نصوص أدبية

نصوص أدبية

ألا هُــزّي الــترائبَ والــمتونا

فــمِــثلُكِ مــا رأيــنا حَــيزَبونا

*

لــقد  بــاتَ الجهادُ بهزِّ خَصْرٍ

نــدكُّ بــهِ حــصونَ الــمُعْتَدينا

*

يُكرّمُكِ  الملوكُ فَصَرتِ رمزاً

كــــأُمٍ  لــلــبــناتِ ولــلــبــنينا

*

دَعِــينا مِــن حَــلالٍ أو حــرامٍ

فــتــيهي بــالضّلالِ و رَفِّــهينا

*

لــقد  أزرى بــنا التَّشْدِيدُ دَهْراً

حَـــرِيٌّ بــالــمُشَدِّدِ أنْ يــلــينا

*

إذا  أمــسى الــعواهرُ داعياتٍ

فــفــتواهنَّ عــنــد الــرّاقِصِينا

*

شَــرِيــعَتُهمْ تُــحــدّدُها ســدومٌ

تــؤيّــدُها عــجــوزُ الــغابرينا

*

فــأخرجنا لــكمْ شــيخاً حــديثاً

بــمــظهرِهِ يَــســرُّ الــناظرينا

*

إذا مَــضغَ الحشيشَ أتاهُ وحيٌ

يُــحــدّثُكمْ حــديــثَ الــعارفينا

*

فــلــقّنّاهُ مــن أســفارِ مــوسى

لــيصبحَ شــيخكمْ عِجلاً سمينا

*

كــعجلِ  الــسامريِّ لــه خُوَارٌ

يــــردّدُه  شــمــالاً أو يــمــينا

*

يــثرثرُ كــي يُثيرَ لنا ضجيجا

ذبـــابٌ  يــمــلأُ الــدنيا طــنينا

*

رَحَــىً قــد كــانَ لُهْوَتُها هواءً

لــجَعْجَعَةٍ سَــمِعْنا ولا طــحينا

*

لــقدْ زرعَ الــعدوُّ بــنا ذيــولاً

شــياطينا وقــدْ وضَعتْ قرونا

*

كــحــرباءٍ لــهــا جــلــدٌ بــهيٌّ

تــخــبئُ تــحــتَهُ حــقداً دفــينا

*

ســئمنا والــنفاقُ غــدا ســبيلاً

لــكــلِّ مُــخنثٍ أمــسى قَــطِينا

*

يُــدَاهــنُ كــلَّ ذي رأيٍ ســفيهٍ

يَــصِيرُ  لــمَنْ يُــجاملهُ عجينا

*

فــلو دخــلوا بيومٍ جحرَ ضَبٍّ

رأيـــتَ  كــبارَهُمْ مُــتَقاطرينا

*

يــحــبون الــسفاسفَ والــدنايا

كــجــعلانٍ تُــلاحقُ غــائطينا

*

بــديــنِ مــحمدٍ عــاثوا فَــسادا

ولــلأعداءِ مَــحْضُ مــروجينا

*

لــقد خُــلِقَ الــبغالُ لــتركبوها

لــها بــاتَ الــخلائقُ مُهْطِعينا

*

هــمُ الــخبراءُ فــي علمٍ ودينٍ

و  بــاتوا فــي الــبلادِ مُفكِّرينا

*

عــلى الإعــلامِ أعــلامٌ كــبارٌ

فــصــاروا لــلكتابِ مُــفَسِّرِينا

*

وكــيفَ يُــفَسِّرُ الآيــاتِ رَهْطٌ

بــنُطقِ الــضادِ كــانوا مُلْحِنينا

*

فــــلا  فِــقْــهٌ يُــؤَيِّــدُهُ دلــيــلٌ

ولا اســتنباطُهمْ أضــحى مبينا

*

ولا قــولُ الــرسولِ له اعتبارٌ

وبــاتوا في الصّحاحِ مُشكِّكينا

*

فــساروا  بالكتابِ على هواهمْ

وصـــاروا  لــلعبادِ مُــضللينا

*

خــراتــيتٌ يُــشــجعُها خــبيثٌ

لكي يغدو الخنا في الناسِ دينا

*

ولـــولا  أنْ تَــبَــنْتهمْ عــجولٌ

رأيــتَ  الــناسَ منهمْ ساخرينا

*

مــسيلمةُ الــكذوبِ إذا يُــبَاري

دعــاةَ الــسوءِ كــانوا السابقينا

*

تــراهمْ  مُــمْسكينَ بكلِّ سُخْفٍ

وفــي الحسناتِ كانوا زاهدينا

*

لــمَ الــتّقليدُ في الأديانِ فرضٌ

وفــي باقي الأمورِ غدا مُشينا

*

إذا حَــدثَ انتخابُ جمالَ عنزٍ

لــفازَ  الــتّيسُ دونَ مُــنَازِعينا

*

فــفي أمــرِ الــسياسةِ لا كــلامٌ

وإنْ دامَ الــبــلاءُ بــهمْ ســنينا

*

وإنْ ظــلَّ الــتخلفُ والــرزايا

كــطــاعونٍ  يــحاصرُ مَــيّتينا

*

فــهلْ  يــأتي التطورُ ذاتَ يومٍ

نــراهــمِ لــلوجوهِ مُــغَيِّرينا..؟

*

جــمعتمْ  بــين تــوحيدٍ وشركٍ

وأصــنــامٍ  وقــولِ الــصابئينا

*

فــلو كــلُّ الــعقائدِ صــالحاتٌ

لــمــا بــعثَ الإلــهُ الــمرسلينا

*

وأحــمــدُ كــان خــاتمهمْ نــبياً

أتـــى لــلناسِ طــراً أجــمعينا

*

لــينسخَ ســائرَ الأديــانِ حُكماً

ومــا  كــتبَ الــبغاةُ مُــحرِّفِينا

*

بدينِ سجاحَ لايرضى حَصِيفٌ

ومــا خــطَّتْ أيــادي المُفْتَرِينا

*

كــفرتُ بــهِ ولــيسَ الكفرُ إثماً

إذامــا الــكفرُ نَــجّى المؤمنينا

*

كــكفرِكَ بــالطواغيتِ امتثـالاً

لــــقــولِ اللهِ ربِّ الــعــالــمينا

*

وآمــنــتمْ بــطــاغوتٍ وجــبتٍ

عــلــى الآثــارٍ كــنتمْ مُــقتدينا

*

ألا يـــا أيُّــهــا الــشــذاذُ إنِّــي

بَـــراءٌ حــيثُ كــنتمْ رائِــحينا

*

لــكــمْ  ديـــنٌ تُــفضّلُهُ ســدومٌ

ونــحنُ بــديننا طــوعاً رضينا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

أصنع من شراييني حبال أرجوحة لليتامى

أو حبل غسيل لأرملة

لتنشر سنواتها الأخيرة

مبقعة بالدم ورائحة البارود

أو جسرا متحركا

ليعبر العميان إلى بحيرة الضوء

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

لم أفتح النار إلا على مخيلتي

لم أظلم غير الكائنات  التي تعج بداخلي

لم أحلب عنزة أو بقرة

بل حلبت شطري الأسفل

في مكان مظلم مليء

بطبول غرائزي

وقرع النواقيس في دارة قلبي

أضحك مع الجدران على حياتي البائسة

إذ تزعق كل مساء

مثل جدجد ضرير

لم أكن سيئا مع الآخرين

مع الناس الذين يزرعون التوابيت

في حديقة رأسي

يملأون نهاري الأشيب بنعيق الغربان

يكسرون زجاج حواسي بإشارات مؤذية للغاية

ينتظرون المعجزة الكبرى

سقوطي المفاجىء في حفرة الماليخوليا

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

لم أعاقب أحدا غير كلماتي

لم أكن سيئا إلا مع نفسي

أحترم الأشباح كثيرا

أحترم الموتى كثيرا

أدعوهم إلى الصبر والصلاة والموسيقى

في انتظار قيامة اللاشيء

أرمي ثيابي القديمة في البئر

لصديقي الذي انتحر

مساء الأحد الفائت

بسبب الفقد والفقر والنميمة

وهروب اللحظات الجميلة

من قبضته الهشة

لم أكن سيئا إلا مع ذئاب متناقضاتي

مع ينابيع جسدي المتوحشة

مع دببة الشك واليقين

التي تتقاتل تحت جلدي المغضن

أحترم السماء كثيرا

أحيانا أرشق بصري طويلا

منتظرا صحنا طائرا

أو نبيا رائعا يمر من هناك

حاملا مصباحا أو سلة مليئة بالأرز

كنت أضحك دائما

عندما تسقط تفاحة القلق على رأسي

أو في جنازة أحد الرهبان

عندما يطردني الله يوم الأحد

لأني أشرب طوفانا من الخمور المعتقة

وافترس ساعات طوالا من حياتي العابرة

لم أكن سيئا مع الذين ملأوا

فمي بالقش والضباب

وحياتي بالأكفان والنواح

الذين يخططون لقصف ما تبقى

من حياتي البائسة

لم أكن سيئا مع الآخرين

رفعت يدي طالبا  من  الله

بأن يرمي لي حبلا من السماء

لأكتشف مجوهرات اليقين

وعذوبة الفناء في الضوء الأبدي

غير أن جاري العربيد

سبقني مختطفا الحبل في رمشة عين

بينما  بقيت أتخبط

مثل نسر مكسور الخاطر

بين الأماكن المحرمة

***

فتحي مهذب - تونس

في المساء استرخى على اريكته الجديدة في بيته الجديد. وهو يقول لنفسه حمدًا لله لقد ارتحت من ذلك البيت القديم وكوابيسه المتواصلة. الآن سأبدأ فترة جديدة في حياتي. فترة بعيدة عن الشرور والاشرار. ولمعت في خاطره أضواء قادمة من بعيد" أن تكون مرتاحًا يعني أن تكون موجودًا"، قال في نفسه وهو يُغمض عينيه مُقتربًا من وسنه الخفيف المُقبل. اجتاحه شعور بالارتياح طالما تاقت إليه نفسه، إلا أن ذلك الشعور ما لبث أن ابتدأ يخفّ رويدًا رويدًا. في المقابل له كان هناك أنين مستغيث يأتي بخفّة طير اسود.. يأتيه مِن هُناك مِن مكان حاول أن يرصده.. إلا أنه لم ينجح.

زحفت العتمة على أغراض البيت ببطء أنساه انتباهته. ارتفعت الاستغاثة. وقف.. فتوقّفت الاستغاثة. تجوّل في انحاء البيت علّه يجد مصدرها. إلا أنّه عجز.. هدّه النُعاس فألقى بجسده على أريكته الجديدة. شعور غامر أكد له أنها لا تختلف عن تلك القديمة.. إلا في الشكل. سوى أن نعاسه غلبه فنام، نام بملابسه.. تورّط في نومته تلك بسرعة فلكية.

كان كلّما غفا.. توقظه تلك الاستغاثة. ترتفع بشدة وعندما يلتفت إليها تخفت.. حتى تكاد تختفي وتتلاشى. يتحرّك على أريكته.. ترتفع الاستغاثة قليلًا.." هل كُتب عليّ أن أعيش كلّ هذا القلق في هذه البلدة المنكوبة بالدم"، قال في نفسه، وتابع" هربت مِن الدم إلى الدم.. ما أقسى هذا"، .. كان لا بُدّ له من أن يبحث عن تلك الاستغاثة. فتّش عنها في كلّ أنحاء البيت، لم يجدها. كان يشعر بها قريبة جدًا منه وبعيدة جدًا عنه. أصرّ على البحث. مع هذا لم يخرج بأية نتيجة.

غلبه النعاس فنام.. في منامه تراءى له مَن يشهر سكينه ويغرسها في عنق مارّ بالقرب من بيته.. ارتفع أنين الاستغاثة. فتح عينيه. ارتفع الانين أكثر فأكثر، أطلّ من نافذة بيته كان كلّ شيء هناك هادئًا.. هادئًا.. مِن أين يأتي هذا كلّه.. ولماذا يلاحقه إلى هُنا..

الانين يدفعه لأن يتوجّه إلى المطبخ. يتناول ساطورًا اشتراه لوقت الحاجة، يضعه تحت مخدته. ويرخى رأسه عليه. ارتياحه ذاك لا يطول. يعود الانين إلى ارتفاعاته السابقة.. تدفعه الاستغاثات المتتالية للتفكير في اتجاهات شتى. كلّها تفضي إلى أمر واحد.. ما دام الخطر بعيدًا عنه.. فإنه سيكون بخير. منذ طفولته كان يشعر أنه حالة استثنائية وأنّ الخطر سينال العالم كله ولن يناله.. سيكون بعيدًا عنه.

عاد إلى غفوته ليعود الانين الاستغاثي إلى الارتفاع. اختلط الواقع بالحلم. فتراءى له هذه المرة مَن يركض في الشارع.. إنه يشبه قريبًا له.. ومَن يركض وراءه.. فجأة يتراكض الخلق.. تعود الصورة لتتركّز في القريب الهارب وملاحقه.. الدم يتنافر في كلّ مكان. الهارب يتحوّل إلى قوة جبّارة. يغرس مخالبه في عنق ملاحقه. يتركه ينزف هو وساطوره. يتوقّف في منتصف الشارع المحاذي لبيته. يتوقّف منتشيًا أو ثملًا أو.. ينهض الملاحق الملقى على الارض.. يقترب من الهارب المتجمّد.. يقترب ببطء عدسة مركّزة.. يحتضن غريمه الواقف وسط الشارع.. يحتضنه كأنما هو أخ يحتضن أخاه في لحظة غريبة خارجة عن حدود الزمن.. يحتضنه.. يسحب حدّ ساطوره مِن أسفل رأسه.. هناك في خلفية عنقه بالتحديد.. يسقط رأس الهارب.. تبقى جثته منتصبة بين يدي ملاحقه. بعدها يترك الملاحق ذلك الهارب ليتهاوى.. ولينطلق رأسه بأنين استغاثيّ يقطع نياط القلب.

يشعر صاحب البيت الجديد بجفاف في حلقه. يفتح النائم عينيه، يتواصل الانين وتتواصل الاستغاثة.. عبثًا يحاول أن ينام.. يتناول ساطوره من تحت مخدته.. يتوجّه إلى نافذة بيته المطلّة على الشارع المحاذي.. يرى الظلام هناك منتشرًا في كلّ مكان.. يعود إلى أريكته.. يعود متحسّبا قلقًا.. كيف سينام بعد ذلك الكابوس الثقيل؟

يلجأ إلى طريقة طالما استعملها في ساعت قلقه الملحّة ويكاد يقول القاتلة.. يتصوّر سُلّمًا يصلُ الارضَ بالسماء.. يرتقي السُلم درجة إثر درجة.. في أعالي السُلّم.. في أعاليه قبل درجته الاخيرة بدرجات معدودات.. يرتفع الانين المُستغيث.. هذه المرة يرتفع قريبًا جدًا منه.. إنّه يكاد يلامسه.. يتراءى له أنه ممثلٌ سينمائيٌ مشهورٌ.. يتوقّف قُبالة غريمه الممثل المنافس.. كلّ منهما يغرس عينيه في عيني الآخر.. غضب أسطوريّ يشعّ من عيني غريمه.. يرسل نحوه غضبًا مماثلًا.. لكن ممزوًجا بشيء من الخوف.. يده تشتد على ساطوره.. يرفعها ويهوي بها على رأس غريمه.. يندفع الدم من الراس قبالته.. مثل نافورة محتبسة.. يسقط غريمه على الارض.. يشهر مسدسًا و.. يطلق عليه.. يتهاوى.. رصاصة إثر رصاصة.. الرصاصة السابعة تسقطه أرضًا.. يخرج مِن جسده.. يُرسل نظرة إلى غريمه الممثل المنافس.. يركض هذا متلفتًا حذرًا.. بعد امتار بالقرب من بوّابة حجرية قديمة.. يتوقّف.. يخرج من جسده.. ويولّي بعيدًا.. فيما ينطلق هو في الاتجاه المُعاكس.. يبتعد عن بيته.. عن أريكته.. عن ذلك الانين اللعين.. ويتوقّف هناك حيث لا سواطير ولا استغاثات.. عندها يتوقّف كلّ شيء.. كلّ شيء.. أخيرًا.. أصبح .. واحدًا.. واحدًا منهم.. يا للهول.

***

قصة: ناجي ظاهر

قالَ قُلْها .. لا تَخَفْ

أنتَ قصّرتَ المسافاتِ

و واريتَ الدَّهاليزَ

و جاوَزْتَ حُدُودَ المُنْتَصَفْ

لَمْ يَعُدْ يَسْمَعُ صوتَكْ

أحدٌ يُوجَدُ قُرْبَكْ

فَلِمَ الخوفُ مِنَ الصّوتِ

أو  المشيِ

وما مِنْ أحدٍ كانَ سواكْ؟

و خُطاكْ

تَعْرِفُ الدّربَ

وتمضي مثلما شاءتْ رؤاكْ

.................................................

.................................................

ظلّ في أُذْنَيْكَ يَصْرُخْ

لِتَقُلْها

كلماتٍ لَمْ يَقُلْها

أحدٌ غيركَ

قُلْها

غيرَ  إنَّكْ

عندما قرّرتَ أنْ تبدأَ قولَكْ

خذَلَتْكَ الذّاكرةْ

لَمْ تَعُدْ تذكرُ  ماذا

كانَ يبغي أنْ تقولْ

مالذي كنتَ تُريدْ

أنْ يُقالْ

قلتَ ما أتعسَ هذا مِنَ مآلْ

كلّ ماكنّا سَمِعْناهُ

نَسِيناهُ

فماذا سوفَ يأتي

وأنّا ضيّعتُ صوتي؟

والسّؤالْ،

في دُمُوعي

ظلَّ يتلوهُ سؤالْ:

كيفَ تحيا؟

واقعٌ دُنْياكَ

أمْ دُنْياكَ وهمٌ وخيال؟

***

شعر: خالد الحلّي

أحيــــــاناً

يَحْمِلُني عَلَمي

بِسِنِّ القلمِ

لملاقاةِ (الجيش) الهَرِمِ!

*

أحيــــــاناً

أتَصَبَّبُ أَلَقَا

فأصُبُّ رحيقي مُختلفاً

ألوانهُ خالصةً عَبَقَا

مُفْعَمةً...

سائِغةً طَبَقَا!

*

أحيــــــاناً

تَنْشُدني البلوى

أنْ أَلْعَبَ - فسْقَاً وظَلَالاً -

دور الفَتْوَى!

*

أحيــــــاناً

يَشْرَبُني كأسي

على وَعْيٍ

بِحَوَاسٍ خَمْسِ!

*

أحيــــــاناً

يَهتِفُ بي الحَجَرُ:

(حِجْرُكَ) أكثرُ

مِنِّي خَطَرُ!

*

أحيــــــاناً

أَنْسَى أنْ أَنْسَى!

*

أحيــــــاناً

يَتَمَنَّى (الزَّمَـــعُ)

لَفْتَةُ نَعْلي...

وهُمُ (الوَجَـــعُ)!

*

أحيــــــاناً

آلامي تُزْهِرْ!

