نصوص أدبية

نصوص أدبية

ما كنت لي حبيباً

في يومٍ من الأيامِ

وما رسمتُكَ في كَراستي

أبداً فتىً لأحلامي

أنت سرابُ الواحات

حين يشتَدُّ الظَمأُ

وأنتَ شحيحُ المُزُنِ

حين ينحبسُ المطرُ

أنت الشَّبحُ الباهتُ

في كوابيسي

وأنت لَونُ الطَّيفِ

في مِرآتي

وأنت صَدى الوهمِ

في وجعِ حكاياتي

أنت طَعمُ الفَرحِ

على مُروجِ الرُّوحِ

وأنت دمعيَ المنسكبُ

من غيرِ حِسابٍ

في دوَّاماتِ الزَّمانِ

أنتَ ثورةُ غضبي

وأنتَ هَدأتي وسُكوني

وأنت صَخبي وجُنوني

وأنتَ الضِّفافُ

لمَراكِبَ أحزاني

في مَدى عينيكَ

تنمو مثلَ شَتلةِ الُّلبلابِ

كُلُّ اشتياقاتي

وفي امتدادِ سِحرِكَ

يَضِجُ المَلهوفُ

إلى دفءِ العناقِ

أنت العُنوانُ الخاطِئُ

فوق أغلفةِ رسائلي

التي أعادها البريدُ لي

ذات يومٍ

ممهورةً بِخَاتَمِ

مَجهولُ الإقامةِ

أنا الذَّبيحُ

الَّذي إلى ضَربةِ الخَلاصِ يَحِنُّ

وأنا الَّذي يخاصِمُني الوَسَنُ

وتُعذبني سِياطُ الأرَقِ

أُقرُّ وأعترِفُ

أنت هو من ليس يعنيني

وأنت من بِه لستُ أبداً أبالي

لكنَّني في كُلِّ لَيلةٍ

أفتحُ خِزانتيَ العتيقةَ

وأُخرِجُ صورَتَك اليتيمةَ

أقبِّلُها ألفَ قُبلةِ

بل مليون قُبلةٍ وقُبلة

أنثرُ أثمنَ العُطورِ

فوق حروفِ رِسالتِكَ الأخيرةِ

أنت الَّذي ما كنتَ لي أبداً

حبيباً

في يومٍ من الأيامِ

أحكمُ عليكَ غيابياَ بأنَّكَ

ورغم سنوات التَّقادُمِ

ستَبقى لي

عِشقي وهُيامي

حتَّى انقضاء العُمرِ

وانتهاءَ الزَّمانِ

***

جورج عازار - ستوكهولم السويد

 

أنا المستريح على جسدي وحدي

أراقب تمزيق ذاتي بذاتي

أنظر إلى أطرافي في الطرقات

هنا رأسي يبتسم لملاك أتاني

هناك أقدامي تقودني إلى التراب

وهنالك لساني يرفع حروف النداء

إخوتي هيا للربع الخالي

موطن

الانعتاق من قيودي

تجمعت من حولي

أسود وفهود وذئاب وثعالب

وسيوف وأعلام بكل الألوان

تنسج كفني

بالخطب والأشعار

وأخرى بالقنابل والنار

تدق المسامير في نعشي

تبكي

فتكبلني بالأحزان

وعجز الدموع

ويتم الرثاء

وتشظي الكلمات

إخوتي: إنما الخطب خطبي

فما سر الندب؟

والألم والحزن

فأنا بينكم نسيت كل القصائد

ورفعت كل مفاصلي

بين يدي قربانا للآتي

حرية

على أعتاب القباب والصلبان

***

عبد العزيز قريش

في:17 نونبر 2023

لم يبق من تراب يحضتن اجسادهم ..

ركامها يروي لون العزة الدافق..

تغمض عينيها على أصوات لا تصلح للحياة

*

تتقاسم حزنها الموحش..

تُمطر دماءً

تمطر أشلاء..

منذ برهة كانت تنطق..

وكانت تحلم ...

وعلى إيقاع الموت تدفن الحقيقة في عراء الكذب ...

لم يعد بمقدور الهواء المصقول بالبارود

ان يتنفس..

وتسلك إدارة وإرادة المجرم ..

لا ماء، لا غذاء أو دواء ...

شعب يريد الحياة

وشهداؤه من الأجنة إلى الشيب..

وراية الحرية تعلو

وراية الحياة تخفق...

تشرق شمسها وتغيب

وأسرج الاحرار هممهم

وساروا…

سنابل الشهادة على الحق ثابتة،

لا تخلف ارض العطاء " في كل سنبلة مائة حبة "

ويبزغ بصيص من الحرية

من كل هذه العتمة ..

رغم كل الظلم والغدر ...

ويساور الظالم حلم ...

جثث الاطفال تفتته..

أنين الامهات..

ومعليششش ....

تآمر العالم اهداه نصرا

سينفض كل هذا التخاذل..

.يرمي صنارته في بحره .

ويزرع

زيتونا وقمحا وورود..

لنا كل هذا

لنا شهداؤنا...

لنا عزتنا.... لنا وحدتنا...

هذه الأرض لنا

زرعناها اعزاء وأبناء وتاريخ..

هذه الأرض لنا ...

ارحل

ارحل ..

***

عباس علي مراد – سيدني / استراليا

 

يا سِرَّكِ الغافي بشرفةِ مبسمي

مُــرِّي عليَّ قصيدةً في مأتمِ

*

ودعي النساءَ العاذلاتِ وأسرجي

ليْ منكِ قنديلاً بدربي المعتمِ

*

ولقد رسمتُكِ في سمائي لوحةً

مطرًا تهادى بعدَ ليلٍ مبهمِ

*

فاستنطقيني عن هواكِ قصيدةً

فيها من الشوقِ القديمِ  الأقدمِ

*

جلستْ تؤنبنِي على زمنٍ مضى

لما رأتني فوقَ جُرحِي ارتمِي

*

وتقولُ هذا الشوقُ  ودٌّ دائمٌّ

كيف استحال الودُّ نزفًا في فمي؟

*

جئناكِ من بعد الفراقِ يلمُّنا

ماضٍ من الشوق الذي لم يكتمِ

*

هل تذكرين زمانَ كنا غيمةً

للشوقِ محمولينِ فوق الأنجمِ

*

ونبوحُ للشجنِ الدفينِ بحبنِا

ونطير ملهوفينِ لهفةَ مُغرَمِ

*

ها أنت تبتعدين عن مُقلي وبي

لكِ شوقُ ملهوفٍ ووجدُ متيّمِ

*

لا تعجبي إن صار حزنِي شاخصًا

وكبرتُ حتّى صار  حزنِي معْلَمِي

*

إنِّي وحقِّك، كم كتمتُ مشاعري

وصبرتُ حتى جفَّ نهرُ تكتّمي

*

وحفظتُ للأيام كلَّ جميلِها

لكنَّها خرستْ ولم تتكلمِ

*

فتركتِني وحدي أصارعُ وحـشتي

للهِ أشكو غُـربتي وتألـمِّي

*

ما كنتُ أحسبُها تغيّرُ جلدَها

وتُذيقني في الصدِّ كأس العلقمِ

*

تُلقي على جرحي رمادَ سمومِهَا

وتُسِرُّ عذّالي بعُسرِ تألّمي

*

وَهَمُوا فلستُ بزارعٍ في سبخةٍ

ورداً ولكنِّي زرعتُ بديِّـمِ

***

د. جاسم الخالدي

تُعَاشُ الْحَيَاةُ بِعَدِّ النَّفّـــسْ // وَعَــــــــــدِّ الْعُدَاةِ وَعَدِّ الْعَسَسْ

إِلَيْهَا دَنَوْتُ دُنُوَّ الصَّبِيْـــــ//ـــيِ يَدْنُــــــو إِلَى أُمِّهِ فِي الْغَـلَسْ

وَكُنْتُ أَظُنُّ الْمــَرَامَ بَلَغْـــــ//ـــتُهُ حِينَ أَغْدُو بِظَهْرِ الْفــــَرَسْ

وَلَكِنَّ وَهْماً وَثِـــــــقْتُ بِهِ // أَضـــــَرَّ بِقَلْبٍ ذَوَى وَابْتَــــــــأَسْ

وَعَيْنِي لَكَمْ تَعِبَتْ مِنْ بُكَا // أَيَبْكِي مِنَ الْقَرْعِ ذَاكَ الْجَــــــرَسْ؟

كَأَنِّــــي لِوَحْدِيَ كَبْشُ الْفِدَا // وَمَنْ أُنْزِلَتْ فِيهِ حَــــــــقّاً عَبَسْ

***

وَقَفْتُ عَلَى بَابِهَا حَاجِـــــــــباً // وَأَنْتــــــَظِرُ الْأِذْنَ كَيْ أُفْتَرَسْ

فَيَـــــا سَائِلِي عَنْ رِضىً حُزْتُهُ // وَلَــــمْ أَرَ فِيهَا رَضــــىً يُلْتَمَسْ

فَـــــــــــلاَ حَـــقَّ فِيهَا إِذَا رُزْتَهَا // وَكُـــــلُّ تَفَاصِـــــــــيلِهَا مُقْتَبَسْ

تَرَاهَا إِذَا عَاهَدَتْ نَكَـــــــــثَتْ // وَلــــــَوْ طَمْأَنَتْكَ بِرُوحِ الْقـــُدُسْ

وَتُغْرِيكَ بِالنِّصْفِ فِي يَوْمِـــهَا // فَيُصْبِحُ فِي الْغَدِ رُبْعَ السُّـــدُسْ !

فَيَــــــا ضَيْعَةَ الْعُمْرِ فِي زَيْفِهَا // وَيَا ضَـــــــــائِعاً لاَئِذاً بِالْخَرَسْ

إِذَا رَأْسُـــــــهَا غَابَ فِي بَحْرِهَا // فَهَلْ كَانَ يُنْجِيهِ طُولُ النَّـــــفَس؟

فَأَنَّــــــــــى سَنَرْتَاحُ مِنْ سِجْنِهَا // وَأَنَّـــــــــــى تَنَامُ عُيُونُ الْحَرَس؟

***

الشاعرة : لطيفة أثر رحمة الله

 

ما زلت أذكر ذلك اليوم.. وهل يمكن أن أنسى يومًا مفصليًا في حياتي وحياة مؤسستي مثل ذلك اليوم. ذلك اليوم ابتدأ قبل حصوله بثلاثة أيام. كان ذلك عندما ذُكر اسم فتحي المدهون في المؤسسة وراح ينتقل من غرفة إلى غرفة، من عين إلى عين ومن أذن إلى أذن، بل من تقطيبة إلى تقطيبة.. لماذا تأتون بمثل هذا المعلم الازعر الجاهل.. ليعلّم أبناء شبيبتنا؟ ألا يوجد معلمون أفضل منه في هذه البلدة الملعونة؟.. الاسئلة تطرح واحدًا تلو الآخر ولا إجابة تأتي من فم فاهمٍ يريح ويرتاح. وكنا كلّما مضى الوقت نشعر جميعنا بالتوتّر يزحف في أروقة المؤسسة زحف الافاعي في مغائر سرية وسحرية سحيقة الاغوار.. موغلة في السحق والخشية. الوقت يمضي والسؤال يكبر.. لماذا تأتون بهذا الأستاذ.. لا جواب.. وتجرأ.. في اليوم التالي أحد الموظفين ففتح فمه وتحدث بصراحة ووضوح: فتحي المدهون نازل على اللغة العربية نزول.. وهو لا يتقنها ليعلّمها لأبنائنا.. سمعت أنه يتلقى معلوماته عنها أولًا بأول وقبل كل درس.. من عاِرف جليل بالعربية وشؤونها.. ويستعيد بعدها أمام طلابه المرعوبين منه ما تلقاه في الامس.. بل إن ذلك الانتحاري الذي فاه بكل هذا الكلام، ذهب إلى أبعد من هذا، فقال مبتسمًا.. إن شر البلية ما يضحك.. لقد نسي فتحي افندي خلال تدريسه طلّابه إحدى المعلومات.. وعندما قام أحد طلّابه بإرشاده إلى المعلومة الصحيحة.. قام بطرده من غرفة الصف.. وحلف على زوجته بالطلاق مُقسمًا اغلظ الايمان القاضية بأن ذلك الطالب لن يعود إلى مقاعد الدراسة.. قُبالته وأمامه.. وعبثًا حاول أهل الخير إعادة ذلك الطالب المعروف بنباهته إلى مقاعد الدراسة في إحدى المؤسسات.. فقد ذهبت محاولاتهم سدى وأدراج الرياح. ضحك مَن فاه بهذا الكلام وطلب منه مَن استمع إليه مِن زملاء ألا يواصل حديثه ذاك.. إلا إن مدير المؤسسة بادر بعد ذلك بقليل لدعوته.. ليخرج بعدها إلى لا عودة.

في اليوم الموعود.. بعد مضي ثلاثة أيام دخل فتحي المدهون مؤسستنا مختالًا فخوًرا، نظر يَمنة ويَسرة. تفحّص المكان من أوله إلى آخره. كأنما هو يقرؤوه ويتغلّغل إلى أعمق أعماقه، ليعد الاجابة المناسبة لأي سؤال يوجّه إليه، تفحّص كلًا منا، نحن موظفي المؤسسة ومتطوعيها، وأرسل نظرات حافلة بالغموض نحو كل منا، الغريب أننا عندما دخل غرفة المدير وأغلق بابها وراءه، تنفّس الجميع الصعداء، وتبيّن مما فاه به البعض من تعقيبات، أنه يفسر نظرات زائرنا الهُمام بطريقة تختلف عن الآخرى.

بعد أن أغلق زائرُنا، معلّم العربية الجديد في مؤسستنا العتيدة الغالية، تنفّسنا الصُعداء وتوجّه كل منا إلى شأنه، إلا أنا الكاتب المتطوّع في المؤسسة، فقد انتظرت أن تخلو لي الاجواء لأن أتوقّف وراء باب المدير المغلق وأسترق السمع.. بعد الترحيب سادت فترة صمت بين الاثنين داخل الغرفة المدير وضيفه الغامض. حدّ أنني كدت أستمع إلى حفيف الصمت. كانت الانفاس تتلاحق وتتعالى.. وبقيت على ما هي عليه إلى أن عاد مديرُنا إلى الترحيب، فما كان من ضيفه إلا أن انتهره:

-ألا يوجد لديك غير الترحيب؟ قُل أي كلام.. متى سأبدأ.. ومع أي من الطلاب.. هل هم متقدّمون في العربية أم أن علىّ أن ابدأ معهم من الالف باء.

عندها سمعت المدير يقول له:

-طلابنا متقدّمون جدًا.. وسوف يكون إلى جانبك كاتب متطوّع في مؤسستنا..(وذكر اسمي).

شعرت أن الزائر قفز من مقعده:

-ماذا تقول.. متقدّمون.. أفهم عليك.. أما أن يكون كاتب مساعد لي.. فهذا ما لا أرضاه.. أنا معلّم ولي تاريخي العريق.. وأعرف العربية وأسرارها.. لست بحاجة إلى مّن يساعدني..

صمت الزائر وبعد صمت قليل.. قال ضاحكًا:

-بإمكان كاتبك المبجّل.. أن يصنع لي القهوة.. لأتمزمز عليها.. أما أن يقف إلى جانبي لمساعدتي فهذا ما لا أحتاج إليه.. خبرتي تشهد لي..

شعرت أن مديرَنا دبّ السبع في قلبه وتوجّه إلى محدّثه قائلًا:

-كاتبنا معروف بمعرفته المتعمّقة للغة العربية.. أنا متأكد أنه سيكون عونًا مساعدًا لك..

سمعت همهمة وزمجرة.. انحنيت لأرسل نظرة عبر ثقب مفتاح الباب، فرأيت مشهدًا غير متوقّع، اقترب الزائر من مدير المؤسسة، مدّ يده إليه. انكمش المدير. لاعتقاده أن صفعة مدوّية ستنزل على وجهه الطري، إلا أن هذا مدّ يده المدرّبة إلى وجه المدير وربّت عليه:

-اسمع يا حبّوب.. ربّما كنت لا تعرفني.. صحيح انني معلّم للغة العربية.. إلا أنك على ما يبدو لا تعرفني جيدًا.. أنا من عائلة المدهون.. الاكبر في المنطقة.. ثم إن جدي وجدّ جدي.. عملًا في توريض الخيول.. أما وقد اختفت الخيول أو كادت.. فقد قرّرت أن أعمل في ترويض البشر.. هل تفهم ما أقوله لك؟

بدا أن الرسالة وصلت إلى المدير، فاخفض راسه، هازًّا إياه علامة الموافقة، واستمعت إليه يتمتم بكلمات فهمت منها أنه وافق على كل ما أراده المعلّم الجديد.

انصرفت مبتعدًا عن ذلك الباب، وأنا أفكر في مروّض البشر ذلك الزائر الثقيل.. إذا كان مديرنا قد وافق على أن يعلّم طلابنا مَن يحتاج إلى معلّم، فإنني أنا الكاتب المُحبّ للغته العربية المولّه المُدنف فيها، في حروفها وكلماتها.. لن أسمح.. حتى لو اقتضى الامر أن أدفع حياتي مقابل موقفي.

في الليلة التالية لم أنم إلا بعد أن هدّني التعب والنعاس، فاستسلمت إلى النوم.. ورأيت لُغتي العربية غزالة ذات عينين عسليتين واسعتين.. ترد الماء بطمأنينةِ من شعرَ بالغُربة وأحبّ الحياة في آن.. وبينما هي تدني فمَها مِن سطح الماء.. التفتت إلى الوراء لترى جسمًا أسودَ قاتمًا يزحفُ نحوَها.. فما كان منها إلا أن فرّت جارية بعيدًا بعيدًا.. غير أن ذلك الجسم الاسود انطلق وراءها مثل صاروخ أمريكي ذكي.. عندها شعرت بالخطر الداهم عليها ففتحت عينيّ.. وغادرت النوم متخذا قرارًا.. لا رجعة فيه.

حملت نفسي في اليوم التالي وتوجّهت إلى بيت ذلك الموظف، زميلنا المطرود من جنّة مؤسسة لغتي العربية.. وما أن فتح لي باب شقته وأطل منها النور يسبقه.. حتى طلبت منه أن نتوجّه إلى بيت ذلك الطالب العليم.. الذي طرده المدهون.. ليخفي ضعفه وقلة معرفته بالعربية. توجّهنا من فورنا إلى بيت ذلك الطالب، وجرى بيننا حديث طويل.. اتفقنا في نهايته على أن نضع حدًا لتلك المهزلة المقتربة من أبنائنا ومؤسستنا.

أعتقد أنكم الآن فهمتم ما خطّطنا له.. بإمكاني أن اختصر ما حدث بكلمات: في اليوم الموعود لبداية درس معلمنا الجاهل.. كنّا أوّل مَن دخل غرفة الصف.. وما ان رآنا المدهون.. حتى تراجع إلى الوراء في محاولة لإشعارنا أنه لم يرنا.. فايقنا أن ما خططنا له قد تكلّل بالنجاح.. وتوجّهنا إلى نافذة المؤسسة.. لنرى ذلك المعلّم المبجّل.. يولّي إلى غير رجعة.. كان ذاك آخر عهدنا به.. وبعهده الاسود..

***

قصة: ناجي ظاهر

أنا ذلك الشيء الذي لا تصله علامات الاستفهام

ذلك الشيء.. الذي لا أعنيه

بمجرد الإشارة اليّ

أحاول أن استنطق الأشياء

أحاول ان أجدل ضفائرا لشيء ما..

ظلّ طويلا يلاحق أنايّ

كيف تحولت إلى حديقة من ضياع؟

وأنت الى (...) تقطف الزهور وتنثرها في الفضاء

كيف تحوّلت إلى امرأة تبرق وتتهشم كالزجاج

ثم تتناثر على طرقات قلبي

*

في حقل ما قريب من أناي

طالما تعثرت

كما تعثرت كثير من الأماني في الوصول

في بساتيني التي تحملها قمصاني

طالما أورقت أزهار ونمت أشواك

و لازلت تلك الـ (...) التي تقطف الزهور و تنثرها في الفضاء

*

لم يعد هنالك متسع من الوقت

كي أعدّ النجوم او أمضغ لسانك

دعيني أسرّك شيئا:

في ضياعي الذي بحثت عنه

طالما تعثرت بأحلام كثيرة

تحولت الى جثث هامدة

ثمّ اصطدمت بها قدماي

*

في بقايا مني طالما رممتها بصمغ الـ (قد...)

فلتكوني أنت تلك التفاحة التي أشرت إليها

ولكن أنا ذلك الشيء .. الذي لا أعنيه

ننحدر سوية الى ضفاف المطلق

متشابكي الأيدي

رافعين رؤسنا كالأيائل

نحبّ أشياء" كثيرة لا نعرفها

نحتسيها حتى الثمالة ثم نبصق بوجه القدر

*

أخشى أن تصدح بعيدا هذه الحمامة

فلا أرى وجهها متسطحا على الجليد

*

كان لوجهي قدره غير قدره الذي

تقذفه حرارة ثوبك وهو يلتصق بي

كان له أرجوانه غير ذلك الذي يتساقط من أنوثتك

كان له بهاؤه وهو يلتف ببهائك

لازالت تلك الشجرة بعيدة

غير أنّ ثمارها منقوشة في فستانك

الذي يلتف حولي كطوق بابلي

كيف تسللت أنوثتك لكلّ مساماتي

وأورقت جنائننا في جسدي

***

أنت.. ذلك الشيء الذي لا أعنيه

(دعيني أمسك بجمرتك

فهي الماسة الوحيدة التي بقيت لي

من كل ذلك الضياع

دعيني أنحتك تمثالا من خزف

و أتركه يجّف في الظلام

دعيني أشير إليك كلما فقدت بوصلتي

فأنت الماسة الوحيدة التي بقيت لي من كل ذلك الضياع

***

د. رسول عدنان - شاعر عراقي مقيم في أمريكا

لو صاحت (القدس) ألفاً ليس يسمعها

(مستعصماً) كان أو قد كان (معتصما)

*

فكل ما صار في الدنيا على سفهٍ

يجري و تجري بنا نخواتُهُ وهما

*

إستيأس (العُرْبُ) مما كان في زمنٍ

و استعصموا اليوم بالتَّطبيع فاحتكما

*

يجري على الناس مجرى النوم في خدرٍ

و يستفيق به من فاق مضطرما

*

لمّا يرى الأرض غير الأرض في وطنٍ

ممزقِ الوجه .. لم يرحمه من رسما

*

استصهن العُرْبُ منبوذين ، تقصفهم

الطائرات ، و لا يرمون من ظلما

*

لكنْ أتى جيلُ (عـ🇵🇸ـزالدين) منتفضاً

فذلك الذُّلُّ بـ(القسّـ🇵🇸ـام) قد حُسِما

***

رعد الدخيلي

لستُ بذَائِــــع ِ صِيت ِ

كي أحظى ياعفريتي

*

بمديحِهم ليَ ساعةً

في صالةِ التصويت ِ

*

أبداً فلستُ بعالِم ٍ

أو ناقِد ٍ خِرّيت ِ

*

أو عبقريَ زمــــانِه ِ

قد جاء من (هاييتي)!

*

أنا لستُ إلا جذوةً

في نهضة الكبريت ِ!

*

وقذيــــــفةً حرفيةً

تهتاجُ في (تكريت ِ)!

*

في القدس ِ..في يمن ِالإبا

في ســـوريا.. في بيروت ِ

*

في كل  شبر ٍ من هنا

وهناك سيف كميت ِ!

*

أنا منبرٌ حُـــــرٌّ لهــــــ

ـــذي الأرض ِ والملكوت ِ

*

ويَراعــــــةٌ ولاَّدَةٌ

وطناً بلا طاغوت ِ

*

هذا الزمان زماننا

بالعِزِّ والجَبَرُوت ِ !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

2022/8/20م

أيها العالمُ..

