبل أن تموت وهي عنك غاضبة

- لكنك يا ابن العم انت من كرهتني فيها لافعالها التي كنت تقول عنها:

 "هيهات ان يغفر لها الله على ما اقترفت.. ما ذنب ابيك الذي سترها ولمها من براثن التسول بان تطعنه في ظهره..

لم أجد أمي في البيت عند زيارتها  بعد إلحاح من ابن عمي شديد ، بل صادفتها في الطريق وهي عائدة، لم يكن محياها يدل على مرض أو حتى اثر من عياء بل كانت تتبختر بانتشاء في كامل زينتها كأنها تحيا لحظة سحرية تلفها في متعة بصمام أمان تتقدمها مواكب من عطر نسماته لم تكن عني غريبة..

حين سألتها: أين كنت؟ استغربت وهي تفجر ضحكات ماجنات:

 - أين كنت ُ؟.. في عيادة طبيب، لماذا السؤال..

- أخبروني أنك جد مريضة !!..

- كنت وصحيت والطبيب طمأنني على سلامة بدني..

بعد حديث قصير مع السعدية أدركت منه ما ادركت،شرعت اتابع زوجي بانتباه ومراقبة ؛ أن تشاركنى امرأة أخرى سرير نومي فهذا ما لا يمكن القبول به، أعرف أن زوجي ثعلب ماكر،والدناءة ليست غريبة على رجل تغيرت أحواله بعد سنتين من زواجنا وصار مظهره يناقض سريرته..  حين سألته عن عودته المبكرة الى البيت من عمله أول أمس رد علي بانتباه ودقة:

طبعا عدت،ألم تخبرك السعدية أني من بقيت مع ريهام حين أبلغوني أن أم السعدية مريضة في حالة مستعصية؟

من طبعي ألا أتعجل إصدار الأحكام فيكفيني وقعة السقوط في حبه بعد أن اوهمني حرصه علي وعلى مصالحي عساه يرد نزرا مما ناله من أبي.. 

كنت أتعمد ترك ريهام تلاعب اباها في حضوري حتى أرى ردة الفعل من الجانبين..

صارت ريهام تحذر الاقتراب من أبيها وهذا سلوك جديد من قبلها، هل هو خوف أم كراهية؟ لا ادري..  بسرعة كانت ترتمي بين أحضاني وتظل تقبلني وتقول:"بك بك " تكررها كثيرا وعيناها ترنوان لأبيها، كأنها تبلغ عنه أو تشكوه لي..

كانت عيونه تتصوب اليها وكأنه يحذرها، أخطف نظرة اليه واعانق ريهام ابادلها القبل..

وأتاني الحل هدية من السعدية قريبة زوجي..

أكثر من ثلاثة أيام ونسمات العطر التي اخترقت خياشمي تقمطني بشك،

ضاعف من شكي الطريقة التي هول بها ابن عمي مرض أمي بما يتجاوز المبالغة الى التحذير وسوء الخاتمة، ثم اني لما عدت الى البيت وجدت قنينة عطرك بعيدة عن مكانها المعتاد، فأمي ليس في مقدورها أن تقتني عطرا كعطرك بل لا يمكن أن يرقى ذوقها اليه الا أن يكون هدية من عاشق سبق ان رافقها ولن يصل العاشق المرافق الى ذوق او غنى يمكنه من هدية كعطرك..  رغم جمال أمي وشبابها فلا يرافقها الا من هم في مستوى متدن اجتماعيا ..

المختارابن الدوار كان صديق طفولتي تعلم وصار تقنيا كهربائيا ، يدعي تعلقه بي هو من أخبرني أن أمي قد بالغت في الخروج يوميا وقد اقتفى اثرها يوما فوجدها تدخل شقة في عمارة جديدة البناء في حي صارتابعا للمنطقة الحضارية، لم يكتف بذلك بل استطاع أن يأخذ صورا للرجل صاحب الشقة ولامي.. "

عرفت الحقيقة فصرت أنا من يراقب زوجي وله اقتفي بأثر الى أن ضبطته بنفسي.. لما انفضحت زلته في البيت أعد وكرا بعيدا عن الأنظار؛ سرق مما تم ائتمانه عليه ليشتري لأم السعدية شقة لقاءات الهوى المحرم..

كيف وقع هذا ومتى؟ وماذا وجد في أم السعدية لم أحققه له؟

بدم بارد ابلغت الشرطة فرصدته وعليه ألقت القبض في لحظة متعة مع عشيقة السوء، ثم اصررت عند المحاكمة على الطلاق وعدم التنازل لزوجي المنافق والذي كان مظهره عكس حقيقته ؛ لم يستحي حتى من طفلته الصغيرة وقد أدركت سبب سلوكاتها البريئة، كما حرضت السعدية اباها حتى لا يتنازل لامها وكانت النتيجة ثلاث سنوات سجنا لهما..