*

أحيــــــاناً

لايَغْفو ضميري

مِنْ تأنيبِ ضميري!

كيف سيغفو

وهو أميري!؟

*

أحيــــــاناً

في وجهي تَنْبَحْ:

مُعْتَقَدَاتٌ...

وعماماتٌ

ولِحَىً .. تَنْطَحْ!

*

أحيــــــاناً

مُعْتَقَدي عُقَدي!

*

أحيــــــاناً

يَسْمَعُني صوتي

فيناديني بأعلى صَمْتِ!

*

أحيــــــاناً

خَطَئي يَتَصَيِّدْ

فَلَتَاتُ صَوَابٍ يَتَبَلَّدْ!

*

أحيــــــاناً

وقتي يتأخر!

*

أحيــــــاناً

في وادي عَبْقَرْ

هَجْسَةُ ضوْءٍ

تبحثُ عني

كي تتحرَّرْ !

*

أحيــــــاناً

يسألني عنترْ

عن معنى: (حُكَّام اليومِ)؟

فلا أتذكَّرْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

2024 فبراير

 

استيقظ جبر العايش من نومه مذعورا على صراخ زوجته وهي تناديه:

(انهض يا رجل لقد مضى على حالتك هذه عدة أيام وأنت معتكف في البيت! قل لي ماذا تشعر هل أنك مريض؟

رد عليها زوجها: لست مريضا أن هناك أمر يشغل بالي.

عادت زوجته لتقول له: لقد لاحظت ذلك منذ أن رجعت آخر مرة إلى بيتك، قل ما الذي شغل بالك؟

قال جبر: (ليس الآن سأبين لك ذلك في وقت آخر.)

غادر جبر داره بعد أن تأكد له بأن الصوت الأجش لم يعد يرن عليه ولم يعاود الاتصال.3486 المسلخ البشري

سلك جبر نفس الطريق التي اعتاد أن يسلكها للذهاب إلى عمله. الطريق التي تؤدي إلى وسط المدينة حيث الساحة العامة تلك الساحة التي كثيرا ما شهدت تجمع أعداد غفيرة من الناس وخلال مناسبات مختلفة منها مفرحة ومنها محزنة وإن عدد أيام الحزن هي أكثر بكثير مقارنة بأيام الفرح!!

ما أن وصل جبر إلى تلك الساحة حتى اجتاحته حالة من الاستغراب! عندما وجد أن الساحة خالية من الناس بعكس ما كان يجدها في مثل هذا الوقت المبكر من النهار حيث تكون مكتظة  وتتعالى أصوات الباعة وضجيج العجلات فيها.

أمضى جبر وقتا في الساحة عله يعثر على واحد من المارة كي يسأله عن سبب هذه الحالة الغريبة!

لمح جبر أحد الأشخاص متجها نحوه:

قال جبر محدثا نفسه: قد يكون سر هذه الحالة لديه فأسأله وليطمئن بالي.

أقترب الرجل منه وعندما أصبح بمحاذاته بادره بالسؤال قائلا:

(لو سمحت يا أخي هل يمكنني أن أطرح عليك سؤلا)؟

أجابه الرجل: (بكل رحابة صدر سل عما بدا لك.)

وأرف قائلا: (عجيب ألا تعرفني يا جبر!؟)

تطلع جبر في وجهه الرجل مستغربا فقد بدا له غريبا! قائلا له معذرة من تكون أنت؟

ضحك الرجل وقال: هل نسيتني يا جبر أنا زميلك في العمل أنا غركان؟

تطلع جبر بوجه غركان وأخذ يدقق بمعالمه عله يتذكره لكنه لم يتوصل إلى نتيجة، وفضل أن يعرف منه أولا سبب خلو ساحة المدينة من الناس في هذا الصباح الباكر.

لقد دار بخلد جبر أن يبين لغركان سبب عدم تذكره وعندها قال له:

بكل أسف فقد تخونني الذاكرة بسبب أحداث صعبة ورهيبة مررت فيها تركت أثرا في نفسي وجعلت أفكاري مشتتة وخاصة بعد حادثة (المسلخ العمومي) وعلك قد سمعت فيها أنت أيضا.

عندها صرخ غركان: (كأن حالة من الجنون قد أصابته)

يا صاحبي أنا أحد ضحايا المسلخ العمومي وكان معي عديد من الناس دخلوا إلى ذلك المكان الرهيب أفواجا لا يمكنني أن أتذكر عددهم ثم أردف قائلا أنت ذكرت (المسلخ العمومي) وهل كنت هناك أيضا؟

قال جبر نعم كنت قد دخلت اليه لكنني نفذت بجلدي وتركت المسلخ هاربا عندما بدأت عملية سلخ الأجساد حيث إنني لم أخلع ملابسي ولم اتعر عند سماعي أمر صاحب الصوت الأجش وعليه لا أعرف ما لذي جرى من بعدي؟

قال غركان: هنالك في الركن مسطبة لنذهب ونجلس عليها وسأقص عليك ما جرى بالتفاصيل. بدأ غركان يسرد ما دار في ذلك المكان الرهيب قائلا: الغريب إن أعدادا غفيرة أخذت تتدفق داخل المكان وذلك بفعل نداءآت وشعارات مغرية كانت تتطلق من مكبرات صوت تم نصبها فوق المسلخ تدعو الناس للقدوم إلى المسلخ لينالوا حصتهم!!

كان غركان عندما يتحدث يصاحب كلامه صفير أشبه بصفير البلبل كما أن جبر قد لاحظ تغيرا كبيرا قد طرأ على وجه غركان بحيث لم يتمكن من معرفته للآن ,حتى بدا اليه خاليا من أي أثر للشعر فقد أختفى من رأسه وحاجبيه وأهدابه وذقنه وشاربه والناظر اليه يظن أنه قد أخذ جرعات من الكيمياوي بسبب أصابته بداء السرطان!

شعر غركان أن جبر ينظر إلى وجهه باستغراب عندها قال له: لا تستغرب يا صاحبي مما تراه سابين لك ما حدث لي ولكل من بقي مدة طويلة في ذلك المسلخ المشؤوم.

خلال حديثهما مر واحد من الأشخاص من أمامهما عندها أصيب جبر بالذهول مما شاهده فقد وجد أن شكل الرجل الذي مر من امامهم يشبه بالضبط نفس وجه غركان!!

لم يدم استغراب جبر فترة طويلة حتى مر أمامه اثنان وثلاثة وأربعة اشخاص ثم تضاعف عددهم وكان الجميع متشابهين وبنفس الوجوه والقسمات!!

انتبه جبر لحركة عيني غركان فوجدهما اشبه بالبلور جامدة الجفون كما أن هذا الشيء ينطبق على الآخرين أيضا من الذين مروا أمامه!!

قال جبر في قرارة نفسه: عجبا كيف حصل هذا التشابه وما هي الإجراءات والعمليات التي قام فيها أصحاب الصوت الأجش ليظهر كل هؤلاء الناس متشابهي وبوجه واحد؟

شعر غركان بحيرة واستغراب صاحبه فقال له من أجل أن يخرجه من حيرته:

قلت لك أنني سأروي لك كل ما جرى وحدث في ذلك المسلخ وبما أنك قد تركته فبل أن يقع ما وقع لنا ثم بدأ يسرد تلك الأحداث المثيرة:

بعد أن أتمت الماكنة سلخ جلودنا وتعليقها بالخطافات أصدر ذو الصوت الأجش أمرا جديدا لا يختلف غرابة ورهبة عن سابقته من الأوامر!!

وهو:(على جميع المسلوخة جلودهم أن يتقدموا للدخول لحوض التطهير!)

باشر جماعة الصوت الأجش المسلحون والمقنعة وجوههم بأخذنا واحدا تلو الآخر إلى حوض ما أطلق عليه التطهير!

عند ذاك طلب غركان من صاحبه أن يمهله بعض الوقت ليروي ظمأه لأنه شعر بالدوار بسبب تذكر تلك المواقف الرهيبة قائلا له أنه سيباشر حديثه بالتفاصيل.

***

لطفي شفيق سعيد

مدينة رالي 27 شباط 2024

كتابة ما بعد التسعين

 

إلى ...؟

وداعاً !

وتصلّبَتْ شفتي

وأودعْتُ العيونَ شرارةَ الَّلهبِ

وعدْتُ بلا شفاهٍ ترفعُ الإنجيلَ

تحكي قصةَ العطشِ

مراراتُ الخطيئةِ لونُ انساني وأرديتي

شموعُ كنائسِ الغفرانِ أطفأها السَّرابُ

فضاعتِ الرُّؤيا

وعدْنا للشوارعِ نحتمي بالظِّلِّ

نُلقي في الدُّجى نظرةْ

لعلَّ يداً تمدُّ الى الرَّصيفِ

تعطُّشَ الرَّغبةْ

لعلّ يداً تمدُّ على عيونِ الصَّيفِ

أنهارَ الجليدِ، وتقلعُ النَّظرةْ

رجعْنا نحتمي بالليلِ

نرمي فوقَ أرصفةِ الشَّوارعِ

صورةَ الانسانِ:

تاريخي وعشقي

واحتراقَ الشَّفةِ الظَّمأى

إلى الرَّاياتِ تحملُها الأكفُّ البيضُ

نحوَ منابع الشُّهُبِ المُنوِّرةِ التي

تروي جياعَ الأرضِ أنوارَ المساجدِ

قرعَ أجراسِ الكنائسِ

فوق أجنحةِ السَّماواتِ الَّتي

زحفتْ إلى قلبِ الشَّوارعِ

تحملُ الغفرانَ

لكنَّ الخطيئةَ لونُ انساني

وداعاً!

وتصلَّبَتْ شفتي...

***

عبد الستار نورعلي

.................

* كتبْتُ القصيدةَ عام 1972 ونُشِرتْ حينها في مجلة (الثَّقافة) التي كانَ يُصدرها المرحومان: أ. د. صلاح خالص وحرمُه أ. د. سعاد محمد خضر، ولم تُنشَرْ في مكانٍ آخرَ. واليومَ تجدُ طريقَها الى النُّورِ ثانيةً.

(عبد الستار نورعلي)

 

على الأشواك نمضي نحو الحتف هادئين

لا الغضب فار ولا الصمت فك الحصار

لكل دمعة آية .....

لكل ندبة في الروح حكاية

ولكل جثة على ناصية الصمت الجبان....

بصمة ....لا يمحوها الدمع المتيبس في المقل...

ولا الشعارات ال تهتز غير بعيد

عن نهر دم يرسم

خارطة التواطؤ

والمؤامرات المزينة بالنياشين

*

خذوا الأكفان لا حاجة لها

عند الموتى المبعثرين على الأرصفة

سيرتقون سلالم السماء

وحدكم ستظلون في وحل الخيانة

تضربون الطين بالطين

رقصات امام ربكم العظيم

خذوا حبات الدمع المتناثرة

أمام نشرات أخبار

تقوض الحكايات والأحداث

لن تغسل العالم من النجاسة

مهما سالت أنهارا

فنحن الطرائد المبتغاة

مهما نبضت العيون بالبكاء

الأفئدة بالصراخ

مهما تناسل الورق في الورق

وتعانقت الأوجاع أمام الكاميرا

لن تبتهل المدائن ...

ولن تخجل المنابر....

مهما اختنق صداها في الافق

او توزعته المفارق

أيها الممعنون في تأثيث اعراس الانفجار

المتمرسون في احتراش الرماد

نحن في ثمر الجموح نحيى

مهما طمرتم في الريح صورنا الكلمى

سيشهرها الغضب رماحا

في وجه الظلام المستبد

أيها السائرون على درب العمى

لكل طفل جائع على جباهكم بصمة

لكل عجوز على صدوركم جمرة

لكل أرملة ثكلت حلمها ....وعد

لن تخلفه حتى يهتز من تحت الرماد

طفل الأناشيد الـ تتفجر بين كفيه الحياة

أيها المتعثرون في الوجوه والأحلام والجراح...

استبشروا شرا بغدكم

إن غدا لناظره قريب

*

قد رأيت فيما يرى المقهور

طيورا تحط على الأقبية

تنقر بذور الأرجوان

فتضيء الأيام....ويغني الزمان....

رأيت الموتى من الاكفان يخرجون

يحررون الاحياء من براثن

الخوف الاثيم

رايت ليل الأسلاف تدركه الدماء

ونهارا فتيا يطرزه الياسمين

والسماء تهدي شمسها

عيدا كبيرا لعاصفة تبشر بالبديل

وترسم  بالتحدي خارطة دليل !

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

نظر إليها بتمعن العطف وبداية النهايات، وهي تكاد تمسح بلطف ما بقي من تساقط دمع عالق بين عينيها. اليوم، كان يرغب في ترتيب فراق غير مدمر للذوات، ولا لتلك الأحاسيس المرهفة بالنكسة. استرد من السماء نفسا طريا ومُحفزا، ثم ألقى بزفير مُكره للتخلص من خلايا منغصات همِّ الحياة، ولما حتى رمي الألم العالق بالتفحم. كان يتوخى تحريك تفاعل للإفلات من ذاك العالم الصلب بالتباعد المضني. ورغم فقد بات يحس مرارا أنه يأسره بين ثنايا أزمانه، وأمكنته الروتينية، وبلا انتظار آت من متغيرات قد تكون مستجدة. كانت نفسه تتوق إلى نيل قسط بالقلة من الحرية الفر دانية، ومن طوق سنوات الامتلاك. كان يرى أن حرية ذاته لسيت توازي انتصار انقطاع الروابط الاجتماعية الكلية، بل نقطة نهاية تفاقمات الخلافات.

ذاك، ما كان يظنه في عمق تفكيره وشعوره المكهرب، والذي يُزينُ له أن الهروب بالانعطاف الدائري الكلي قد يبقيه حيا، ويجنبه مجابهة صعاب تحليل المشاكل بالتفكيك، والتي حتما لن تنقضي البتة، إلا بالتوالد المفرط وبالفبركة غير المتناهية.

بدأ القلق ثانية يتسرب إلى نفسه بعد أن انتهى من لَمِّ بعض من ذكرياته المشتتة، والتي كانت صورا ومخطوطات طفولية، وحتى هي فقد باتت في حكم الماضي من المتلاشيات. في تلك الحقيبة الصغيرة من زمن السندباد البحري، كان يُسرع ولا يراعي ترتيب ما تبقى من زمن حياته ضمن تشكيل حمولتها. من قَرفِ مشاهد حياته، فقد أحس بالفطنة أنه أحرق جزء من عمره. كان يحس ولو بالكذب المموه، أنه تحرر من قبضة ذاك الماضي العتيد، والذي لازال قريبا من ذاكرته وذاته، ويُعاكسه بالتمرد والتنغيص عن بناء الذات الفاعلة بسنن التغيير.

في تلك الزاوية المهملة، انكمشت حول ذاتها، كان النور لا يُغطي مساحة فضاءات المكان. كانت تتوجس خيفة أن تبقى تُعانق الوحدة، و أسلحة الدمار اليومي للحياة. الصمت بات سيد الحكمة، وحتى تلك الحركات بالضجيج لم تعد تَسكن الغرفة بالفوضى. وفي مشهد غير مألوف عليه، توجه نحو تلك الصورة الباهتة باللونين الأبيض والأسود. نظر إلى الجدار الذي لم يعد يقتدر على حملها، شكره من قرار نفسه بالتحدي على تحمله للوجهين المتنافرين، وأدى له تحية عسكرية، تعبيرا بأنه دوما كان يُذكره بالأيام الخوالي. كانت تشهد يوم الهروب غير المسؤول، وبلا جرس منبهات سابقة، وهي تتأسف عن تقطيع الصورة إلى نصفين، والتخلي عنها وحيدة منكسرة الأيدي بذاك الجدار المخربش بأزمات الحياة المستديمة.

كان يصعب عليه تجنب تلك التي كانت تُدعى حبيبته في سالف العمر. كان يُحس بجبن القرار المفرط في ارتكاز الأنانية السلبية. وبات اللوم يلف عنقه بالانقباض والتشنج، وكأنه مُقبل على لحظة النهاية بالإعدام الرحيم. أحسَّ غير ما مرة، أنه فقد بوصلة التيارات المتناوبة والعاملة على سد فراغات هُوة الذات المتفاقمة بالتبعثر والتلاشي، و بات تفكير ه يبحث عن تلك البدائل الممكنة للبقاء حرا وبلا قيد احترازي. كان يومها يصعب عليه التخلي ولو عن ذاك الجزء الباقي من عمره بذاك المكان، والذي بات يشكل له سجنا عميقا بالاختيار. تساءل بشك وحيرة، وحتى بالاستنكار الفارغ من دلالة الأجوبة: لقد آن الأوان لكي أعرف أين أنا من هذا الهروب!! فسفينة سيدنا نوح قد تحجرت حتى هي!!

في عينيها الحمراء بدموع البكاء الجاف، كانت تُشاهد ممرات فواصل من حياتها برفقته في ملحمة الشِّدة لا الفرح. مرات كانت تمرر كرة الثلج الهاوية باللوم إليه بأنه كان فظ القلب، غليظ لسان الكلام. و في لحظات أخرى، كانت تُرسي مركب حياتها جلمود صخر، بأنها لم تستطع يوما من فهم أمانيه المتزايدة، ومساندته في آلامه المتبقية، وإتمام أحلامه المفتقدة. لفترة طويلة تسترق البصر، كانت تُلاحق تحركه القصير بتلك الغرفة الصامتة في قعر الحزن، والتي أفزعها نور النافذة المتعرية على الشارع بالكامل. كانت تتوسل إليه طويلا برمزية عيون الإحساس الداخلي، وبدون لغة. وقد كانت كل نظراتها المتأنية تحمل تعبير كل لغات العالم : أعتذر منك، وعن كل ما صدر منِّي، ومن حب ساويته بالامتلاك لروحك المرحة!!

في تراخي الضوابط الشعورية بالدفء، والإفراط في رسم نقاط التباعد، بات ما تبقى من الحياة منتهية بالحتمية الجبرية. فقد انتهت المنفعة المتبادلة، انتهى العنف المتقاسم بينهما بالدوام، انتهى الخوف من لحظة الهجر، ومن الفرار الاضطراري. لكن الآفة التي يصعب تجنبها بالتحمل حين قرر الرحيل وبلا لمسة متبادلة. نظرت إليه من الخلف وهو يغادر المكان وحياتها، كانت تبحث عن مصداقية بداية إعادة تدوير بقايا الحياة بالنسبة إليهما، لكنه أغلق الباب برفق خلفه وانصرف...

(يتبع...)