أنا التفصيل الصغير في مداك المُحكم

خطوات ابنتي الصغيرة نحو مدرستها

خطواتي القلقة

وخطواتك الكبرى

أيها العالمُ المُتآزرُ..

أنا الجزءُ المتسائلُ الذي يراقب هَولَك

***

فارس مطر - برلين

 

شلوم يا عرب شلوم

يا ترى ماذا اصابكم

هل دست "اسرائيل" لكم السموم

ام اكلتم مخ الضبع

حتى صرتم كالمجانين

لا تفرقون بين الحاكم والمحكوم

تريثوا بعض الوقت

وتمتعوا حتى حين

فحكمكم لن يدوم

وشعبكم  مقهورومظلوم

واطفال غزة بين مغتال ومكلوم

ما انتم الا خنازير نتنة

سخرت من جبنكم الامم

جيوشكم مترهلة في كثناتها

تنش الذباب عن بنادقها

من فرط الملل والكلل

واليأس والاحباط يلف من جانبها

والجندي العربي مدحور ومدموم

ينتظر ويسأل متى يلقي سيزيف صخرته

ومتى تتمرد النجوم على الاكتاف

والنياشين على الصدور

ايتها الاصنام المغرورقة بالخنوع

آلياتكم الحربية

نخرها الصدأ المشؤوم

وغمرها براز الحمام

وفضلات الطيور

سوف تنتهون جميعا تحت نعال العم سام

وستذبحون كالخراف

على اعمدة المشانق

وستصلبون في ميادين تل ابيب

يا عبيد الوحش الصهيوني الرهيب

فاعلموا ان المقاومة أكثر خلودا

من تيجانكم

واوسمتكم

وقصوركم

واموالكم

***

بن يونس ماجن

تصحو فدوى على حركة غير عادية في غرفة نومها، من أول خطوة تحس ان أنفاسا أخرى غير أنفاسها صاعدة نازلة في احتراس، تشاركها هواء الغرفة، يدها تمتد الى هاتفها تحت الوسادة..

لا!!.. قد يفضحها ضوؤه، تفتح عينا وتترك الثانية مغمضة.. الضوء الباهت المتسرب من الستائر الشفافة للنافذة يجعلها تتبين الطيف الذي يتحرك في الغرفة وقد اطمأن الى نومها العميق وشرع يقلب دواخل خزانة ملابسها..

هو ليس غيره، ذاك دأبه كل يوم بالليل بعد نومها، ومتى غفلت عنه بالنهار..ما أن يتذكر زاوية من خزانة ملابسها الا وتحيَّن الفرصة لتقليبها..

متأكدة من زائرها، طول قامته وشعره الغزيز يدلان عليه، الم يَدَّع أنه سيغيب يومين؟..فلماذا عاد من يومه كلص متسلل بليل؟..

فدوى من أوهمته كعادتها أنها تسبت في نومها الثقيل وأن رغبة النوم لديها تلفها بمجرد أن تضع رأسها على الوسادة، تعوَّد منها ذلك؛ غباء، أو ربما ثقة زائدة في النفس الى حد الغرور، لم يكن يدري أنها هي من كانت تبني الوهم في عقله بشخير كمدماك يتحصن به في اطمئنان حتى تتابع حركاته وسكناته، لديها،الثقة فيه مفقودة من الشهور الأولى لزواجهما، لا تأمن لوجودها أمنا معه، يتلون كسحلية حرشفية بألف لون ولون،لذلك فهي تحترس برقابة وحرص على أن توقعه في سوء سلوكه..

كل ليلة قبل أن يتسلل من سريرها،يمرر ظهر كفه قريبا من فمها وأنفها، أحيانا يضع سبابته على خدها ليتأكد من استغراقها في النوم، ثم يخرج الى الخادمة التي تكون في لهفة انتظار تلقاه بجسد عار وأحضان مفتوحة..

"صغيرة مراهقة لا تعبأ بالخطر الذي يحدق بها "

ـ يتوهمان أني نائمة، غائبة في رموس الكرى..

"حك وصاب غطاه"..نفس التفكير، والميول الساقطة، كلاهما من طينة واحدة، هو بلا أصل يتفجر ماضيه في دواخله بلا انقطاع، ظل يكرر سنواته الدراسية ولم يصل الى الجامعة الا بعد أن بلغ السادسة والعشرين من عمره، لكنه لم يستطع التزحزح عن السنة الأولى..

تم طرده بعد أن سرق محفظة نقود إحدى الطالبات التي كشفته من جواربه، ولم تكن السرقة الأولى ولا الثانية ؛ أما هي فخادمة لا يتعدى عمرها الخامسة عشرة قذفتها المراهقة بلا توجيه ولا رعاية بل الى تحريض استغلالي جعل افعالها وتجاربها في البيوت وراثة من أدق تفاصيل أفعال بنات إبليس.. تعرف زوج فدوى على الأم قبل البنت التي تنحدر من نفس قبيلته، ظلت تنتقل من بيت لبيت وفي كل بيت كانت تفرخ زلة، لاتوقر صغيرا ولا كبيرا..

ما يغلي في صدر فدوى أقوى من قار الطرقات الحارق، كيف تصطبر أنثى وزوجها أمام عيونها يخونها مع خادمة صغيرة ؟ ألا تكون مسؤولة اذا وقع للطفلة ما يحرك اقاربها باستفسار ؟..:

لون القارما أحسه نحوهما، لكن يلزمني أن أتحمل و أصطبر..

تعي فدوى جيدا أن الخسيس الذي لايتوانى في سرقة زوجته وأم ابنه لن يتحرج في قتل من أجل أن ينهب، فكل حركة من فدوى هي جناية على نفسها، الغبي لن يتأخر عن الفتك بها.. و أقل ماقد يصدر عنه أن يُلبِّسها اللئيم كذبة تأتي عليها ّ وعلى براءتها.. يتوهمها غبية، ساذجة، و الحقيقة أنها بصبرها وقوة احتمالها وذكائها هي من طبعت هذا الاعتقاد في عقله، ما أن تدخل سريرها حتى تستكين وتترك سمعها يشتغل بتسجيل، يناديها فلا ترد، يسألها فلا تجيب حتى اذا صحت، مثلت عليه دور من غرقت في نوم،تصحو فزعة وهي اشبه بمجنونة على صيحاته،كل ذلك ليتمادى في أفعاله، ويزداد استغراقا في سوء أعماله "

أريده أن يغرق بلا نجاة والى الأبد "..

يعود الى غرفة النوم على رؤوس أصابعه وخلفه الخادمة ذيله التبيع، يبحثان عن ذهب فدوى، الذي ورثته عن أمها والذي كم حاول أن يستحوذ عليه رغم ما قدمته له زوجته من تضحيات ومساعدات.. جاحد كفور لايعترف بنعمة..

أين أخفت الذهب ؟..

تدرك فدوى ان زوجها يتهيا للفرار مع الخادمة، بعد استيلائه على ذهبها، فقد سمعت حديث مؤامراتهما ذات ليلة..لذلك حملت كل ذهبها الى بيت خالتها..

حين يئسا، تعانقا بلا حياء أمام سريرها، ثم عادت الخادمة الى غرفتها واندس هو في سريرزوجته..

خفة عقل وطيش خادمة صبية لا تزن سلوكها، كيف تتصور ان يحافظ لها على ود ؟هو فقط يسخرها لأغراضه، يقدمها قربانا اذا ما تم ضبطه، ولن يتوانى في قتلها اذا كان القتل مطية لجشعه وطمعه..خسيس دنيء.

صباحا تحيي فدوى زوجها ببسمة عادية، لكن اعماقها تقطر مقتا وكراهية، تدخل الحمام..ومن خلف الباب تسمع حركات ركضه الى الخادمة في المطبخ، يعانقها من خلف فتسأله بلهفة:

ـ ما الجديد ؟

ـ لا شيء، استغرقني الليل بتفكير.. ألا يكون تحت سريرها ؟

ـ سأقلب السرير من أسفله وبين طياته بعد أن تنصرف لعملها..

حين خرجت فدوى من الحمام وجدت زوجها مع الخادمة، كانت يداه على كتفيها، يتحدثان بهمس،ما أن رأى خيال زوجته حتى ابتعد عن الخادمة، رفع صوته:

ـ بادري خديجة أرجوك لقد تأخرنا عن وقت العمل

تضحك فدوى، وحتى تؤيد قوله فيطمئن تقول للخادمة:

ـ صحيح،لن تُفتح بابٌ الا بحضور سيدك..

تخرج فدوى الى عملها بعد أن يغادر الزوج البيت كحارس في إدارة

تزوجت فدوى صالح وهو طالب جامعي في السنة الأولى، لم يستطع تجاوزها..

صادفته مرة في أحد المنتزهات فاصر على التعرف عليها، أوهمها أنه يسير مدرسة حرة، بعد كتب الكتاب أقنعها بزفاف بلا حفل،بعد شهرين تبين أنه مجرد طالب جامعي مطرود..

وجدت فدوى نفسها محاصرة بحمل مبكر وحيث انها موظفة كرهت أن يشاع بين زميلاتها طلاقها بهذه السرعة وكأنها هي من اشترت رجلا لانقاد نفسها من عنوسة بدأت تطول..

فكرت فدوى أن تبحث لزوجها عن عمل حتى تحافظ على لحمة الأسرة فيتربى وليدها في كنف أب وأم ملفوفا بحنانهما..

استطاعت أن تشتري لصالح دكانا صغيرا بالتقسيط، من مالها تقدم تسبيقه الذي يتجاوز نصف ثمنه حسب رغبته وشرطه أن يكون الدكان كله في اسمه يتكلف فقط بأداء المبلغ المتبقي اقساطا شهرية

جرب بيع الخضر والفواكه فخسرلإهماله وكسله حين كان غيره يجني أرباحا اتسعت بها تجارتهم،كان صالح ينام الى الضحى، ولا ينتبه الى الفواكه التي قد مسها الخمج فيفصلها عن غيرها، ثم غير الخضر والفواكه ببيع الدجاج والبيض كلما ارتفع ثمن الطيور كلما ارتفع دخله لكن الكثير من الزبائن ضبطوا غشه حيث كان يذبح الدجاج النافق ويبيعه قطعا كما وجدوا حصوات وطين تحت أجنحة الدجاج لزيادة ثقله بالميزان فقدموا به شكاية وتم إلقاء القبض عليه وحوكم بسنة سجنا، وقد ازداد ابنها وأبوه سجين، وظل يقسم كذبا أنه لم ينتبه للحصى تحت الأجنحة وربما يكون هذا من فعل صاحب مزرعة تربية الدجاج..

استطاعت بتدخل من أحد اقربائها الذي تم انتخابه برلمانيا أن يشتغل الزوج حارسا في أحد مدارس التكوين المهني الخاصة لكن سرعان ما تم ضبطه مع منظفة هناك في وضع مخل بالآداب فتم طردهما وبنت المنظفة هي خديجة من صارت لدي فدوى خادمة بعد ان ماتت أمها إثر سقطة على رأسها بعد عراك مع إحدى السجينات حوكمت على أثرها بتهمة إجهاض طالبة في بيتها

كانت فدوى تعي أن نهايتها ونهاية ابنها لن تكون الا على يد زوجها وخديجة خادمتها أو هما معا لهذا جلست الى قريبها البرلماني وأبلغته بكل هواجسها، نقلت له ما يقع ليلا بين الخادمة وزوجها، ومقدار صبرها الذي فاق كل الحدود، هد نفسها وكيانها، صبرا لضمان حياتها وحياة ابنها.الذي تعبت من وضعه كل يوم في ضيافة إحدى الجارات.

طرق البرلماني قريب فدوى بابها ذات صباح بعد أن أيقن من خروج الكل الى عمله، كان في رفقته شاب عشريني يحمل محفظة رياضية من كتان ملونة، طلب القريب من الخادمة ان تصاحبه لمساعدة زوجته في أعمال البيت، حاولت الخادمة أن تعتذر لان وراءها اعمالا يجب إنجازها لكنه أكد لها أنه اتفق مع فدوى فلا خوف عليها.. قبل أن يركب الجميع في سيارة البرلماني الرباعية الدفع طلب منها مفاتيح البيت قدمها الى مرافقه الشاب قائلا:

ـ بشير !!.. ربما قد تعود قبلا منا، ادخل كل شيء الى البيت وانتظرنا..

حرك الشاب رأسه ببسمة توحي أن اتفاقا قبليا ما بين الرجلين قد تم،ثم خطا في الاتجاه المعاكس للسيارة..

وصل البرلماني الى بيته، دخل والخادمة معه،طلب من خادمته أن تدل خديجة على ما يجب القيام به في البيت الذي كان يخضع لبعض الإصلاحات..

عاد زوج فدوى بعد منتصف النهار بقليل طرق الباب فلم يتلق أي رد..

انتظر عودة فدوى التي فتحت الباب بمفاتحها، اين الخادمة ؟لا وجود لها..

ظل زوج فدوى يلفق التهم لزوجته تارة يدعي ان فدوى من طردت خديجة وتارة يقول:إن فدوى هي من ضيقت الخناق على الخادمة حتى ملت وأبقت، يصيح بذلك كأنه يريد إسماع الجيران بما اقترفته فدوى في حق صبية لا ملجأ لها ولا مأوى..

ماذا أقول لأهلها إذا ظهر أحدهم ؟

بعد أن اشتد خصامهما اقبل البرلماني ومعه خديجة والبشر على محياها منشور..

غضب الزوج يبلغ مداه وهو يرى خديجة تضحك من أذنيها والبرلماني معها وقد وضع يده متعمدا على كتفها، أكل الشك وسوء الظن كل بقية من صدرصالح وعقله، البنت صغيرة وجميلة وفي يدها هدية، فهل طمع فيها البرلماني ؟ ماذا لو اكتشف أنها غير بكر واستطاع أن يستل منها كل الأسرار..

رغم ما اخبرت به الخادمة عشيقها زوج فدوى من أن البرلماني لم يتجاوز أي حد معها فلم يصدقها..

ـ ممنوع عليك الخروج بلا إذن مني، فأنا عنك مسؤول..

مر بقية اليوم عصيا على الزوج، لكن فدوى أيقنت أن قريبها رغم تكتمه قد رتب حيلة لزوجها أدخلته في أدغال من الشك كثيف،وما أن اتى الليل وأوت فدوى لسريرها حتى تسلل الزوج الى غرفة الخادمة كعادته، شدها من عنقها واقسم انه لن يتركها حتى تخبره بالحقيقة وبأدق التفاصيل..

مارس الزوج على الخادمة كل أنواع التنكيل والفحش فهو لم يقتنع بأن البرلماني قد اكتفى بخديجة لمساعدة خادمته وهو من باستطاعته أن يحرك جيشا من الخدم لبيته،كما ان الهدية التي أتت بها خديجة وهي عبارة عن صندوقة مذهبة وبها ورقة من فئة مائتي درهم لم تكن غير ثمن لما مارسه معها البرلماني.. هي غرة بطيش،عقلها يطير مع الذهب والمال..

شرعت الخادمة تستغيث من ألم فما تعودت أن يمارس عليها صالح من الشذوذ ما حققه فيها الليلةعقابا على استجابتها للبرلماني، وحتى يتم اسكات صوتها أنامها على وجهها وضع الوسادة على رأسها من خلف ثم جلس بكل ثقله على الوسادة ضاغطا بقوة يديه على مؤخرتها الى ان انقطعت أنفاس خديجة ففقدت الروح، ألبسها ثيابها، أنامها على الجانب الأيمن،خمش وجهها وعنقها بأظافره، مسح يده بعناية في إزار غطاها به ثم تركها وعاد على رؤوس أصابعه الى فراشه متوهما أن زوجته نائمة..

في الصباح أيقظ فدوى ليخبرها أن الخادمة قد وجدها ميتة، وما أن هرعت فدوى فزعة وأطلت على جثة الخادمة حتى دفع الزوج فدوى لتقع فوق الخادمة ارتمى عليها من خلف ومسكها من معصمها وظل يحاول خمش وجه الخادمة بأظافر يد زوجته فتترك بصماتها واثرها في مكان الحادث ثم شرع يتهمها بقتل الخادمة..

حضر رجال الشرطة وقد لحق بهم البرلماني.. كان أول ماقاله الزوج:

ـ زوجتي هي من قتلتها للعداوة المتحكمة بينهما والشك الذي كان يركب زوجتي اتهاما أني أخونها مع هذه الطفلة الصغيرة البريئة، وليست هي المرة الأولى التي تحاول زوجتي القيام بذلك، أنظروا الى اظافر زوجتي على عنق الخادمة وخدها..

ظلت فدوى تبكي وتقسم ببراءتها وان زوجها كاذب، خسيس ودنيء، لكن إشارة خفية من البرلماني أفهمتها أن تلتزم الصمت والامتناع عن الكلام..

البرلماني عانق قريبته، اسكتها لتطمئن ثم قدم هاتفه الى رجال الشرطة حيث الحادثة مصورة وبالتفصيل كما التقطتها الكاميرات التي ركبها الشاب الذي كان في صحبة البرلماني صباح أمس..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

حين أقول للآخرين أن صديقي لم يؤذ متعمداً نملةً في حياته لا يصدقونني. إنني أعني الكلام حرفياً. كان حين يلمحُ نملة تسير على جزء من بدنه أو على الأرض، يتحاشى أن يؤذيها أو يدوس عليها ويقتلها. ولَكم قلت له تلك العبارات التي لم تكن تؤثر به، أمثال "والله أنت مسكين" أو "ياصاحب القلب الضعيف" وغيرها. راجياً من ذلك أن أصعقه توبيخاً، لكي يترك هذه العاطفة الوثيرة التي أتت عليه. تلك التي بسببها صار لقبه في محلّتنا والمدينة "الرّومانسي" تهكّماً وسخرية. بداية معرفتي به في المرحلة الابتدائية. حين لمحته يتجول في ساحة المدرسة، وقد كان يتمتم بكلمات ويومئ بكفّه صوب السماء. في البدء اعتقدت أنه مخبول يحدّث نفسه. لكني عرفت شيئاً بعد أن اقتربت منه بمسافة وسألته بفضول: ماذا تصنع؟! فأجاب: "أغنّي". ثم سألته: ماذا تغنّي ولماذا تومئ للسماء؟! فأجاب: أغنّي لها، ثم أشار بيده صوب أسراب الحمام. تلك التي كان يخرج من أهله باكراً لرؤيتها وهي تتأهب للطيران!!. ومن حينها لم أفارقه. في المدرسة والمحلّة والشارع. حتى كبرنا قليلاً ودخلنا مرحلة الثانوية. وإذا بصديقي الرّومانسي يعلنها صراحة أنه صار شاعراً. حيث أحضر لي ورقة قد كتب فيها كلمات يقول أنها قصيدة. اضافة إلى طقسه المفضل من تسجيل الأغاني وحفظها أكثر من حفظه لدروسه. وعلى الرغم من رومانسيته ورقّته المفرطة، إلا أنه كان يتحاشى النظر إلى بنات الثانوية المجاورة لنا. حتى الفتاة التي كان يحبها، لم يكن يملك الجرأة في مصارحتها، على عكس الآخرين الذين لم يملكوا ربع رومانسيته. أولئك الجسورون؛ الذين يملكون جرأة عظيمة في ابتداع علاقات الحب. واكتفى بحبّه عن بعد، وصار يكتب الأشعار ونقضي الليالي نستمع أنا وهو إلى تلك الأغاني العاطفية. لقد كنتُ أتعامل مع الأغاني كأغان عادية، لكنه كان يستمع لها بطقس عجيب. فقد كان يكدّس عُلبَ المناديل في دولابه، ويسحب كل ليلة علبة ويضعها أمامه، مستعيناً بها على مسح دموعه التي تسيل على خديه. ومرّت السنوات أسرع من الصقر في سماء حياتنا، وصديقي لم يتغيّر وبقي على حالته تلك. شاكياً لي قسوة العالم من حوله. حتى انقطعت أغلب علاقاته بالناس، وصارت تحلو له الوحدة. وكم من حالة اكتئاب مر بها، ملقياً بكلِّ أعبائه على الحياة وقسوتها. ومع كل الطيبة والحنان والنفس الشفيفة التي كانت فيه، صار لا يكترث للعالم من حوله. وفي كل مرة أُعيب عليه هذا البرود اتجاه الآخرين كان يقول: خاب أملي.. خاب أملي!!. لقد كان هذا واضحاً بالنسبة لي جداً حين مرّت علينا أيام شاحبة. أيام تعرضنا فيها لحرب لم ترحم صغيراً أو كبيراً. ففي الوقت الذي كان الناس فيه ينقذون بعضهم البعض، عبر حمل الجرحى إلى المشافي، وضحايا القصف إلى المدافن. كان صديقي الرّومانسي يبحث عن جثث الحيوانات النافقة في الشوارع وقرب النهر والساحات. حاملاً جثثها لدفنها في بستان مهجور من بساتين المدينة المحاذية!!. ولمّا علم الناس حقدوا عليه ومقتوه. منهم من قال أن هذا الرجل مجنون، ومنهم من قال أنه مغرور ومتعال على آلام بني جلدته. لكنني كنت الوحيد الذي أعرف السبب حين سألته ذات مرة فأجاب برومانسيته المعهودة: "هذه الحرب حرب بني البشر ولا علاقة للكلاب والقطط المسكينة بها. إنني أعتذر لهذه الأنفس الأليفة عن أخطائنا التي نرتكبها بدفني لهم بشكل لائق". ثم بعد مدة من الزمن حين كنتُ في منزلي ليلاً، طرق بابي وهو في حالة يُرثى لها. نظرت إلى وجهه المتعب وسألته: مابكَ؟!! هل حدث لك مكروه؟. لم يجبني إلا بعبارة واحدة: "يكفي هذا.. أريد أن أكون مثل هذه الناس.. أريد أن أكون صلباً مثلك". عرفتُ جيداً أن هذا الرجل تآكلت عزيمته من شدّة الحزن وخيبات الأمل. خصوصاً بعد رحيل أمّه التي كانت آخر من بقي معه من أفراد عائلته. ولم يكن يحظى بفرصة زواج وتكوين أسرة تخفف عنه وحدته وآلامه. لقد كان مرفوضاً من قبل النساء. المرأة بطبيعتها عملية وواقعية وتحاج إلى رجل صلب وقوي يحميها من قلقها المزمن. لهذا لم تجازف امرأة واحدة بالزواج والعيش مع "الرومانسي"؟!. على كل حال أنا لم اتوان في مدّ يد المساعدة له بأي شكل من الأشكال. بدءاً باقتراحاتي التي لم تفلح لتغير سلوكه في أسلوب حياته اليومية، وانتهاءً بالذهاب إلى أحد الرّوحانيين المشهورين في البلدة. كان يقصده الناس المغمومون والممسوسون. لأنني بعد أن يئست من عناده في ترك أسلوب حياته، قلتُ له ربما قد تلبّس شيطان في بدنك يا صاحبي منذ طفولتك!!. أو ربما فيه مرض استوطن في نفسه سنجد له علاجاً عند ذلك الرّوحاني. لأن صديقي صار يحكي لي عن الأصوات التي لا تفارق سمعه. فإذا تحدث معه شخص بموضوع وآلمه أو جرحه، يظل الحوار شغّالاً في إذنه كما تدور الاسطوانة. وإذا رأى أو تذكّر أمراً مؤلماً وحزيناً، لا ينام لمدة أسبوع وتفيض وسادته من غزارة دموعه. أصلاً حين جاءني مستنجداً كان يمرّ بحالة من الأرق والحزن والبكاء التي لم تفارقه على رحيل أمه. الغريب أن صديقي حين اقترحت عليه الذهاب إلى الروحاني وافق بتسليم مطلق!!. كجثّة بيد غاسلها!!. ولا أخفي صراحة فهذا ما حدث حرفياً بالضبط.. لقد تحوّل إلى جثة.. لأن الرّوحاني الذي دخلنا إليه حين عرف من صديقي تفاصيل عن حياته أجابه: "إنك ممسوس، ولكن ليس من شيطان بل من شيء هو أفظع من الشيطان.. إنه الوهم.. لهذا إن كنت تريد النجاة يجب أن تقتل نفسك وتحيى من جديد". في الحقيقة ارتعدتُ خوفاً من هذه العبارة، وأنا أطالع صديقي الرومانسي بوجهه الذي تفرعت عليه جداول من عرق. ثم انبريت أنا لسؤال الروحاني: كيف يقتل نفسه؟! فأجاب: مقتل النفس علاج لها. عليه أن يقتل تلك النفس القديمة التي عاش بها تلك السنوات. ثم يعود بنفس جديدة لا إفراط ولا تفريط فيها. لا أعني أنه ينتحر والعياذ بالله، ولكن أعني أن يغيّر نفسه ويستبدلها بنفس أخرى قبل تغسيلها والصلاة عليها". هنا نبس صديقي الذي صار يمسح وجهه: تغسيلها والصلاة عليها كيف؟! فأجاب الروحاني: "حين تقتل نفسك ستموت بلا شك، وسأغسّلك وأصلي عليك صلاة الميت، ومن ثم بعد انتهاء الصلاة ستنهض من مكانك وقد صرت إنسانا آخر". صراحة احتقرت سخافتي حين ذُعرت في البدء. كنتُ أظن أن الروحاني جاد في كلامه، ولكن الأمر تبيّن أنه لعبة ايهام يقوم بها الروحاني، لكي يقنع صديقي بمقتله وعودته للحياة من جديد. المشكلة أن صاحبي واعجبته الفكرة وراقت له.  فهو الذي عاش حياته في الخيال والرومانسية كيف يفوّت طقساً مثل هذا؟!. بالنهاية وافقت على مضض وكنتُ ألوم نفسي لأنني صاحب فكرة المجيء إلى هذا الروحاني. ولومي لنفسي بدّدته حين قلتُ بيني وبينها، أن اليأس من حالة صاحبي هو الذي دفعني لهذا. والبشر يصدّقون بكل شيء في حالة اليأس. على أية حال اتفق معنا الروحاني أن نذهب إلى المغتسل الذي خلف المسجد ليلاً. في ساعة حدّدها لنا، وقبل مجيء الساعة المحدّدة بمدة سمعتُ طرقات على باب منزلي. فخرجت لأجد صاحبي متهيئاً وكلّه بهجة. مرتدياً ملابس أنيقة ورشّ عطراً ملأ شذاه المكان. طلبتُ منه أن ينتظر قليلاً لكي أرتدي معطفي. وحين خرجتُ مرة أخرى طالعت شكل صديقي، ثم ضحكتُ ضحكة خفيفة وهززت رأسي ثم سرنا سوية إلى مكان المغتسل. وبعد انتظار لمدة ربع ساعة لمحنا هيئة الروحاني من بعيد. قادماً نحوناً حاملاً معه كيساً أسود. وبعد دخولنا طلب الروحاني من صديقي أن يخلع ملابسه وينام على المغتسل، ثم قرأ عليه بعض العبارات التي تُقرأ عند الاحتضار. ثم وضع فمه قرب أذن صديقي الذي اغمض عينه وقال: "اقتل نفسك القديمة.. نفسك ماتت.. أنت الآن ميّت.. بعد تغسيلك والصلاة عليك ستردد الآية (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً). وبعد أن تنتهي من قراءة الآية، تجلس وقد ماتت نفسك القديمة، وعدت إلى الحياة بنفس جديدة". ثم بدأ الروحاني يقرأ عليه ويغسل رأسه ونصفه الأيمن والأيسر. ضاقت نفسي من رؤية المشهد، فخرجت لكي أدخّن سيجارة قرب المغتسل. فانتبهت وأنا خارج المغتسل إلى أن السّخان الذي يجري من خلاله الماء إلى حنفية المغتسل كان مغلقاً!!. وبالفعل حين وضعت يدي تحت حنفية للماء خارج المغتسل كان ماؤها بارداً ونحن في الشتاء!!. رميت سيجارتي ودخلت مسرعاً إلى المغتسل، فوجدت الروحاني قد انتهى وأخرج كفناً من الكيس الأسود الذي كان يحمله عند مجيئه. وكفّن صديقي تماماً كما يتم تكفين الموتى. ثم طلب منّي أن نحمله إلى مساحة لكي نصلّي عليه صلاة الميت. وبالفعل بدأ الروحاني بترديد عبارات الصلاة من الشهادة والدعاء حتى قال:" اللهم إن هذا المسجّى قدامنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك. نزل بك وأنت خير منزول به. اللهم إنك قبضت روحه إليك وقد احتاج إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه. اللهم إنا لا نعلم من إلا خيراً وأنت أعلم به منا. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته". وحين انتهى الروحاني من أداء الصلاة، نظرنا إلى صديقي منتظريْن منه أن يقرأ آية الرجوع إلى الحياة. يا لها من دقيقة مرّت كما يمرّ قطار بطيء على بدن. وأنا أنظرُ إلى صاحبي المسجّى بلا حراك!!. وحين طال الأمر نزلتُ عنده، ووضعت كلتا يديّ على جانبه وهززته منادياً باسمه: "يكفي هذا وقم من رقدتك وكفّ عن المزاح إن كنت تمزح!!. لنعود إلى المنزل فوراً". فلم أشعر إلا بكفّ الروحاني بعد أن وضعها على كتفي قائلاً بصوت خفيض: دعْه.. لقد ارتاح هذا الرجل..