ادركت أخيرا أن كل ثورلا يحرث الا مع قرينه وان الانثى مهما تعلقت في حب فيلزمها أن تبحث عن العروق الأصيلة قبل أن تغرق في نفس خبيثة لا تسعد الا اذا اساءت لمن أحسن اليها و مهما تم تنظيفها وإستصلاحها من درن فهي حنين لمياه آسنة لا تهدأ الا اذا عادت للاغتسال بها.. 

***

محمد الدرقاوي - المغرب

بعد فترة ممارسة طال أمدها، امتاز قس متدرب بأكبر الكنائس غربا قبل عصر الأنوار بإيمانه الصافي الحق. اسمه فيليب. في منتصف يوم معلوم، استقبله كبير القساوسة قبل تناول وجبة الغذاء. وجه إليه سؤالا واحدا لا ثاني له: ما هي نتيجة الجمع "1+1". فأجاب المتدرب بسرعة "1+1" سيدي تساوي 2. فعقب عليه سيد الكنيسة بابتسامة مبهمة: "لا يا ابني جوابك خطأ "1+1" يساوي 5". صمت فيليب مشدوها، فهمس لنفسه: "هناك بلا شك سر وراء هذا السؤال". فأردف مرتبكا: "إذا أجبتكم بنفس جوابكم إرضاء لكم سيدي، ألن أحاسب يوما؟". ابتسم كبير القساوسة معترفا بقوة عبارة الإجابة، وغادر المكان بسرعة، تاركا القس المتدرب مكهرب الأجواء، مشتت التركيز.

استمر التفاعل بقوة بين الكنيسة والبيروقراطية السياسية في البلاد. ازداد حرص فيليب على الحفاظ على استقلاليته. حاول التكيف مع الأحداث بنَفَسِ التأثير عليها بأفق إصلاحها. عاش ساعات أيام شبابه الاندفاعية متوترا. يستولي عليه الأرق وتنهشه الكوابيس ليلا. يستحضر كل مرة حديثه مع كبير القساوسة. قرر مقابلته مجددا. طلب هذه المرة موعدا رسميا من كاتبه الخاص. حضر في التوقيت المناسب. قام السكرتير بكل واجبات الاستقبال. أذن لفيليب بالدخول. واجهه كبير القساوسة، المدجج بحاشيته من كبار القوم، بنفْس ابتسامة اليوم المعلوم. قدمه للحضور كفاعل جديد من رجال الدين العقلانيين. أعطاه الكلمة أمام وجوه معبرة عن استحسان حضوره. انتهى من إلقاء تدخله المحبوك مقدما التحية الختامية. تهامس الحاضرون فيما بينهم لدقائق. خُتِم اللقاء بعبارة كبير القساوسة:"أحسنت أيها الفقيه فيليب"، فأعطى أوامره لحاشيته بتغيير الأوضاع واعتماد خطة فيليب لإصلاح أوضاع الكنسية والسياسة". تظاهر الكل بالابتهاج والرضي.

عاش فيليب بعد هذا اللقاء أياما عسيرة أحس خلال ساعاتها أن الأمور تزداد تعقيدا وتوترا، ولياليه تزداد أرقا. يداهمه صراع القبح والحسن والخير والشر ليل نهار. كلما استحضر أمانة الاستخلاف أرضا، ازداد إصرارا على المقاومة. لم يستسلم قط متشبثا ببشريته الكاملة. رأسه سينفجر بكثرة التفكير. كلما التقى كبير القساوسة بمحياه الصارم داخل أروقة الكنسية، يصفر وجهه، يلقي التحية بدون أن يجرؤ على مفاتحته في موضوع اللقاء السابق وفي مغزى ودلالة العملية الحسابية. استمر على هذا الحال متأزما نفسيا وكأنه يصب الماء على رمال صحراء قاحلة إلى أن بدأ الجنون يتسلط على وجوده.

تعود منذ البداية على كتابة مذكراته اليومية كل ليلة قبل النوم. استأمن أخوه على ترتيبها وأوصاه بالحفاظ على سريتها ونشرها في كتاب إن وقع له أي مكروه. مات فيليب غير مستوعب لمعنى الموت بسبب جنونه. نشر الكتاب في انجلترا، وبدأت بعد أيام قليلة تشع الأنوار وتنعكس هنا وهناك.

***

الحسين بوخرطة

 

في نصوص اليوم