***

محسن الأكرمين

 

دشّـنتُ عـامي وقـاك الله بالـمـرضِ

هـو ابـتـلاءٌ أتى في عـارضٍ عـرضي

*

فـالـحـمدُ لله عـند الله أحـسـبُهُ

فـهـو الكريـمُ وحـسبي مـنه بالـعِوضِ

*

ومـا الحــياةُ لـنا إلّا كـمـرحلةٍ

والـحُـــكـمُ لله لا حُـــكـمٌ لـمُـعـتـرضِ

*

دُنـيـا نـعيـشُ بـها قـد لـوّنتْ وجـعي

عـانيـتُ مـنـهُ وفـيـها لم أنـلْ غـرضي

*

عـمـري تـبـدّدَ لا أدري نـهايـتَـهُ

عَــلَيَّ أُحـسِـنُ تـسـديـدًا كـمُـقْــتَـرِضِ

*

ومـا تـبـقّـى عـليَّ الـيومَ أُنْـفِـقُـهُ

في طـاعةِ الله مَـحـسـوبًـا على نَـبَـضي

*

والـعــودُ أحـمدُ للـباري ورحـمـتـهِ

مِنْ أنْ أعـيـشَ مـع الاوجـاع والـمَـرضِ

*

فـهي الـثـمانـونَ حُـلـمًـا حـيـن أحـسَـبُـها

قـضـيـتُـها هـكـذا بـالـطـولِ والـعَــرَضِ

*

وهـيَ الـثـمـانـونَ صـارتْ ظِـلَّ راحـلـتي

ومــا تَـــبَـــقّـى بــعـــــلـمِ اللهِ للــحَــرِضِ

*

أرجـو رضـى اللهِ فـيـهِ حـين أخـتـمُـهُ

هــو الـحـفـيـظ لــمحـفــوظٍ ومُـقـتَـبَـضِ

*

هـي الـثـمـانونَ فـي دُنـيـا تُـنـازعُـنـي

والـحــالُ حِــيـلَ لـمـفـروضٍ ومُــفـتـرَضِ

*

دُنـيـا نـعـيـشُ بـها أحــوالُـهـا غِـيـرٌ

والـناسُ فـيـهـا على الـحــالـيـنِ في رمَـضِ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

- الدنمارك / كوبنهاجن

الاحـد في 25 شباط 2024

........................

* القـصيـدة جـاءت لـسـؤالٍ سـألـني ألاخ الأستاذ الـمـفكر الـتـنويري ماجـد الغرباوي على الـفـيسـبوك،  فأجــبـتُـهُ وكان جوابي هو مطلع القصيدة والحمد لله على كل حال. 

 

القصيدة الأولى

لكي نتغنّى بعذوبة حتى الأبد / فيليب تيرمان*

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

كم يلزم من الوقت لنكشف عن قيامتنا.

وأن نتساءل ماذا أو من سمح لنا بمشاهدة

تبدد هذا الضباب، ورؤية هذه المياه، وهذه الوردة،

يعني أن نتساءل لماذا يجب على اليمامة الحزينة

أن تنظر إلى الخلف نحو الغصن الذي

قفزت منه إلى فسحة عريضة

من السموات لتحلق وتطير، أو لتتكهن لماذا

يعاهد ظل الشجرة شجرته على الوفاء،

حتى يحل الليل فيختفي

كلاهما في عهد وفاء وإخلاص أشمل،

في المكان الموجود وراء الأضلاع، وهناك

نودع كل شخص أحببناه

إلى نهاية حياتنا. والآن

الزنبقة البيضاء أغرقها مطر

يقودنا إلى قصة حب، فيما العالم يشرق، ويتكون

ويزدهر، والشمعة تحترق

طيلة الليل حتى الفجر، وحينها

يتضاعف نورها في النافذة. لذلك هيا بنا

نملأ أرواحنا بالجمال، والحقيقة،

ومثلما تأتي الروح معها، تتابع

مع حياة عشنا كل ما فيها، كأنها عصفور يدخل

من نافذة ويغادر

من النافدة التالية.

حياتنا فرصة

لتلك الروح كي تغني، بعذوبة، وحتى الأبد.

***

................

* شاعر أمريكي. والترجمة من مجموعة ستصدر عام 2025 بعنوان &quot، إزهار كل شيء".

..............................

القصيدة الثانية

لكي نتغنّى بعذوبة حتّى الأبد

قصي الشيخ عسكر

***

البدء أنا

حين يرافقني الظلّ

أستدرج في صدري

بعضا من شكّ والمعنى الآخر أبحث عنه في الوردة والماء

إنّي أضع اللحظة في كفي

أكرعها

وأغنّي

تلك اللحظة كان الظلّ يراودني عن صدري

فأنا أعرفه لايتركني

يصبح ليلا

في نفس اللحظة يدلف في إحدى الشمعات

هذا الكون الهائل والمرعب شتّته نور يتوقّد من صدري

كان هناك بعض ضباب

يبحث عنّي بين الوردة والماء

يحزنه أن يصبح ظلّي ليلا  لايبعد عنّي حين يناغى إحدى الشمعات

من يعقل أن ظلام الكون المرعب يخشى حفنة نور

والناطق عن لغة الحزن ضباب يهزأ بالرؤيا

وبعيدا عن أجواء الصمت ورعب الليل تغنّت نافذة عطشى لهديل يمام وغناء عصافيرتهادت من جنّات الأحلام.

الغرفة حبلى بالنور

وبصدري تسبيح يمام

إنّي أنهض ثانية

بقيامتيَ الأخرى

يتغيّر وجه الكون

يصبح طيرا

ساقية

ومياه

روحي تلبس تاجا منسوجا من حقٍّ وجمال

إذ حقّقت ذهابي وإيابي

في الوردة والماء وفي البرّ، على البحر وفي قسمات النور

سأظلّ،بلا شكّ، من دون فناء

روحي وقيامتيَ الكبرى أبد الدهر!

***

قصي الشيخ عسكر:

..................

ملاحظة: قصيدة الشاعر فيليب تيرمان أشار عليّ الصديق المترجم صالح رزوق أن أضارعها بقصيدة وقد وعدته أن أترجم قصيدتي وأبعثها مترجمة للصديق الشاعر القدير فيليب تيرمان

***

I am the beginning

the shadow accompanies me

I draw in my chest

some doubt and other meaning in the rose and the water

I keep the moment in my hand

Nipping it

And I am singing

At that moment, a shadow was hovering over my chest

I know he will not leave me

It becomes night

At the same moment he entered one of the candles

This enormous and terrifying universe was dispersed by a light burning from my chest

There was some fog

he

is searching for me between the rose and the water

It saddens him that he becomes my shadow at night, not far from me when he is talking to one of the candles

Who would think that the terrifying darkness of the universe would fear from a handful of light?

The speaker of the language of sadness is a fog that mocks the vision

*

Away from the atmosphere of silence and the terror of the night, a thirsty window was serenaded by the cooing of doves and the singing of birds that guided them from the gardens of dreams.

The room is pregnant with light

And in my chest is the praise of doves

I'm getting up again

With my other resurrection

The face of the universe is changing

He becomes a bird

Waterwheel

And water

My soul wears a crown woven of truth and beauty

I achieved my coming and going

In the rose, the water, the land, the sea, and the features of light

I will remain, without a doubt, without annihilation

My soul and my great resurrection are forever!

 

يحولون الدم إلى ذهب

ويقاتلون العدو

في حديقة رأسه المهوشة

في شوارعها الأثيرة

هم تبر الأرض المباركة

يملأون الدوارق بالضوء

ثم يشربون.

*

على إيقاع قرع الأواني

تتساقط دموع الموتى على الإسفلت

الكلمات هزيلة جدا

حمام المحبة نافق

تبا لك يا معبر رفح

يا معبر اللصوص والقتلة

يا معبر العار والفضيحة والخراب.

*

مقرفون نحن يا غزة

عميان نحن يا غزة

العدو  يقرفص تحت جلودنا

يختلس مكعبات الضوء

من عيون الصغار

نحن مثل قردة الكسلان

نتسلق سياج الوراء

بأفواه ملآى بالقش والضباب.

*

سكان غزة

ليسوا هنودا حمرا

ليسوا ظلالا عابرة في يوم شتوي

ليسوا سرابا خلبا

لتطلوا به أظافركم

إرحلوا أيها الأغراب من هنا

إرحلوا إلى الأبد

من أرض غزة

من حنجرة المطرب

إذ تسقط إجاصة القلق  من نبرته المتقطعة

من شرفات البيوت المهدمة

من ألبوم العائلة المنقرضة

من الشوارع المضرجة بسبائك الشهداء

من سماء عيني هذا الطفل

المترعرع تحت الأنقاض

من مزارع غزة

وحائقها المليئة بالمجد والصلوات

سكان غزة

ليسوا هنودا حمرا

لتقيموا على أنقاضهم

مدنا من الغبار والضغينة

إرحلوا أيها الأغيار

مشتتين كما كنتم في البراري الموحشة

سنقاتلكم

من شرايين الموتى

تصنع بنادق الغول

الصواريخ التي تقض أرواحكم

قذائف الآربجي المليئة

بزئير  الأسود.

الغلبة لنا

لأن لنا جذورا وينابيع

في تلافيف الأرض.

***

فتحي مهذب

هذه المقطوعة من الشعر في محبة الله، محاكاة لشعر المتصوفة، أقدمها بمثابة هدية  إلى الأستاذ ماجد الغرباوي العالم في قضايا الفقه وعلوم الإسلام، بمناسبة ميلاده السبعين.

***

نورُ الهدى

يا هندُ ليسَ من العشاقِ إنصافٌ

إنْ لاحَ في زمن الكتمانِ إيضاحُ

*

لا فوزَ للناسِ إن أبيحَ سرّهُمو

سرُّ الحبيبِ لكل الناسِ فضّاحُ

*

لا شكرَ لي بمناجاةِ الحبيبِ هُنا

فالله نورٌ وفي نور الهُدى راحٌ

*

إني لأعلمُ أنّ العفـــــوَ مقبولٌ

فالحقُ دوما لمن يرجوهُ سَمّاحُ

*

إني دعوتكَ لا جاها ولا طمَعا

ربّ البريّةِ طهرُ النفسِ مِصباحُ

*

إني نهلتُ من العلومِ مِكيالاً

وما عرفتُ بأن الصبرَ مِفتاحٌ

*

إني سَعيتُ إلى دُنيايَ منهمِكاً

وقد ظننتُ بأنّ العُمرَ أفراحُ

*

يا من يُسرُّ لذاك الجاهِ مُبتهجاً

سرُّ الوجودِ صَفاءُ الرّوحِ صَدّاحُ

*

عشرونَ عاماً بدارِ غربتي وحدي

طالَ الطّريقُ، متى يا قلبُ ترتاحُ؟

*

أنا المسافرُ أهلُ الشام أحبابي

ففي دمي عنبٌ حلوٌ وتفاحُ

*

أهلَ الكرامةِ نهديكم مَحبتنا

حبُّ الكرامِ لأهل الجودِ لمّاحُ

*

لولا الحبيبُ لما بكت مُعذبة

ولا تندّت لأهل العِشقِ أقداحُ

*

لولا المَحبّة ُما طارت حَماماتٌ

ولا بَدتْ عندَ أهلِ الخيرِ أرباحُ

*

أخا المُروءَةِ، في الأبعادِ مازلنا

في البُعدِ تسودّ أو تبيضّ أرواحُ

*

دنيا العِبادِ تكللتْ بأعلام

فكن حكيما كما في اليمّ مَلاّحُ.

***

كتبت حسب البحر البسيط .

الأستاذ الدكتور إسماعيل مكارم

..........................

شهادة

أخوتي الأعزاء من نخبة المثقفين العرب، والأخوة من القوميات الشقيقة.

لا شك أننا نعيش زمن تزوير الحقائق، زمن تزوير السردية العربية، وصولا إلى تزوير الوجدان العربي – الإسلامي، انتشرت موجات الإسلاموفوبيا في بلاد الشرق وبلاد الغرب. أقرأ في الصحافة، رجل يسأل: لماذا جيش الصهاينة يقتحم المستشفيات في غزة ؟ تجيب واحدة من القراء: يقتحمون المشفى، كون الإرهابيون متمركزين داخل المشفى ...!!!

هذا ما أراده الغرب من تشكيل تنظيمات الإرهاب مثل داعش والنصرة وأعداد عديدة مثلهما. تزوير السردية العربية، والرواية العربية. الأمر بدأ ليس الأمس القريب، بل بدأ منذ الحملات الصليبية، ما سميناه نحن حملات الإفرنج، وسماها الغربيون الحملات الصليبية. لو صادف مراسل لواحدة من المحطات في إحدى المدن الغربية مظاهرة مطلبية في شارع، وفي شارع آخر حادث سير عادي، ولكن السائق عربي، يترك أمر المظاهرة، ويصور حادث السير ويتحقق من هذا العربي؟ ومن أين قدم إلى اللجوء؟ وهل له سوابق.. أم لا؟ ويبنى أسطورة كبيرة، كل هذا كونه مكلف في تضخيم حالة الإسلاموفوبيا.

يقابل كل هذه الهجمة على مجتمعاتنا ضعف في صفوفنا الوطنية، هذه الصفوف التي تحتاج إلى اللحمة الوطنية، تحتاج إلى الإنسجام، وعدم التشتت والضياع. من يقول أن التيارات الثلاثة من الإسلاميين، والقوميين العرب، واليساريين لا يمكن لهم التنسيق فيما بينهم لمواجهة قضايا الأمة، فهو غلطان، ويعيش في زمن آخر. إذا كان الغرب مجتمعا يود للعرب والعروبيين الشر، فعلى العرب في أضعف الإيمان أن لا يتناحروا، ويقتتلوا فيما بينهم.

الضعف أيضا أخوتي ظهر في مؤسساتنا الروحية، التي تحتاج إلى إعادة نظر في الموروث، وتفسيره تفسيرا صحيحا، والنظر إليه نظرة أكثر دقة، وأكثر إستيعابا. هنا يبرز دور العلماء المتنورين والمخلصين في الفقه، وعلوم الدين. هناك قول شعبي إذا كنت قد اقتربت من نور الهدى، وأصبحت متنورا، عليك أن تحمل قنديلا لتضيء درب الآخرين.المؤسسات الروحية بحاجة إلى علماء كرسوا حياتهم وعملوا لأجل إعلاء كلمة الحق فيما يقولون. نحن معشر المثقفين القريبين من (صحيفة المثقف) فخورون بأننا نعرف العالم الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي، هذا المفكر والباحث في أمور الدين، وقد سعى من خلال مشروعه إلى تحرير العقل من بنيته الإسطورية، وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة، وترشيد الوعي من خلال تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث، وتداعيات العقل التقليدي. رأينا كيف عمل ويعمل الأستاذ العالم الغرباوي من خلال قراءة متجددة للنص تقوم على النقد والمراجعة. ورأينا أستاذ الفقه السيد العالم الغرباوي يؤكد على وجوب فهم متجدد للدين كشرط أساسي لأي نهوض حضاري للأمة. الأستاذ الغرباوي كرس عمره وكل عمله لأجل بناء مجتمع خال من العنف والتنابذ والإقتتال والتناحر، ورأيناه يعمل لأجل حقوق المرأة في المجتمع ونبذ الرؤية القرووسطية للمرأة.

أرجو النجاح والتوفيق للأستاذ العالم ماجد الغرباوي في مشروعه التنويري.

***

بقلم: ا. د. إسماعيل مكارم – أستاذ اللغة العربية، والحضارة العربية في جامعة كوبان – جنوب روسيا.

 

وكــيــفَ يــحرَّرُ الأقــنانُ جــيلاً

إذا خــلــقــوا عــبــيداَ بــالــولادةْ

*

وســيِّــدُهمْ  لـــهُ حـــقٌ عــلــيهمْ

كــمــا ربُّ الــسماءِ لــه الــعبادةْ

*

إذا  مـــا مـــاتَ يَــخْــلِفُهُ بَــنُــوهُ

كــأمْــتِــعَةٍ وأبْــنِــيَــةٍ مُــــشــادةْ

*

وهــمْ كــالعيرِ لــيسَ لــها قــرارٌ

تــمــصُّ  دِمَــاءَها بَــطَرًا قُــرَادَةْ

*

وســـاروا كــالقطيعِ وراءَ كــبشٍ

خَــصِــيٍّ كــالــنِّعاجِ بـــلا إرادةْ

*

هو المرياعُ خلفَ الجَحْشِ يَمْشي

أمــامَ الــجمعِ بــاتَ لــهُ الــرّيادةْ

*

لـــهُ  جـــرسٌ يُــجَلْجِلُ بــانتظامٍ

لــكي يــمضوا عــلى نهجِ القيادةْ

*

إذا  مـــا  شـــذَّ فَـــرْدٌ ذاتَ يــومٍ

تــلاحــقُهُ  الــكلابُ بــلا هــوادةْ

*

لــيرجع طــائعاً مــن غــير كَرْهٍ

فــفــي الإقــناعِ تــمتلكُ الإجــادةْ

*

فــمن أوبــارهمْ صــنعوا فــراشاً

ومــن ريــشِ الــنّعامِ لــهُ وسادةْ

*

ومــن  حــرمانهمْ يَــبْني قصوراً

عــلى أوجــاعهمْ يُــبدي جَــلادةْ

*

وإنْ  بــذلــوا لـــهُ مــالاً ونــفساً

يُــؤَنِّــبْهُمْ  ويــرغــبُ بــالــزّيادةْ

*

إذامــا شــاءَ خــاضَ بهمْ حروباً

نــتــائجُها الــكــوارثُ والإِبــادةْ

*

لــيسبحَ فــوقَ بــحرٍ مــن دمــاءٍ

ويــصنعَ مــن جــماجمِهمْ قِــلادةْ

*

هـــو الــسَّبَّاقُ يَــشْرِيهمْ بــبخْسٍ

فــفي الــتَّسْوِيقِ حاز على شهادةْ

*

وهـــمْ  بــالعُـرْفِ لا هَـمٌّ لــديهمْ

ســوى تَفْخِيمُ أصــحابِ السعادةْ

*

بــعصرِ الــقبحِ باتَ الزَّيفُ نهجاً

وبــالــتّلْفِيقِ تُــصْــطَنَعُ الإشــادةْ

*

فــيا  أهــلَ الــمودة، فانــصَحوهمْ

لــعلَّ  تُــفِيدُ فــي النّصحِ الإعادةْ

*

فــمــا حصلَ الــتّقدمُ فــي مــكانٍ

وفــيه الــناسُ أهــونُ من جرادةْ

*

إذا  لـــمْ يــصبح الإنــسانُ حــراً

فـــلا  و طــنٌ يَــعِزُّ ولا ســيادةْ

*

عبد الناصر عليوي العبيدي

لا اعرف حتى هذه اللحظة من كانت مع زوجي في بيتنا.. وكيف اقنع زوجي السعدية قريبته بزيارة أمها المريضة حتى تترك البيت وهومن كان يمنعها من قبل لما يعرفه عن الام من ميوعة وسوء خلق ولها يظهر كراهية قوية  حتى أنه كان لا يتوانى في تبليغ بنتها بما تقوم به دون علم زوجها..

ماذا رات ريهام بنتي ذات السنتين حتى صارت تتقمص ما شاهدت فتشخصه على وسادة سريري: تقبل الوسادة ، تتلفظ بنصف كلمة: أحبك (بك)، تريد أن تخلع ثيابها، بل صارت حين تجلس الى جانبي تقبل ساقي وتعض أصابع قدمي

كأنها تتحرش بي..