***

أنمار رحمة الله

 

لن أنتظرك.. كما اعتدت انتظارك كلّ صباح، كذلك ستفعلين أنت، أعرف أنك ستتألمين وسوف تضعين يدك على وسادتك الخالية وتبكين. لأنني أنا أيضًا سأفعل هذا. سأستيقظ في الصباحات المُقبلة، سأفتح عيني لأرى أشعة الشمس تخترق نافذتي قادمة من بعيد.. بعيد. إلا أنني لن أمكث في فراشي.. كما كنت أفعل خلال السنوات الثلاث المُدبرة. وإنما سأمضي باتجاه باب شقّتي المُنهك، سأتوقف هناك وسوف تخطرين في بالي.. سوى أنك ما تلبثين أن تغادري. عندها سأغادر عمارتي منطلقًا في الفضاء الخاوي اللامتناهي.

عند وصولي فم البلدة القديمة.. هناك قريبًا من السباط الاكبر، سأتوقّفُ بتباله، لا أعرف ماذا سيحدث لي، عندها سيستغل الشيخ عبد الصمد الحالة وسوف يجدها فرصة سانحة للخروج من عالمه الحزين والدخول إلى عالمي، وسوف يجري بيننا حديث عشوائي يضجُّ بالإيحاءات، الاشارات والمعاني.

هو غارسًا عينيه في عيني: أراهن أنها هجرتك.

أبادله النظرات غارسًا عينيّ في عينيه، فيتابع:

-هذه هي الدنيا.. يأتين إلينا على غير اتفاق أو موعد، كذلك يولّين.. لا تدع الحزن يتسلّل إلى أعماقِك، لأنك إذا ما فعلت فإنه سيجد هناك مرتعًا خصيبًا وموطنًا قشيبًا..

سأرفع رأسي باتجاهه وسوف أقول له:

-هل نسيت أنت صُميدة حتى أنسى أنا أطياف؟

يبتسم الشيخ المُعمّر الواقف قُبالتي:

-كان هذا زمان يا ولدي.. أنا لم أنسِ صميدة ولن أنساها.. أما أنتم.. أبناء هذا الجيل فإنكم تُحبّون بسرعة وتكرهون بسرعة.. كلّ شيء لديكم يجري بسرعة.. لا وقت لديكم للتوقّف والتفكّر، كما كان يحدث لنا في أيامنا السمان..

تلوح دمعة في عيني أقول له:

-لا تُعمّم يا شيخي.. لا تعمّم.. لسنا كلّنا سواسية في تقبّلنا لمصائب الدهر ومآسيه.. بعضُنا مثلكم بالضبط.. يستقبل الامور حسب نيته الطيّبة وقصته الهيبة.

يصمتُ الشيخ قُبالتي.. فأغرق في بحر من التفكير.. يدخل الشيخ عبد الصمد في حالة صمت.. أشعر أن كلماتي أعادته إلى أيامه الرائعات مع صميدة.. هاجِرته التاريخية.. حكاية الشيخ عبد الصمد مع صميدة هي واحدة من عناوين قصص الحب في بلدتنا.. فقد هجرته صُميدتُه في عزّ حبّه لها وولّت في فضائها اللامتناهي.. غير ملتفتة إلى الوراء، كأنما هي خافت أن تتحوّل إلى عمودٍ من مِلح.. أما هو فقد بكاها وما زال.. تُرى بماذا اختلفُ عنك يا شيخي.. وهل تعتقد أن للأحاسيس والمشاعر تاريخًا ينفذ؟ هل نفذ تاريخ قصة المجنون؟ ألم تعش قصته وما زالت وسوف تعيش ؟.. ثم ألا توافقني أن أمر المحبّة يتعلّق بعُمقها. أفتح عينيّ. يختفي الشيخ مِن هُناك.. أعود إلى الفراغ الصباحي الحنون.. ماذا فَعلت بي أيها الصباح؟.. وأمضي.. أنا وطيفك مثلما فعلت خلال رُبع قرن من الزمان.. نصف عمري الماضي..

أتوقّف هُناك في وسط سيباط الشيخ، كذلك يتوقّف طيفُك.. يتوقّف قُبالتي. يرسلُ نحوي نظرة حنونًا.. كذلك أفعل أنا.. لماذا هجرتني.. لماذا توقفت عن اتصالاتك الصباحية.. لماذا تركت الحصان وحيدًا؟ أنا لم أتركك وحيدًا.. أنت مَن تركتني.. أنت لا تريد لطيفي أن يتجسّد وأن يصبح حقيقة واقعية.. أنا؟.. نعم أنت.. سأتركك تمضي وحيدًا.. علّك تعرف معنى أن يكون الانسان مجرّد طيف يمضي في طريق وحيد..

يختفي طيفُها، كأنما هي تبدأ عقابها الواقعي الملموس لي.. تولّي وحيدة.. يجري طيفي وراء طيفِها.. طيفُها يجري وطيفي يجري.. لا ذاك يتوقّف ولا هذا يُدركُهُ.. عندما يهدّني التعب أتوقّف.. أغمضُ عينيّ و.. ألاحقها بعينيّ خيالي، إنها تجري وتجري وتجري.. إني أراها.. اراها تتوقف هناك في اعماق سيباط الشيخ.. تتوقّف متعبةً منهكة.. وأرى طيف صُميدة يقترب منها..

طيف صميدة:

-عليك بالصبر يا ابنتي.. هذا مصيرُنا نحن النساء.. الرجال يريدوننا أطيافًا تداعب أشنابهم وأخيلتهم..

يقترب طيف صميدة مِن طيف أطياف.. تهمس لها:

-حسنًا فعلت.. كان عليك أن تتركيه.. كما فعلت أنا..

تهمي الدموع من عينيّ أطياف مدرارة..

-أنا أردته مِن أعماق أعماقي.. أردته بشرًا فأرادني طيفًا.. لا أعرف ماذا افعل.. أشعر أنني وحيدة بدونه..

ينتصب طيفاهما واحدًا قُبالة الآخر.. أغلق أذنيّ.. لم يعد لديّ ما يمكنني أن أقوله لها.. غير ما قلته ألف مرة ومرة.. أنا لا أرفض ما تودين.. لكن هناك أمورًا علينا التفكير فيها قبل أن نتخذ مثل هكذا قرارات مصيرية.. أنطوي على نفسي.. أحسُّ أنها تُحس بمثل ما أحس به مِن مشاعر الفقد والخسارة.. بي مثلُ ما بكِ يا حمامةُ فاسألي مَن فكّ أسركِ أن يحلَّ وِثاقي.. أهتفُ بها.. كما هتفت بي مرّات ومرات.. أنا الآن وحيد.. أعود إلى غرفتي.. طيفًا مجرّدًا.. أنتظر ما لا يأتي.. يأتي الصباح التالي.. وبعده صباح وصباح آخر.. وأنتظرها.. أن تتصل.. لكن عبثًا انتظر.. تمضي الايام وأنا أنتظر.. رُبّما مثلما هي تنتظر.. أتمعّن في أنحاء شقتي الوحيدة.. أشعر بالخسارة تهمي عليّ من كلّ حائط وسقف.. أشعر أنني الخاسر الاكبر.. وأتابع الانتظار..

***

قصة: ناجي ظاهر

ولأنك أبيت بسطها

ألف يد ويد

صارت تبطش بهم

وتفتك

أحفادك

يا من أبيت بسط يدك

*

كلما...

لاح له غراب

أطلق للرياح

يده المبسوطة

*

عار يلاحقه

لكن...،

هو لا يأبه

مذ استغنى عنها

بوصلة

لقدم

تعشق الزلّات

*

عبثا تحاول

بوصلة

لكنه

آثر أن يخلفها خلف خطوته

المحلّقة

والمتيّمة

باللون القاني

***

ابتسام الحاج زكي

أبكي على (القدس) أم أبكي على حالي

أنا المضاع بعرض الأرض ترحالي

*

أنا اليتيم الذي ما ظل والده

يرعاه منذ جاء للدنيا بأموالِ

*

أنا الصغير الذي قد كان تحمله

أمٌّ.. ولم أحمل بأعمامٍ وأخوالِ

*

الكلُّ مات على أطراف بلدتنا

وبعضهم مات موصوداً بأغلالِ

*

حتى كبرتُ على حالٍ ممزقةٍ

كذلك الناس في المنفى كأحوالي

*

أنا الطَّريد من (الجولان).. من (صفدٍ)

وما أزال بجيلٍ بعد أجيالِ

*

وما أزال بلا بيتٍ ومدرسةٍ

ولا رياضَ زهتْ يوماً بأطفالِ

*

قالوا نعود.. فما عدنا لدولتنا

و لن نعود.. وقد عادت بتدوالِ

*

هذا يقول: لها حلٌّ سيقسمها

للدولتين.. فلا حلّاً على البالِ

*

و لا نرى العُرْبَ يؤلونا ببارقةٍ

فيها الخلاص من الويلات بالحالِ

*

لذا نموت على أطراف غــزّتنا

موت المضحّين بالأرواح والغالي

***

رعد الدخيلي

 

استحلفك غزة بدم الشهادة

ولوعة أم ..تشظى بحضنها..

طفل رضيع...

بزلزال صبرك وعصف الجراح

ثوري سيوفا  لدحر الغزاة

وذري الرقاب كعصف الحصيد

فعزمك شامخ  و كفاح مرير

يا براق نبوءة وعهد أراق

سليل بسالة بإرث النضال

فما نصرك إلا ..مكابدة ولادة..

بمخاض فجر عتيد

ثـــــوري يا غزة ثــــــــــوري

طوفانا غزيرا…

يُغرِق فلول (نتن ياهم)

بدوامة نواح

ومزقي بقايا أحلامهم

بليل اجتياح

فتكبيرة صلاتك يا غزة

طعنات نصر بخاصرة العداة

حتى مروءة حجارتك ..صاعقة سلاح

وذرات ترابك ..صهيل رماح

فكيف يُدنس أريج هواك

واحشاء تلالك ضريح هاشم .

ثــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوري

باهازيج بحة الأقصى "شدو بعضكم*"

وعرس زيتونة

مهرت نعيها

لشجرة القضية

حتى ادمنت نزف البلاد

وبلسمت اغصان عمرها

بضماد كوفية

لتربي أحفاد يُتمها

باحضان بندقية

فمنذ ثمانين عاما وجوى ثأر جدي

معلقا على مرايا جلده...

(أ..س..ر..ا..ئ..ي..ل....................

تيه فقاعة ببحور الهوية)

فكنت القلادة لعاتق الوصية

مفتاح بشارة 

لتقر أرواحك الزكية

ستكتحل بيارات فلسطين

بأثمد نصرك

وسيرتوي ترابك

من سحق أرواحهم

باشواط الهزيمة.

***

إنعام كمونة

.......................

* ترنيمة لختيارة فلسطينية

 

رواية قصيرة جدا

بعد انتهاء مراسيم التشييع والدفن ل (أبو عليجه) من قبل أهالي حي التنك، يتخلف (حنفوش) عند قبر رفيقه واضعا رأسه على القبر وقد هده التعب وأنهكه البكاء والعواء مخاطبا رفيقه:

يا أخي لم تسمح لي الظروف أن أجيب على سؤالك لي، من أنا، وكيف وصلت الى حي التنك ؟؟ سأخبرك بكل التفاصيل التي لا تعرفها عني وأنت في قبرك وقد الحق بك قريبا:

أثناء تجواله برفقة زمرة من مرافقيه ووكلائه في القرية، لفت أنتباه السيد، أنا الجرو ناصع البياض صاحب الغرة السوداء في جبهته، حينما كنت ألعب وأمرح مع مجموعة من الجراء على مرج القمح الأخضر، توقف ترجل من على صهوة جواده، وطلب من مرافقيه أن يحضروني له ليصطحبني معه الى قصره في المدينة، وكان له ما أراد، حيث أسروني قيدوني وضعوني في صندوق سيارته...

قبل إدخالي الى الدار عرضني على الطبيب البيطري لضمان سلامتي من الأمراض، الذي زرقني ببعض اللقاحات الضرورية، وزوده بالأرشادات في طريقة تربيتي وتدجيني والعناية بي في الدار..

أمرالخدم بتحميمي وغسلي جيداً بالشامبو والصابون المعطر، وتخصيص مكان خاص لي وأطعامي، ، مما أثار استغرابي كثيرا هل أنا في حلم أو علم، ماهذه اللحوم وما هذه العناية الخاصة والروائح العطرة، أطعمت الكثير من اللحوم الحمراء والبيضاء، وقد كنت أحلم بعظم مكدود وبعظام سمك ترمى لي من قبل أسيادي الفلاحين الفقراء في القرية، كنت أغتسل في ماء النهر الخابط ولا أعرف معنى الصابون ناهيك عن الشامبو !!!؟؟؟

تتراكم وتتزاحم الأسئلة في رأسي، أشتاق كثيرا للتمرغ برمل الشاطيء الندي واللعب مع أقراني من الجراء، افتقدت كسر الخبز اليابسة وفضلات الرز الأحمر(الحويزاوي) التي قلما تفيض من موائد أسيادي الفقراء، لم أتمكن من التأقلم مع مضجعي الجديد حيث السيراميك اللامع والأضواء البراقة والفراش الوثير، فأصبت بالكآبة وبالتخمة والضنك بسبب الوجبات الدسمة التي لم تتعودها معدتي بعد،وبسبب عدم الحركة، وهذا النعيم غير المسبوق في بيئتي السابقة.

مما دفع سيدي الى عرضي على الطبيب البيطري لمعرفة ما حل بي، فأخبره الطبيب بأني لاأشكو من أي مرض أو عرض لمرض بايولوجي، ولكن يبدو انَّ التغيير المفاجيء في بيئتي هو السبب لما أصابني من الخمول والضيق... نصح سيدي بأطلاقي في حديقة الدار وعدم الأكثار من اللحوم حيث سببت لي سوء الهضم كما قال...

نفذ السيد تعليمات الطبيب وبالفعل عدت تدريجيا الى الحركة واللعب، واعتدت أفراد العائلة وفي مقدمتهم سيدة المنزل الجميلة حيث اعتدت شم عطورها الفواحةالتي لم أشم مثلها من سيدتي في القرية.. التي ربما لم تتعطر الا في ليلة زفافها، فهي لم تعرف سوى البخور والحرمل للعطر والديرم كأحمر شفايف، وطين الخاوة والحناء، لشعر الرأس بدل الشامبو !!

وبمرور الأيام أصبحت أكثر ألفة منتصب الأذنين والذنب رشيق الحركة، أتشمم روائح أسيادي وأألف سكنة الدار من الأطفال والخدم وبعض الضيوف دائمي الحضور الى دار السيد...

كنت أشعر بالبهجة والفرح حينما أرى بعض ناس قريتي ومسقط رأسي، وهم يحملون الهدايا من القرية الى دار سيدهم، مثل طيور الحجل والدجاج والسمن واللبن، والتين والعنب والرطب بمختلف أنواعه وكل في وقته وموسمه حتى قبل أن يتذوقوه هم حيث يرون أنَّ السيد أولى به منهم... أستقبلهم بسرور وبمرح أتشممهم وألعب بين أقدامهم مستعيدا ذكرياتي معهم، أستذكر من أطعمني ومن دلعني ومن ضربني أو نهرني من النساء والرجال ولكني أشتاقهم جميعا وأحبهم جميعا...

يلاحظ السيد والسيده مدى توددي للقرويين دلالةالوفاء والمحبة والذاكرة التي لاتمحى بالنسبة للكلاب كما يقولون...

أقف أحيانا أمام القرويين التعساء وأخاطبهم بالقول:

أنتم محرومون من أكل لحوم الطير والأسماك والدجاج الذي تربونه في بيوتكم ولكنكم تأتون به لهؤلاء المكرشين الأثرياء المتخمين بشتى أنواع المأكولات التي لاتعرفون أنتم اسمائها أو طعمها وشكلها مثل الهمبركر، و الدجاج المقرمش، والبيتزا، والشاورمة... الخ

فيالكم من بؤساء كل ماتصبون اليه كسب رضا أسيادكم الذين كل ما يفعلونه هوالأمعان في استغلالكم وامتصاص دمائكم ودماء عوائلكم، تخشون غضب السيد كي لايطردكم من الأرض أو مضاعفة ديونه الربوية عليكم !!!

ينهرني الفلاحون غير مدركين لما أقول أو ربما يخشون أن يفهم كلامي سيدهم فيغضب عليَّ وعليهم...

لفت نظري زيارة (حياة) أبنة قريتي الحسناء السمراء فارعة الطول زنبورية الخصر بالغة الحسن والجمال زوجة ابن عمها المعتوه، كانت زيارتها للقصر في أيام غياب سيدة القصر وكأنها على علم بذلك، تأتي المنزل لا تحمل غير جمالها الأخاذ تجر عجيزتها الرجراجة بغنج وقد سلبت لب السيد، تأتي بعد أن تبيع الدجاج والبيض والسمك في سوق المدينة...

استقبلها هاشاً باشاً، أتفتل أمامها مشاركا سيدي في انبهاره وأعجابه بها، فتلتفت الي قائلة بغنج "حتى أنته روحك خضره يحنفوش ؟؟؟ ماتشوفلك وحده من هذني الـجلبات الانـﮓريزيات الداير ما دايرك وتﮒضي وطرك وياها"، تقول ذلك وهي تغمز بعينها المكحولة السيد المبهور الذي تأججت نيران شهوته واندفاعه لافتراس (حياة)

يستتقبلها السيد بالأحضان ويمطرها بالقبل بعد أن يصرف الخدم ما عدا الخادمة البنغالية السمراء التي يبدو أنَّها تعلم علاقة سيدهابحياة، فتعدلهاالحمام المجهز بأنواع من الشامبوات والعطوروأدوات الزينة فوروصولها المنزل،، تهيء المخدع الخاص للقاء السيد بعشيقاته في زاوية من الحديقة، فيدخل السيد وحياة وتوصد خلفهما الباب...

كنت أقعي خلف الباب وأظل أنبح محاولاً أقتحام الغرفة، تثيرني أصوات الغنج والتهتك الجنسي المتسربة من داخل الغرفة، تماثل ماأسمعها بما يحدث بين السيد وسيدة المنزل حينما يختليا في غرفة نومهما، فأكون مصدر أزعاج للسيد وعلى الرغم من طردي وأِبعادي عن باب الغرفة ولكني أعود ثانية، وحتى عندما يتم سجني في مخدعي الخاص لا أسكت الا بعد أن تغادر(حياة ) المنزل فكنت أخاف عليها من السيد فربما كان يؤذيها...