السعدية تقول:

- ابن عمي اغراني بكلمات واخافني من عاقبة سوء الخاتمة:

-كيفما كان الحال فهي أمك ويلزمك عيادتها قبل أن تموت وهي عنك غاضبة

- لكنك يا ابن العم انت من كرهتني فيها لافعالها التي كنت تقول عنها:

 "هيهات ان يغفر لها الله على ما اقترفت.. ما ذنب ابيك الذي سترها ولمها من براثن التسول بان تطعنه في ظهره..

لم أجد أمي في البيت عند زيارتها  بعد إلحاح من ابن عمي شديد ، بل صادفتها في الطريق وهي عائدة، لم يكن محياها يدل على مرض أو حتى اثر من عياء بل كانت تتبختر بانتشاء في كامل زينتها كأنها تحيا لحظة سحرية تلفها في متعة بصمام أمان تتقدمها مواكب من عطر نسماته لم تكن عني غريبة..

حين سألتها: أين كنت؟ استغربت وهي تفجر ضحكات ماجنات:

 - أين كنت ُ؟.. في عيادة طبيب، لماذا السؤال..

- أخبروني أنك جد مريضة !!..

- كنت وصحيت والطبيب طمأنني على سلامة بدني..

بعد حديث قصير مع السعدية أدركت منه ما ادركت،شرعت اتابع زوجي بانتباه ومراقبة ؛ أن تشاركنى امرأة أخرى سرير نومي فهذا ما لا يمكن القبول به، أعرف أن زوجي ثعلب ماكر،والدناءة ليست غريبة على رجل تغيرت أحواله بعد سنتين من زواجنا وصار مظهره يناقض سريرته..  حين سألته عن عودته المبكرة الى البيت من عمله أول أمس رد علي بانتباه ودقة:

طبعا عدت،ألم تخبرك السعدية أني من بقيت مع ريهام حين أبلغوني أن أم السعدية مريضة في حالة مستعصية؟

من طبعي ألا أتعجل إصدار الأحكام فيكفيني وقعة السقوط في حبه بعد أن اوهمني حرصه علي وعلى مصالحي عساه يرد نزرا مما ناله من أبي.. 

كنت أتعمد ترك ريهام تلاعب اباها في حضوري حتى أرى ردة الفعل من الجانبين..

صارت ريهام تحذر الاقتراب من أبيها وهذا سلوك جديد من قبلها، هل هو خوف أم كراهية؟ لا ادري..  بسرعة كانت ترتمي بين أحضاني وتظل تقبلني وتقول:"بك بك " تكررها كثيرا وعيناها ترنوان لأبيها، كأنها تبلغ عنه أو تشكوه لي..

كانت عيونه تتصوب اليها وكأنه يحذرها، أخطف نظرة اليه واعانق ريهام ابادلها القبل..

وأتاني الحل هدية من السعدية قريبة زوجي..

أكثر من ثلاثة أيام ونسمات العطر التي اخترقت خياشمي تقمطني بشك،

ضاعف من شكي الطريقة التي هول بها ابن عمي مرض أمي بما يتجاوز المبالغة الى التحذير وسوء الخاتمة، ثم اني لما عدت الى البيت وجدت قنينة عطرك بعيدة عن مكانها المعتاد، فأمي ليس في مقدورها أن تقتني عطرا كعطرك بل لا يمكن أن يرقى ذوقها اليه الا أن يكون هدية من عاشق سبق ان رافقها ولن يصل العاشق المرافق الى ذوق او غنى يمكنه من هدية كعطرك..  رغم جمال أمي وشبابها فلا يرافقها الا من هم في مستوى متدن اجتماعيا ..

المختارابن الدوار كان صديق طفولتي تعلم وصار تقنيا كهربائيا ، يدعي تعلقه بي هو من أخبرني أن أمي قد بالغت في الخروج يوميا وقد اقتفى اثرها يوما فوجدها تدخل شقة في عمارة جديدة البناء في حي صارتابعا للمنطقة الحضارية، لم يكتف بذلك بل استطاع أن يأخذ صورا للرجل صاحب الشقة ولامي.. "

عرفت الحقيقة فصرت أنا من يراقب زوجي وله اقتفي بأثر الى أن ضبطته بنفسي.. لما انفضحت زلته في البيت أعد وكرا بعيدا عن الأنظار؛ سرق مما تم ائتمانه عليه ليشتري لأم السعدية شقة لقاءات الهوى المحرم..

كيف وقع هذا ومتى؟ وماذا وجد في أم السعدية لم أحققه له؟

بدم بارد ابلغت الشرطة فرصدته وعليه ألقت القبض في لحظة متعة مع عشيقة السوء، ثم اصررت عند المحاكمة على الطلاق وعدم التنازل لزوجي المنافق والذي كان مظهره عكس حقيقته ؛ لم يستحي حتى من طفلته الصغيرة وقد أدركت سبب سلوكاتها البريئة، كما حرضت السعدية اباها حتى لا يتنازل لامها وكانت النتيجة ثلاث سنوات سجنا لهما..

ادركت أخيرا أن كل ثورلا يحرث الا مع قرينه وان الانثى مهما تعلقت في حب فيلزمها أن تبحث عن العروق الأصيلة قبل أن تغرق في نفس خبيثة لا تسعد الا اذا اساءت لمن أحسن اليها و مهما تم تنظيفها وإستصلاحها من درن فهي حنين لمياه آسنة لا تهدأ الا اذا عادت للاغتسال بها.. 

***

محمد الدرقاوي - المغرب

بعد فترة ممارسة طال أمدها، امتاز قس متدرب بأكبر الكنائس غربا قبل عصر الأنوار بإيمانه الصافي الحق. اسمه فيليب. في منتصف يوم معلوم، استقبله كبير القساوسة قبل تناول وجبة الغذاء. وجه إليه سؤالا واحدا لا ثاني له: ما هي نتيجة الجمع "1+1". فأجاب المتدرب بسرعة "1+1" سيدي تساوي 2. فعقب عليه سيد الكنيسة بابتسامة مبهمة: "لا يا ابني جوابك خطأ "1+1" يساوي 5". صمت فيليب مشدوها، فهمس لنفسه: "هناك بلا شك سر وراء هذا السؤال". فأردف مرتبكا: "إذا أجبتكم بنفس جوابكم إرضاء لكم سيدي، ألن أحاسب يوما؟". ابتسم كبير القساوسة معترفا بقوة عبارة الإجابة، وغادر المكان بسرعة، تاركا القس المتدرب مكهرب الأجواء، مشتت التركيز.

استمر التفاعل بقوة بين الكنيسة والبيروقراطية السياسية في البلاد. ازداد حرص فيليب على الحفاظ على استقلاليته. حاول التكيف مع الأحداث بنَفَسِ التأثير عليها بأفق إصلاحها. عاش ساعات أيام شبابه الاندفاعية متوترا. يستولي عليه الأرق وتنهشه الكوابيس ليلا. يستحضر كل مرة حديثه مع كبير القساوسة. قرر مقابلته مجددا. طلب هذه المرة موعدا رسميا من كاتبه الخاص. حضر في التوقيت المناسب. قام السكرتير بكل واجبات الاستقبال. أذن لفيليب بالدخول. واجهه كبير القساوسة، المدجج بحاشيته من كبار القوم، بنفْس ابتسامة اليوم المعلوم. قدمه للحضور كفاعل جديد من رجال الدين العقلانيين. أعطاه الكلمة أمام وجوه معبرة عن استحسان حضوره. انتهى من إلقاء تدخله المحبوك مقدما التحية الختامية. تهامس الحاضرون فيما بينهم لدقائق. خُتِم اللقاء بعبارة كبير القساوسة:"أحسنت أيها الفقيه فيليب"، فأعطى أوامره لحاشيته بتغيير الأوضاع واعتماد خطة فيليب لإصلاح أوضاع الكنسية والسياسة". تظاهر الكل بالابتهاج والرضي.

عاش فيليب بعد هذا اللقاء أياما عسيرة أحس خلال ساعاتها أن الأمور تزداد تعقيدا وتوترا، ولياليه تزداد أرقا. يداهمه صراع القبح والحسن والخير والشر ليل نهار. كلما استحضر أمانة الاستخلاف أرضا، ازداد إصرارا على المقاومة. لم يستسلم قط متشبثا ببشريته الكاملة. رأسه سينفجر بكثرة التفكير. كلما التقى كبير القساوسة بمحياه الصارم داخل أروقة الكنسية، يصفر وجهه، يلقي التحية بدون أن يجرؤ على مفاتحته في موضوع اللقاء السابق وفي مغزى ودلالة العملية الحسابية. استمر على هذا الحال متأزما نفسيا وكأنه يصب الماء على رمال صحراء قاحلة إلى أن بدأ الجنون يتسلط على وجوده.

تعود منذ البداية على كتابة مذكراته اليومية كل ليلة قبل النوم. استأمن أخوه على ترتيبها وأوصاه بالحفاظ على سريتها ونشرها في كتاب إن وقع له أي مكروه. مات فيليب غير مستوعب لمعنى الموت بسبب جنونه. نشر الكتاب في انجلترا، وبدأت بعد أيام قليلة تشع الأنوار وتنعكس هنا وهناك.

***

الحسين بوخرطة

 

لِمُنَزِّهٍ من ربّهِ التنزيلا

مُتأبِّطٍ وَسْطَ الدجى قنديلا

*

ومُجدِّدٍ رفضَ القطيعةَ رائياً

عَطَشَ الجذورِ الى التُرابِ فَتيلا

*

لإنارةِ القلبِ المُنوّرِ بالنُهى

حتى يُعمِّدَ بالكرامةِ جيلا

*

كَرِهَ إقتلاعَ خيامِهِ لَمّا وَعى

وَرأى كَثيبَ القاطِعينَ مَهيلا

*

تأبى خُطى التقليدِ خُطْوةُ عارِفٍ

بالقِسطِ غرْبلَ جُلَّ ما قد قيلا

*

كالمُسْتنيرِ بصيرةً وَ طريقةً

لم تَتّخذْ غيرَ الفؤادِ دَليلا

*

وَكَدائِنٍ شَهِدَ المَدينُ بِفضْلِهِ

وَديونُهُ لا ترتجي التحصيلا

*

وَمُعلِّمٍ وَهَبَ العِراقَ جَميلَهُ

فأتى قصيدي كي يَرُدَّ جميلا

*

خوّلْتُ قلبي أن يصوغَ قِلادةً

ومضى فؤادي يختمُ التخويلا

*

شَرَفُ القصيدةِ إذ تُتوّجُ شَيْبَةَ الْ

رأسِ المُتوّجِ بالرؤى إكليلا

*

بِمِدادِ أمجادِ الكريمِ تخضَّبتْ

وَبِها أمجِّدُ ماجداً ونبيلا

*

وَكَفى بِشِعْري هَيْبةً وَأصالَةً

يوماً يُكرِّمُ بالحُروفِ أصيلا

*

سَبعونَ مَرّتْ والفُيوضُ غزيرةٌ

في لُبِّهِ تَلِدُ الضِياءَ مَسيلا

*

سبعونَ عاماً والخيولُ بِفكْرِهِ

قد مزّقتْ أثَرَ اللجامِ صَهيلا

*

فَمِنَ الرِجالِ إذا النوازلُ أحْدَقتْ

بِدِيارِهمْ ما بَدّلوا تَبْديلا

*

طوبى لِمُجْتَهِدٍ توضّأَ قلْبُهُ

بِمياهِ دجْلَةَ فإسْتحالَ نخيلا

*

أَوَ يُنْجِبُ (الغرّافُ) إلّا مُبْدِعاً

وَمُتيّماً للعاشقينَ سَليلا

*

عَرِفَ الطريقَ الى الحقيقةِ بعدما

جعلَ الدِرايَةَ غايةً وَسبيلا

جَرَحَ الرِوايةَ كُلّما عَزَفتْ لَهُ

نَغَماً نَشازاً يبتغي التَعْديلا

*

نَزَعَ القداسَةَ عن أحاديثِ الأُلى

هجروا الرشادَ وَعاقَروا التهويلا

*

لم يعْتَنِقْ هَوَسَ الأحاديثِ التي

مَنَعتْ عِناقَ الوَصْلِ والتقْبيلا

*

فَغَدا يُهدّمُ باليراعَةِ زيفَها

حَذَراً يُسائلُ قاتِلاً وَقَتيلا

*

أَتُبيحُ أشباحُ التراثِ دِماءَنا

لِتُحيلَ حاضرَنا أسىً وَعَويلا

*

فإستلَّ من لُبِّ الفؤادِ يَراعَهُ

سِلْماً يُلاحِقُ واجِداً وَ دخيلا

*

وَرأى الدليلَ على الهِدايَةِ موقفاً

مُتَأبِّياً غيرَ الصَلاحِ بَديلا

*

فَإذا الظواهِرُ في النصوصِ تعارَضتْ

وَعُقولَنا لم يَعْدَمِ التَعْليلا

*

قَالَ : السريرةُ في اللغاتِ مَجازُها

وَبِهِ تذوبُ نقائضٌ تأويلا

*

مَعَهُ الأصالةُ تستحيلُ حَداثَةً

حيثُ الأصولُ تُروّضُ التأصيلا

***

د. مصطفى علي

 

الى روح زها حديد

هذا فقطْ …

تصميمٌ على الورق

ليسَ لهُ أَي وجودٍ

أو حضورٍ شاخصٍ

لا في بغداد الحزينة

ولا في “ بابل “ المهجورة

لا في “ نينوى “ المنهوبة

ولا في “ نفّر “ المنسية

لا في “ اوروك " المُحتلَّة ،

ولا حتى في “ فلوريدا “ المُحتالة

التي إختطفتْ قلبَها الرهيفَ

لأسبابٍ كانتْ ومازالتْ غامضة ً

حدَّ الحيرةِ والدهشةِ والذهولٌ

*

إنَّهُ مُجرَّدُ “ ماكيتٍ “ ورقيٍّ

ابتكرتْهُ مُخيَّلةُ مواطنٍ

عراقيِّ الأصلِ والطينِ والضمير

وكونيّ الجنسيّةِ والمشاعرِ والرؤى

والذكاءِ الإصطناعي

*

ثَمَّةُ فكرةٌ وهاجسٌ ورؤيةٌ

صارتْ تُراودُ هذا الكائن

كي يُنجز حلماً

أُصبحَ يسكنُهُ

في لياليهِ الثقيلةِ

وفي نهاراتِه الضاجَّةِ

بالتفاصيلِ والمشاغلِ

والأهواءِ والجنونْ ،

حيثُ أنَّ فكرة هذا العراقي الشريف

هي أنْ تُساعدَهُ الأُمّةُ العراقيةُ

بتنفيذ تصميمهِ

و " ماكيتهِ " الباذخ

ليكونَ نصباً وتمثالاً هائلاً

يليقُ بسيدةِ العمارة والجمال

لكنَّ المُحزنَ والمؤسفَ

في الحكاية والحلمِ والحقيقةِ

هوَ أنّ الجميعَ

قَدْ سخروا من حُلمِهِ

وإستهزأوا بفكرتِهِ

ومن ثمَّ هوَ وهاجسهُ

طردووووووووووووهْ

*

يااااااه كم هو مُخجلٌ

حال الذينَ يستكثرونَ

إقامةَ تمثالٍ فارعٍ

يليقُ بإيقونةٍ خالدةٍ

هيَ زها حديدْ

***

سعد جاسم -  اوتاوا

في ٧-١٠-٢٠٢٣

 

ق . ق . ج

خذلان

ركبتُ الطائرةَ ساعاتٍ قليلة، فابتعَدَتْ بلادي ألفَ عام، ليس سوى سرابِ الذكريات يكسرُ أعناقَ السنين.

**

مهزلة

في وطني، ينبشونَ في قمامةِ الزمن، أولئك الذين جاءت بهم عرَباتُ الآلهة، من باحاتِ المُدنِ الخلفية، يصحَبُهم ربٌّ اسمهُ إيراريكا.

**

أمل

قيلَ أن نطفةً تفجّرّتْ ليولدَ الكون، وتُخلَقَ المَجرّات، متى تتفجرُ نطفتي لأولدَ من جديد؟

**

حقيقة

إحمّرَّ جبينُ صاحبي من لسعةِ الخَمر، لَمَعَت في عينيهِ أضواءُ النسيان، فصارَ يهتفُ للوَطَن.

**

سقوط

تَكَوّمّتْ بجاني ككتلةِ شحمْ، كأنما أمطَرَتْ حولَها الدنيا لترسمَ في وجهِها قوسَ قزَح، ليس سوى أنفِها غريباً يطلُّ نحوي بلا لون.

**

وفاء

كان يسعَلُ كثيراً، كثيراً، فقد انحشَرَت في رئتيهِ ذكرى ميّتة، لا تُظهِرُها الأشعّة.

**

حكمة

ليس الكتابُ خيرَ صديقٍ في الغربة، بل الذكريات، تجعَلُ الوحدةَ أكثرَ جنوناً.

**

نفاق

رأىٰ دمعةَ طفلٍ جائع، على خدٍّ منكسر، وثيابٍ بالية، فرسمَ لوحةً باعَها بالملايين.

**

رسالة

إنهمك الرسّامُ بشرحِ فلسفةِ الألوانِ في لوحتهِ ، سألهُ أعمى يفترشُ الرَصيف، هل تُوضح لي حِكمَةَ الألوان أيها السيّد، لَعلّي أتخيّلُ ألوانَ الجوع.

**

حظ

يُشعرني الوطن بالغربة، لعنةُ مَنْ تلكَ ياترى.

**

تضحية

عاش طويلا ليدركَ أن احتفاظَهُ بإنسانيتهِ جَعَلهُ يحيى على حافّةِ الحياة.

**

خداع

غادر للذودِ عن المُقدسات، فعادَ حذاؤه ملفوفاً بِعَلَمْ.

**

ضياع

سيأتي عيد ميلادي مرّةً أخرى، ولم أعرف ماذا بعد.

**

جهل

يُراعي أن يرى غروب الشمس من شرفتهِ، كلّ يوم، ولم يسأل، حتى، متى تُشرق.

**

بُهتان

عندما يموتُ جميعُ البشر، ربما بقنبلة ذرية، سيَظهَرُ القمرُ كما اعتاد، بلا نزاعٍ على عيد، أو صيام.

**

مهزلة

أكونُ صريحاً معكم، كرهتُ الغربة، قرَضَتْ من سنيني العديد، وحين عُدت، أبقتني ذكرياتي فيها على قيدِ الحياة.

**

براءة

سأقابلُ الله ذات يوم، أعرفُ، لا حقَّ لي بسؤالهٍ عن شيئ، وأعرفُ أنّهُ لن يسأَلني أيضا.

**

نقيض

مثل العديدِ منكم، أفكّرُ أحيانا، عندما أضَعُ قدمي في الآخِرة، قد تقولُ الملائكةُ لي، حَدِّثنا عن الجَنّة؟

****

عادل الحنظل

 

كان علينا مواجهة العاصفة

رتق مخيالنا الجمعي

الصراخ في العتمة

لإلهاء بومة المتناقضات

كان علينا إدارة الحرب

بحس جماعي مرهف

كان علينا المزيد من الضحك

أمام هشاشة الأشياء

كان علينا التحديق جيدا

في كتاب الموت

وإضفاء طابع الواقعية

على تأويل الجنازة.