وغالبا ما تخاطبني (حياة ) قائلة:

- مالك يـ(حنفوش) دومك تنبح تخاف لو تغار علي من السيد، ألا تعلم أني في غاية الحرمان بسبب زوج معتوه وعاجز، وعلى الرغم من عجزه يسومني شتى أنواع العذاب ويلقي علي كل أعباء ومصاريف المنزل... لا تلومني لأني مظلومه، حرموني من حبيبي وزوجوني بالقوة هذا المعتوه لأنه ابن عمي...

- أهوهوبوجهها وأهز ذيلي وأذنيَّ أظهرعدم قناعتي بما تقول مخربشا الأرض بمخالب قدمي ناثرا التراب صوب السيد الذي يتغاضى عني ضاحكاً

-  اِسمع يـ(حنفوش) ردا على ظلمهم لي وحرماني من حبيبي قررت أن أنتقم من أهلي وعشيرتي لأخونهم مع من يستغلهم ويظلمهم، هذا السيد الجشع المتصابي، لاأحبه وغير مغرمة به على الرغم أنَّه يدللني ويغدق علي المال والحلي ويستجيب لكل طلباتي ويروي ضمأ جسدي... أفهمت ياحنفوش...؟

- هو هو هو! أهوهو وأنهش الأرض بقدميي لأسرح بعيدا مقارنا بين واقع حياة أنثى الكلب وأنثى الأنسان، فأنثى الكلب تعيش بكل أحترام ومساواة بين قطيع الكلاب، ويعود لها القرار الأول والأخير في اختيارها لشريك متعتها في مواسم التزاوج،حيث نتتبع نحن قطيع الكلاب الكلبه من مكان الى آخر، فان سارت نسيروأنْ توقفت نتوقف، نقدم لها مختلف مظاهر الطاعة، ويبرز كل واحد منا أمامها مهارته وقوته وجمال جسده، وهي تتفحص كل واحد منا. حتى يقع اختيارها أخيراً على أحد منا فيكون عريسها المفضل دون أي أعتراض أواستياء من بقية ذكور الكلاب ، فيتركون العريسين يعيشان متعتهما دون تدخل أو تطفل أيٍ منهم عليهما بل يقومون بحراستهما وحمايتهما من تطفل بني الأنسان عليهم، وبذلك نحن الكلاب أكثر تحضرا بما لا يقاس مع همجية ووحشية وقهر الأنسان الذكر للمرأة الأنثى، التي تجبر على الزواج من مايختاره ذويها عريسا لها، وأنْ تمردت تعرضت للقتل الوحشي بدعوى غسل العار وهو عار الذكور وليس الأناث..فماذا عساني أقول لك ياحياة ؟؟

حدث في أحد زيارات (حياة) وأنفراد السيد بها كالعادة في غرفته الخاصة في حديقة المنزل، بعد أنْ استحمت وتبرجت وتزينت فبدت عروسة بجمال يخطف الألباب، حدث أنْ عادت زوجة السيد الى المنزل لأمر ما خلاف المتوقع، لفت نظرها نباحي وأنا واقفٌ أمام باب الغرفة، وعندما شاهدت سيدتي أزداد وأرتفع نباحي وخربشتي للباب أدعوها لتأتي كي ترى ما يجري، فأتت مسرعة أِلي لتعرف ما داخل الغرفة وما الذي يثيرني...

- إهدأ ! إهدأ يا(حنفوش) مابك هائج مضطرب تنحَ عن الباب لأرى ما يحصل... فتحت الباب فكانت الصدمة الكبرى زوجها وحياة عراة وفي وضع فاضح لايمكن السكوت عليه، لطمت رأسها وصرخة وسقطت بباب الغرفة مغشيا عليها...

- فأخذت أحوم حولها في محاولة لأيقاظها وأنا في غاية الاستغراب متسائلا: هل قتل السيد حياة؟؟

أرتدت حياة ملابسها وغادرت القصر على عجل هاربة من الفضيحة كما تقول، في حين صب السيد جام غضبه عليَّ موجها لي الضربات والركلات بقدميه عقوبة لفعلتي.. طردني من الدار ومنعني من الدخول مصدراً أوامره للخدم بعدم السماح لي بالعودةوأذا أمكنهم قتلي والخلاص مني...

ما كان يفترض بك ياسيدي جلب كلب من القرية العراقية، بل تجلب كلبا غربيا تطبع على مثل هذه المشاهد في بيئته،ولم يحدث لك مثل هذه المصيبة هكذا خاطبه كبير الخدم....

أجابه السيدلاوقت لهذا الكلام الآن.. المهم أطردواهذا الكلب الحقيروأن تمكنتم منه فاقتلوه !!

- بصعوبة بالغة جررت نفسي زحفا، لألقي بجسدي المدمى تحت ظل شجرة على رصيف الشارع لألعق جراحي، وما أصاب عظامي من رضوض على أثر ضربات وركلات السيد والخدم... اسودت الدنيا في عيني، وأنا لاأدري ماذا أفعل والى أين أذهب وكيف لي أن أعيش في الشارع بعد أنْ أعتدت العيش في دلال وأمان..

لاحظت سيارة أسعاف تنقل أحدهم من القصر رجحت انها السيدة التي أصيبت بالأنهيار وفقدان الوعي مما استوجب نقلها الى المستشفى...

وبذلك فقدت مساندتها لي وفقدت أي رجاء وأمل في العودة الى الدار.. اغتسلت في أحد السواقي الجارية، لأطهر جسدي من بعض الدماء المتخثرة، ولكي أستعيد لياقتي في التوازن والحركة... أسير مترنحا متعب الجسد والفكر ، أسأل نفسي:

- الى أين تتوجه (ياحنفوش) بعد هذا الأذلال والأذى لا لشيء سوى أنك رفعت صوتك محتجا على فعل الرذيلة والخيانة وحاولت تخليص (حياة) من أذى السيد؟

- هل يمكنني العودة الى قريتي؟؟

-  ولكن كيف وبأي وسيلة ومن يدلني عليها، لا وألف لا فقد يكونون أشد قسوة عليَّ من السيد نفسه،ولا يستبعد أن يتبرع أحدهم بقتلي تقربا وتزلفا الى السيد، فهم لا يستطيعون مخالفة أوامره فكيف بكلب مثلي؟؟

- هل يمكنك (ياحنفوش) البقاء متسكعا في هذا الحي، فسلال النفايات لبيوت الحي متخمة بأنواع المأكولات من فضلات سكان الحي الأثرياء وولائمهم الباذخة... ولكنك تعلم جيدا أن لاحياة للكلاب السائبة في مثل هذه الأحياء الراقية، فستقتل فورا حينما لايعرف لك سيد من أهل الحي...

- أدخلت بوزي بحذر في أحدى سلال النفايات وأخذت ألتهم بقايا اللحوم والسمك لأسد جوعي بعد كل ماجرى علي وأمضيت ليلة كاملة بدون أكل، خلال أنهماكي في الأكل سمعت صرير باب تفتح حيث يبدو أنَّ صاحب الدار شاهدني عبر الكاميرا وخرج الي شاهراً سلاحه الناري لقتلي... فأسرعت بالفرار للتخلص من الطلقات التي تلاحقني... تسلقت جدار أحد الحدائق، ولكن ما أن دخلت حتى استقبلني حارس الحديقة بالصياح ورمييّ بالحجارة فضاقت بي السبل وقد أصابتني أكثر من حجارة، أخيرا وجدت منفذا يقود الى الشارع فهربت من مطاردة صاحب الدار و الحارس، لأدخل في لعبة خطرة مع السيارات التي تسير بسرعة البرق في شارع عام، حيث تمنيت لو تدهسني أحدها لأتخلص مما أنا فيه من خوف ومطاردة وعذاب، وعنف بشري غير مبرر، ولا أدري أسأل من قال بنجاسة الكلاب؟؟

- ولماذا الكلب نجس على الرغم من تفانيه في خدمة الأنسان ووفائه الذي أصبح مضرب الأمثال عند البشر، فهل الوفي المخلص نجساً؟؟.

دعك من هذه التساؤلات وتدبر أمرك الآن...

- أسأل نفسي الآن أين المفر يا (حنفوش)؟

- لامكان لك الا باللجوء الى الأحياء الشعبية في المدينة حيث الكلاب السائبة حتى المسعورة منها تسرح وتمرح في الشوارع دون رقيب على الرغم من شحة الأكل في مثل هذه الاحياء، ففضلات السكان قليلة جداوحاويات نفاياتهم خالية من اللحوم الحمراء والبيضاء،ليس كما في أحياء الأثرياء، بل وجود بعض العظام المكدودة وكسر من الخبز اليابس المتعفن أحيانا وربما بعضا من الرز والمرق ومزيدا من العظام بعد مآدب الأعراس و(الفواتح)، حيث تتنافس الكلاب والقطط مع المتسولين على براميل النفايات، وغالبا مايدخلون في عراك دامٍ للفوز بعظمة بائسة لسد رمق الأنسان أو الكلب أو القط من الجوع والحرمان...

- أسرع الخطوات محاولا تجنب مخاطر الطريق، يممت وجهي صوب الحي الشعبي المسمى بحي(التنك) على مشارف المدينة حيث تطوق المدن عادة بمثل هذه الأحياء البائسة المخصصة لسكن الفقراء والمنبوذين والمهمشين وأكثرهم من المهاجرين من الريف،بسبب الحروب أو الجفاف أو ظلم الأقطاعيين وتعسفهم أو الهرب من ثأر عشائري...

- أودع القصور والفلل الفارهة، أودع الأضواء البراقة والحدائق والنافورات، أودع الشوارع المعبدة النظيفة والسيارات الفارهة البراقة... وما أن أقف على مشارف حي (التنك) حتى تستقبلني عاصفة رملية مشبعة برائحة العفونة، أجتاز تلال النفايات التي وجدت الناس والكلاب والقطط والجرذان ينبشونهابحثا عن مخلفات نافعة، قطعة أثاث مستهلكة، قناني فارغة تصلح للبيع، بقايا فواكه نصف عفنة، أطعمة منتهية الصلاحية غالبا ماترميها الجهات الرقابيةالصحية في هذه المكبات لعدم صلاحيتها للأستهلاك البشري، طبعا بمقاييس الحكومة والاثرياء والدائمة الصلاحية بالنسبة للفقراء...

- تجاوزت تلال العفن وجمهرة النباشين متوغلا داخل الحي عبر أزقته الضيقة المأيسنة وبيوت التنك المتشابهة فيما بينها بحيث يصعب عليك التمييز بين بيت وآخر الا من خلال ماركات الشركات المثبتة على صفائح التنك الخارجيةكعلب الزيت أوالسمن أو الأصباغ الخ.

حال تجاوزي الأزقة الضيقة حيث انفتحت على ساحة مدورة تشبه مستودعا للسكراب والأطارات المستهلكة وبعض الأجهزة التالفة ووو، حتى ظهر أمامي قطيع من الكلاب ناتئة الأضلاع مكشرة الأنياب ما أن شاهدتني حتى دق لديها جرس الأستنفار والهياج والنباح، فهاجمتني من كل الأتجاهات كما يهجم جنود يقظين على عدو متسلل عبر الحدود، أِنها حدودهم ولامكان لأي كلب غريب الدخول اليها، فكل قطيع له محمية خاصة به لايسمح للآخرين بالدخول أِليها والغلبة للأقوى، تمكن بعضهم غرس أنيابه في ظهري وبطني، ولكني استبسلت في الدفاع عن حياتي وتمكنت من جرح وجدع أذان بعض الكلاب الهرمة على الرغم من كوني غير متمرس في خوض مثل هذه المعارك، كنت أتطلع الى أي ثغرة تمكنني من الهرب والخلاص من طوق الكلاب العدوانية، متسائلا مع نفسي:

- يا (حنفوش) لو تفهمت عدوانية البشر وخوفهم منك فما هو سبب عدوانية ابناء جنسك من الكلاب ؟؟ فهل الكلاب تحاكي البشر في صراعاتهم وحروبهم الدامية فيما بينهم لفرض السيطرة ونهب ثروات بعضهم بعضا والغلبة للأقوى، على الرغم من أنَّ ثروات الأرض تكفي كل البشرعلى الكوكب لو كانت هناك عدالة في التوزيع وسيادة السلام بين الشعوب... وأنا في هذه التداعيات التي أشعر أِنها أكبر من قدراتي العقلية لفتت نظري كلبة سوداء تهوهو بما معناه ماذا يفعل هذا الكلب الحليوه ابن الدلال هنا في حي الجوع والحرمان؟؟؟

- ياليتك تعلمين أيتها الجحمرش الهرمة ماذا جرى لي ومن أين أتيت وما الذي أوصلني الى هنا لأرى وجوهكم القذرة، ألا يفترض بكم بدافع الجنس الواحد تفهم حالي وتفهم قضيتي قبل أن تهاجمونني بهذه الوحشية دون سبب حتى قبل أنْ أُنافسكم على هذه النفايات القذرة؟؟

أخيرا وجدت فرصتي في الهرب مهدل الأذنين وذيلي بين رجلي، مخذولا خائفا لاأعلم أين أذهب، وجدت غرفة خربة بلا أبواب فآويت أِليها لألتقط أنفاسي وأشعر بالأمان وألعق جراحي من عظات وأنياب أبناء جنسي، فأخذتني سنة من نوم لأستعيد بعدها عافيتي فلم أستيقظ من نومي أِلا عندما مالت الشمس نحو الغروب، وقد مسني الجوع، استيقظت نفضت فروتي مما علق بها من الأوحال وقد ترقرت الدموع في عيني، انسللت من الخربة وأخذت أدور بحذر كبير في الأزقة باحثا عما أسد به رمقي فيما أعثر عليه في براميل وحاويات النفايات التي أغلبها خاوية، على حين غرة سمعت صوت فحيح وأنين في أحد الخرائب تقدمت نحوها بحذر كبير فاذا برجل ينكح آخر من جنسه وهو يتوجع دون أهتمام الناكح بمعاناة المنكوح ضخم الجسم، أقتربت منه وفاجأته بغرس أنيابي في مؤخرته المكشوفة فأصابه الهلع وأفلت المنكوح منه هاربامكشوف المؤخرة، طارد الرجل الناكح ممسكا مؤخرته،مهاجمني بأحجار فأفلت منه في أحد المنحنيات و أنا أسأل نفسي:

- أهذا هو مايسمى بالمثلية الجنسية والمثليين واللوطين المنحرفين، فما أسخف الأنسان وما أوضعه وهو يقوم بمثل هذه الممارسات، ويقال انهم شرعوا مثل هذا الشذوذ في بعض البلدان (المتحضرة جدا)، فنحن بنو الحيوان لانقوم بمثل هذا الفعل ابداً، فما أحقركم أذن؟؟

أثناء سيري خائف جائع أتلفت يمينا وشمالا خشية من الكلاب ومن البشر، لفت نظري شخص أشعث الشعر ممزق الثياب يعلق في رقبته خرج من الخيش ويمسك بيده عصا غليظة يهش بها عدواً موهوماً فربما يتوهم انَّه يهاجم من قبل أشباح ووحوش فيهشهابعصاه لطردها وتخويفها هذا كنت أنت يارفيقي (أبو عليجه)...

ما أن رأيتني حينها حتى توقفت عن الهش بالعصا وأخرجت من خرجك رغيف خبز رميته الي وكأنك كنت تشعر بجوعي، طالبا مني الأقتراب وعدم الخوف والأكل بأمان، استغربت كثيرا ووقفت حذرا متوجسا خيفة أنْ يكون رغيف الخبز مصيدة تريد الأيقاع بي وايذائي، ولكن ملامح وجهك وحركاتك وتوسلاتك بعثت الطمأنينة في قلبي فأخذت أقترب شيئا فشيئا منك، تناولت رغيف الخبز وأخذت ألتهمه بحذر، فخاطبني:

مالك خائف أيها الأخ، مالك مرعوب، أرى حالك كحالي طريد شريد وحيد، لاتطيقوهم ولايطيقونك، فربما اتبعت طريق الحق وعدم السكوت على الظلم، فأن كنت كذلك فأننا غريبان هاهنا (وكل غريب للغريب نسيب)...فكم أنا بحاجة الى رفقتك أخي المظلوم لنكمل مشوارحياتنا معاً وسط كل هذا الظلم من ابناء جلدتنا وغيرهم.

أخذ تيهو أهوه بعد أن أكملت أِلتهام الرغيف الثاني وشعرت بالشبع والأرتياح، اقتربت مني وأخذت تمسح على رأسي وتتفحص جراحاتي وكدماتي بحنان وعطف كبير لم ألمسه من أنسان قبلك، استلطفت شكلك ونباهتك وعطفك عليَّ... فقررت أنْ أكون رفيقك أينما ذهبت وأينما حللت ولايمكن أنْ يغدر بك الكلب كما غدر بك أخوتك بني الأنسان، فذكرت لي ما مرت به من السجون والمعتقلات والمطاردات وأنت المهندس الكفوء وصاحب براءات الأختراع والمبادرات والوطني الشريف، ولكنك لم تسكت على ظلم ولا تعسف من السلطات الحاكمة ولا من المجتمع المتخلف بقيمه وتقاليده الظالمة المتخلفه فعاقبتك السلطة ونبذك المجتمع ألا ماندر من الأحرار والشرفاء والأوفياء الذين يعطفون عليك ويتعاطفون معك...مسحت دموعك بطرف كمك المتسخ واصطحبتني وسرنا معا، وخلال رفقتنا الغريبة هذه تعرضنا الى الكثير من التنمر والأيذاء من قبل الصغار والكبار وبعضهم يهتف ( وحيد أبو عليجه حبسه الشرطي وخانه رفيجه )و (وحيد ابوعليجه ما بلع ريجه )، حيث يصفونك: بالمجنون وأحيانا يرمونك بالحجارة فتهشهم بعصاك ولكن دون فائدة، كنت أهاجمهم وأتلقى الضربات بدلا عنك... كانت تنتابك يارفيقي نوبات من اللامعقول فتصيح بأعلى صوتك وكأنك مسحراتي (ياناس أكعدوا، سرقت بيوتكم ونهتكت أسراركم) (ياناس اكعدوا سرقكم الحكام وخدركم الأمام فالى متى تبقون نيام)...وكنت غالبا ماتتعرض للسجن والضرب من قبل جلاوزة السلطة والمتزمتين من المتدينين حتى أن بعض أهل العمائم طالبوا بهدر دمك وقد أعتدت أناعلى تقلبات أحوالك،أزداد أعجابا وحبا وتعلقا بك يوماً بعد يوم، أقابل مراكز الشرطة وأظل أعوي ليل نهار عندما تتعرض للأعتقال، ولا أهدأ الا بعد أطلاق سراحك، وقد أخذ الناس يعلمون بسجنك واعتقالك في المركز الفلاني والسجن الفلاني تبعا لتواجدي وسماع عوائي، وكانوا معجبين بوفائي لصاحبب وغالبا ما يلقون لي الطعام تعاطفا وتضامنا معي حينما تغيب...

كان بعض الناس ومن مختلف المستويات يصفونك انت (أبو عليجه) بالأستاذ والحكيم وبهلول زمانك، على الرغم من بعض تصرفاتك التي تدل على اللاعقلانية والجنون ويرى البعض انها نتيجة للسجون وماتعرضت له من التعذيب والأذى من قبل السلطات الحاكمة، ويعتقد البعض أنك تفتعل وتمثل دورالمجنون والمهبول والصعلكة، جسورا غير هياب توجه أقذع الشتائم وأبشع الأوصاف للرموز الحاكمة ولأدعياء الدين من الكذابين والمزييفين ووعاظ السلاطين، وقد أشاعوا عنك انَّك شيوعي ملحد لاتؤمن بالله وحرضوا الناس على قتلك، وكنت غالبا ماترد عليهم بترديد قول مظفر النواب (انبئك عليا... لوجئت اليوم لقتلك الداعون اليك وسموك شيوعيا).

تزداد العلاقة حميمية بيني وبينك نتيجة للطفك وطيبتك واهتمامك بي، نأكل سوية مما يمنحنا الناس ممن يعرفون حقيقتك ويحترمونك ويتعاطفون معك فأحبوك وأحبوني بأعتباري رفيقك الوفي، كنا نفترش الأرض وننام في بعض الحدائق صيفا وغالبا ماأضع رأسي في حضنك وأغط في نوم عميق مع انّي حذر لأي حركة ومحاولة لايذاءك، وكنا ننام في أحد الخرائب شتاءا.

أحيانا أقوم بجولة حرة بين الخرائب ليلا أو نهارا بعد أن تشعر أنت بالتعب والأرهاق وأحيانا تطلب مني أن تختلي بنفسك للتفكير والتأمل،وأثناء أحدى الجولات أتيت اليك مسرعا أدعوك الى رفقتي هوهوتي فقد لاحظت أمرا عجباً، أستجبت لطلبي وتبعتني الى خربة حيث كان شاب يمارس الجنس مع أتان !!!، ضحكت مهونا الأمر عليَّ، وقلت لي: ياحنفوش أخبرك بما هو أغرب فأحدهم أجتنى أربع أتن في خربة وجلس في بابها كقواد لايسمح لأحد بممارسة الجنس معها ألا بعد دفع مبلغٍ من المال قد لايتجاوز الدينار الواحد وقد يسمح لأحدهم بالممارسة والدفع بالمؤجل وحين ميسرة!!!، مخاطبني:

ياحنفوش مشكلة الجنس والكبت الجنسي أحد الأمور التي يعاني منها الأنسان خلال فترة مراهقته وبلوغه، والأنسان يمارس الجنس في كل الأوقات وفي كل الفصول، وليس مثل الحيوانات لها موسم محدد للتزواج، وقد مارس الأنسان المكبوت الجنس مع الأطفال القصر ومع بعض المحارم أحيانا ومع العديد من الحيوانات كالأبقار والأتن والماعز والكلاب أيضا، كما أنك ستشهد ممارسة الجنس بشكل مبتذل بين رجل وأمراة في أحقر الأمكنة ومنها الخرائب والقبور وحتى في دورات المياه ووو.لم يكن فرويد على خطأ حينما أعطى أهمية كبيرة للدوافع الجنسية كمحرك لسلوك وتصرف الأنسان، تمسح على رأسي وتعود برفقتي الى الخربة بعد أن تدرك عدم معرفتي وفهمي من هو فرويد وماذا قال، متأملا أني فهمت ما قلته لي حول الممارسات الجنسية لدى الأنسان وأفهمتني أن لاأعير أهتماما لمثل هذه الممارسات حيث سأرى منها الكثير وعلى وجه الخصوص في الأحياء الفقيرة... وماذا عساك أنْ تقول ياحنفوش حينما ترى معارض (العراة) والأباحية وشرعنة المثلية الجنسية في العالم (المتحضر جدا)؟؟!!!

أرجو أن لاتمل من سردي لعلاقتي بك والأحداث التي مررنا بها سوية لأنك تعرفها ولكني أريد أن أعيدها على مسمعك فأرجو أن تحتملني فربما لا أستطيع المجيء اليك ثانية.

كنت تجالسني وجهاً لوجه وتحدثني حول واقع الحياة ومفارقاتها وما يعيشه أغلب الناس من كبت و ظلم وقهر مما يولد الزيف والشذوذ وتردي القيم من كذب وخيانة وغدر وتفسخ أخلاقي مريع... أصغي اليك متفهما ما تقول سواء بالكلام أو بالأشارة وحركات يديك وتبدلات خلجات وجهك وحركات عيونك...

وذات ليلة قمراء اصطحبتني معك الى المدينة دون أن أعرف سبب زيارتك ودون ان أعرف ماذا تريد من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر فربما الحنين الى مكان سكنته وطفولتك واستعادة ذكريات عزيزة عليك، دخلنا المدينة في الثلث الأول من الليل والشوارع تغص بالناس والسيارات وعناصر الشرطة والأمن كالعادة في تواجدهم الدائم في الشوارع والساحات... تجولنا سوية مستعرضين واجهات بعض المحلات التي تعرض مختلف البضائع من السلع والملابس، والمطاعم الفخمة التي تفوح منها روائح القلي والشواء يسيل له اللعاب، استغربت حينها انّكَ تمتلك بعض النقود فابتعت (لفتين) من الهمبركر واحدة لك والأخرى لي، وبعد ان أكملنا أكلنا أستأنفت السير حتى وصلنا أحد أكبر ساحات المدينة يتوسطها تمثال كبير للحاكم يعتلي دكة عالية تحيطها الأزهار والأضواء، تقدمت نحو الدكة وجلست تحت النصب، وبعد قليل فاجأتني بالنهوض فأرخيت سروالك ورششت تمثال الرئيس بنافورة بولك الساخن، ففعلت مثلك فنحن الكلاب نفضل دائما ان نتبول على المرتفعات كبقية الكلاب، وقد ظننت انَّ هذا المكان مخصصا للتبول، وماهي أِلا لحظات حتى توجهت نحونا سيارات الشرطةوسيارات مدنية يستقلها اناس مسلحين..

تم ألقاء القبض عليك وأنت تضحك ضحكة مجلجلة عالية وكأنهم يدغدغونك ولايضعون القيود في يديك ويمطرونك ضربا بأيديهم وبأخمص مسدساتهم وبنادقهم حتى أدموك،زجوا بك في بطن السيارة وانطلقوا سريعا الى مكان مجهول، في حين هربت أناتلاحقني طلقاتهم النارية لمشاركتي أِياك في التبول على الرئيس !!!

أختبأت في خربة قريبةلأراقب باستغراب عملية غسل وتنظيف وتطهير التمثال بواسطة خرطوم مياه سيارة أطفاء حضرت في الحال !!!

تبخر الناس من الساحة فبدت خاوية موحشة،سيطر الهلع والخوف عليّ نتيجة قلقي الكبير حيث لايمكنني معرفة ماذا سيحل بك وكم وددت أن أسجن معك لأعرف ما يجري لك، بعد أنْ استعدت توازني وأمنت من خوف بعد أنْ توارى المسلحون فقد أنهكني الجوع والعطش، أتجهت صوب حاوية نفايات كبيرة على مشارف الحي الكبير قفزت الى داخلها وأخذت أنقب في محتوياتها، وقد عثرت على ما يسد جوعي لوفرة ما فيها من فضلات غذائية فقد كانت بالقرب من مخيم (فاتحة) لأحد الوجهاء، لعقت من ماء أحدى البرك في الشارع، ثم قررت العودة الى حي التنك بعد أنْ يئست من عودتك، دخلت الحي دون سند أو حماية، لاأدري ماذا سأقول لمحبيك حينما يروني بمفردي وكيف أفهمهم ماحل بك وكيف اخذتك الشرطة ولماذا..؟

عند دخولي الحي التف حولي بعض معارفك متسائلين عن مصيرك؟

هوهوت لهم بمرارة حد العواء المفجع والدموع تفيض من عينيي ألما على فراقك ولما جرى لك، تركتهم بعد أنْ فهمت انهم أدركوا أن هناك مصيبة حلت بك، وهم يعلمون أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها (أبو عليجه) للخطف والسجن والتعذيب بسبب تطاوله على المسؤولين بمختلف المستويات ولكنهم لايتوقعون ما حدث هذه المرة...

امتنعت يارفيقي عن الأكل حزنا عليك بعد أن انتابني اليأس من عودتك، مكثت في الخربة أترقب عودتك حيث اعتادنا أنا وأنت أن ْ نؤوي اليها بعد جولاتنا في أزقة الحي، في اللية الرابعة من الفقد فوجئت بسيارة تقف قرب الخربة وترميك جثة هامدة، فقد كنت عاريا مبتور العضو الذكري واللسان،مشوه الوجه، مقطوع اليدين، طرز جسدك بعدد من الطلقات النارية والطعنات الهمجية، وكأنهم يرسلون رسالة الى أهل الحي بأن كل من يتطاول على فخامة الرئيس سيلقى نفس هذا المصير...

تشممتك وذرفن دموع الألم، وأخذت بالعواء المرالمفجع بأعلى صوتي، فأخذ الناس يتجمهرون في الخربة ليطلعوا على الفعل الشنيع الذي ارتكبته السلطة بحق أبو عليجه، بلغ بهم الأستياء الصامت منتهاه وقد ذرف البعض دموع الحزن والحسرة على المصير المأساوي لرجل جسور غيور حكيم وعالم فذ قد تجاوز كل خطوط الخوف في مقاومة ظلم وتعسف وقهر السلطة والمجتمع...

أصدرت مديرية الأمن العام بيانا الى المواطنين تحذرهم من كلب عدواني مسعور (أبيض اللون في جبهته غرة سوداء) مطلوب حيا أو ميتا على من يقتله أو يمسكه تسليمه الى مقر المديرية وله جائزة مجزية لتخليص الناس من شره وعدوانيته...

بعد ساعات من الأعلان وقف الناس بالطابور أمام مقر المديرية وكل منهم يحمل كلبا مقيدا أو مقتولا أملا في الحصول على الجائزة، وقد حصلت معارك دموية بعضهم بعض للفوز بالكلب المطلوب طمعا بالجائزة، شعرت المديرية بالحرج فأين ستذهب بهذه الكلاب وكيف لهم معرفة الكلب المطلوب ولمن ستعطى الجائزة، لم تتوقف طوابير الناس من رجال ونساء وأطفال وكل منهم يظن أنه من أتى بالكلب المطلوب أصبحت أمام الدائرة صومعة من الكلاب، فاضطروا الى وقف عملية البحث عن الكلب ولفقوا خبر القاء القبض عليه في أحدى حدائق المدينة وقتله شاكرين للمواطنين تعاونهم مع الجهات الأمنية...ثم حملوا الكلاب كلها الحي والميت منها في سيارة مكشوفة وجرى دفنهم في حفرة كبيرة خارج المدينة...

واراك الناس الثرى في مقبرة المدينة بصمت خوفا من عيون الجواسيس، رافقتهم الى مثواك الأخير، رابضا عند قبرك عاويا باكياً ملتاعاً.

بعد أن انتهى من سرد حكياته لرفيقه توارى حنفوش عن الأنظار، في صباح اليوم التالي وجد عمال القطار وبعضهم من سكنة حي التنك جثته مهروسة على سكة القطار...فقرر أحدهم دفنه الى جوار قبر رفيقه (أبو عليجه).

***

حميد الحريزي - العراق

 

ألف آهٍ...

يافلسطين الجريحةْ

يغمِدُ الأعداءُ في

رئتيكِ باروداً

ليختنق الوصول...

وتَنْدَلقْ

أصوات شارعنا

فَتَذْرُوهَا

رياح الإفكِ..والأعوانِ

في كل شريحةْ !

كي لا نُوَاجِهَ...

أونُجَابِهَ...

أو نُقَاوِمْ

ونظل حَمْقَى كـ(قمَّـةٍ)

فَقَدَتْ بكارتها...

بلاشَرَفٍ تقودُ إلى الولائمْ !

فنموتُ إما بحسْرةٍ..

أو بالفضيحةْ !

*

ألف آهٍ..

مرةٌ أخرى

وأخرى تُضْرِمُ (العربي)

إذا العربي مَدَّ رِجَالَهُ سيفاً

لِيَفْلَقَ هَامَةَ الكفرِ القبيحةْ !

*

ويَغسِلَ عارنا المُمْتَد...

يمحو قُبْحَ

ماخلَّفْ لنا الأُجَرَاءُ

من خُذْلانِ

في أوطاننا اللامُسْتريحةْ !

*

فانهض إذن ياصاح

ولْتَحْمِلْ (فلسطيناً)

وبسم الله:

فلتَظْرِبْ بموتٍ من حديدٍ...

أوبِحَرْفٍ من قريحةْ !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

نوفمبر 2023 م

كنا معا على جسر الخوف

يغزونا وهم الانهيار

حين نبتت بذرة البراءة في دواخلنا

سرنا حثيثا حثيثا نخيط جراح الوطن

تملكتنا رغبة الانتصار بعويل الصمت

جمعنا شتات الصراخ

وألقينا على فوهة المدفعية

أبناؤنا، قلاع الوطن

على صدورنا تميمة أجدادنا،

والأكف مخضبة بدماء الأرض،

صرخاتنا تدوي في العروق

تنسج مشاريع شهداء

بعد صحو، التفتنا، أراضينا خراب

ونعيق الغربان على الجثث الثاوية في العراء

صخب الريح يكفن موتانا

الأشجار اليابسة تصلح وقفتها بشموخ

على البيارق وَهْمُ الحياة

على البيارق كل الحياة.

*

كل هذا الخراب -

بشموخ، الأشجار العارية

كفنا للشهداء !

***

بقلم: صباح القصير - كاتبة من المغرب

في طريق ذهابي للعمل صباح يوم الخميس، فتحت اليوتيوب على أغاني التسعينات وبداية الألفية، وضعت السماعات ورفعت الصوت لأعلى شدة متجاهلة الألم المزمن في أذني منذ سنوات أجاهد النعاس إلى أن أصل بعد 45 دقيقة ..

أعادتني تلك الأغاني إلى فترة المراهقة وماقبلها بقليل. وكالكثير غيري تلك المرحلة هي الأكثر ظلامية على قلبي.

كانت ذاكرتي حاضره مع كل أغنية وبتفاصيل شديدة الدقة. ماذا كنت أرتدي قبل 23 عام برفقة صديقاتي في الشاليهات، ملابسهن، ضحكاتهن، المحادثات التي تدور بيننا والتي معظمها يدور حول تعليقات على شكلي، ملابسي، طباعي الغريبة، مزاجي الحاد والذي كثيراً ما كان سبباً في تنمر الجميع تلك الفترة، لم يتقبله أحد ولم أشعر مطلقاً أن ثمة من يتقبلني كما أنا دون محاولة نصحي أو تغييري أو مقارنتي بفلانه الفرفوشه، وفلانه المؤدبة اللبقة في التعامل .. وفلانة الدلوعة.

لم يجمعني بالبنات حديث ولا إهتمام ولا هواية جميع أحاديثهن عن علاقاتهن الغرامية وعدد الشباب الذين عرفن وحكايات كنت أراها مبتذله، مبالغه وتحمل الكثير من التناقض ..

لم أكن متصله عاطفياً بأي شيء ولا بأي شخص وكأني أسير بشكل مستمر فوق فوهة لشيء ما غامضاً ومظلماً يسحبني إلى اللامكان. يبتلعني بداخله كلما حاول أحدهم أن يكسب المجلس على حساب التنمر علي مازلت أجهل للآن لماذا قد كانوا يفعلون ذلك، لماذا كنت مثار للتنمر والتعنيف والإستهزاء؟، لماذا لم يفكر أي أحد بإيقافهم؟ لماذا لم أوقفهم بدوري؟ بل مما يزيد الأمر سوءاً هو أنني لا أبكي مطلقاً كل ماكنت أفعله هو الإنفجار بنوبة غضب عنيفه دائما ما تنتهي إما بالتوبيخ أو بخسارة علاقة ما بحياتي ..

على خلاف البنات حولي فكل ما كان يجذبني كذلك مختلف..عشقت صيد السمك أمضي ساعات قد تطول إلى ست أو ثمان ساعات أمارس هوايتي لكني لم أقوى قط على نزع الصنارة إذا ابتلعتها سمكة والتي تتطلب سحبها بقوة لنزع أحشاء السمكة من الداخل، لم أحتمل فكرة تعذيب كائن حي بهذه الطريقة فأنتظر حتى تتوقف تماما عن الحركة لأجنبها كل ذلك الألم..

هذه الحساسية النفسية كانت مثار للسخرية خاصة من أخي الأكبر وقد طلب مني بالفعل التوقف عن الصيد اذا كنت غير قادره على تحرير سمكة واحدة على الأقل لكني لم أفعل..كنت أفضل دائما الصيد في الليل بعدما يهدأ الموج ويرحل عفاريت الدبابات البحرية حيث أن النهار مضطرب مفعم بكل ما يجبرني والأسماك للهروب إلى الأعماق.

في إحدى المرات قررت الصيد في النهار وفي وقت الذروة، كان الجميع يراقب توترت كثيراً وفجأة، اصطدت سمكة كبيرة فضية اللون من نوع " سلطان إبراهيم"

كان إنعكاس ضوء الشمس على قشورها ساطع وكأنها مرآة وكفيل بأن يجذب أنظار الناس إلي لأن الصيد في مثل تلك الظروف نادراً أن ينجح.. أثناء سحبها على السطح علقت بين صخرتين، ومن جديد لم أمتلك من القسوة مايكفي لإنتزاعها من بين الصخور فبكيت بشدة والجميع يسخر.

أتى شاب سألني عن سبب بكائي فأخبرته ضحك ومسح دمعتي بإبهامه.

تسمرت في مكاني أنظر كالمسحورة، هذه المرة الأولى التي يكترث أحدهم لأمري أو هي بالأصح المرة الأولى التي أسمح بها لأي إنسان أن يعاملني برقة..

وبدون تفكير قفز إلى البحر وحرر السمكة من بين الصخور ثم إبتسم لي وإلتفت إلى الجهه الأخرى وأكمل سباحة إلى منطقة الدبابات البحرية أخذ دبابه وانطلق في جوله إستعراضية أمام البنات، وقفت في أهدأ ركن في المكان أراقبه حتى إختفى من ناظري وتماهى في أقصى مدى هناك تلتحم السماء والبحر..كخيال كحلم قادم من بعيد .. شيئاً ما غير حقيقي.

لم يكن يشغل بالي فقط بل يعصف بكل تفكيري ومشاعري، ولأنه كان يكبرني ب بأربعة عشر عاماً لم يراني أكثر من مجرد مراهقة غريبة الأطوار وأن شيئا ما لعله الشفقه فقط تدفعه لمساعدتها ..

فترة العصر وماقبل المغرب كنت أرافق أخواتي لمشاهدة الدبابات البحرية لم تكن مشاهدة الدبابات البحرية إلا ذريعة فقط حيث أن الجسر ذاك كان بقعةً يجتمع فيها العشاق لتبادل الأغاني والغزل والنظرات حيث كان حباً ينتشر في الأجواء تمنيت يوماً أن يكون لي منه نصيب.

رأيته ينظر إلى فتاة، وقفت لأسلم عليه لكن عينيه وقلبه وكل كيانه كان يرقبها أينما ذهبت..

لم ينتبه لي ولم يراني أمامه..

شعرت حينها أن هناك شيئاً مايربطنا .. شيئاً ما يعذبنا معاً، هو: مكلوم بحب فتاة لشدة جمالها وغرورها لم تراه..

و أنا: مشغولة به معها كيف يراقب دخولها وخروجها، إرتباكه في حضورها تسارع نبضه اذا طرفته بعينها..

تعلقت بحبه لها وتمنيت أن ينجح، أن يمتلك الشجاعة أخيراً ويعترف لها دون أن تخار قواه العاطفية كلما رآها، حبه لها كان نقياً صادقاً للحد الذي منعه من إنكشافه..

وبعد مرور عدة أشهر خرجت في يوم ممسكة بيد شاب آخر شعرت بالغيرة تعصر قلبي ودمعت لأجله دون أن يدري أن هناك ظلاً ما يتبعه وقلبا هلامياً متصلاً بروحه يمتص الألم معه.

كنت أستيقظ في نفس التوقيت كل يوم الساعه الحادية عشر صباحاً بغض النظر عن عدد الساعات التي نمتها في الليلة الفائتة وأبقى في سريري إلى مابعد الثانية ظهراً منتظرة أن تصحو أخواتي غارقة في أحلام اليقظة لم تفارقني..

هناك حيث يمكنني البكاء، أن أرد على إهانة، أن أقول ما أريد، أن أعترف له بحبي، أحلم بأن أصبح شخصا آخر غير ما أنا عليه، أن أصبح بجمال رهام، وبلطافة ليال، أن تكون لدي صديقه حقيقية أو أن يغرم بي أحدهم، أن أنتقم من هذه وأتشاجر مع تلك أن أرتدي فستان رأيته في السوق.. كان حب ذلك الشاب ما منحني الأمل والألم معاً وصورته المنطبعة في ذهني بعد ليلة قضيتها بالبكاء مثل مطر روى صحرائي..

كنت دائماً أخشى، أحلم وأنتظر ..ولا أعلم أنتظر ماذا .. أنتظر أن تتغير ظروفي أن تتغير صديقاتي أن تتغير أطباعي أن يتغير من حولي كأن يصبحون لاسمح الله أكثر لطفاً مثلاً

أخشى أن أصحو لأبدأ يوماً جديداً حافلاً بالتنمر، المضاربات، الحقد والكثير من البكاء.

قضيت مراهقتي أحلم بشيء ما يحدث..

وها أنا الآن أحلم بشيء ما …أن يعود.

***

لمى ابوالنجا - كاتبة وأديبة من السعودية

 

كانت الأرغفة الساخنة تلفع راحتيها الصغيرتين وهي عائدة من مخبز الحي، حاولت أن تُنقِّل الأرغفة من يدٍ إلى أخرى، لعلّها تحظى بفترةٍ قليلة من الراحة، ولكن بلا جدوى فالبخار الحار المتصاعد من الخبز الساخن يحرق راحتيها، وعندما يئست هداها تفكيرها إلى أن تخلع معطفها، وأن تحمل الأرغفة فوقه، فحلت المشكلة، ولكنَّ البرد بدأ يتسلل إلى جسدها الغضِّ رويداً رويداً.

نظرت إلى القروش القليلة التي تبقت بعد أن دفعت ثمن الخبز، ثم دخلت إلى دكان الحي، ونقدته تلك القروش، وهمست: أريد لوحاً من الطباشير، أعطاها ما طلبت، فمضت إلى الجدار المقابل، رسمت عليه شكل رجل وكتبت بجانبه بابا، ثم بدأت تكتب حرف الألف ثم تتالت الحروف" انّي اخترتك".

سمعت أصوات طلقاتٍ في الجوار، ولكنَّها ومنذ زمنٍ بعيدٍ لم تعد تكترث لتلك الأصوات، فبعد خمس سنوات من الحرب اعتادت أزيز الرصاص، واستنشقت رائحة البارود، وحتى ملامح الموت خَبِرَتْها عندما سقط أبيها قتيلاً قبل ثلاث سنوات، وحينها نظرت إلى عينينه الجامدتين، وأدركت أنَّ الموت ما هو سوى اختيارٌ للصمت فحسب.

سمعت جلبةً خلفها كان بعض الجنود في حالةٍ هستيريةٍ قال أحدهم لزميله: اِحذر إنَّهُ هناك مختبئ ٌخلف النافذة انتبه، ثم مرَّت رصاصة بينهما فانبطحا تحت السَّاتر الترابي.

تابعت فرح الكتابة "يا وطن" وكانت تهمُّ باستكمال الجملة بحرف الياء، لأنها تعرف أنَّ الحكاية تبدأ دوماً من الألف وتنتهي حتماً بحرف الياء، وبين الألف والياء تموت كلّ الأشياء وبينهما تحيا.

تعالى صوت الرصاصة التي سمعتها وهي تخترق ظهرها وتطيح بقطعة الطباشير من بين أصابعها الصغيرة، خَرَّت على ركبتيها، كانت تتألمُ بشدةٍ، ولكنَّها أرادت رسم الحرف الأخيرالمتبقي، حاولت أن تزحف نحو قطعة الطباشير لتجلبها فلم تتمكن من ذلك، كانت قطراتٌ غزيرةٌ قد أخذت تتجمَّع على الرصيف، غمست سبابتها في إحدى قطرات الدَّم، وكتبت حرف الياء، ثم تكوَّمت بلا حراكٍ فوق الرصيف.

تحررت أرغفة الخبز من معطفها وهي تهوي أرضاً، وتَعَمَّدتْ بلونِ الدَّم القاني وأخذت تُدفئُ جسدَها البارد مرةً أُخرى.

***

جورج عازار - ستوكهولم- السويد

وِلادةُ العَـزْمِ ، تِــبْـرُ الأصل يَرْفِدُها

صَـوْبَ الـتألـقِ ، والعَـلـياءُ مسعاهـا

*

لـكـــلِ قــافــيـةٍ عَــزْفٌ، وتَــقْــنِـيـةٌ

وفي انـتـقاء المعاني يَـحلو مَغْـزاهـا

*

أجـواؤها إنْ حَواها الصِدقُ عامـرةٌ

وعَـذْبُ رافِـدهـا، يـروي مُـحَـيّـاهـا

*

والرأيُ إنْ جَـعَـلَ الإنصافَ غايـتَـه

تسْـمـو بـه الحالُ، مَـبْـناها ومَعناهـا

*

إذا النصوصُ تسامَتْ في بلاغـتِها

بـفضلِ مَـوْهـبةٍ قــد لامَسَـتْ فـاها

*

يـزهو النشيدُ بها فخرا بما وُهِـبَـتْ

زهْــوَ الـقلوبِ بحُـبٍ قـد تَـمَـنّـاهــا

*

مَلامِـحُ الـجِـدِّ، فـي انـسامهـا عَـبَـقٌ

وفـي الـتكلف تـبدي النفسُ شكواهـا

*

قالوا : وثـقْـتَ بأوصافٍ فـبُحتَ بهـا

فــقـلتُ : قـلبي قـبل العـيـن أفْـتـاهـا

*

لـمّا رأى، أنّ فـي مضمونها قـبَـسـا

مــن الحـقـيـقـة قــد أغْـنى مُـؤَدّاهـا

*

صَـوْتُ الـبـلاغةِ كي يعلو، يُـعـزِّزه

نَـقـاءُ نَــفْـسٍ، زهـا بالطِيب فحْواهـا

*

الطـبْـعُ ليس جَـمالُ العـينِ يـَكـشِـفُـه

كم مُـقْـلةٍ قــد تـمَـنّـتْ غـيرَ سُـكْناها

*

نَـهْـجُ الثـقـافـة يُـعطي نُـورَ أحـرُفِـه

للـنـفـس بُـغـيـةَ تَـهْـذيـبٍ لِمَـسْـراهـا

*

فإنْ تَــزامَـنَـت الأخـلاقُ تعـلـو بهـا

مَراتِبُ العِـزّ صَوْبَ الأفق مَـرْقاهـا

*

تـبـقى المواهبُ تمضي فـي توجهها

صَوْبَ العطاء ، لأن العَـزْمَ يهـواهـا

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

عند باب المجمع التجاري أراهما يقتربان مني، تفلت ابنتهما يدها من يد والدها، تجري نحوي، أتلقفها مثل طائر حبيب، أحتضنها كم أنا أحبها، الصغيرة كبرت، احتضنها بين يدي أقترب منها، يتوجه إلي والدها، أبي ادخل معنا إلى المجمّع، يشير إليها في حضني إنها تحبك، منذ فترة لم تزرنا، لهذا هي تسأل عنك دائمًا، تريد أن تراك، ادخل معنا ريثما تشبع منك فيما بعد تنصرف، أقول لابني أنا مشغول يا ولدي، لدي الكثير من الكتابات التي تنتظر، سأعود إلى معتزلي، هناك أنا يجب أن أكون، سأزوركم فيما بعد، أما الآن لا استطيع، القصة لا تنتظر وعلي أن اكتبها قبل أن تطير شوختها من راسي.

تداعب الصغيرة في حضني شاربي، جدّي أنا أحبّك، أريد أن آتي معك، الصغيرة الشقية تحلّ المشكلة، لكن إلى أين تأتي معي؟ أنا في معتزلي هناك، حيث الغرفة الموحشة، الكلمات المهوّمة في الفضاء، الجنون الهارب، الفضاء الموحش اللامتناهي، ماذا أفعل، يقرأ ابني الحيرة في عينيّ، أبي خذها مشوارًا قصيرًا، وأعدها بعده، هي ستملّ بسرعة، لكن كيف أعيدها يا ولدي؟ يشير ابني إلى فتحة في سياج ضـُرب حول المجمّع حتى لا يتمكن أحد من الهرب، في حال وجود ” غرض مشكوك في أمره” أو عملية تفجيرية، من هذه الفُتحة يمكنك إدخالها والدخول معها أيضًا.