*

مثل قطيع أيائل

يلاحقنا فهد من القرون الوسطى

الذعر يأكل أصابعنا بشراهة مفرطة

والطائرات تكشف عوراتنا من عل

تكشف مغارة الهواجس

ظلالنا المتجمدة على الجدران

أصواتنا الفارغة من الضوء

كلماتنا الشبيهة بفقمات نافقة.

*

كما لو أننا غيوم محضة

معلقة على حبال الجاذبية

من أقدامنا المتشققة

تشرشر الدماء

المسيح يقطع شحمة أذنيه

ويرميها من شباك الطائرة

ولا أحد يلوح من بعيد.

*

نمشي إلى الوراء

بظهور مقوسة

تحت جلودنا المغضنة

يعدو الزمن ويكبو

ولا أحد من الخيالة الدادائيين

يؤول خيمياء الموت.

***

فتحي مهذب

التمترس الغير

المنضبط

للثعالب والذئاب

يستنفر الحبارى

والكراكي ويجعل

الهداهد

العصافير

والقبرات

تفر صوب

تلال وهضاب

احلامها ورؤاها

هناك لتعانق

بهجة النرجس

ومجد الاقحوان

والبنفسج محتضنة

قوس قزح

الصباح والمطر

والتمترس الغير

المنضبط الاسود

يجعل قطعان الايايل

والغزلان تختبيء

في كهوف احلامها  وامنياتها

عازفة على قياثر

قلوبها لحن

العشب البرق

الريح والمطر

وانا قرب

ينبوع حلمي ورؤاي

اطارد بنات اوى

والثعالب معانقا

النرجس والبنفسج

الندى والعشب

واغصان الشجر .

***

سالم الياس مدالو

 

في انتظار أبداً

من لا يأتي

تَشيخُ السَّاعاتُ

والشَّوقُ يا سيِّدتي

لا يقاسُ فهو المقياسُ

والعشقُ لا يؤطَّرُ

في موازينَ فهو الميزانُ

فلا الزَّمانُ مارِدٌ

ولا التَّاريخُ جَبارٌ

خيوطُ الُّلعبةِ صنيعتنا

وكُلُّ الأحداثِ بحناجِرنا

تَهتفُ وتَبوحُ

لا تُعلِّقي خيباتَك

على مشاجبَ الأيامِ

نحن يا سيدتي

سادةُ العصرِ

وملوكُ الزَّمان

ونحنُ يا حلوتي

من يصنعُ للتاريخِ

أحداثاً وأزماناً

لاتكوني قاسيةً

مثل صخرٍ مثل صلد ٍ

أو صَوَّانٍ

ومثل حكايا الرٍّيحِ

تلتهمُ حكايا العُشاقِ

وأبداً منها لا تشبع

ومثل صُوَرِ الأحلامِ

كلما مَددتُ يَدي

لأقطفَ نجمةً

تَفرُّ مِنّي

وفي المعارج القَصيَّةِ تتوهُ

نتغيرُ أم يتغيرُ المكان

نتبدلُ أم يتحولُ الزمانُ

نكبرُ أم من بين أيدينا

يتَسرَّبُ العُمرُ

تتلعثمُ البوصلةُ

ويصيبُ الخَرَفُ

خرائطَ الطَّريقِ

ودهاليزُ النِّسيانِ

تزدردُ وجوهَنا

وتُلقي بأرواحِنا

في حقائبَ سفرٍ

عبر متاهاتِ القرارِ

لا أحبُّ الدَّمعَ في عينيكِ

شلالاتُ الحُزنِ

تُغرِقُ مراكبَ الأفراحِ

وتتركُني على المفارقِ

وحيداً أعاينُ الأضرارَ

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

دندنتْ على نافذةِ الشِّعرِ

مواسمُ القصيدةِ

ففي انحناءِ المعنى ..

تبجيلُ الأَلفِ والياءِ

وغناءٌ

يكتبُ الضّوءَ

على العناوينِ الملوَّنةِ

المدهونةِ بالخرابِ

أبخرةُ احتراقِ الصّوَرِ

توحي بظلالٍ عميقةٍ

سقطتْ سهواً

من أذهانِ الشّعرِ

حينَ

نهدمُ بيوتهُ

بيتاً.. بيتاً

ونسكنُ بيتا غرائبيَّاً

لنبشِ الماضي

تراثاً

نكراناً للحاضرِ

ونكتبُ على جدرانِ الأمسِ

مواعظَ منمَّقةً

نفردُ القواميسَ

المشرَّدةَ خلفَ المعنى المبهمِ

ونستأثرُ بالشُّعراءِ

لنملأ فراغَ قهرنا

بالشَّعوذاتِ

والقصصِ الخرقاءِ

ندخلُ من القلبِ

ونخرجُ من فجوةِ العقلِ

حاملينَ معنا

جلبابَ القصيدة …

***

سلام البهية السماوي

 

خرج جبر العايف من داره كعادته في صباح كل يوم متوجها إلى مصدر رزقه.

لم يكن يخطر ببال جبر، إن أمرا غريبا سيغير حياته في ذلك اليوم.

وكان قد غادر داره عند الضياء الأول من النهار وهو الوقت الذي يخرج فيه معظم الكسبة من أجل تأمين قوت يومهم.

سلك جبر نفس الطريق الذي تسلكه الشغيلة في كل يوم.

وبمجرد خروجه من داره بدأ الهواء الساخن يلفح وجهه، وهذا ما عرف عنه في مثل هذه الأجواء في شهر تموز من كل عام (وإن جميع أبناء بلدته يدركون ذلك أيضا).

وهو أمر طبيعي فلن يمنعه ذلك عن مواصلة السير.

لاحظ: جبر أن أعدادا غفيرة من الناس رجالا ونساء يحثون الخطى للوصول إلى مكان ما!

وعليه أن يسرع هو أيضا ليتبين سبب ذلك (وهي حالة قد تميز فيها جبر وهي حب الاستطلاع).

قال جبر في نفسه: إنها محاولة جديرة بالاهتمام قد تعود علي بالفائدة.

خطر في بال جبر بأن الآخرين قد يفكرون في مثل ما يفكر فيه وعليه أن يسارع الخطى.

شعر جبر في قرارة نفسه أن الحالة هذه تختلف عن بقية الحالات التي خرج فيها سابقا من داره.

واستدرك قائلا: قد يكون الأمر طبيعيا.

فليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء لا يعرفون سبب توجههم إلى ذلك المكان!

علي أن أتريث وأسأل أحدهم عن سبب ذلك عله يعرف.

وأردف قائلا: كلا لا يتطلب الأمر السؤال علي أن أسرع أولا.

حينما وصل جبر إلى نهاية الطريق، وجد أن البعض قد سبقه والبعض الآخر قد تخلف عنه.

حينذاك بدأت الشمس تلقي خيوط ضوئها على المكان مما مكنته من أن يتبين المكان الذي اندفعت اليه تلك الجموع وهو من ضمنهم!

عند ذاك رفع جبر بصره إلى أعلى فشاهد لوحة عليها عبارة بخط عريض وبلون أحمر!! أثارت العبارة في نفسه الريبة والقلق وعندها أخذ يردد بصوت غير مسموع:

(ما ذا يعني هذا المكان وماذا تعني عبارة (المسلخ العمومي)1؟

ولماذا يهرع الناس للوصول إليه؟

وليكن، وعلي أن ألج هذا المكان مع تلك الجموع:

ومع هذا فإن الهدف لا زال غامضا عندي:

ولكن، علي أن أسأل أحدهم وقد يكون عنده ما يكشف السر:

أجاب أحدهم ردا على سؤاله:

(اعتقد وعلى ما سمعته من أحد المسؤولين:)

(إنهم سيوزعون اللحم والدجاج في هذا المكان وعنوان المكان يشير إلى ذلك وهو مسلخ!)

وأردف قائلا: (قد تكون حصة إضافية على البطاقة التموينية)

دخل جبر إلى ذلك المكان فوجده يختلف كليا عن بقية أمكنة مدينته!

يبدأ المكان بسلم طويل يتجه إلى أسفل.

لم يتمكن جبر من معرفة عدد درجات السلم بسبب الارتباك والدهشة التي اعترته1

وجد جبر نفسه وسط قبو شبه مظلم تنتشر في أرجائه عدد من الشموع وتفوح من أرجائه رائحة غريبة أشبه برائحة البخور.

وتلك الرائحة أعادت لذاكرته الأمكنة التي كان يجدها في المزارات والمدافن والأعراس!!

ما أن استنشق جبر تلك الأبخرة والروائح حتى أصيب بدوار هو اشبه ما يكون في أخذه جرعة من الأفيون.

أجال جبر نظره ليتأكد ما يجري حوله في ذلك القبو.

لقد تمكن من التعرف على بعض المشاهد والتصرفات اتي بدت له غريبة ومريبة جدا وبعيدة عن المألوف !

كان جبر يمتلك بعضا من صلابة جأش بسبب ما مر فيه سابقا من مواقف صعبة أثناء مثوله أما لجان التحقيق وخلال انتزاع اعترافات منه تحت التعذيب أضافة لمكوثه في غياهب السجون والمنافي البعيدة لعدة سنوات.

لذلك فإن أول ما تعرف اليه وما وصل إلى ذهنه هو ذلك الصوت الأجش الذي رددت صداه جدران القبو المعتم وهو يصرخ لمرات عدة:

(الكل يخلع ملابسه ويتعرى بالكامل!!)

قال جبر مخاطبا نفسه:

لابد أن أجد مخرجا وأنفذ بجلدي قبل أن أخلع ملابسي ولكن:

علي أن أراقب من بعيد ما سيحصل هنا في هذا القبو الغريب والرهيب!

وأضاف: وبذلك سأكون شاهد عيان وأنقل الحقيقة للناس الآخرين المخدوعين.

انتبه جبر لوجود لافتات عديدة تغطي جدران القبو وإنه بالكاد تمكن من أن يقرا بعضا منها وذلك بسبب عدم وجود ضوء كاف فتبين له أنها هي نفس الشعارات التي كان البعض يطلقها لخداع الناس وابتزازهم.

تمكن جبر من قراءة البعض من تلك الشعارات وبشكل متقطع!!!:

(بالروح بالدم... الموت والموت... ثم... الموت حتى الشهادة.. يسقط... يعيش ...الوطن... الحرية... المستقبل...الخبز... أين حقي؟

ارتعدت فرائص جبر حينما شاهد ماكنة كبيرة وغريبة الشكل تنتصب وسط القبو.

عاد ذو الصوت الأجش يصد أمرا آخر:

(على جميع العراة أن يقفوا بالطابور إزاء الماكنة صفا واحدا !!)

وما أن دخل واحد من ذلك الصف إلى الماكنة انطلق الصوت الأجش يصرخ بأمر جديد:

ارتعد فرائص جبر من شدة الصوت الأجش المجلجل.

(شغل: أسلخ!)

دوت الماكنة بصوت أشبه ما يكون بإزالة شريط لاصق من مغلف محكم أعقبتها موسيقى صاخبة أشبه بمارشات عسكرية إضافة لترديد بعض من آيات الذكر الحكيم!

خرج الرجل المسلوخ من الباب الخلفية للماكنة.

عاد الصوت الأجش يردد هذه المرة صوتا حنونا يختلف عن المرات السابقة!:

(بالعافية ومبروك عليك ستكون الآن إنسانا خاليا من المشاكل والطلبات الكثيرة!!)

أستمر جبر يراقب ما يجري داخل القبو ومن موقعه المخفي عن الأنظار.

وخلال ذلك راودته فكرة مخيفة وتساءل مع نفسه:

(كيف سيكون مظهري وشكلي أمام الناس وخاصة أمام أهلي لو تم سلخ جلدي مع هؤلاء، وهل سيتعرفون علي بعد سلخ جلدي واختفاء تفاصيل جسمي وقسمات وجهي لو أنني رضخت لأوامر صاحب الصوت الأجش؟)

أبعد جبر ذلك الكابوس من رأسه واستمر بالمراقبة:

أطلق جبر صرخة مكتومة قائلا:

(يا للهول إن المسلوخة جلودهم يقفون صاغرين بصفوف متراصة أمام أحد جدران القبو ولا تظهر عليهم أية علامات استنكار أو أسف ولا يمكن تميز واحدهم عن الأخر بسبب اندثار   سيماء وجوههم والأغرب من ذلك فقد أصبحت أشكالهم الجديدة بعد سلخ جلودهم أشبه ما تكون بالسحالي الملساء!!)

تابع جبر من موقعه مشاهداته وقال في نفسه: ما الذي حل بجلود تلك الزمرة التي خرجت من الماكنة بعد سلخها ثم استطرد.

(نعم هو كذلك وكما أراه الآن.)

فهنالك مجموعة مسلحة تخفي وجوهها بأقنعة تقف بجانب الماكنة وتتلقف جلد المسلوخ وتذهب به إلى موقع في جدار القبو لغرض تعليقها هناك بخطافات حديدية!

عقدت الدهشة لسان جبر حينما رأى تلك الجلود تعلق في الخطاف من أياديها متجه إلى أعلى وكأنها تمثل حالة استسلام الجنود خلال معركة خاسرة!!

لقد وجد جبر فرصة مواتية لينفذ بجلده ووجد هنالك في القبو ممرا سريا يفضي إلى الخارج.

خرج جبر سالما معافى من القبو وأطلق ساقيه إلى الريح ليصل إلى بيته قبل إن يلحق به واحد من جماعة الصوت الأجش.

وفي غرفة الضيوف في بيته أخذ جبر يسترجع احداث ذلك اليوم الرهيب وورد سؤال في ذهنه:

كيف سيبدو مظهر الذين قد تم سلخ جلودهم عند وقوفهم أما كاميرات المحطات الفضائية

وهل سيتمكنون من الإدلاء باعترافاتهم ويبينوا للمشاهدين كيف خدعتهم الدعايات والشعارات الزائفة وكيف جرتهم اقدامهم إلى هذا المصير السيء وكيف فقدوا أهم ما يحتفظون فيه في حياتهم وهي قسمات وجوههم وطبعات اصابعهم التي تميزهم والتي هي الشاهد الوحيد على اثبات شخصيتهم؟

قبل أن تأخذ جبر سنة من النوم رن جرس هاتفه النقال وردد صوت أجش موجود في الطرف الآخر قالا بحدة وغضب:

(ألو هل أنت جبر العايش؟)

انتفض جبر من غفوته ورد على المتصل:

(ألو، ألو من المتكلم؟)

أنقطع الاتصال!!

***

لطفي شفيق سعيد

مدينة رالي 22 شباط 2024

العودة إلى الكتابة بعد عمر التسعين

ألمسُ النهار

وأنتِ فيه الحرير

منه تومضُ ضواحي القلب

تتبلّل حماماته البريّة

قبل أن تطير.

هذا الرأس

بيت العواصف

حارس الشهقات

لا تولد فيه سوى قبلات

تنقذُ الحبّ من الأسر

كلما تأرجحتْ ناره

بين زنازين ثدييكِ النهرين

*

عدتُ إليكِ

لباحة التوت والقرنفل واللوز

أجدفُ فيها

ولا مِنْ فاكهة أعصر ريقها

لتصير بحيرة من لهبٍ

*

لتكتب الغابة عن هذي الطينة

قبل أن يجفّ فانوسي

قبل أن تحترق الظهيرة

وتتحول القصيدة إلى تابوتٍ

إلى امرأة بحلمة ورديّة واحدة

تذوب اشتهاءً

من سؤالي الأخير

كم مرّة اصطادتْ ثيابكِ هذا الغول؟

وخلّفتْ قطرات خائفة

تتجول في الزمهرير

*

اجعليني أتعلّقُ بكِ

كالحروفِ بالمحبرة

لأشاهد ميلادكِ، هجركِ، موتكِ

حتى يعلو بساطكِ السحريّ بي

أطوف جسد العالم العاري

أزجُّ بألف موت غادر هذا الرثاء الباكر

دون أنْ يفيق

*

ها أنا ذا عالقٌ في اللّحن

يدي بين سنبلة الشوق

وليل غامض التفاصيل

ينساب على كتفي... شعركِ الديجور

يزجرني ... أتمتم غيمة غيمة

فيخفقُ مرتبكا قلبي لهذا الانتقام

هذا ما قالته حكاية الأمس

مجرد خيال شيخوخة مرّت بالظلال

أرشديني لو كان رأس الشقاوة مني

هذا الشِعر البالي

أنا لم أقتفي أثره

هو من مشّط قاموس أحجاري

فمشيتُ بلا خُضرة

أزيّن عنق موجة

وعدتني بالولائم والغزلان

*

خذيني نصفا

ولا تُبقي مني النصف في بلادي

*

الآن وقد انسكبَ هذا الجُرح

لؤلؤة قادرة على اللّمعان

تصفرُ

حتى اتسع طيرانه بالدموع

*

اكويني ببهجةٍ صافية السماء

وافصحي عن فوهة جحيمي

برّاقة هي شرارات العزلة

كلما غُمّستْ النظرات بالآهِ

يا ياقوتة أحلامي الطريّة

حين أسكن سرابها

تفيض انوثتها ماءً وخبزا

*

كنت في النار عنوة

عند منعطف قدميها

وما من أحدٍ يصبُّ عليّ آية إبراهيم

أو ينجي مني هذا الوريد

*

ما زال العناق يملأ فاجعتي

يبلغ حقلا من صراخ أبدي

فاض جنوب ذاكرتي

***

زياد السامرائي

وقــفتُ  أمــامَ عــينيها الــرقيقةْ

بــصمتٍ دامَ أكــثرَ مــن دقــيقةْ

*

أحـــدِّقُ  بــاحــترامٍ وَ يْــكَــأني

أطــوفُ شــوارعَ القدسِ العتيقةْ

*

فــــأدّيــتُ  الــتــحيةَ بــاحــترامٍ

كــجنديٍّ مــن الــدولٍ الــعريقةْ

*

مــخاطبةُ الــجمالِ لــها طقوسٌ

وأفــضلها يــكونُ عــلى السليقةْ

*

فــفي العــينين أســرارٌ حــيارى

تــنــاديني لأكــتــشفَ الــحقيقةْ

*

لــمحتُ بــعمقها أســرارَ عشقٍ

فــأبــدتْ لــي تــفاصيلاً دقــيقةْ

*

ذهــبتُ مــع الــخيالِ إلــى بعيدٍ

وراءَ  الــغــيمِ وديـــانٌ ســحيقةْ

*

لــعبقرَ فــي بــلادِ الجنِّ أمضي

وحــيداً والــمخاطرُ بــي مُحيقهْ

*

لأكــتبَ فــي مــحاجرِها حروفاً

تــحــلِّقُ مــثــلَ أطــيارٍ طــليقةْ

*

وتــأتي فــي ســكونِ الليلِ سراً

عــسى تــلقى لــمخدعِها طريقةْ

*

وتــخــبِّرُها بـــأنَّ هــناكَ قــلباً

بـــه فــي كــل زاويــةٍ حــريقةْ

*

ألا هــــبـّـي لــنــجدتهِ ســريــعاً

وكــوني  كــالملاكِ بــه رفــيقةْ

*

تــجلَّى  مــن سنا الخدينِ صبحاً

بــه انــبهرتْ أزاهــيرُ الــحديقةْ

*

وقطراتُ الندى في الثغرِ لاحتْ

كــلــؤلؤةٍ  تــنــامُ عــلى عــقيقةْ

*

تــغارُ الــرِّيمُ والــغزلانُ مــنها

فــراشاتُ الــحقولِ لــها عشيقةْ

*

فذي سفني التي خاضتْ بحوراً

بــعينيها  لــقد ســقطتْ غــريقةْ

*

أيــا  صــنوَ الــبدورِ خــلاكِ ذمٌّ

كــمــا الــملكاتُ فــارهةٌ أنــيقةْ

*

فــمن  نــخلِ العراقِ بها شموخٌ

كــمــا بــغــدادُ نــاعمةٌ رشــيقةْ

*

بــعــيدٌ عــنكِ تــأكلُني الــمنافي

مــتى ألــقاكِ يــا أغــلى صديقةْ

*

فحبكِ في الحشا قد باتَ بعضي

وقــدْ رَسَــخَتْ لــه أُسُسٌ عميقةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

كنا نمشي أنا وكاظم الطعان في (الصالحية) فمررنا أمام مبنى الاذاعة والتلفزيون حيث أعدم الزعيم عبد الكريم قاسم، فأشار اليه وقال (هنا قتلوا الحسين بن علي): فقلت أو هو قال يرثي نفسه:

***

قتلوني فهذهِ الأرض طفّي

وكثيراتٌ في العراق الطفوفُ

*

لم يقتَّل فيه الحسينُ وحيداً

بل رأى ما رأى الحسينُ ألوفُ

*

ومصابي بكربلائي مصابٌ

سوف يبقى والدمعُ فيهِ ذروفُ

*

وصليبٍ للحب ظلتُ عليه

وقلوبٌ لها عليه رفيفُ

*

مات حانٍ - لمَّا قتلتُ - عليها

وعليها جنى جناةٌ صنوفُ

*

ودمايَ التي على الشَّعب سالت

هي منِّي وجسمه المنزوفُ

*

المساكين حينما قتلوني

ساكتون، ينظرون، وقوفُ

*

لم يقولوا كلا وفي كل شخص

ألف كلا تَخافُ وهي تخيفُ

*

نحروني كما الغزال المسجَّى

نحروه ولا أقول الخروفُ

*

لا لنفع لهم ولكن عليهم

هو شعبي وطبعه معروفُ

*

فحثثتُ الخطى تَصَبَّبُ جرحاً

حيث ألقى بيَ المصيرُ الرسيفُ

*

وحضنت الموتَ المقدَّر شوقاً

كحبيبٍ الى لقاء يشوفُ

*

حين ناديتُ بالحقيقة حاطتني

كروبٌ وعاجلتني حتوفُ

*

وهوى سيفُ المجرمين برأسي

كي يظلَّ الخنا وتبقى السدوفُ

*

فاستحالتْ من بعد موتي حياة

لمماتٍ، وكلُّ شيءٍ يخيفُ

*

كان موتي بداية لا انتهاءً

أو كما يحجب الشموسَ كسوفُ

*

خاب ظن العدى.. وخيَّب شعبي

أن رأياً به استدلوا كفيفُ

*

وبذوراً زرعتها في الغدِ الهشِّ

رعاها دون الربيعِ الخريفُ

*

قتلوني وفي العيون دموعٌ

وبنفسي حزنٌ عليهم منيفُ

*

واضطرابي ما زال نفس اضطرابي

حين أسعى لأجلهم وأطوفُ

*

وحياتي حياتهم قد فقدناها وكلٌّ معذبٌ ملهوفُ

*

فلتذرِّ العيونُ دمعاً على عمري التقضَّى وكلُّه تأفيفُ

*

ولتغنِّ الأيامُ ألحانَ أحزاني فيشفى بها سقيمٌ أسيفُ

*

ولتنادِ الرياحُ من جانب القبر: هوتْ راية وماتَ رفيفُ

*

وأريحَ الجهادُ واستوقفَ الزحفُ

ونامتْ ملءَ الجفونِ السيوفُ

*

أيها القبرُ ما شفيتَ جروحاً

بفؤادُ ولا اختلاني النزيفُ

*

لا أقول الشعبُ الذي خانني بل

خانتِ الشعبَ والبلادَ الظروفُ

*

ذاتَ يومٍ سيستفيقُ ندائي

بين شعبي ويستجيبُ الشريفُ

*

فلتسجَّلْ هذي الحروفُ على

قبري لتبقى عنِّي تقول الحروفُ

*

قتلوني فهذهِ الأرض طفّي

وكثيراتٌ في العراق الطفوفُ

*

لم يقتَّل فيه الحسينُ وحيداً

بل رأى ما رأى الحسينُ ألوفُ

***

أ. د. محمد تقي جون

للعشق ِ روح ٌ

وللروحِ عِشقُ

يُفَتِّحُ في النَّفْسِ

أزهارها الظامِئاتْ.

*

يُعِيدُ لِشَيْخُوخَةِ الكلماتْ

نَضَارَتَها المُشتَهاةْ.

*

يُعَبِّدُ للعابرينَ الوصول إلى

مُهَجِ الزاهِرَاتِ.

*

يَؤمُّ إلى طَرْفِهِ المُسْتحيلْ

يُحيلُ الرَّدى قلماً ودَواةْ !

والليلُ كرَّاسَةً لحديثٍ طويلْ

تُسَطِّرهُ الهَجَسَاتْ

وأنَّاتُ نَــــايٍ

وناياتُ نَأْيٍ

أنكأُ مِنْ

انْطِفاء الرِّئاتْ !

*

يُؤَدِّي أمانَتَهُ

إذْ يُوَفِّقُ بين فؤادَيْن ِ

ضَلَّا سبيل الوِدادِ إلى

الماسِ..والباقيـــاتُ !

بأنقى نقاء ٍ

وأَصفا لقاء ٍ

وصِدْقَ بقاء ٍ

وطِيْب حياة!

***

محمدثابت السميعي - اليمن

٢٠٢٤/٢/١٣م

عاد الزوجان أبو رهان من عيادة الطبيب المتخصّص بالعظام، في مدينة حيفا، إلى بيتهما في أحد أزقة الناصرة القديمة. كان العجوز أبو رهان يتوكأ على كتف زوجته العجوز أم رهان. شرع الاثنان في صعود الدرجات السبع العتيقة الموصلة إلى بيتهما. توقّف أبو رهان عن الصعود في الدرجة الخامسة، فطلبت منه أم رهان أن يصبر قليلًا.. اصبر يا رجل أصبر.. اعرفك قويًا. قالت، فردّ عليها لا أحد قوي على المرض. أخشى أن يكون ما قاله الدكتور صحيحًا. عادت الزوجة المنهكة تقول لا أعتقد أن ما قاله صحيح. أنت قوي ولا يمكن أن تعجز عن المشي على قدميك خلال فترة قصيرة. استنشق أبو رهان نفسًا عميقًا. وهمّ بمواصلة الصعود متكئًا على كتف زوجته، إلا أنه شعر بخدر يسري في قدميه. لا أستطيع المواصلة قال. أصبر يا زلمة. ما تبقّى من درجات أقل مما مضى.. الآن سنصل وسوف ترتاح. فكّر أبو رهان فيما استمع إليه من الطبيب. هو لم يكن يتصوّر ولا في أشد كوابيسه الكثيرة أن يضحي عاجزًا عن المشي.. ألم يُطلق عليه أصدقاؤه وأبناء حارته لقب أبو سبع اجرين؟.. إن شا الله بكون ما قاله الطبيب مجرّد وهم ينتهي ويعود أبو رهان القديم ليذرع الازقة والحارات المجاورة مواصلًا متعته في الحياة.. طولًا وعرضًا.

أخيرًا دخل الزوجان الغرفة. ليتواصل بينهما حديث الخوف والقلق.. منذ فترة عاد أبو رهان من جولته الصباحية اليومية في الحارة القديمة، وشكا من ألم في رجليه. يومها ابتسمت أم رهان وهي تربّت على كتفه لا تخف.. يبدو أنه ألم عادي.. خفيف ويمضي. ارتاح الزوج لكلمات زوجته الطيبة.. ابتسم.. ولم يعلّق.. غير أن ما كشفت عنه الليلة التالية، أظهر أن ما ألمّ برجليه من ألم لم يكن لعبة أولاد وإنما هو ألم جدي. بعد يومين لم يعد بإمكانه المشي إلا بصعوبة. الامر الذي دفع أم رهان للتوجه برفقته إلى مستشفى البلد. هناك حقنه الدكتور بحقنة خاصة. أراحته قليلًا إلا أن الوجع ما لبث.. في اليوم التالي.. أن سرى في قدميه. عندها عاد الزوجان إلى المستشفى.. ليتفاجآ بقول الطبيب المداوي لهما.. لقد فعلت كلّ ما بإمكاني.. لا أقدر على فعل المزيد. والحلّ يا دكتور؟ الحلّ بيدكم. الامر يحتاج للتوجه إلى طبيب متخصّص في حيفا. وقدّم لهما ورقة كتب عليها اسمه وعنوانه. في الليل أخذ الزوجان يضربان أخماسًا بأسداس ويتوقّعان ما يمكن أن يحلّ بعمود البت التاريخي وعندما خطر في بال أبو رهان أنه قد يتوقّف عن المشي نهائيًا هتف لنفسه بصوت مرتفع.. لا. عندما بلغ قوله هذا سمع زوجته ردّدت دون إرادة منها لا.. لذا ما إن بزغ فجر اليوم التالي حتى حمل الاثنان نفسيهما وانطلقا باتجاه حيفا. قدّم الطبيب المتخصّص هناك له العلاج الممكن. بعدها حاول تقديم العلاج غير الممكن.. بعد ثلاث أو أربع جلسات.. كما تتذكر أم رهان، رفع الطبيب يديه مستسلمًا.. لقد عجزت.. خلال فترة بسيطة سيكون المشي عسيرًا عليك والاغلب أن يتحوّل إلى مستحيل. والحل يا دكتور؟ الحل أن ننتظر معجزة. لقد بذلت كلّ ما بإمكاني من خبرة وعلاج ولم يعد بمقدرتي تقديم المزيد.. هناك محاولة أو محاولتان بعدهما لن يكون بحوزتي تقديم المزيد... فتح كوة الامل هذه دفعت الزوجين العجوزين للعودة إلى بيتهما في الناصرة القديمة.. ليصعدا الدرج ترافقهما معاناة حقيقية.. وأمل شحيح.

اتخذ كلّ منهما موقعه التاريخي القديم. على كنبتين عتيقتين متلاصقتين، ونظر كلّ منهما إلى الآخر.. لا يعرف ماذا يقول له. ما دفع أم رهان إلى فتح التلفزيون القديم قُبالتها.

-الدنيا بردّ.. أريد أن أستمع لنشرة الاحوال الجوّية. قالت

غرس عينيه في قدميه المتعبتين: لا تغلّب نفسك أعرف هذا البرد إنه برد شباط.. الاغلب أنها ستمطر.

بعد نطق أبو رهان بكلماته هذه سرى في رجليه وجع غير معهود، فانقبض وجهه..

- ما الذي حدث.. خاطبته زوجته.

- يبدو أن فترة جديدة عسيرة في حياتي ابتدأت.. أشعر بوجع فظيع في قدمي.

افتعلت أم رهان حركة توحي باللامبالاة أمام كلمات زوجها المنذرة بشرّ مستطير.. وقامت من فورها.. نقلت سرير زوجها من غرفة نومهما إلى غرفة الاستقبال.. بعدها أعانته على الوصول إليه. استلقى أبو رهان على سريره. فيما أحضرت زوجته الماء الساخن ليضع رجليه فيه..

- إرتح يا رجل.. ارتح الآن..

طفرت دمعة حارقة من عيني الزوج المكلوم:

- كيف سأرتاح وأنا أشعر بكلّ هذا الخطر المقبل؟

أرسلت أم رهان نظرة آملة إلى زوجها طالما أفرحته في ايام الشباب والعز:

- لا تقنط من رحمة الله.. لا تقنط.. إنه قادر.. يحيي العظام وهي رميم.

ارتاح أبو رهان لكلمات زوجته هذه. أغمض عينيه ضمن محاولة جادة للخلود إلى الراحة والنوم.. فيما راحت زوجته تتابع البرامج التلفزيونية واحدًا تلو الآخر. عندما هدأ زوجها. استسلمت إلى وسن خفيف.. فيما دخل أبو رهان في استراحة المريض. أحست الزوجة في أواسط الليل و.. ربما في أواخره.. لا تدري بالضبط.. أحست أن زوجها يسعى إلى المطبخ. ففرحت غير أن فرحها لم يدم. فقد هوى على الارض. بخفة فراشة.. وراح يزحف على أربعته.. محاولًا الوصول إلى حنفية الماء. وخُيّل إليها أنه لا يستطيع أن يقف على رجليه، فاسودت الدنيا في عينيها. فتحت عينيها ضمن محاولة للهروب مما هي فيه.. لتفاجأ بأن كلّ ما حصل إنما كان كابوسًا عابرًا. اقتربت من سرير زوجها ورفيق عمرها خلال أكثر من خمسين عامًا.. تمعنت في وجهه.. ماذا سيحدث له.. ولها أيضًا.. إذا لزم الفراش ولم يعد بإمكانه هو أبو سبع اجرين المشي عليهما.. أحست بغصة في حلقها ودمعة في عينها.. لقد ابتدأت فترة صعبة جديدة في حياتها.. وما كان في الامس لن يكون مثله في الغد. جلبت حرامًا قديمًا جديدًا خبأته منذ كانت عروسًا في أول زهوتها.. غطّت زوجها به وهي تتمتم.. بكلمات أشبه ما تكون بالتمائم والسحر.. انتابتها موجة من البرد غير معهودة.. فتوجّهت إلى النافذة لتغلقها.. أرسلت نظرة خاطفة إلى حيها القديم.. كان المطر يهمي مدرارًا.. وعادت إلى مقعدها قُبالة سرير زوجها لا تلوي على شيء.

***

قصة: ناجي ظاهر - (الناصرة)

 

بعد خمسين عاما يلقي القدر بين

يديه شهابا منها فيحترق جناح هدوئه

الى صديق الصبا والشباب عبد علي ساري

***

مربكا كان وكان

ضيق الصدر عجولا

يبتغي اخذ جريدة

دونَ قَصدٍ

حينَ مالَ

شَمَّ عِطرًا

وبها عَفوًا صَدَمْ

فعَلَتْ سَحنَتهُ طَيف ابتِسامَةْ

آسِفًا! قالَ واَحنى رَأسَهُ

لم يكُنْ في فيهِ خَيطًا للسؤالْ

لم يكن يَبغي بُلوغَ الساعَةِ القُصوى

من الوَقتِ المُحالْ

قالَ شَيئًا وتمطت شفتاه

فَفَشا صَمتُ الكَلامْ

اشْتَرى شِلْوَ جَريدَةْ

وضَعَ الزيزانَ في اقفاصِها

عدًا ونقدًا بِالتمامْ

قالِ: شُكرًا

وتَملّى لَحظَةً ثم اسْتَقام

اسْبَلَ الجفنين

مِنْ ثَمَّ اسْتَدارَ نُصفَ دَورَةْ

اكمَلَ السيْرَ الى حَيثُ الهَواجِسْ

.....

.....

لم يَكَدْ يَمشي سِوى بَعضِ الخُطى

وتَلفَّتْ

لِيَراها مِثلَما كانَ يَراها

مُهرَةٌ تَمشي على حَرفِ غَمامْ

ضَيَّقَ الوَردُ على مَشيَتِها

فَتَهادَتْ..

تَسرِقُ الأبصارَ من فَوقِ الطريقْ

....

...

اسلَمَتهُ النارُ للريحِ فَمالَ

كَعَلاماتِ السُّؤالْ

نَفَضَ الفينقَ في ِبُطءٍ وطار

يَمسح التأريخَ عن ذاكَرَةِ الوَقتِ المُحالْ

قَبلَ ان يَجلِسَ ما بينَ الظِّلال

قبل ان يَفتَحَ أبراجَ الحَمامْ

لتفُرَّ الكلماتُ من تَقاريرِ الجريدة

نحوَ تقريرٍ لِذِكرى عَذَّبَتهُ سَنوات

نحو

ذكرى

عذبته

...

...

عذبته سنوات

***

طارق الحلفي

كــلُّ الخُطى ترتَـقي إن كـان هاجِـسُهـا

للعــزم يــرفــدُ ، لا اطـماع تُـلـهِــيـهــا

*

شُـــمُّ الأنـوفِ ، فضاءُ الـعِـزّ مَنـزِلُهـم

ومَــن تَـعــوَّدَ  ذلاً  ، خـابَ بــانــيـهــا

*

قــلـبُ الـجــبــان ، اذا غَــذتْـــه أوردةٌ

مِــن الـتتخــلّــف يـبقى  فــي مَـهاويـها

*

مَــن يـدَّعــي الشـأنَ لا يقـوى مواصلة ً

وذو الاصالــة ، فــي عِـــزٍّ يـُؤديــهـــا

*

والإبـتــسامــةُ ،  إنْ ابْــدَتْ تـــكلــفــهـا

تُـــوحي بِرافــد نَــتْــنٍ ، فــي ســواقيهـا

*

عَـرّجْ عـلى بـعـضهـا واسْـبـرْ قـوافـيـها

واسْـتخبـرِ البـؤسَ هــل أبـْكى مـآقـيـهـا

*

وســائـلِ الـحـقَّ فـي أي الـجهـات خَـبـا

إذ لـم يـَعُـدْ مُـفصِحًا عـن نـفـسه فـيــهـاَ

*

مَــنْ ذا يـُعِـيـرُ لـها (تـَـفعيلةً) ذُرِفَـتْ

مِــن عــين مـُوجَعَة قــد غــاب والـيهـا

*

ومـِـــن أنِــين يــتامى خـلْــفَ أقْـبـِيـــةٍ

صُـفرِ الوجـــوه تـرَجّتْ مــَن يــُداويها

*

أكـــفّـَهــا رَفــَـعــتْ.. مِـمـّـا ألـمَّ بـــهــا

تـشكـو شــعارات مَـن بالزُور يُلهـيـهــا

*

هـــذا يــُغرّدُ  دون الــسِّرْب مُــغْـتَبِطــاً

بــحَـفْـنَـةٍ مِــــن وُرَيـْـقاتٍ يـُـداريـــــهـا

*

وَذا عــلى قَـــتَــبٍ يـــسعـى لـِــبَهْــرَجَةٍ

مُـغَــرَّراً ، بـكـؤوس مـات ســـــاقِــيـهـا

*

اســتـيقـظي يــا قــوافي واسْــكبي دِيَـمَـاً

فــتُـربـَــة الـمَجْــدِ تـُسـقى مِـن مَـعالــيها

*

الا يـَـعـيـــبــكِ أنْ تـــبـكي نــوارســُـهـا

وعَــزْفُ حـرفــِكِ ، مأســـورٌ لباغـيـهــا

***

( من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

....................