يبتسم ابني وزوجته، يمضيان، تتعلّق الصغيرة برقبتي، أين أنت يا جدي؟ اشتقت إليك، أبتسم لها، أنا هنا، أفكر في أن أشرح لها عن معتزلي، أن أقول لها إن جدّك بات شيخًا كبيرًا، يجري وراء أحلامه في الكتابة، أتراجع في اللحظة الأخيرة، تلحّ الصغيرة طالبة إجابة، لا أجد أمامي من مفرّ سوى أن أقدّم لها ما أرادت، سأكتب قصة لك. تبتسم الصغيرة، تكتب قصة لي، اروها لي.. اروها الآن، أحب أن استمع إلى القصص، لا أحبّ القصص التي يحكيها لي أبي وأمي، هم يرددونها دائمًا، أريد أن استمع إلى قصة جديدة منك. أبي قال لي إنك تكتب القصص، إحك لي قصة.

أرسل نظرة إليها، كم أحب هذه الشقيّة الصغيرة، تركتها قبل فترة وانصرفت إلى معتزلي، وها أنذا أعود بعد فترة لتملأ عالمي بالكلام، لم أكن أتصور أن يفلت لسانها بكلّ هذا الكلام بهذه السرعة، والدها، ابني، لم ينطق بكلمة إلا بعد أن بات أكبر منها الآن بسنة أو سنتين، ما زلت أتذكر كيف نطق بكلمته الأولى، كان ذلك حين وضعت فمي على أذنه وهمست فيها قائلًا، كم أحبك، فما كان منه إلا أن احتضنني، وأنا أحبّك يا أبي، من يومها زال حاجز الخجل وانطلق لسانه يقول أحلى الكلام، أما هذه الشقيّة ابنته الصغيرة، فها هي تطلب مني أن أحكي لها قصة، لا خوف ولا وجل، ما أفتح هذا الجيل.

أنطلق مبتعدًا عن المجمّع التجاري، تسألني الصغيرة في حضني، إلى أين أنا متوجّه؟ تمسك بياقتي، أريد أن أعود، أريد أمي وأبي. أفهم أن المشهد انتهى، الآن لا بدّ لي من أن أعيدها.

أبواب المجمّع مغلقة، تصدّني عنها، يعترضني حارس، أنت لا تستطيع أن تدخل، أسأله ماذا حصل، يرسل نظرة حاقدة نحوي، اقرأ فيها كلامًا أسود، أشعر به يقول لي تفعلون فعلتكم وتتساءلون؟.

أنزل الصغيرة على الأرض، لعلّه يراها، نحن أيضًا يوجد لدينا صغار، نخشى عليهم من نسمة الهواء، يبرم بوزه أكثر، يبدو أنه لم يفهم الرسالة.

أبتعد عنه، أنظر إلى عدد من الرجال يحملون صغارهم في أحضانهم، ربّما كانوا مثلي، أتذكر الفتحة التي تحدث عنها ابني، الفتحة في السياج، أرفع الصغيرة، أدلّيها بصعوبة منها، ما إن تلامس قدما الصغيرة الأرض حتى تطير منطلقة إلى الداخل كأنما هي فهمت الرسالة، بدون أن تركض قد لا تدخل وقد لا ترى والديها، ما إن أحاول أن ادخل وراءها، حتى يقترب منّي مجنّد وقف هناك رافعًا سلاحه، عُدّ وإلا.. أفهم الرسالة، بسرعة أفهمها، لست بحاجة إلى تكراره لها، نحن نفهم عليهم بسرعة، أما هم لا يفهمون علينا، سبعون عامًا ونيّفًا مضت ونحن نحاول أن نوصل إليهم الرسالة، وهم لا يسمعون، أما هم لا يحتاجون إلا إلى نظرة تقطر سُمًّا، حتى نفهم عليهم، نفهم رسالتهم الملأى دمًا وحقدًا.

أرتدُّ إلى الوراء، حالة من العجز تستولي علي، ما الذي حصل، أشعر بحاجة، إلى فهم ما حصل، أركن راسي إلى جدار قريب من هناك من المجمّع، أحاول أن استعيد ما حصل، شريط سينمائي ذو صور متلاحقة يمر من قُبالة عيني، أتوصّل في النهاية إلى النتيجة المُرعبة، ما أدراني أن ابني وزوجته في الداخل؟ ومِن أين لي أن أعرف أن الصغيرة وصلت إليهما؟ ألا يمكن أن تتوه هناك وأن يأتي مَن يقضي على الابتسامة الجميلة الحالمة برواية القصص الجديدة؟ ما أتعسني إذا حصل هذا، أشعر بنشاف في فمي، هل نحن على أبواب فترة قاسية جديدة؟ هل أنا أعيش الآن لحظة ستُضحي فاصلة في تاريخي الشخصي؟ هل سأؤرخ بها لنفسي قائلًا قبل حادثة المجمّع وبعدها؟

حالة من الخدر تجتاح أطرافي، ابني في خطر .. زوجته في خطر ..محبوبتي الصغيرة التي كبرت.. في خطر، أية لحظة هذه؟ ولماذا قُيّض لي أن أعيش في هذه البلاد المنكوبة بالسُخط، لماذا لم أولد في بلاد أخرى بعيدة تتقافز الطيور على أفنانها، وتطلق أغاريدها؟ لماذا ولدت هنا في هذه البلاد، حيث تصمت اللحظات، وتتوقّف الطيور عن التغريد، وتكفهرّ السماء؟ وماذا سأقول لابني ولزوجته، إذا ما خرجا، الآن بعد ساعة أو ساعتين، بعد يوم أو يومين ثلاثة؟ بل ماذا سأقول لنفسي؟ سأقول إنني كنت غبيًا وتصرفت برعونة كاتب يريد أن يكتب قصة؟ ما أتفه ما سأقوله، أمام دمعة والد ووالدة وجد ما زال يحلم بان يصبح كاتبًا يشار إليه بالبنان.

أسترخي.. أسترخي .. أسترخي، حالة من الاسترخاء تستولي علي، أهي لحظة النهاية تقترب؟ ربّما، آه لو لم أمرّ مِن هنا من قرب هذا المجمّع اللعين، آه لو بقيت هناك في معتزلي البدويّ المشرّد، بعيدًا عن هذا المُعترك المدنيّ المتأورب.

اللحظات تمرّ ثقيلة عسيرة. تمر كأنما هي لا تُريد أن تمرّ وأنا وحيد أمام كتل الاسمنت والبطون، لا أرى إلا حزني الصحراوي يطلّ على هناك ترافقه أرض رملية لا حدود لتعاستها، كم أود لو أن اللحظة ما كانت، لو أنني بقيت هناك في عالمي الموحش أركض وراء قصة هاربة أكتبها، الآن اكتملت دائرة الألم، الآن أشعر أنني بتّ نخلة وحيدة في صحراء العرب.

ماذا بإمكاني أن أفعل والمُجمّع مُغلق وعلى أبوابه جنود لا تعرف نظـّاراتـُهم الرحمة؟ ماذا بإمكاني وأنا أواجه لحظةً مصيريةً قد أفقد فيها سُعُفي وشمسي؟ مستقبلي وأيامي القادمات؟ أترك الأمور تجري كما هي وكما يشاء لها الجنود والحرّاس؟ نعم لأتركها، ثم من أنا الآن في هذه اللحظة خاصة، حتى أملي إرادتي على كلّ هذا الفضاء، بجنوده المدجّجين بالسلاح وحراسه؟ لاستسلم إلى اللحظة ولأدع الوقت يقدّم الإجابة، أنا لا أستطيع أن أقدّم أية إجابة، ما كتبته مِن قصص خـُلـّب ٍ الآن، لن ينفعني إلا في أمر واحد، هو كيف أتعامل مع لحظة قاسية .. لا تقلّ فيها فظاظة نظرة الجندي عن قُدرة عن التوماهوك.

نعم لأرخي راسي إلى كتلة اسمنت أخرى، ما إن أفعل ما إن أرخي راسي، حتى تطلّ صورة صغيرتي، من سمائي.. جدّي؟ لماذا تركتني وحيدة هنا بين أعداء لا يرحمون؟ أإلى هذا الحدّ أغرتك القصة فجريت وراءها. تهمي من عيني دمعة، لا أعرف ماذا يمكنني أن أقول لها. لا أعرف سوى أن أنتظر فمن يعرف فقد يأتيني غدًا بالأخبار من لم أزود.

أغمض عينيّ.. لا أريد أن أرى هكذا عالمًا.. ليعش هذا العالم جحيمَه، وليدع لي فُسحة من الحلم.. أفتح عينيّ.. لا أرى سوى الجنود والحرّاس.. أحاول أن أهتف بهم.. أن أقول لهم دعوني أدخل إلى المُجمّع.. دعوني أكون مع أحبائي هناك، إلا أن لساني يخونني.. أغمض عيني.. افتحهما .. كم هو مُرعب هذا المكان.

***

قصة: ناجي ظاهر

.........................

*من مجموعتي القصصية " بلاد الرعب".

لَبَّيْكِ غَزَّةُ جَاوَبَتْ أَعْمَاقِي

بَعْدَ اكْتِمَالِ بِشَارَةِ الْإِشْرَاقِ

*

لَبَّيْكِ غَزَّةُ قُلْتُهَا بِطَبِيعَتِي

أَنَا مُسْلِمٌ نَصْرُ الْكِرَامِ خَلَاقِي

*

وَكَتَائِبُ الْقَسَّامِ لَبَّتْ فِطْرَتِي

طُوفَانُ أَقْصَانَا الْحَبِيبُ الْبَاقِي

*

لَبَّيْكِ غَزَّةُ وَالطُّفُولَةُ دُمِّرَتْ

مِنْ سُفْهِ أَحْمَقَ مُعْدَمِ الْأَخْلَاقِ

*

قَدْ فَجَّرَ الْفُسْفُورَ فَوْقَ دِيَارِنَا

هَذَا السِّلَاحُ مُحَرَّمُ الْإِطْلَاقِ

*

لَكِنَّ إِسْرَائِيلَ فِي عُدْوَانِهَا

قَدْ طُبِّعَتْ بِالْغَدْرِ وَالْإِحْرَاقِ

*

وَالْمُجْرِمُونَ يُسَاعِدُونَ وَلَيْتَهُمْ

قَدْ أَوْقَفُوا طَيَّارَةَ الْإِخْفَاقِ

*

عَارٌ عَلَيْهِمْ يَدَّعُونَ حَضَارَةً

لَكِنَّهُمْ بِغَيَاهِبِ الْإِمْلَاقِ

***

بقلمي أ د / محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

يحاول المرء أن يخفي بداخلِهِ

و يظهر الوجه ما يعيي بكاهلِهِ

*

فلا الزهور إذا ضيمت و إن محلت

تزهو على القيظ في مرأى خمائله

*

و لا السماء إذا ليلٌ يداهمها

تضيء لو غاب ما يسني بآفله

*

كذلك المرء في الأحوال أحسبه

رهنَ الفصول إذا دارت بحائلهِ

*

فكن كما السيف .. لا يأبه بجوهرهِ

إذا أتى الضرب ممشوقاً بحامله

*

وكن كما النحل لم يعبأ بما حملت

أزاهرُ الروض من شوكٍ لعامله

*

وكن على الضيم والويلات منتصباً

نسراً على الطود لا بوماً بخامله

*

إذا ترى الناس قد راقت مسالكهم

أن يألفوا القرف مقبولاً بسابله

*

وإن ترى الغير فيما غير تعرفه

لا تمشِ في الوعر أو تزلق بمائلهِ

*

اسلك هوى ﷲ.. حسب ﷲ من سبلٍ

تهدي إلى الحق في أسمى فضائله

*

واحفر على الصخر بالإصرار ملحمةً

تخلد مدى الدهر في تاريخ قائله

***

رعد الدخيلي

اجدها دائمة القلق متذمرة، تقول كلمات لا افهمها:

- ضاع مفتاح البيت واخذت ابحث عنه في كل مكان حتى وجدت صندوقا فيه مفاتيح كثيرة، ورأيت فيها مفتاحا يشبه الذي اضعته، فكرت ان اجربه، ففتح الباب، ماذا كنت سأفعل ان بقي باب البيت مغلقا؟

- جميل جدا، وجدت اخيرا المفتاح الذي فقدته؟

- كنت قلقة وحزينة ولا ادري ماذا يمكنني ان افعل؟ لقد فقد مني مفتاح باب غرفتي التي احرص على اقفالها دائما، كيف كنت سأنام ان لم استطع العثور على مفتاح الغرفة؟ وانا لا استطيع الخروج في الليل البهيم، فوجدت حافظة اوراق كنت اظن انني لا اريدها، ففتحتها وعثرت على عدد من المفاتيح، قلت لنفسي يجب ان اجربها علني اعثر على مفتاح باب غرفتي، فقمت بتجربة المفتاح وفوجئت ان الباب انفتح اخيرا واستطعت ان اجد نفسي في النوم براحة ...

- ممتاز . عثرت اخيرا على بغيتك ..

- زارتني صديقتي المقربة، ارادت كتابا معينا من مكتبتي، فتحت حقيبتي اليدوية لم اجد المفتاح المطلوب، بحثت في كل الحقاب التي كنت اظن انني لا احتاجها، وجدت حقيبة صغيرة تركتها جانبا لأنني لا احتاجها وفيها عدد من الاشياء التي لم اعد بحاجة اليها، وكل يوم افكر انه يجب علي ان ارمي حقائبي اليدوية لأنني لم استعملها منذ فترة طوية، لكني كنت اؤجل هذه المهمة الصعبة الى يوم آخر، تناولت الحقيبة التي تهرأ جلدها واستبعدت ان يكون المفاتح فيها ـ ويا لفرحتي كان مفتاح المكتبة ساكنا فيها، لا ادري لماذا اختفى المفتاح داخل الحقيبة المتروكة؟ تناولت المفتاح واعطيت صديقتي الكتاب الذي كانت تريد ان تقوم بقراءته ..

- حسن جدا، نجحت في العثور على ضالتك وهكذا هي الحياة لا شيء فيها سهل الحصول عليه ..

- تعرفين انني اقفل كل الابواب في بيتي، انا حرة في ذلك، بعضهم ينتقدني لماذا اقوم بإقفال جميع الابواب وانا اعيش وحدي؟ ما شانهم هم؟ لماذا يثير عملي هذا استياءهم، كان باب المطبخ مقفلا، رغبت بشرب فنجان من القهوة، فالقهوة هي الشيء الوحيد الذي اقوم انا بأعداده ..

- وبقية الاصناف؟ نحن النساء نقوم بالطبخ واعداد الشاي والقهوة وعصير الليمون وشاي الدارسين وحتى البابونج بأنفسنا وكل الوان الطعام ..

- انا عندي من يقوم بهذه المهمة، كنت امس راغبة في شرب فنجان من القهوة، كنت اظن ان المفتاح في باب المطبخ وحين ذهبت لا فتح المطبخ لم اجد المفتاح، فأخذت ابحث واشتدت رغبتي في شرب فنجان القهوة، وقررت ان ابحث، اين ذهب المفتاح وليس معي احد؟

- لا يمكن ان يكون احد زوارك قد قام بالسرقة، ماذا يسرق؟ ماء او خبزا او قطعة جبن؟

- في البداية ظننت ان احدهم سرق المفتاح، ولكن بعد تفكير تبين لي انه من غير المعقول ان يقوم احد الزائرين لي بالسرقة وكلهم من علية القوم ..

- وهل وحدت المفتاح اخيرا؟

- بحثت في سنادين الورود وتعلمين انها كثيرة فانا اعشق باقات الورود بكل انواعها، فعثرت على المفتاح في احداها .

- وهل اعددت اخيرا فنجان القهوة؟

- لا ادري ..

- وهل ضاع منك مفتاح آخر؟

- غرفة الضيوف فقدت مفتاحها وزارتني قبل ساعتين احدى جاراتي، اين تجلس هذه الجارة؟ توجهنا الى غرفة الضيوف وكان الباب مغلقا، فدعوت جارتي كي تجلس في غرفة الجلوس، التي اقرا فيها عادة، وكانت اعداد الجرائد والصحف والمجلات موجودة هناك، اخذت احدى الصحف وناولتها للجارة لأريها الاخبار التي تزعجنا دائما، فسقط المفتاح من بين طيات الجرائد؟

- وهل كل المفاتيح فقدتها؟

- اي مفتاح؟ لم اذكر انا لفظة مفتاح !

***

صبيحة شبر

23 تشرين الثاني 2022

"الى روح نوس زوجتي في ذكرى رحيلها الفاجع"

كنتِ تملأينَ الارضَ

بانوثتِكِ الطاغيةِ حدِّ العنفوانِ

والغوايةِ والسحرِ والرغباتْ

وبجمالكِ الفاتنِ الذي كانَ يُقلقُ

النساءَ والغزلانَ والقمرَ

الذي يبدو خائفاً على هالتهِ

أَمامَ فتنتِكِ البابلية

*

وكنتِ تغمرينَ المدائنَ بإبتساماتكِ العسليةِ

وجنوناتِكِ المرِحَةِ

وعذوبتِكِ الوهّاجةِ

ولطفِكِ الذي تغارُ منهُ الصبايا

والمرايا وطيورُ الحبِّ

والعنادلُ ويماماتُ النهارِ

*

وكنتِ نجمةَ المسارحِ

وخاصةً مسرحَ "معهد الفنون الجميلة"

حيث ادوارُكِ المدهشةُ في "طيرِ السعد"

و"قضية الشهيد رقم ألف"

و"مضيِّفَة النزلاء" و"أُم الخير"

وكذلكَ مسرحياتُكِ وبطولاتُكِ

التي لا تُعَدُّ ولا تُنسى

أليْسَ كذلكَ " يا قاسم محمد؟

ويا رافدة إبراهيم ويا طارق هاشم

ويا صبرية عايد ويا كريم جثير وياسعاد جواد

ويا مناضل داوود ويا محمد سيف

ويا نداء صادق ويا احمد خليل"؟

وأَلَيْسَ كذلكَ يا أَيامَ الشَغَفِ والغرامِ

والأُغنياتِ والحلمِ الجميلْ؟

*

وكنتِ تُضيئينَ البيتَ

وأَعْني: بيتَنا البابليَّ الشاسعَ

تُضيئنَهُ بدفئكِ وترانيمكِ

وأُمومَتِكِ الحانيةْ

وقطوفكِ الدانيةْ

حيثُ تحضنيننا أَنا

و"ايلاف واوراس ومصطوف"

بلا كَلَلٍ ولاضجرٍ

ولا تعَبٍ من الدوامِ المدرسي

وتربيةِ الأطفالِ الشاقةُ

والمشاغلِ البيتيةُ

وقهرِ الحروبِ

والحصارِ الاسود

*

وكنتِ وكنتِ وكنتِ

ولكنّكِ واآسفي عليكِ

في غربةِ المنفى الحزينِ

قد مَرضتِ وذبلتِ

ثُمَّ "يا بَعْد روحيتي" مُتِّ

*

أهذا كلُّ مايبقى من الجمالِ؟

أهذا كلُّ ما يبقى من الأنوثة؟

أهذا كلُّ ما يبقى من الأحلامْ؟

أهكذا ترحلينَ يا "إنعامْ"؟

*

أَنا بالأَمسِ ...

وتحتَ نثيثِ المطرِ "الكندي"

وفي ذكرى رحيلِكِ الفاجعِ

كُنتُ قدْ زرتُكِ مضطرباً ومرتبكاً

وحينما دنوتُ من قبرِكِ

الذي هو الآن بيتُكِ الدافئُ الحنونْ

إحتضنتُهُ كما لو أَنني أَحضنُكِ

في ليالي العشقِ والتوقِ والجنونْ

ولحظتَها سمعتُكِ،

نعمْ سمعتُكِ يا "نوسُ"

أَخذتِ تهمسينَ لي

بتلكَ الأُغنيةِ التي كتبتُها لكِ

عندما كانتِ البلادُ والعبادُ

تنزفُ في حربٍ فاتكةٍ

وموتٍ مسعورٍ وطاغيةٍ أَحمقْ

ورحتِ أَنتِ تُدندنينَ بصوتكِ الشجي

شيئاً من كلماتِ أُغنيتنا القديمةِ:

" ياطائرَ الأقدارْ

خُذْني الى نوسي

أَطفالُنا والدارْ

كنزي وفردوسي"

ثُمَّ إختفى صوتُكِ الرهيف

ولكنَّ ضوءَ وجهِكِ البهيِّ

قَدْ لاحَ لي من خللِ الغيبِ

أَو من غيْهَبِ الغروبْ

فأَضاءَ مقبرةَ الغرباءِ

و " اوتاوا " الكئيبةْ

و" كندا " الباردةْ

وأَضاءَ ظلامَ العالمْ

***

سعد جاسم

13 - 10 -2023

...................

اشارات:

* كل الاسماء الموجودة في القصيدة هي للسيدة " إنعام حمزة - نوس" زوجة الشاعر وابنائهما ولصديقات وأصدقاء الفقيدة .

** أوتاوا: العاصمة الكندية 

يَا زَهْرَتِي

طُوبَى لَكِ

يَا قِبْلَةَ الْحُبِّ الْجَمِيلْ

وَنَهَارَ لَيْلِي

مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْحُبِّ

كُنْتِ حَبِيبَتِي

كَانَتْ حَكَايَا حُبِّنَا

أَحْلَى الْحِكَايَاتِ الَّتِي قِيلَتْ

مَاذَا أَقُولُ وَقَدْ طَوَيْنَا صَفْحَةً بَيْضَاءَ فِي فَصْلِ الْخَرِيفْ؟!!!

وَتَرَفَّقَ الْمَوْلَى بِنَا

وَأَمَدَّنَا

بِالشَّمْسِ تُعْطِينَا شُعَاعَ الْحُبِّ

وَتُنِيرُ كُلَّ دُرُوبِنَا

وَتُسَجِّلُ الْأَحْلَامَ يَا زَهْرَةْ

يَا زَهْرَةَ السَّوْسَنْ

وَالْحُلْمُ صَارَ حَقِيقةً وَرَبِيعُ أَيَّامِي يَعُودُ مَعَ الصَّبَاحْ

مُدِّي لَهُ كُلَّ الْأَيَادِي كَيْ يَعُودَ مَعَ انْطِلَاقِهْ

نَادِي عَلَيْهِ

وَعَانِقِيهِ

وَبَارِكِي خَطْواً شُجَاعاً

فِي سَبِيلِ الْحُبِّ يَا زَهْرَةْ

لَا تَتْرُكِي أَحَداً

يَعُوقُ الْحُبَّ فِي إِحْدَى اللَّيَالِي

يَا زَهْرَتِي

أَنْتِ ابْتِسَامَةُ حُبِّي

أَنْتِ الْمَلَاكُ

وَأَنْتِ كُلُّ حَيَاتِي

نَحْنُ الْحَيَاةْ

هَيَّا نَعِيشْ

يَا زَهْرَتِي

هَيَّا أَضِيئِي لِلْحَيَاةْ

هَيَّا نَجُوبُ الْكَوْنَ

كَيْ تُعْطِي لَنَا

أَحْلَى ابْتِسَامَاتِ الْحَيَاةْ

هَيَّا نُسَافِرُ عَاجِلاً

فَتَوَجَّهِي لِلْحُبِّ يَا زَهْرَةْ

مَا الْكَوْنُ إِلَّا دَقَّةُ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ

إِذَا أَتَاهُ الْغَيْثُ مِنْ أَيِّ اتِّجَاهْ

مِنْ أَيْنَ يَأْتِيكِ الْهَنَاءُ

وَأَنْتِ قَابِعَةٌ

فَقُومِي وَانْهَضِي

يَا وَاحَتِي

وَالْقَلْبُ ظَمْآنٌ إِلَى بَعْضِ الْهُدُوءْ

وَالنَّفْسُ فِي شَغَفٍ إِلَى حُبِّكْ

مُنْذُ انْطِفَاءِ الشَّمْعِ فِي شَهْرِ الدُّمُوعْ

وَالشَّمْسُ تَرْقُبُ مَا حَدَثْ

قَدْ صَمَّمَتْ أَنْ تَسْتَبِيحَ اللَّيْلَ فِي الزَّمَنِ الْجَدِيبْ

يَا زَهْرَتِي

شَمْسُ النَّهَارْ

قَدْ أَقْسَمَتْ

أَنْ تُنْهِيَ الْآلَامَ وَالْأَحْزَانَ يَا زَهْرَةْ

وَتَعَاهَدَتْ وَالْبَدْرُ حَتَّى يَنْتَهِي عَصْرُ الظَّلَامْ

وَتُحَقِّقَ الْأَحْلَامَ يَا زَهْرَةْ

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

وتباكى خطيبُ النهَّابَةْ

بدموع ِتماسيح ِالغابَةْ

*

يرثي للشعب ِ ويرثيه ِ

ويُثيرُ شجوناً لهَّابةْ

*

ويكيدُ بخُبْث ٍ لوبيّ

وتهاتِه ُ تُخفي أنيابَه ْ

*

والٱن وبعد أن ِاشْتعَلتْ

في بيتنا حرباً وحِرابه ْ

*

يدعوللظالم بالحُسنى

وعلى المظلوم ِبــ(دبَّابة ْ)!

*

ويــسُدُّ بوجهنا أبــــــــواباً

ولــ(أعْدانا) يُشرع ُ بابه ْ!؟

*

ويَغضُّ الطرف َإذا ارتكَبَت ْ

مجزرة ً تلك الخَرَّابَه ْ!

*

لاهَمَّ له ُ.. بوضاعَتِه ِ

إلا تسويق الــ(مِقْحَابَة ْ)!؟

*

في صورةِ (حَمْد ٍ) قَوَّاد ٍ

مُنْبَطِح ٍلعيال ِ جَنَابَه ْ!!

*

فليسقُط هذا المُتَباكي..

ومنابِرَه ُ.. والوهَّابَة ْ!

*

وجميع دراويش البلوى

وتحالف دعْم القَصَّابَة ْ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

مارس 2020 م

ألفلسطينيون لا يموتون

فقد وِلدوا من أرحام بساتينهم

حَسبُهم أن يَتركوا لأشجار الزيتون

أن تُطلعَ حبّاتٍ لها ملامحُ وجوهِهِم

أما الذين وِلدوا من أرحام عنابر الشحن

في البواخر أو الطائرات

فسيولدون محشورين داخل الحقائب

يتنازعون على المكان الضيّق مع العتمة والعفن

وعندما يموتون

يأخذون الحقائب معهم إلى القبر

لعلّ بوقَ أية باخرة

أو هدير أية طائرة

ينتزع الحياة لهم من أفواه الدود

عندئذ يهبّون من قبورهم

حاملين عظامهم في حقائبهم

ليقفوا في صفوف الإنتظار

على أرصفة الموانيء أو المطارات

***

شعر: ليث الصندوق

لم يكن مطعم ابن عبد الله غير دكان صغير في حي شعبي لكنه عريق بأصول سكانه وانتماءاتهم السوسيوثقافية، يتعايشون شرفاء وعواما غنىً وفقرا، موظفين وحرفيين..

شهرة الحي من شهرة موقعه بين أضرحة الأولياء وإرثه التاريخي العريق، قريب من دار الدبغ شوارة، ودرازات الصناعات التقليدية على مختلف حرفها من جلد ونحاس ونسيج .. ودكاكين للتموين والصباغات وصناعة المشط من قرون العجول والبقر ..

كان المطعم لا يسع أكثر من خمسة اشخاص ينحشرون داخل الدكان يتناولون زليفات الحريرة صباحا أو عند المساء ..

عند مدخل الباب ينصِب ابن عبد الله على موقديْ الفحم طنجرتين إحداهما نحاسية عميقة والثانية من الأليمنيوم متسعة القاعدة مخصصة لقطع اللحم والحمص والطماطم مع التوابل:(التدويرة)

الى جوار المطعم الصغير كان دكان النجار المركاوي عازف الكمان المشهور، شده الفن برغبة و عن حرفته قد استغنى فأضاف ابن عبد الله الدكان الى مطعمه وهكذا صارالمطعم أكثر رحابة واتساعا، ثم أضاف مع الحريرة الكبدة مشرملة والمخ وبعض السَّلطات البسيطة ..

شهرة حريرة ابن عبد الله ذاع صيتها في الأحياء المجاورة لا يمكن ان تتقن مثلها اوقريبا من لذتها الا للات العيالات الفاسيات، فالحريرة كالتي يعدها ابن عبد الله،عليها يتهافت الزبناء كبيرا وصغيرا ذكورا وإناثا لا يقتصر الأمر على زوار المطعم من حرفيين وصناع وطلبة وانما يتعداه الى الرغبات المنزلية خصوصا إذا كانت الزوجة جديدة عهد بزواج وتقيم مستقلة عن حماتها ..

لم تكن حريرة ابن عبد الله هي ما يغري الزبناء فقط،فالرجل نظيف أنيق وسيم قد وهبه الله مع طول القامة جمال الصورة، وحلاوة اللسان وهو ما جر عليه نقمة بعض رجال الحي من يأكل الشك صدورهم خوفا على نسائهم خصوصا لو أنثى أصابها وحم فلا يمكن أن تمر على باب المطعم دون أن تسرق النظر الى وجه بائع الحريرة تشدها بسمات عيونه وغمازة خده .. بل كثيرا ما اثارت إحداهن زوار المطعم بتنهيدة وبسمة من عيون تواقة لهفة لجمال الرجل أو تدعي العطش فتطلب زليفة لتشرب من سبالة الحي المقابلة لدكان ابن عبد الله ..

لم يكن ابن عبد الله يلتفت لأنثى بقصدية أوتعمد فهو يكره أن يثير انتباه الزبائن بما قد يسيء لأنثى بوصمة دعائية قد تبلغ أهلها فتجني على سمعتها،ولئن كان يرمي نظرات عيونه في طنجرة حريرته ويده تحرك المحتوى بمغرفة كبيرة طويلة من عود العرعار فإن لسانه الذباح كان لا يتوقف عن مقطع أغنية يرددها او مثلا يرمي به أنثى دون أن يكلف عيونه الرنو اليها ..

يا اهل الهوى نصحوني

حر الشوق فناني

و انا عاد بديت

كان ابن عبد الله يعرف جميع سكان الحي ذكورا وإناثا بأسمائهم وألقابهم بل حتى بمشاكلهم الداخلية، يحيط بمعاناة الأنثى البايرة وخفة الصغيرة النزقة إحاطته بغطرسة المرأة المتكبرة القوية المتحكمة في البيت أو تلك الخانعة بذل وانكسار ..كما يدرك سطوة بعض الرجال وتحكمهم في النساء ادراكه لكل أنثى تزوجت بلا رغبة فارتبطت برجل يقمطها في ما لم تتعوده في بيت أبيها ..

كان ابن عبد الله يلتقط النظرة بإطلالة خاطفة فيعرف القادم يبادرها بمقطع من أغنية أو مثلا يناسب حالها:

فللمرأة الصبور على رجل خشن صعب يرمي كلمات:

"مظلوم ومعذب ساكت صابر..

.الجفا والهجر و نارك وناري"..

ولأخرى ظهرت بعد طول غياب :

"خيالك عندي حمام السلام

ونيسي ورفيقي في كل مكان"

كان ابن عبد الله كمخبر الحي يلتقط اسراره من ثرثرات الزوار ومن أفواه الصغار حين يأتون لشراء الحريرة لأمهاتهم، فتكفيه إشارة منهم ليعرف أفراح البيوت وأتراحها، لكنه كان كتوما لايبوح بخفايا الحي بين سكانه و لا يمشي بين أهله بنميمة ولا بدس او نفاق، يحرم على نفسه أن تشيع على لسانه معلومة لاتهم غير صاحبها،كان نصوحا أمينا لمن طلب رأيه، فاذا ما استشاره رجل عن بنت أرادها لابنه بزواج قدم له ابن عبد الله النصيحة في حدود مايعرف بلازيادة ولا نقصان أويقصده آخر أتى لبنته خطيب فيبادر الى ابن عبد الله ليعرف حقيقته وصدق ما ادعاه عند الخطبة لكن عند مرور زوجة السائل فهو يرميها بالحقيقة في مثل أو حكمة حتى تكون على بينة مما سأل عنه زوجها دون ان يبلغ ذلك علمه حتى لا تتعرض للشك وسين وجيم ..

يقول عن البنت الجميلة المكمولة يشجع عليها:

"للا مليحة وزادتها الترويحة(أي العطر)

ومن يتوكل على الله فهو حسبه"

وعن المشاكسة والمزاجية يقول:

"لا تشري حتى تقلب ولا تصاحب حتى تجرب،

الخريف،مرة شتاء و مرة صيف"

اما عن الخفيفة النزقة التي لا حدود لرغباتها

"قالُو لَلْحَمْقَة زَغْرْتِي، قالْتْ لِيهُمْ الدَّارْ ضَيْقَة"

أما عن الذكية التي تتصنع الغباء لقضاء أغراضها فيقول:

"حمقة وحواقة ومرشوشة بالهبال" ..

لا يدرج غريب في الحي حتى يصير ابن عبد الله عارفا به ملما بما يريد خصوصا إذا كان الزائر ممن يقتفي أثر إحدى بنات الحي أو بنت تريد التأكد من حال سكنى ادعاها خطيب ..

كان ابن عبد الله ثقة الرجال والنساء على السواء، الحي أمامه ينفتح بكل تركيباته لكن عن حياة ابن عبد الله ينغلق أصلا ونسبا، فمذ نبت في الحي وهو معروف بالاسم الذي يناديه به الكل .. قالوا حياني من قبيلة بني عمران، وقالوا يتيم رباه الملجأ لا يعرف أحد له أما ولا أبا .. هل هو متزوج أم أعزب ؟ عاقر أم له أبناء ؟ من تكون زوجته ؟ فالرجل في العقد الثالث من عمره واهتمامه بملبسه واناقته لا يمكن أن يُغيب أنثى حاضرة جلية بأثر وراء مظهره،كل مايعرفه الناس أنه يسكن في إحدى القرى خارج المدينة..

فجأة يغيب ابن عبد الله، والكل يجهل لغيابه سببا، قالوا مريض حتى إذا طال الغياب قالوا مات !! ..وقالوا ماتت زوجته الشابة الجميلة فهده الحزن والأسى، وقالوا فقد أحد أبنائه، بل من القوالين من ادعى أن إحدى بناته قد أتت منكرا فماعاد له وجه ليظهر به امام الناس، غيرهم قالوا رحل الى مدينة أخرى بعد أن طلق زوجته، حنت لغياب الرجل نسوة وتنفس غيرهن الصعداء بعد أن أطبق المطعم الأبواب على نفسه ..

صار ممر مطبخ ابن عبد الله خاليا ,افتقد سكان الجوار رائحة كانت تعطر صباحاتهم وأمسياتهم، وتحسر الرجال عن مخبر ناصح كان يساعدهم في اختياراتهم، حتى أصحاب الشك والغيرة خففوا من حصارهم لنسائهم وبناتهم..

الراحة يالله، لاخبر،لا اثر ..

بعد عشر سنوات يظهر شيخ في مطعم ابن عبد الله يعرض للبيع كل أدوات المطعم، حوله تجمع رجال الحي باستفسار وأرخت النساء الأسماع بفضول يلتقطن الأخبار عن صاحب ألذ حريرة في المدينة العتيقة، بل منهن من أرسلت بنتها لتتسقط لها خبرا :

"ابن عبد الله هو زوج والدتي، النكافة المشهورة بالياقوت .. أمي عشقت ابن عبد الله وبه قد تعلقت وعمرها ضعف عمره،وقد كان يبادلها نفس الحب، كلاهما تعلق بالأخر فتزوجا، لكن الوالدة اشترطت عليه أن يكون الزواج في السر اتقاء لاعتراض أبنائها،وحتى لا يقال: جدة تزوجت حفيدها .. كان يقيم معها في ضيعة كبيرة خارج المدينة تستغلها كقاعة للافراح ..

مرضت الوالدة فتوقف عن مطعمه لا يتركها لحظة أو تتركه يغيب عن عيونها ولما أدركت دنو أجلها كتبت له كل ما ورثته عن أبي وما ادخرته من عملها كنكافة ذائعة الصيت دون أن تحرمنا من حق ونصيب، ثم زوجته بعنبر بنت صغيرة كانت تربيها وهي اليوم من أسست مع زوجها ابن عبد الله المقاولة المشهورة في مراكش بمقاولة " عنبر و الياقوت للافراح " ..

ابن عبد الله رجل إنسان، فاضل كريم، يعترف بخير الغير عليه، استطاع بعد أن تفرق إخوتي غضبا لزواج أمنا به أن يعيد بناء لحمتنا في تجمع اسري هو ما كون مقاولته التي استطاعت أن تشق الآفاق بما تعده من شهيوات ولذائذ مغربية من طنجة الى الكويرة يعجز عنها أقدم الممولين واعرقهم حتى صار الممول رقم واحد لجميع المناسبات الدينية والوطنية وكثير من الأفراح.

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

........................

 توضيحات

الزلافة: الماعون الذي تشرب فيه الحريرة سميت كذلك لأنها تًقرب إلى شاربها وتقدم له، يقال زلف الكأس: أي قربه وقدمه، وقال الله تعالى (وأزلفت الجنة للمتقين) أي قربت.

التدويرة: تدويرة الحريرة تتكون من قطع لحم صغيرة تطبخ مستقلة بكل ما تحتاجه من توابل ثم تضاف الى الحريرة

حواقة: أي تعرف الكثير لكنها تتعمد إخفاءه ..حوق تعني أحاط

تأسلموا وادّعَـوا من أنهم عـربُ

فصدّقَ الناسُ ما قالـوا وهمْ كَـذِبوا

*

قالـوا هُمُ العُـربُ والـقُـرانُ عَرّفَهُمْ

أهـلَ الـنـفاقِ ولا يُـغـني لهمْ نـسـبُ

*

ونـاصبوا اللهَ حـتّى ذلَّ غـابـرُهُمْ

فاسـتـسلموا وعلى أوتارهِ لَـعِـبوا

*

وصار اسـلامُهمْ بـابًا لمَـأربِهـمْ

فَصَـيّروا الدينَ إرهابًا وذا الاربُ

*

وأصبحَ القـتلُ باسمِ الله منهجَهُمْ

بهِ استباحوا وباتَ الحقَّ يُغتصبُ

*

تأريخُهُمْ حـافلٌ بالـعـارِ وثّـقَهُ

ما جاء منهُمْ وما في سِفرهمْ كتبوا

*

طُوفانُ غَـزّةَ عَـرّى كلَّ ذي خورٍ

وكلَّ ذي دَغَـلٍ من وقعه اضطربوا

*

طُوفانُ غَـزّةَ أبكى كلَّ ذي صَلَفٍ

طُـوفانُها الـطَّـفُ من جيّاشه هَـرَبوا

*

فكربـلا لم تزلْ كـربًا إذا ذُكِـرتْ

لآلِ صهيونَ ومَنْ في ركبِهمْ رَكِـبوا

*

وكـربلا لم تـزلْ للحُــرِّ مُنطـلقًـا

في غـزّةَ الـعِزِ صار الفجرُ يقترِبُ

*

طُوفـانُ غَـزّةَ أنهى حُلمَ سالبها

والسالبُ اليومَ مهـزومٌ لـه جًـلـبُ

*

وآلَ ما خططوا في ساعةٍ عـدمًا

لنُقطةِ الصفـر هـذا كلُّ ما كسـبوا

*

دويـلةَ الـشـرِ لا تحـمـيكِ حـاملةٌ

وأنَّ راعـيـكِ مـن أعـبـائـهِ تَـعِـبُ

*

وأنّ راعيكِ يخشى لو إذا اندلعتْ

أتـونُ حـربٍ فمعـناها لـه الحَـرَبُ

*

الى الحضيضِ سَيُمسي وهو في ندمٍ

والحـالُ حـالٌ كمر كافا بها عـطـبُ

*

تأسـلموا وادَّعَـوا من أنهم عربُ

بنو اللـقيـطةِ لا تعلـو بـهـمْ رتَـبُ (*)

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك/ كوبنهاجن

السبت في 4 تشرين ثاني 2023

.....................

* اللقيطة هي دويلة آل صهيون وابناءُها هم الاعراب المتصهينون

قِـلادَةُ الجِّـيـدِ، مـهـما الـِتّـبْـرُ زَيَّـنَهـا

فَـعِـفّـةُ الجِـيـدِ،  مِــعْـيـارٌ و تَــقـيـيـمُ

*

مَـراتِــبُ الـعِـزِّ، بـالأفـعـالِ خــالِـدَةٌ

والــفخرُ فـي زائفِ الأقوالِ، تعْـتـيمُ

*

شــمسُ الكفاءةِ، تـزهـو فـــي تألقِـها

ولِـلطـُمُوح، مَـراســــيمٌ وتَـرْسِــــيـمُ

*

حُـبُ الـعُـلا، طـبْعُ مَنْ تَعْلو نفوسُهُمُ

وهـالـةُ المَـجْـدِ ، إشـــراقٌ وتـقـويـمُ

*

إنّ الأصالــةَ تعـزيـزٌ، لِــذي هَــدَفٍ

يـسعى الـيـه بـخَـيْـرٍ، فـيـه تـعـمــيـمُ

*

مَـن يـبـتغي مَسْـلكا ، يزهو به كَـذِباً

سَــدّا لِـنَـقـصٍ، فلا يُـجْـدِيـه تـرمـيـمُ

*

إنّ الـوِسـامَ عـلى صَـدْرٍ يـلـيـقُ بــه

قـولاً وفِـعلا، له فـي الأفـقِ تـرْنـيـمُ

*

ومـَن نَوَى فِـعْلَ خيرٍ، لا يجودُ  بـه

كَـمَن يُـهَــدِّئُ حـالاً، فــيـه تَــعْـويـمُ

*

إنّ الأكـاذيــبَ،  إيـهـامٌ ومَـنْـقــصَةٌ

فــيهـا الحـقـيـقـة، تَـغـلـيفٌ وتـكمـيمُ

*

في مِحْنَةِ الضيقِ،حُسْنُ الصبرمَحْمَدَةٌ

والـصّـبرُ للعُـسْـرِ، إذلالٌ  وتَــهْـزِيــمُ

*

(شـاوِرْ سِــواك إذا نـابَـتْـكَ نـائِــَبـةٌ)

إنّ التـعـالِـيَ دومـا، فــيــه تَــذمِـيــمُ

*

يـسْمو الذي في التأني، سار مُـتّعِظا

ويَهْـوِي مَـن فـيه تـسْـريـعٌ وتـوْهـيـمُ

*

(مـا كلُّ مـا يـتـمنى الـمَـرْءُ يُــدْرِكهُ)

والعزمُ فــي رِفْــقَـةِ الإيمانِ ،تصميمُ

*

إنّ المــهاراتِ في تَــنوِيعها ، نِــعَــمٌ

مِـثـلُ  الفـصاحَـة للـفُـرْسـان تــتمـيـمُ

*

ومَـن تـمنّى العُلا  مِـن دون تَـهْـيـئـةٍ

يـبـقـى الـتَـمَـنّي حَـبـيـسَا ، فيه تـنويمُ

*

(لا تيأسَـنَّ إذا مــا كـنـتَ مُـقــتـدِرا)

فالـيأسُ وسـْـوَسَــةٌ، والـوَهْـمُ تحطـيمُ

*

حُسْـنُ النوايا، لحسْم المُعضِلاتِ ، له

دوْرٌ، بــه لـم يَــعُــدْ للـشّــر ، تـأزيـمُ

*

لـكـلّ ذي فِـطـنَـةٍ ، عَــيـنٌ مـُـوافـِـيـةٌ

ونظـرةُ الحـقِّ للإنصافِ ، تجْـسِــيــمُ

*

لا تطلب العَوْنَ مِــمن فـــي سَـريـرَتِـه

داءُ التـشـفّـي، وفـــي كـفّـيــهِ تَسْـمــيمُ

*

(صَلاحُ أمْرِكَ ، للأخلاقِ مَــرجِـعُـه)

والعِـلمُ إنْ ســايــرَ الأخلاقَ، تـفـخـيـمُ

*

ومَــن نَـوَى الزيـْفَ فـي قـوْلٍ يُـزوِّقـُه

لِـغـايــةٍ، فـمَصـيرُ الــزَيـْـفِ تَـهـْـديــمُ

*

الفضلُ فــي مِــنَّـةٍ ، سُــــمٌّ الــى أجَـلٍ

والفضلُ فـــي نِـيَّـةِ الـتقــيـيـمِ ، تـكريمُ

*

مَـنْ يـرْتَضي مَـوْقـِفـا حاقَ الـنفـاقُ بـه

فـليـس يَـمْـنَـعُـه فــي الظـلـم ، تَـحْـريمُ

*

الـرّدْعُ قـبلَ التـحـرّي ، سـُـوءُ مَعْـرِفةٍ

وفـي التَروّي ، لِــسُوء الـفـهْـمِ ،تَحْجيمُ

*

الحُـبُّ إنْ عَـفَّ يـبْـني الصرْحَ في ثِقَة

والـنـفـسُ للصِـدق ، إيـنـاسٌ وتـســليـم

*

(يامَــن يَـعُـزّ عــلـينا أن نــفـارقــهـم )

ذِكـراكُـمُ فـــي الجّـوى، أنْـسٌ وتَـنْسِيـمُ

***

(على وزن البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

ما لم يَقُلْه الحارثُ بن ظالم

ونَجْمَةٍ مِهذارةٍ،

في عِيِّها،

شِفاهُها مِنَ الدِّماءِ سائلَةْ!

وقَيْسُنا،

كتَيْسِنا،

يَمُوْتُ في غَرامِ عَنْزٍ لِلتُّيوسِ قاتِلَةْ!

**

كالنَّرْجِسِ البَرِّيِّ،

عادَ قَوْمُ (نُوْحٍ) كُلُّهُمْ،

بِخَيْلِهِمْ ورَجْلِهِمْ،

أَسْرابَ طَيْرٍ مِنْ نَوافِذِ السَّفِينَةِ،

الَّتي يَهْتَزُّ صَدرُها عَلَى لُجِّ الدِّماءْ

عادَتْ ضُحًى،

إلى القُلوبِ الذَّائباتِ في نَبِيْذِ نارِها،

يَفُورُ مِنْها كُلُّ تَنُّورٍ دَمًا،

وكانَ أَمْسُهُ يَفُورُ كَوْثَرًا مِنَ الغِناءْ!

**

يا أَيُّها النُّجومُ،

يا ذاتَ الشِّفاهِ مِن خُلاصَةِ الغَباءْ!

يا أَيُّها السَّفِينَةُ الْـ يَهْتَزُّ جِذْعُها عَلَى البَحْرِ الجَحِيْمِ،

مُقْفِرًا مِنَ الحَياءْ

تحتَ الشُّمُوسِ،

والعُيُونُ في مَدارِها العَماءْ

لَنا هُنا ما لَيسَ في قامُوسِكُمْ:

لَنا النُّجومُ كُلُّها،

لَنا السَّماءْ

لَنا التُّرابُ،

والخُطُوطُ، عَرضُها في طُولِها،

لَنا (فِلَسْطِيْنُ) الإِباءْ

حَيْثُ الثَّرَى المُقَدَّسُ..