(!) (الى المضامين الشعرية المأجورة المغردة خارج السرب لإرضاء الأسياد والعملاء ،بعيدا عن معاناة الشعب .. نشرت في 2017 م):

* وردت كلمة (تفعيلة) ويقصد بها مصطلح في وزن الشعر

كان رجب، ولمرات متكررة، ينادي ابنه ليعرف منه آخر المستجدّات والاستفسار عما يحدث في الخارج. هذه المرة جاء الابن ليخبره عن وجود بعض رجال ينتظرون مقابلته، وقد تعرف عليهم كقادة للمنظمة الحزبية في المحافظة. فنهض رجب وذهب لاستقبالهم. جلسوا صفاً واحداً في غرفة الضيوف، وجلس رجب أمامهم يطالع وجوههم. كان كمن يَعدّهم بين لحظة وأخرى ينظر مليا في سحنات مصفرّة وعيون أثقلها النعاس وكدّرها الخوف. طالعهم دون أن يفتح فمه. بدت تلك اللحظات ثقيلة وكأنها دقائق لتعازي تقدم لأهل الميت. صمت وريبة. استمر هذا وقتاً قصيراً. ولم يكن رجب واثقاً من كونه قادراً على حسم الأمور معهم بما يليق به شخصياً، أو بهم كقادة، كانت المدينة تحت سطوتهم وتنفذ لهم ما يرغبون. ولكن نفسه حدثته بأن تلك الأرواح تسعى اليوم للحصول على نجدة، تريد من يساعدها للملمة ما تصدّع. هكذا هي الأشياء دائما دون ثبات. حين كانوا يذلـّون أهل مدينتهم كانت كلماتهم الثرثارة تسقط ثقيلة قاسية تثقب الأرواح وتهينها مثل بصقة تلطخ شيبة شيخ قبيلة. واليوم أنقلب السحر وحل بدله الرعب والترقب.

لفـّهم صمت مطبق، فما كان من رجب إلا أن بادرهم دون مقدّمات من ترحاب وتودّد.

ـ كان كل واحد منا يتبع نهجاً ويسير عليه ومن أجله. وأنا كنت دائماً أفضّل أن أكون بعيداً عن أغراضكم وعلاقاتكم الحزبية بالرغم من جميع الحوادث، وأنتم بالذات تعرفون جيداً مقدار ما أملكه من أسراركم، ومع هذا فقد زهدت وأخفيت الكثير، ليس من أجل الحزب أو من أجلكم، ولكن من أجل مدينتنا. وأظن أن كشف بعض المستور سوف يكون شرارة تحرق الكثيرين، لذا فأنا أرى أن الصمت وإخفاء أو إتلاف بعض الأوراق الموجودة في المنظمة، سوف يساعد على حصر النزاع وإبعاد الشبهات، وليأتِ القدر بعد ذلك بما يشاء. ولكن ثقوا، وهذه أقولها من معرفتي الجيدة بأهل مدينتنا، ثقوا أن مدينتنا سوف تنال الطمأنينة بعد حين، وبعد أن يخمد أوار هذه الحرب الملعونة.

كان رجب يطلق كلماته ببطء شديد وكأنه يضرّسها تحت أسنانه، وهو يطالع الوجوه الخمسة ذات النظرات الحائرة المرعوبة التي جلست قبالته ترنو لإشاراته وحديثه مثل تلامذة مدارس. كان الخوف بادياً على ملامحهم، بالرغم من محاولاتهم التماسك لإبعاد شبح الرعب الذي سيطر عليهم كلياً. ولاحظ رجب أنهم، وللمرة الأولى، قد تخلوا عن بذلاتهم الزيتونية اللون.

ـ ولكن أبو قصي.. لقد اقتربوا من المدينة والمعارك تدور الآن عند جسر الهولندي، وتل اللحم أيضاً.. لقد أحاطوا المدينة من أغلب مداخلها.

ـ لا ضير.. لقد حُسم الأمر.. أظنه حُسم لصالحهم هذه المرة ولا حاجة لكم للعناد بعد اليوم ولا تفكروا بالحزب وتنظيماته بقدر خلاصكم الشخصي.

ـ ما الذي نفعله الآن..؟

ـ لا شيء.. لا شيء على الإطلاق.. نحن أبناء هذه المدينة، والجميع أبناء حمولات، وبيننا وشائج قربى. اذهبوا إلى بيوتكم والله يتدبر كل شيء.

ـ ولكن يقال إن بعض العشائر تتجمع لتدخل المدينة، وربما سوف يحدث الكثير من الانتقام والقتل والسرقات.

ـ لا تلتفتوا للإشاعات.. لا تدعوا القلق يقتلكم قبل أي شيء آخر.

ـ ألا يوجد حل؟

ـ أيّ حل وحول ماذا؟

ـ لوضعنا.. فأنت تعرف مسؤولياتنا في الحزب، ونحن نخشى من ردود فعل الناس.

ـ لا أظن أن مثل هذا سوف يحدث، ولكن لنتدبّر الأمر.. عليكم عمل الكثير وبسرعة، وأولى تلك المهامّ هي إحراق وإتلاف كل ما تحتويه المنظمة الحزبية من ملفات، لا بل عليكم إضرام النار بالمنظمة ذاتها وكذلك بمقر المنظومة الأمنية.

ـ ولكن..

ـ دون نقاش.. أنا لست مسؤولكم الحزبي، ولكني أتحدث من معرفتي بما يدور حولنا، وما تحتاجه وتترقبه المدينة قبل أي شيء آخر. ليس لكم غير طريق واحد، وجميعنا نتعلق به كأمل وخلاص. وقبل هذا أرى أن كل شيء قد انهار أو في طريقه.. ليست حرب عام واحد وتسعين.. إنها النهاية ولا تخدعوا أنفسكم.. لكم أن تختاروا ما تفعلونه بعد ذلك، ومن المصلحة بعد ذلك أن تكونوا دخلاء عشائركم.ذلك هو الحل الأمثل.

كان رجب محقاً في توقعاته، فقد كانت أخبار الانهيار تتوارد بسرعة وتنتشر بين الناس الذين يبدو أن الدهشة تملّكتهم فبدا الصمت سّيد الموقف، يخالطه التشفـّي الذي يطفح بشكل ظاهر فوق الوجوه المرتبكة. هكذا أخبره ابنه بعد خروج أعضاء الحزب.

***

رائحة الدخان تسرّبت ثقيلة مع موجة الغبار التي لفت المدينة. ليست خالية من روائح بارود وعفونته. دفع رجب حافة النافذة وأسدل الستارة وجلس يستمع لجهاز المذياع. أدارت أصابعه ولعدة مرات مفتاح الجهاز من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ثم توقفت عند وشوشة وصفير يأتيان من بعيد، وكأنهما من عالم آخر. عالم ساكن تتوقف فيه الحياة والريح صرصر تخترق الأجساد المتيبسة فتحيلها إلى رماد يُذرّ في الهواء، ثم يأتي المطر مدراراً فتبنى أجساد جديدة لتجفّ بعد حين، تأتي بعدها الريح العاصف تنخر الأجساد، وهكذا دواليك، دوامة إثر أخرى. من أين يبدأ حلم الإنسان؟ بأوجاعه أم بسعادته؟ وعند أي منعطف يلتقي بما أراد الوصول إليه. دسّ رجب رأسه تحت الوسادة الثقيلة فشمّ رائحة زفرة ريش الطيور فدفع الوسادة ورماها بعيداً.

***

ضغط رجب على أسنانه وأخرج كلماته ثقيلة واثقة.

ـ لا.. أرجوك، قل لهم يتركوني لحالي كي أعيش بسلام. هيا قل لهم ذلك. فلا شأن لي بهذا.

ـ لا أستطيع، فهناك من يريد سماع شيء منك.

ـ أيّ شيء.. ليس عندي ما أقوله.

ـ جرّب، فأنت لن تخسر شيئاً. وهم يودون فقط سماعك، ليسوا أعداء كما تظن. تأكد من ذلك. أنا متيقن من هذا، فلو كانوا يضمرون لك شيئاً لأتوا واعتقلوك دون مقدمات، لا يريدون إحراجك، ولا حتى إثارة الشكوك حولك، هاهم ينتظرونني في سيّارتهم، انظر هناك عند المنعطف.

ـ ولكن الأمر صعب.. صعب جداً.. فلم يسبق لي التعامل بأمور كهذه.

ـ إنهم يريدون الحصول على المشورة. بعض من أهل المدينة دلهم عليك.

ـ حول أي شيء وهم يملكون ما يملكون، والمدينة باتت تحت سيطرتهم واستقرت لهم الأمور.

 ـ جرّب، لن تخسر فأنا كنت متردداً مثلك. ولكن في النهاية تيقنت بأنهم بيننا، ومن الخير التعامل معهم.

كانت تلك ليلة قلقة مترعة بالكوابيس وخيم الغم الثقيل على قلبه. لم يكن ليخطر في باله أن يطلب الأمريكان مشورته،وعد مثل هذه الدعوة شؤما وخسارة جديدة تحسب مثل سابقاتها، ما الذي يقدمه لهم، ولم اختاروه بالذات.

بزغ الضياء الأول من صباح مغبر يلف المدينة،دفع رجب ستارة النافذة وطالع الشارع الفارغ الممتد أمامه، وحاور نفسه ثم خلص لجملة دائما ما عدها محاولة لطمأنة النفس.وهي تأتي مثل ترياق يسري بين العروق لتهدأ النفس وتذهب لحالة يأس مفرط أو لا مبالاة مفرطة.

ـ ليكن ما يكون.

***

أجتاز رجب الشارع مطرقاً رأسه، وذراعاه متشابكتان خلفه، مبعداً نظره عن حركة الأشياء من حوله. فكر بما دار من حديث مع القائد الأمريكي، كل ما أرادوا معرفته قدّمه لهم بنصيحة العارف بدقائق الأمور. طالبهم بأن يمنعوا الانتقام لكي تهدأ الأوضاع ويشعر الناس بأنهم قدموا لحمايتهم وليس للانفلات والفوضى وإشاعة الموت. كان مضطرباً وهو يسير وسط الشارع العريض الخالي من المارة ، تملكته رغبة عارمة للذهاب إلى مكتبه الذي عافه منذ بدأ الهجوم. ولكن رغبته تلاشت، ووجد قدميه تقودانه نحو بداية الشارع المؤدي إلى الناحية القريبة من شارع الحبوبي، حيث بيت صديقه المحامي أبو جبار اللامي، هناك يستطيع أن يفصح عما يدور في خلده، وليناقش معه ما دار بينه وبين القائد الأمريكي، فأبو جبار يملك من الحنكة والحكمة ما يستطيع أن يبعد عنه كل ذلك القلق والإرباك، ولا يمكن له أن يضنّ على صاحبه بما يطمئنه. ولكن ضحكة القائد الأمريكي كانت ترنّ وتملأ رأسه لتلسعه بطنينها. شقّ عليه استيعاب فكرة النوايا الحسنة، وراء تلك الضحكة التي عرض عليه بعدها أن يكون صلة الوصل بينهم وبين أهالي المدينة. داعبه لحظتها الأمل، ولكنه سرعان ما استيقظ منه، شاعراً بثقل المهمة وغموضها، في هذا العمر وبعد أن جاهد كثيراً. كل تلك الحياة التي عاشها مغامراً يتقلب فيها بحثاً عن وجود وكينونة، لم يدر في خلده أن يواجه مثل هذا الموقف وفي هذا الوقت بالذات. حتى الموت حسب له حساباً ولكن موقف اليوم له شأن مختلف. في تلك الساعة الحائلة الملامح، تبدو الأشياء وكأنها تُشوى فوق جمر. ولم يجد من يقف جواره. شعر بوحدته المضنية. لم يصنع سوءاً لأحد، فلماذا تتعقبه الأقدار بخياراتها القبيحة وبكل هذه الحدة والقسوة؟ من الصعب أن يشيخ المرء ويدرك في الأخير، أن ما تشبّث به كان خدعة أو لعبة لا خيار له فيها، بقدر ما يقودها القدر دون أن يفصح له عن هدفها. هل يمكن نسيان كل ما حدث مع مرور الزمن؟ واليوم عليه أن يبدأ من جديد. أية لعبة اختارها له قدره؟ وبعد كل حقول الألغام التي نصبت له والمهازل التي قدر له أن يكون مصاحباً لها، وتلك التي نجا منها. يجد نفسه اليوم لازال متماسكاً ويفكر. ولكن بأي شيء؟ ومن أجل ماذا؟ أيحتاج الأمر كل ذلك الجهد؟ أيخرج التعامل مع الأمريكان مدينته من محنتها؟ أم ترى أن المسألة تعيد صناعة نفسها؟ فبالأمس كان يرافق رجال البعث من أجل عمل أو حماية. والآن ما لون القادم؟ وما سوف يكون عليه مصير المدينة؟

سار رجب منعطفاً نحو البناية القريبة الواقعة في مقدمة السوق حيث عليه أن يتخطاها ليعبر الطريق نحو الجانب الأخر. بدت البناية وقد لـّطخت ببقع داكنة ونطت من سقوفها بقايا حديد معوجّ كأنه أضلع مكسورة. كان الدخان ما يزال يملأ المكان برائحته. دخان أسود يخرج من الجوف المحترق وبقايا كراسِ ومناضد وأوراق مبعثرة محترقة مرمية وسط الشارع. وثمة ثريّا معلقة في إحدى واجهات غرف البناية تتدلى وكأنها رجل مشنوق.

ـ ها أبو قصي، شنو بدلت ثوب البعثية بثوب الأمريكان؟

لم يسمع رجب الكلمات جيدا، فقد ضاعت عنه مع صوت رشقات رصاص. هزّت الرصاصات جسده وطوّحت به ليهوي عند عتبة البناية. اضطرب معها جسده فشعر بوخزات حادة لاسعة تخترق صدره. تلمّس مكامن الجراح وضغط عليها شاعراً بحّدة الألم. تراجع نحو الخلف ثم هوى بجسده وأخذ يخبط الأرض وكان الدم ينزّ فواراً من جسده المضرج ، وعيناه المتيبستان ابيضّتا وكانتا تحملقان في الفضاء الكالح البعيد.

***

فرات المحسن

 

بعدَ أنْ قالَتْ لَهُ

إنّهُ اليَوْمُ الأخيرْ

لَمْ تفارِقْهُ،

وظلّت خَلْفَهُ

خَطْوُها يَتْبَعُ سِرّاً خَطْوَهُ

ظلّ يمشي دون رُشْدٍ أو هُدى

والصّدى، يَتْبَعُهُ رجعُ الصَدى

غَيْرَ  إنَّ اليأسُ قَدْ طوّقَهُ

فغدا يجتَرُّ  ما قالَتْ لهُ:

إنّهُ اليَوْمُ الأخيرْ

إنّهُ اليَوْمُ الأخيرْ

كانَ مَهْموماً بلا وعيٍ يسيرْ

سائلاً نفسَهُ كَمْ

كَمْ من المراتِ قالَتْها

و كَمْ

ردَّدَتها

دونَ حُزْنٍ أو ألَمْ

ورمتْها في بحارٍ  مَنْ نَدَمْ

وقفا دونَ حَراكْ

حينما جاء مَلاكْ

وَهْوَ  يَشْدو:

ليسَ من شيءٍ أخيرْ

في متاهاتِ الحياةْ

قبلَ أنْ يأتي المَماتْ

والسؤالْ

سوفَ لا يترُكنا

قبلَ أنْ نَرْحَلَ

عَنْ هذي الدُنى

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

ها أنتَ تجْنِي ما زرعتَ وتحْصدُ

لا تدَّعي مجدًا، فمثلُكَ يُقصدُ

*

أنتَ المُؤمَّرُ مِنْ إلهٍ عادلٍ

عرشُ الإمامةِ خلفَ ظهرِكَ يُسندُ

*

يا أيُّها الرجلُ الذي لا ينْثنِي

إلَّا ويزهرُ حيدرٌ أو أحمدُ

*

مذْ أنْ تشرَّفتِ الخليقةُ حيثُ كا

نتْ فاطمٌ ترجو الإلهَ وتَنْشدُ

*

أشْرقتَ من خَلَلِ القداسةِ كوكبًا

للآنَ دريًّا يضيءُ فيُحمدُ

*

وحملتَ سيفَكَ مذْ عرفتَ أُوارها

وقضيتَ ما يُقضى وسيفُك أجردُ

*

عرَّيتَ شجعانًا، تهاوى مجدُهُمْ

هُزمُوا ولكنَّ الهزيمةَ تُحمدُ

*

أرْهبْتَهم حتَّى جعلتَ قلوبَهم

صرعى، وغيمةُ بأسِ سيفِكَ تُرْعِدُ

*

لمَّا دعاكَ اللهُ لبَّيتَ الندا

ورَكبتَ مرْكَبَ صعْبِها كي يُسْعِدوا

*

وخرجتَ أنتَ وذو الفقارِ بغايةٍ

إختارَها الفردُ العظيمُ الأوحدُ

*

لم تبلغِ السِّنَّ الرشيدَ ولم تزلْ

غضَّ الحمائلِ، ليسَ مثلُكَ يُجهَدُ

*

فحملتَ بابًا لا يقومُ بحملهِ

إلَّا أخو سيفٍ يكرُّ ويَزْبدُ

*

عجبًا لمن نكروا الإمامةَ وهْيَ فيْ

كَ تناسلتْ وبها المَلا تتعبدُ

*

لم يقرؤوا القرآنَ إلَّا ظاهرًا

زَهدُوا بما هو مُضْمرٌ ومُسدَّدٌ

*

ونَسوا بأنَّ اللهَ قالَ مُخاطِبًّا

يا ناس بعد محمَّدٍ له أخلدوا

*

وقَطعْتَ شوطًا في المدائن حاملاً

ما كان أوصى للأنامِ محمّدُ

*

جنْدلتَ مرحبَ وهو اسمٌ لامعٌ

وصَرعْتهُ والناسُ حولك تَشْهدُ

*

كنتَ ابن بجدتِها علوتَ على العُلا

ببلاغةٍ وفـصيحِ  قولٍ يُفردُ

*

أنتَ البليغُ وأنتَ كلُّ فصاحةٍ

نهجٌّ بلاغيٌّ وقولٌ سرمدُ

*

ظلموكَ كلَّ الظلمِ حتَّى أنَّهم

جعلوا سِبابكَ ديدنًا يترددُ

*

قتلوكَ في يومِ السقيفةِ، يشتكي

للآنَ، منها: مبغضٌ ومؤيَّدُ

*

وتوالتِ الضَّرباتُ حتَّى أنَّها

زادتْ عن الحدِّ الذي لا يُحمدُ

*

للآن ما زالوا على منوالهم

سبيٌّ وتهجير وحقد أسودُ

*

ونسوا بأنَّك مذْ ولدتْ موحِدًا

وبأنَّ مثلك، لا يموت، مخلدُ

***

د. جاسم الخالدي

لا شيء مستحيل على الإطلاق

باستطاعتنا فعل كل شيء

طرد المسلمات المتعفنة من البيت

قلب نظام الأشياء بضحكة مجلجلة

إنتشال صداقتنا البريئة من قاع الجب

تقليم أظافر الكلمات القاسية

الذهاب إلى الوراء قليلا

بأقدام مجنحة

لتنقيح أسطورتنا الخارقة

من شوائب البراقماتيزم

إذن لنعقد صفقة تبادل عاجلة

تحت شجرة الأكاليبتوس

أو في ملهى ليلي

تحرسه نمور من السافانا

أحرر قبلاتك من أنفاق روحي

وتحررين أسرى كلماتي

من معتقل اللامبالاة

أشهد أني خسرت الكثير

في هذه الحرب القذرة

تفتحين النار على طوابق الفوبيا

في حديقة رأسي

تفتحين النار على سرب صلواتنا

تدمرين أبراج ذكرياتنا بدم بارد

تدمرين الأرجوحة التي صنعناها من ريش النعام

من جدائل الموسيقى الناعمة

نافق حمام علاقاتنا الباردة

ممتلىء جدا هذا الفراغ

بثعالب الوقت

مجنزرات العزلة تضرب في منحدراتي

القنابل لها طعم الفراولو

وموتاي يدقون الطبول

أمام دار الأوبرا

فوق الجسر المتحرك

تصغين لنأمة أصابعي

إذ تنقل مشاهد الحرب

تحت القصف الكثيف

عدوانية مفرطة

تمارسها كلماتك المحتشدة

بقذائف الآربجي

تقتلين الأشياء الجميلة

بكتيبة من القلق الفلسفي

لنعقد صفقة نهائية

تخلصين روحي الأسيرة

من قبضتك الحديدية

وأطلق سراح مائة وعشرين أسيرا

من جنودك المرتزقة

أعيد إليك سماءك زرقاء

كما لو في عز البدايات

أعيد طفولتك

في سلة مليئة بالفستق

وتعيدين لي ذهب المتصوفة

ومفاتيح المدينة المقفلة

أنا متعب جدا

يداي متهدلتان مثل شفتي عجوز

وللأشياء طعم الرصاص الحي

الحرب افترست كل شيء

مخيمات اللاجئين في طابوق قلبي

طائراتك الوقحة لا تعرف النوم

إيقاع الجنازات موجع للغاية

روحي متفحمة جدا

الأطباء ماتوا  بسكتة دماغية

الأمكنة فارغة مثل عيون الموتى

الربوة مطرزة بالجثث

الخراب يطال كل شيء

لنعقد صفقة نهائية

ونطرد الشياطين من فردوسنا

نطرد الشك مثل لص براقماتي

من شرفة روحينا المتنافرتين

نطرد بوم الضغينة من غابة الكلمات

نعيد الينابيع الصافية إلى كلماتنا الحزينة

لننه الحرب

ونتبادل جميع الأسرى في كنيسة ما

نقيم مأدبة عشاء سري

أمام تمثال مريم العذراء

نصلي على إيقاع السلام الأبدي

نعمد روحينا المتعبتين بمياه المحبة

ولتذهب الحرب إلى مملكة هاديس.

***

فتحي مهذب

أَهْدَتْهُ الشمعة وانْطَفَأَتْ

أَوْهَبَها الضوء ولم يَخْبُ!

*

كانت تَحْرسهُ بَنادِقها

ولذا بالفِيزَا ساحقها

فابْتَلَعَتْ منفى الجنسيةْ!

*

قالت: دنيا

قال: لديك ِ أَحُطُّ رِحَالي...

قالت:وأنا إليكَ سآوي!

*

ذات هواها البدوي:

غنمي

إبلي

طيري

عُمْري

رأس أبي مَهْرَاً لِرِضَاكْ!

*

ذات الجنس العادي:

ليلُكَ فَخْذٌ

وصباحُكَ جِينْز أَمَاليد ِ!

*

وتَلَتْهَا.. تَلَت ْ

بنت أبيها

بنت الشارع

بنت السوق

بنت العم فنادق

بنت وزير الحب

بنت سفير الخصر

بنت القاضي الشائك

ديانا الفتنةْ

ذات الُّلعْس الأولى

ذات الخال الأبيض

البرتقالةْ

جارة ليلى

ورد الورد

نوال الخُردةْ

نور الصين

هند الهند

عدن الأنثى

أم يهوذا

خالة توني

مريم بوش!

*

آخرهُنَّ أضاءَتْ:

ثمري أحلا

وفمي أشهى

وشماريخي تُغْرِقُ كَشْحي!

*

أَهْدَتْهُ الشمعة وانْطَفَأَتْ

أَوْهَبَها الضوء ولم يَخْبُ!

***

محمدثابت السميعي - اليمن

2006م

 

لم أكن أتوقع وأنا أستمتع بالاستجمام ذات صيف جميل على شاطئ بحر طماريس بنواحي مدينة الدارالبيضاء، لم أكن أتوقع أنني سأقع أنا أيضا وبشكل درامي ضحية الغرق. وأنا أستعيد إلى حدود الآن تلك اللحظات العصيبة وعلى الرغم من مرور سنوات طويلة على ذلك الحدث المخيف ما تزال الذاكرة ترتج، فحدث الموت مفزع ولا يمكن تقبله. كنت بالكاد قد أنهيت السنة الدراسية بتميز حاصلا على شهادتي الجامعية وكلي توقد لمواصلة مسيرة حياة متميزة ومتفردة. وكي أتخفف من عناء السنة ومشاقها قررت الاصطياف بشاطئ البحر رفقة العائلة وفي غياب الأم المتوفاة. كنا قد اعتدنا على قضاء بضعة أيام من العطل الصيفية بفضاء شاطئ طماريس الجميل، إذ ما أجمل صحبة الرمال الذهبية والهواء البحري الصافي الصحي، وأكثر ما كان يغويني هو أن تعيش بجوار البحر. كنت مفتونا وأنا تستيقظ صباحا مع شروق الشمس وبصري يمتد بعيدا نحو أفق ضبابي ولا محدود، ويصلني صخب الأمواج وهي تداوم على حركيتها العبثية ليل نهار. كان من عادتي وأنا أقضي هذا الاستجمام المدهش أن أكتفي بالاستلقاء على الرمال مستلذا سخونتها حاملا بين يداي كتابا، وكان الكتاب الذي حملته معي " الإنسان المتمرد" لألبير كامو. لم أكن أستوعب ما يعرضه من أفكار وتصورات فلسفية بقدر بساطتها الظاهرية إلا أنها تتضمن صعوبات مفاهيمية غاية في العمق وإشكالات فلسفية غير معهودة.

و لن تفارقني ذكرى ذلك اليوم الذي قررت فيه السباحة وسط أمواج خادعة، إذ كانت في البداية هادئة ومغرية وجذابة، تستميلني بلطافتها وأنا أرتمي في أحضانها، كان ذهني يجتر بقايا أفكار بدت لي عصية على الهضم والفهم، كانت أمواج البحر تتلاعب بي كذلك أفكار الكتاب، كنت ربما ذاهلا أو غائبا وأنا أشق صفحة الماء، وأتهادى وسط البحر الفسيح، اندفعت متعمقا سائحا بلا بوصلة منتشيا بالتمثلات التي كانت تتصارع بداخلي  وتتراقص لها خلايا الذهن باستمتاع. بدأت الأمواج تصخب فما عدت أفرق بينها وبين ما يتموج بداخل الذهن، وحينما استدرت ورائي بدا لي الشاطئ بعيدا فقررت العودة، إلا أن ما حصل أفزعني إذ بقدر ما كنت أتحرك نحو الشاطئ كان تيار مائي يجرني نحو الأعماق، فبدأ الخوف يراودني واستيقظ المتمرد منتفضا، وسرت رعشة عميقة في أكل أوصالي تمدني بكل الجهد كي أصارع التيار الذي يسحبني إلى داخل البحر. وعيت أنني في ورطة من أمري وبدأت أطياف الفكر تحوم من حولي وأنني غارق لا محالة. وحينما أحسست أن نهايتي قد حانت، بدأ ذهني يتساءل: أ هذه نهايتي؟ والكتب التي نويت أن أقرأها هذه السنة؟ والكتب التي اشتريتها مؤخرا، لماذا اشتريتها وأنا الآن على عتبة الغرق والزوال؟ والكتب الأخرى التي على رفوف مكتبتي الصغيرة والتي تنتظر أن ألامسها وأتمتع بقرها؟  أ هذه هي النهاية؟ لا يمكن أن يحصل ذلك بهذه السهولة، لا يمكن.. كانت الأسئلة تتهاطل علي مثل شلال وأنا في غاية الإنهاك من كثرة ما بذلته من مجهود لمصارعة التيار، فكان الحل أن ألفت المصطافين القلائل الموجودين بالقرب من الشاطئ إلى مصيبتي. كنت أرفع يدي بصعوبة باذلا ما تبقى لي من طاقة في الصراخ والنداء طلبا للمساعدة. سأعرف فيما بعد أن رجال الإنقاذ كانوا قد غادروا الشاطئ لتناول وجبة الغداء، ومن حسن حظي أن أحد المصطافين انتبه إلى استغاثاتي، فسارع للبحث عن رجال الإنقاذ. لم تمر إلا بضع لحظات كانت طويلة بالنسبة لي وصعبة حتى رأيتهم يسبحون باتجاهي، وحينما اقتربوا طلبوا مني الاسترخاء على ظهري حتى أساعدهم في سحبي نحو الشاطئ. لم تكن المهمة سهلة إذ تطلب ذلك الالتفاف على التيار المائي للخروج إلى بر الأمان. كنت أشعر بالدوار والتعب وأنا أقف على رجلاي، كنت على أهبة أن أشكر الذين أنقذوني إلا أن التعامل الفض  والقاسي الذي واجهني به رئيسهم أيقظ بداخلي المتمرد الذي سكنني فكد أفقد صوابي  وأتشاجر مع من أنقذني، لكن لحسن الحظ التف حولي أحد المصطافين وجرني بعيدا عن الجميع وهو يزرع الطمأنينة بداخلي ويهنئني على سلامتي ونجاتي.

***

للكاتب الدكتور عزيز القاديلي

 

في بلاد اليَاقِ ياقْ

القريبةِ من بلاد الواقِ واقْ

اِجتمع أهلُ الحلّ والعَقد

والعقل والنّقد

تدارسُوا أوضاع البلاد

التي عَمَّ فيها الفساد

بعد التّنقيبِ والتّقليبِ والتّمحيصُ والتّنصيص

والتّحاور والتّشاور

في الأسبابِ والمُسبّبات

أجمعُوا على إلقاء القبض على الشّيطان

وحَبْسهِ إلى أبَدِ الآبدين وراءَ القُضبان

لأنّه سببُ الفسادِ في البلاد

تساءلوا كيف يُمسِكون بالشّيطان الرّجِيم اللّئيم

الماكر الشّاطر

أَحْكمُوا الخُططَ

أَفلتَ

اِستنبطوا الحِيَل

راوغَ

نَصبُوا الشّراك

نَجا

قالتْ لهمْ قهرمانةٌ عجوزٌ منَ الغابرين

أنا أُمسكُ بذاك اللّعين

وأمرتْ أن يُنادِيَ المُنادي

في السّاحاتِ وعلى السّطوح

ـ مَن يستطيعُ الدّخول في زُجاجةٍ

أنا رَهنُ إشارتهِ في كل حاجةٍ ـ

سُرعان ما لبّى الشّيطانُ النّداء

وقال فرِحًا مسرورًا

ـ ها أنا ذَا

ودخل الزّجاجةَ

أسرعتِ القهرمانةُ وسَدّتها بالغِطاء

صارَ الشيطانُ في الزّجاجة حَبيسًا تَعيسًا

فمَا وَسْوَسَ ولا غَوَى

تنفّسَ النّاسُ الصُّعداء

مَضى يومٌ… أسبوعٌ… شهرٌ… فَصلٌ..

وعامٌ

أمستِ البلادُ بلا حَراكٍ

النّاسُ كأنّهمْ نيامٌ في سُباتٍ

لا فلاحةٌ،لا مِلاحةٌ،لا سياحةٌ

لا مالٌ ،لا أعمالٌ

لا شَوقٌ ،لا تَوقٌ

لا جمال ،لا ذوقٌ

لا ورودٌ ،لا مواعيدُ

ولا زواجْ

حَطّ الكسادُ على البلاد

ذاتَ ليلةٍ ليلاء وفي الظّلام الدّامس

قامتِ العجوزُ تمشِي

على عُكازها

فلمْ تشعُرْ كيف دَحرجتِ الزّجاجةَ

يا ويحَها

تهَشّمتْ فاِشتعلتِ الأضواءُ من النّوافذِ وفي السّاحاتِ

وعندَ الفَجر

عادَ الدّبيبُ إلى الطّرقاتِ

والمُؤذّنُ صاحْ

...حَيَّ على الفَلاحْ

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

مهداة لمن قال في لهيب النار:

{ولعت ومضى}

{حلل يا الدويري وعانق السما}

***

لا تسألوني عن حرمة دمي،

فدمي مباح بين أخوتي،

مسفوك في مجاري بلادي،

بحمم القنابل،

بمزن الرصاص،

وحقد الغاصب للتراب،

الغذاء،

الماء،

الهواء،

الدواء،

فدمي؛

يسقي الحرية في عروق أطفالي،

يعبد معارج الأرواح للسماء،

يدفن الأشلاء والأطراف في الذاكرة،

شرائط أحداث الأحياء،

من سكنوا بلادي،

رسموا الصور والذكريات ملامح على الوجوه،

وجدران المدينة،

وصفحات الكتب،

للخلود في أسماء الشهداء،

وشواهد القبور والفناء،

وقوافي الرثاء،

ودموع البكاء ...

*

نحن مازالت أيدينا على الزناد،

تحرر الأعراب من الأغراب،

والغربان،

ترقى بهم في مدارج الفراغ والنار،

لعلهم يستفيقون على عروبة سكنت؛

ما بين البحر والنهر،

والبراري والصحاري،

تنادي خيمة نصبت فوق بئر،

وأخرى عند جوار حسان،

وكأس من ذهب وفضة ونحاس،

ملئت بيد يزيد من سيل الكروم،

ما أردى الرجولة عبدا مكبل اليدين،

تحت القدمين، وَهْماً من شر أنياب من خشب،

لفهد الورق،

أن استفيقوا واستيقظوا من رقاد الكهف،

ورماد النار ...

*

جبروت القتل لا القتال،

من تحطمت أسطورته فوق الرمال،

وفي فتحات الأنفاق،

وتحت بقايا المنازل،

أسمال البذل،

ونجوم الرتب،

ونياشين الصدور،

ومبعثرات الجسد بالراجمات،

ومصائد الدبابات،

في الأكياس، تذكر بالذي جرى،

مجاهد من غزة حفر الخندق وزرع العبوة ومضى،

إلى النصر أو الشهادة سيان في طريق التحرير،

منذ، أن قال للأعراب: حيا على الجهاد؛

فردد الصدى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون،

اتفاقيات وتطبيع يحمينا، يظللنا، ينعشنا،

يحيينا ...

***

عبد العزيز قريش

فاس في:13/02/2024

لم يحفل، ولم يحاول حتى، إخفاء ترنح مشيته على طول إسفلت الشارع البارد الذي أدمن- حد الضجر- وقع أقدامه خلال رحلاته اليومية عديمة الجدوى.. كل همه الآن كان التفكير في أن الحظ سيحالفه هذه المرة.. وأنه سوف يراها مرة أخرى، كانت في عينيه نظرة جادة قوية سكبت فيه الجرأة، كأنه عاش كل دقيقة من عمره، بكل كيانه وإحساسه، استعداداً لهذه اللحظة.

لم يكن يكترث كثيراً لارتجاف قدميه وارتباك خطواته، ولا لانحناءة جسده المرهق وانكفاءه في مشيته، والأهم..إلى حقيقة أنه لم يعد بإمكانه أن يخفي ضعف قدرته على السيطرة على نفسه، وأنه أصبح عاجزاً لا يعي ما يمكن أن يكون، كانت الأصوات التي تضج في رأسه تزداد لكنه لم يأبه بأي شيء سوى استعادة تلك الابتسامة الصغيرة التي فرشت أمام أيامه المجدبة أملاً مشتهى بحياة أكثر وفرة واخضراراً..

وبالفعل، وبعد أن مر من أمام منزلها مبتعداً خطوات قليلة، سمع فجأة صوتها هو يغرد بما خيل إليه أنه اسمه، اتسعت ابتسامته وهو يلتفت بنصف جسده المتاح لكي يجيبها، أدار رأسه، وانتظر بسكون أن يعود النداء ليطرز آذانه آملاً أن تشع تلك الابتسامة مجدداً في عينيه، ولكن بضع هنيهات من الزمن كانت كافية لجعل ابتساماته هباءً منثوراً عندما ذبحته صدفة لقاء عينيها وهي تتقدم نحو زوجها وتقبله مودعة إياه عند باب المنزل،ناثرة في وجهها له كل الابتسامات التي في الدنيا، تلك التي كان مستعداً ليهب ما تبقى من عمره مقابل النزراليسير منها..

تلقى الأمر بهدوء لم يتوقعه، تعجب كيف أنه لم يدرك قبل الآن أنه قد أهدر عاماً كاملاً في محاولة استعادة ابتسامة عابثة لا معنى لها، وما الذي كان ينتظره من قطع ذلك الطريق يومياً بدأب وثبات لم يقطعه الا فترات أزماته القلبية المتكررة، وكيف كان يذرع ذلك الإسفلت البارد لأشهر وهو يتصور أنه يمكن أن يكون الشخص الذي يسكن قلبها ويشغل بالها،

تغير إحساسه فجأة،وهبت إليه في وقفته رائحة اليأس، لمعت عيناه بالدموع واشتعلت الثورة في صدره، سار مبتعداً وهوشبه مذهول، محني الرأس.. وقد تجلت أمامه أخيراً كل الإجابات التي حاول أن يحمي خياله منها، كل شيء قد انهار وانتهى، بل أنه لم يكن هناك من شيء أصلاً.. لكنه لم يستطع أن يطرد صورتها من رأسه، ولا مقاومة رغبته في أن يراها، أدار رأسه مجدداً ليلتقي بعينيها وهي تقف على عتبة دارها، وليذبح مجدداً بنظرات التقزز التي ارتسمت على وجهها من منظره الغريب، والخرق الفاقع الذي كان يبدو عليه، والذي فاقمه ارتباكه وخطل محاولته تلبس الهدوء وإخفاء انجذابه و إعجابه بها، وحرصه أن لا يظهر لهفته وانشدادهُ إليها،وانسحاقه أمام الضغط الذي كان يرزح تحته في مشقة الهروب من ابتسامتها التي غابت تماماً عن وجهها..

للحظةٍ أحس بألم ورعشة شديدة انتابت يده، حاول مسح العرق الذي أخذ يتصبب منه ولكن يده لم تطاوعه.. ولا قدميه.. شعر بخيال لم يألفه من قبل،وطنين وخفقات أجنحة وحركات غريبة، تراجع مهزوماً محاولاً التشبث بأي شيء.. لم يعد قادراً على تحمل كل هذه الاضطرابات .. وكان آخر ما مر على خاطره وهو يلامس الأرض ..هو أن الإسفلت لم يكن بارداً كما كان يتوقع..

***

أنوار حسين الدليمي

في نصوص اليوم