وحَيْثُ جَبَّارُ الشُّعُوبِ،

تَعْرِفُوْنَ "عَهْدَهُ القَدِيْمَ"/

تَشْرَبُوْنَ "عَهْدَهُ الجَدِيْدَ" مِنْ يَدَيْ أَطْفالِهِ،

وكُلُّ طِفْلٍ قامَ في كِيانِهِ (يَسُوْعُ)،

يُبْرِئُ العَمَى،

ويُبْرِئُ البُرْصانَ،

والعُرْجانَ،

والعُورانَ،

والحُوْلانَ مِنْكُمُ،

ويُحْيِيْ مَوْتَكُمْ بِمَوْتِكُمْ؛

تِرْياقُ كُلِّ لَدْغَةٍ بِلَدْغَةٍ،

وداءُ كُلِّ حالَةٍ كُلُّ الدَّواءْ!

**

وأَنْتُمُ،

ما أَنْتُمُ؟!

وما وَراءَ تَعْسِكُمْ مِنْ الوَراءْ؟

يَـبِيْضُ طَيْرُكُمْ عَلَى غُصْنِ الهَواءِ،

خابَ طَيْرٌ وَكْرُهُ عَلَى الهَواءْ!

لا عَيْنَ في العَيْنِ،

سِوَى سَفِينَةِ القُرصانِ،

تَسْرِيْ في فَضاءِ تِيْهِها،

مِنْ (طُوْرِ سَيناءٍ) إلى طُوْرِ الفَضاءْ

سَفِينَةُ القُرصانِ لَنْ تَنْجُوْ مِنَ الطُّوفانِ،

مَهما أَبْحَرَتْ في وَهْمِها وأَبْحَرَتْ،

بِلا صَباحٍ يُرْتَجَى ولا ارْتِجاءْ!

**

"فأُقْسِمُ ، لَولا مَن تَعَرَّضَ دُوْنَكُمْ،

لخالَطَكُمْ صافِـي الحَديدةِ صـارِمُ!

*

يَمينَ امرئٍ لم يَـرْضَعِ اللُّؤْمَ  ثَدْيَـهُ

ولَـمْ تَتَـكَـنَّـفْهُ العُروقُ الأَلائمُ"(1)

**

لكِنْ..

و"لكِنْ" تحتَها ما لا يُعَدُّ مِنْ قُرُوْنٍ،

ضَجَّتْ الشِّياهُ فِيها بِالثُّؤاجِ، واليُعارِ، والثُّغاءْ: ذ

يَظَلُّ سِرُّنا هُنا وسِرُّكُمْ،

ونُقْطَةُ الوَهْنِ العَتيقِ عِنْدَنا،

لا عِنْدَكُمْ،

وعُقْدَةُ اللِّواءِ،

في عَقِيْدَةِ الوَلاءِ والبَراءْ:

في كُلِّ صَدْرٍ يَعْرُبِـيٍّ:

مُضْغَةٌ،

تَمُوْتُ في رَصاصِ لَيْلَى قاتِلَةْ!

قَدْ لا يَكُوْنُ جَدُّها مِنْ (عامِرٍ)؛

لكِنَّ (قَيْسًا) جَدُّهُ مِنْ (باهِلَةْ)!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1) البيتان منسوبان إلى (الحارث بن ظالم المُـرِّي). وكان من المقاومين الأشاوس للتدخُّل الأجنبي- الفارسي أو الرُّومي- في بلاد العَرَب، قُبيل الإسلام.  وقوله: "لم يَرْضَعِ اللُّؤْمَ ثَدْيَهُ"، أي: لم يَرضَع ثَدْيَ اللُّؤمِ.

مَدى الْعُمْرِ

يرْقُبُ

شاهِدةً بِالْجِوار

تَقولُ لَهُ في الصّباح

تَوَكّل

على الْعَهد

مِثْلَ

عَظيمٍ عَلى خُلقٍ شاهقٍ لا يحولُ عنِ الْحَرْفِ

في

آيةٍ

مِنْ وَدادٍ قَديم

وَفي فَجْرِ كلّ مساءٍ يَلوثُ بِهِ تَعَبٌ وقَتامٌ كَثيفٌ

تَقولُ لَهُ

بِصَوْتِ الْحِسانِ الوَدودِ

تَمَدّدْ

بِجَنبي وَجَنْب السّكونِ الْغَميقِ أمامي

فإنّك

إنْ شِئتَ

ثِبْ

فَالأسافِلُ ما يَنْبَغي أنْ تُخيفَ

وَنَمْ

نَمْ

إذا لَمْ

تُروِّضْ بِجُرْحِكَ

وَحْشَ الْأَلَمْ

وَاسْتَعِنْ بِالتّراثِ الْكَثيفِ وَرائِحَةِ الظُّلْمَةِ الْآن

كَأَنَّكَ

بَعْدُ

جَنينٌ بِجَوْفي

وَإنّكَ

فِيهِ مُغَطّى

بِحَرِّ

الصَّميمَيْن..

وَإنْ

لَمْ

تَشَأْ

فَتَوَكّلْ كَدَأْبِكَ قَبْلاً

عَلى

آيَةِ الْفَجْرِ

عِنْدَ

انْبِثاقِ التّشَابُهِ فيه!

***

البشير النحلي

أمّة تحيا وشعْبٌ ثائرُ

وزمانٌ بفظيعٍ زاخرُ

*

هبّتِ الأشبالُ تَرعى غايةً

فأعادَتْ ما عَفاهُ الجائرُ

*

أيّها الحَقُ المُسَجّى عِنوةً

مَزَّقَ اللحدَ كُماةٌ جاهَروا

*

فإذا الأفقُ مُضيئٌ ساطعٌ

وثراها بدماءٍ عامرُ

*

هذه الدنيا اسْتدارتْ ضدّهمْ

ثمَّ داروا فتهاوى الساترُ

*

صنعَ القهرُ بديعاً رائعاً

يَتجلى فاسْتلانَ العاسرُ

*

كلّ مظلومٍ سَيَجْني سؤلّهُ

وظلومٌ في أوانٍ خائرُ

*

ضَيغمٌ فيها تبارى شامِخاً

فعَلا الآفاقَ جيشٌ عابرُ

*

هكذا الأرْحامُ تأتي جَوْهراً

وأصيلاً إقتفاهُ القاهرُ

*

أمّة الحَقِ أعادتْ ذاتها

ورَعَتْ جيلاً حَداهُ الظافرُ

*

يا حلالاً في ديارٍ غُصِبَتْ

وحَراماً كيفَ شاءَ الغادرُ

*

غابُ دنيا وأسودٌ أشِرَتْ

فاسْتباحتْ وتباكى العاثرُ

*

قاتَلوا شعباً وروحٌ ما خَبتْ

وتَعالتْ والبشيرُ الصابرُ

*

آمَنتْ دوماً بربٍّ قادرٍ

فأتاها حشدُ أمٍّ ناصرُ

*

يقظة الألبابِ فاقتْ وَعْيهمْ

فنُهاها رغمَ حَيفٍ باصرُ

*

نهضَ الحَقُ وجيلٌ حَولهُ

يَتناخى والضديدُ الخاسرُ

*

ثورةُ الإنسانِ أدْماها الضَنى

فجَلاها سَيْلُ فِعْلٍ هادرُ

*

شاهَتِ الأنظارُ والقلبُ غَوى

وانْتصارٌ من وجيعٍ صادرُ

*

نخوةٌ دامَتْ وعِزٌّ قادمٌ

وأليمٌ مِنْ أليمٍ نافرُ

*

كانت الدنيا ترانا فرقةً

وإذا الصدعُ براهُ الجابرُ

*

مرّتِ الأعوامُ كَلمى نكسةٍ

فتعافتْ والطبيبُ الساهرُ

*

"طلع البدر علينا" أمّتي

أشرقَ النور البديعُ الباهرُ

*

دفنوا بذرَ وجودٍ في الثرى

هطلَ الماءُ فقامَ الغائرُ

*

أمّةٌ هبّتْ وشعبٌ واثبٌ

وعَلاها في ذراها النائرُ

*

لنْ تهانَ الأمُّ مَهْما أوْجِعَتْ

نَهضةُ الروحِ ذُكاها الآثرُ

***

د. صادق السامرائي

........................

*هذا مقطع من نص طويل لايزال يكتب نفسه.

10\10\2023

أَنَا لَا أَدْرِي لِمَ الطُّغْيَانُ جَاءْ

يَغْصِبُ الْأَرْضَ وَيُشْقِي الْأَبْرِيَاءْ

*

أَنَا أَفْدِيكِ فِلِسْطِينُ وَغَزَّةْ

أَنْتِ فَخْرِي أَنْتِ تَتْوِيجٌ وَعِزَّةْ

*

أَنْتِ طُوفَانٌ لِأَقْصَانَا الْحَبِيبْ

لَمْ يَزَلْ فِي الْبَالِ مَا بَيْنَ اللَّهِيبْ

*

قَدْ أَذَاقَ الْوَيْلَ لِلْبَاغِي الْكَئِيبْ

فَانْبَرَى يَنْدُبُ حَظًّا بِالنَّدِيبْ

*

أَنْتِ يَا غَزَّةَ عُنْوَانُ الْفِدَاءْ

قَدْ دَرَى حَالَكِ رَبٌّ فِي السَّمَاءْ

*

قَدْ أَخَذْتِ الْعَهْدَ عُنْوَانَ الْجَهَادْ

تَنْشُدِينَ الْعُرْبَ فِي أَحْلَى اتِّحَادْ

*

إِنَّ أَهْلِي فِي فِلِسْطِينَ وَغَزَّةْ

لَمْ يَزَالُوا خَيْرَ أَبْنَاءِ الْبِلَادْ

***

بقلم: أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وناقد وروائي مصري

عَرَبُ التخاذل ِوالهوانِ تداعوا

وتحلَّقوا... وتباحثوا...وأذاعوا

*

خَبَرَ انتصارٍ حققوهُ بلحظةٍ

على العدوِّ وجُنْدِهِ وأراعوا !

*

وأطلقوا (رداً) على عِدوانهِ

أعذار كاسحةٍ هي الأوجــاعُ!

*

لاحل كي تنحل إلا واحـــــدٌ

لاغيرهُ... لانِصْفُ لا أَرْبَـــــاعُ

*

الحل يَسْتَوْفِ شُرُوطَهُ عِـــزَّةً

تأبى خُنُوع الزاعمينَ (ضِبَاعُ)!!

*

الصاغرينَ..المُفلسينَ زَعـامةً

وعَرَاقَـةً.. وكـــرامةً تَنْبَــــاعُ !

*

من غيرهم لبس اللحى متعللاً

بالدينِ تحت عباءةٍ لَمَّــــــــاعُ!

*

من غيرهم حَمِدَ العدو وآمنوا

وعلى يديهِ الإهتداء  ضَياعُ!

*

لا يفقهون سوى الحديث عن الزنا

والفقهُ في معنى الحديثِ جِمَاعُ!

*

مَنْ غيرهمْ سَبقَ التحدي بقمةٍ

خُتِمَتْ بِكَسْرِ قرونهمْ...فأطاعوا!!

*

بِنَا تحتمي أوطاننُا وسَنَحْمِها

ماذَادَ  عن أوطانِنا الأَ تْبـــَـاعُ!

*

نحن لها من هاهنــاك..وهاهنا

شَرَفٌ هو الإقلاع... والمِقلاعُ

*

حتْماً سَتَعٰتَزِلُ الـــــرُؤى قمصانها

وسيلبسُ الثوبَ الجديد (قِطَاعُ)!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

2023 م

طلبت منّي الكلّيّةُ التي تم قبولي بها صورةً شخصية لإكمال أوراقي الرسمية. حيث تركتُ الكثير من حاجياتي ولاسيما صورة قديمة، في دولاب غرفتي في قريتنا التي جئت منها، قاصداً هذه المدينة التي تم قبولي في إحدى كلّيّاتها. لهذا وجب عليّ الآن أن أذهب لمصوّر قريب، لكي ألتقط صورة جديدة لإكمال أوراق قبولي في الكلّيّة. وبالصدفة كان الفندق المتواضع الذي يقطن فيه الطلّاب، محاذياً لمقهى أجلس فيه ليلاً. أشرب الشاي والقهوة وأطالع مباريات كرة القدم وبعض البرامج. وحين كنتُ جالساً ليلتها سألت العامل الذي يعمل في المقهى عن مصوّر قريب، فأجابني: نعم هناك مصوّر على بعد شارعين من هنا. إنه "مُسيلمة". ليس هناك شخص في المدينة لا يعرف مكانه. إنه أفضل مصوّر في العالم..

في الحقيقة دُهشتُ حين سمعتُ باسمه للمرة الأولى.. مُسيلمة!!.. لاحظ وسمع الحوار بيني وبين العامل زبون من زبائن المقهى. ستينيّ السن كان جالساً لوحده. لديه شارب أبيض يغطي شفتيه، ويرتدي بذلة بنّيّة. أومأ إليّ منادياً وهو يبتسم: هاااا.. استغربتَ من الاسم بلا شك؟. دنوت من مكان جلسته وقلت له: حقيقة الاسم غريب بعض الشيء!!. وفي الحال انبجس ينبوع الصُّحبة بيني وبين هذا الزبون صاحب الشارب. إذ اقترح عليَّ أن أجلس لكي يعرّفني بأهل المدينة لأنني غريب. ولما سألته: كيف عرفت أنني غريب؟! أجابني: أمر سهل بلا شك. ليس هناك شخص في المدينة لا يعرف مُسيلمة سوى الغرباء.. هل تريد مصوراً جيداً يتلقط لك صورة جميلة تريح ناظريك وقلبك؟. فأجبته: نعم. فأجابني ضاحكاً: إذن اسمع كلام القهوجي واذهب حيث أرشدك.. ثم اقترح عليَّ الجلوس والحديث، فقبلت فوراً على شرط أن يحكي لي في البدء عن المصوّر "مُسيلمة" الذي أثار اسمه فضولي. وبالتالي أقضي بعض الوقت قبل الذهاب إلى الفندق. وفي الحال بدأ الرجل حديثه بعد أن اعتدل في جلسته قائلاً: يا سيدي هذا ليس اسمه بل لقبه الذي اطلقناه عليه منذ أربعين سنة تقريباً. في البدء كان لقبه "مُسيلمة الكذّاب"، وذلك بسبب أنه كذب على أهل المحلّة في بعض الحوادث. ابتسمتُ قائلاً له: كيف هذا؟!. فردَّ عليّ جليسي: لقد كان أبوه مصوّراً أيضاً، وقد ورث مهنة التصوير منه. ذات ظهيرة خرج علينا مُسيلمة حاملاً كاميرا تلك التي يخرج منها فلاش أثناء التقاط الصورة. الكاميرا كانت لأبيه، يحملها عند تجواله في الشوارع لالتقاط الصور للناس، ويقطعُ لكلِّ زبون وصلاً يستلم به الزبونُ الصورةَ من الأستوديو لاحقاً. خرج علينا مُسيلمة بتلك الكاميرا من منزله، وبدأ يمطرنا بالصور. فصار الأطفال يجتمعون حوله دوائر، ويلتقط لهم الصورة تلو الأخرى. وحجّته كانت أن في الكاميرا فيلم فائض عن حاجة أبيه، وأن أباه يريد تدريبه على مهنة التصوير، ووعده أنه سيطبع الصور لاحقاً لمن يصوّره الابن مجاناً. هنا سال لعاب الرغبة عند بعض الجيران من الرجال الجالسين على قارعة الطريق. فنادوا عليه وطلبوا منه طامعين أن يلتقط لهم صورة. والنساء اللواتي كنَّ جارات لنا أيضاً صار يلتقط لهن الصور في المنازل. ولم يكتف عند هذا الحد. بل سار ومعه زفّة من الأطفال الذين صاروا يهتفون ويصفقون فرحين. ملتقطاً صوراً متفرقة لبعض الأشخاص في الشارع. لشرطي مرور وبائع خضرة وسائق باص وغيرهم. الجميع كانوا مسرورين بعد أن وعدهم أن يحصلوا على صورهم مطبوعة. ومن ثم حدثت الكارثة. فقد انتبه إليه أحدهم عند إحدى الخربات، وكان برفقته أطفال يهتفون ويضحكون. وصاحبنا ينهال بلقطات من الكاميرا على حمار مربوط جنب عربة!!. وصدفة  كنتُ عائداً للمنزل، فسمعتُ صراخاً وعراكاً بين مُسيلمة وذلك الشخص الذي اكتشف صنيعه وفضحه. ولما احطنا به طلبنا منه أن يعطينا الكاميرا لنرى هل فيها فيلم أم لا. فرفض ذلك لكننا أجبرناه، واكتشفنا بالفعل أن لا فيلم في الكاميرا!!. وأن كلَّ ما في الأمر أنه كان يمطرنا بومضات الفلاش التي كنّا مبتهجين بسببها. هنا اطلقنا عليه لقب "مُسيلمة الكّذاب". وجرى اللقب على ألسنة الناس الذين استشاطوا غيظاً منه لأنه كذب عليهم..

أخذ الرجل ثوان ليرتشف ما تبقى من الشاي الذي أمامه، فاستثمرت الوقت القليل في سؤاله: وحتى هذه اللحظة لم ينس الناس لقبه؟!. سعل الرجل واضعاً قبضته على فمه التي افترش عليها شاربه الأبيض قائلاً: اللقب بقي كما هو ولم تتبدل سوى الصفة. فسألته مستغرباً: كيف يعني؟! فأجاب: لقد تحوّل لقبه من مُسيلمة الكذاب إلى "مُسيلمة النّصاب".. خرجت من فمي قهقهة وطلبت منه أن يكمل كيف تحولت الصفة بهذا الشكل فاستدرك قائلاً: بعد سنوات توفي أبوه. وورث مُسيلمة الأستوديو والمهنة أيضاً. وصار يقلّد أبيه في الخروج والتجوال في الشوارع لكي يلتقط الصور للناس. في البدء كنّا نسخر منه حين يمرُّ علينا ونحن جالسين. وكانت الأصوات تتقاذف عليه كالحصى من كلِّ جانب.. ها مُسيلمة هل نسيت الفيلم؟.. يبدو أن الكاميرا لا يوجد فيها إلا البطارية.. إذا التقط لنا صورة ستظهر بيضاء. وهكذا من هذه العبارات الساخرة، وكلُّ هذا بسبب كذبته علينا حين كان صبياً. ولكن رويداً رويداً، بدأ الناس يذهبون له للأستوديو لالتقاط الصّور، أو ينادون عليه في الشارع حين يعمل مصوراً جوّالاً. هنا تبدّل لقبه إلى "النّصاب". بعد أن امتعض الناس من رداءة الصور التي يلتقطها لهم. وكانوا يقولون له أن أشكالهم في الواقع أفضل من تلك التي في صوره القبيحة. في الحقيقة ولكي أكون مُنصفاً. الصور التي كان يلتقطها هي ذاتها صورنا وأشكالنا. لأنني التقطتُ عنده في حينها الكثير من الصور، فلم أر غير صورتي مع قليل من المفاجأة. فكما تعلم نحن حين نرى صورنا أو نسمع أصواتنا في تسجيل نستغرب، ونرفضها ولا نقبل بها مع انها منّا تماماً. على أية حال فقد ساء الوضع مع مُسيلمة في ذلك الوقت. فقد هجره أهل المدينة ولم يلتقط عنده الصور سوى الغرباء. ولم نسمع صراحة أن غريباً عن المحلة لم يرض عن صورته، إلا بعد سماعه بالحادثة الأولى وألقابه التي تداولتها الألسنة. وهذا الأمر من الغرائب، فقد صادفتُ ذات مرة غريباً جلس في مكانك بالضبط، يسكن في هذا الفندق الذي تسكن فيه أنت. التقط صورة عند مُسيلمة وقد كان راضياً عنها في البداية. إلا أنه قد بدّل رأيه سريعاً بعد سماعه بلقب مُسيلمة الكذاب ومن ثم النّصاب حين كان روّاد المقهى يتحدثون!!. حين اكمل الرجل كلامه ابتسمتُ وقلت له: لقد القيتَ التّردّدَ والشك في قلبي منه، وربما لن أذهب إليه غداً لالتقاط صورة للكلّيّة!!. لكن الرجل جليسي في المقهى أشار بكفّيه رافضاً وهو يقول: لا..لا.. أرجوك اذهب إليه فأنت لن تحصل على صورة جيدة في المدينة كلّها الآن إلا عنده. فتساءلت في دهشة: كيف تقول هذا بعد كلِّ الذي حدث؟! فأجابني الرجل بعد أن تنحنح وضحك ضحكة خفيفة: مُسيلمة حين شعر أن الزبائن انفرطوا من بين يديه كما تنفرط خرز المسبحة. استعان بمصوّر محترف شاب عاد إلى الوطن بعد ان كان مهاجراً في بلد أجنبي. يعمل على آلة الحاسوب. وقد أدخلوا في هذا الجهاز العجيب كما تعرف، كلَّ برامج التعديل والتجميل. ومن حينها وحتى هذا الوقت صار الجميع لا يلتقطون صوراً إلا عند مُسيلمة. الفتاة التي تريد عريساً تذهب إليه لكي يمنحها زينة على شكلها في الصورة. الموظف الذي يطلبون منه صورة لسجل الخدمة يذهب إليه. رب الأسرة الذي يريد صورة عائلية يذهب إليه. حتى السياسيون الذين يعلنون عن أنفسهم في الانتخابات، يذهبون إليه لكي يلتقط لهم صوراً جميلة من أجل نشرها في لافتات الدعاية. ولن أقول لك عن عدد الشباب والشّابات الذين يقفون عند باب الاستوديو، من أجل التقاط صور لهم لكي ينشرونها في يومياتهم وصورهم الشخصية في صفحات التواصل الافتراضية. حتى نسي الناس لقبيه السابقين (الكذاب) و(النّصاب)، وصارت المدينة كلّها تطلق عليه الآن لقب "مُسيلمة الحبّاب". هذا الرجل جعل الناس منشرحة صدورهم بصورهم التي يتفنّن صبيُّهُ الماهر في تزويقها وتجميلها. حتى أن كثيراً من الناس صاروا لا يعجبهم النظر في المرآة. لأن المرآة تعكس الصورة ذاتها التي لا يريدون رؤيتها. بل يريدون رؤية صورهم الجميلة الساحرة البهيّة التي يصطنعُها لهم ستوديو مُسيلمة.. يااااه.. الوقت قد تأخر ويجب عليَّ العودة إلى المنزل. لا تكترث وخذ بعضك واذهب إليه يا بني. سيلتقط لك صورة جميلة للكلّيّة. أغلب زملائك السابقين التقطوا عنده فلا تخش شيئاً من كلامي السابق. إلى اللقاء وحسابك في المقهى واصل..

شكرته وصرتُ أراقبه وهو يغادر المقهى على مهل. ونسيتُ صراحة حتى سؤاله عن اسمه!!.  على أية حال الأمور تمضي كما هي، لأنه أيضاً لم يسألني عن اسمي. لم أنتظر طويلاً بعد أن غادر الرجل، وعدتُ إلى الفندق الرث وأنا أفكر بكلامه والحكاية بكلِّ تفاصيلها. وحين دلفتُ إلى غرفتي، نظرتُ في المرآة طويلاً إلى شكلي.. لقد كان مُتعباً وشاحباً!!. هناك هالتان سوداوان أسفل عينيَّ!!. وتلك الشامة التي كأنها حصاة سوداء ملتصقة على جانب أنفي. اضافة إلى أنني لا أملك بذلة فاخرة وربطة عنق لكي ألتقط بها صورة أنيقة!!. أنا بحاجة إلى صورة جميلة أتباهى بها في مشواري الجديد.. شكراً للتكنلوجيا.. شكراً لِمُسيلمة..

***

أنمار رحمة الله – قاص عراقي

في نصوص اليوم