نصوص أدبية

نصوص أدبية

الــصدقُ فــي الإنــسانِ خيرُ فضيلةٍ

فــــعــلامَ تــكــذبُ أيــهــا الــكــذابُ

*

وتــبيعُ  نــفسَك بــالرَّخيصِ كــسلعةٍ

هـــلْ  فــادكَ الــخلَّانُ والأصــحابُ

*

إن  لــمْ تــقلْ خــيراً فصمتُكَ واجبٌ

فالصمتُ في عُرفِ الضّعيفِ جوابٌ

*

والــزَمْ حــدودَكَ حينَ تختلطُ الرؤى

فــالــمرءُ إنْ لـــزِمَ الــحدودَ يُــهابُ

*

إنَّ  الــحــقيقةَ  مـــرّةٌ فـــي طــعِمها

والــمرُّ  قــد تــشفى بــهِ الأوصــابُ

*

قُـــلْ  لــلــذينَ خــســيسةٌ أفــعــالهمْ

لا  الــمــالُ يــرفعُهمْ ولا الأحــسابُ

*

شــيخُ  الــثعالبِ كــانَ يَــخطِبُ مرَّةً

والــفــخرُ مـــن كــلــماتِهِ يــنــسابُ

*

نَــصَتَ الــجميعُ إلــى كلامِ زعيمِهمْ

عَــنَــتِ  الــوجوهُ ومــالتِ الأذنــابُ

*

غَــنّى لــهُ الــشعراءُ ألــفَ قــصيدةٍ

وتــــفــنَّــنَ  الأدبــــاءُ  والــكــتــابُ

*

فــتــوهَّمَ الــمــسكينُ أنّـــهُ ضَــيــغمُ

أو  أنّــــهُ  نَــــمِــرٌ  لــــهُ أنــــيــابُ

*

فــغــزا عــلى قــومٍ بــعُقْرِ ديــارِهمْ

فـــي  الــحيِّ يــوجدُ فــتيةٌ وكــلابُ

*

هــرعَتْ كــلابُ الحيِّ تركضُ خلفَهُ

وتَــنــالُ مــنــهُ حــجــارةٌ وحــرابُ

*

ضــاقتْ بــهِ الأرضُ الــفسيحةُ كلُّها

وأمــامَــهُ  قـــد  سُـــدَّتِ  الأبـــوابُ

*

وغــدا صــريــعاً في العـراءِ ممزقاً

دودٌ  تـــربَّـــع  فــــوقَــهُ  وذبــــابُ

*

هـــذا  الــجزاءُ لــمنْ تــغيّبَ عــقلُهُ

او  كــانَ في مرضِ الفصامِ مُصابُ

***

عــبــد الناصر عــلــيوي الــعــبيدي

ومضى في عشقه الأبدي

ومضيتُ وحيدةً

لستُ وحدي

في عتمةِ الاغتراب

أحملُني بين جوانحي أسافرُ

على وترِ الفجرِ تعزفُ روحي نُشورا

تمتزجُ الأصداءُ فيّ فتولدُ

أوطانٌ من ضوءٍ في عمقِ العتمةِ

والمسافةُ صوتٌ مؤجّلٌ في صمتِ الوجودِ

كظلٍّ يمرُّ على الدروب، بلا رفيقه

وها أنا أصيرُ شجرةً صامتةً

تهزّ الوحدةُ أغصانَها

فتذرفُ قصيدةً لا تُقرأ

تنحتُها الذّكرياتُ في جذع ِالزّمنِ

وحينما تنخرُها السؤالاتُ

لا تعبَأ بالأين والمتى

ثمّة يقينٌ راسخٌ يتبعُها ولا تدركُهُ

أشفُّ من الحزنِ في قلبِ نهرٍ يعانقُهُ الهدوءُ

أنقى من قلبِ وليدٍ

فأهتفُ يا أناي

يا رسولَ الحزنِ

وحارسَ الألمِ

ها هُنا كفيّ تعصرُ اليومَ برعمَكَ المخمليَّ المُندّى

وكلّ يومٍ يزدادُ الوجعُ عمقاً

أرقُبُ الأملَ وإن كان مُرتحِلاً

أدثّرهُ صبراً.. صبراً

وأهمسُ لروحي: اثبتي أكثر

علّ الزمانَ يأتينا هرولة

ثابتةٌ خطايَ كما تعرفها

غافيةٌ في أمسي جروحهم

يذرونها حكايةَ ألمٍ تنشرُ الرّيحُ أصداءها

فأراك تودعهم، ذراً فذرا

الوقتُ يدعوني للمضي قُدماً

يهمس: "لنخيط الندوبَ بصمتٍ"

أُعيد رسم ذكرياتي، أغوص في بحر اللحظاتِ الدافئةِ

أمضي إلى المشيئة لستُ وحدي

وهو يمضي وحيدا

يحملُ كتاباتٍ

صفحاتها النقية في قبضتيّ

بيده الحبرُ

وفي قلبي العطر.

***

ريما الكلزلي

 

يلقبه أصحابه بالكوديو، رجل عسكري منذ نعومة أظافره، ذو بنية جسدية صلبة، معجب كثيرا بفرانكو، بحنكته وصلابته. إنه جدي عبد السلام أو الكوديو كما يلقبونه. كان عمي عمر يقوم ببحث عن حروب اسبانيا، فسجل أشرطة مسموعة ومرئية متعددة مع جدي، حوار لعدة ساعات. كانت معلومات جدي مهمة حول الحرب الأهلية بإسبانيا، لكن التاريخ عند الكوديو ذاتي جدا، يتداخل فيه الأسطوري مع الواقعي والشخصي مع العام.

  أول حكاية نقلها عنه أولاده وكبار العائلة هي:  حكاية زواجه من جدتي ماريسول الأندلسية الإسبانية:عينان خضراوان وشعر أشقر،متوسطة القامة.  تعرف عليها أيام خدمته بالجيش الإسباني تحت قيادة فرانكو الذي جند المغاربة وحارب بهم التمرد في اسبانيا. كان يطلق عليه (الكراندو كوديو)، جدي من مواليد بداية القرن العشرين، حين تجاوز العشرين بقليل ، أصبح جنديا جيد التدريب كما يقول قادته، في تلك الليلة كان يحتفل بترقيه لرتبة جديدة- رغم تعويضها الهزيل- بحانة الأندلس العليا، حيث شرب ما يمكن أن ينوم فيلا كهلا، لكنه ظل منتعشا ومنشرح الروح. وهو يغادر الحانة ،لاحظ أن فتاة لم تبلغ العشرين بعد (سيعرف لاحقا أنها في سن السادس عشرة) تتعرض للتحرش من طرف شخص عملاق قوي البنية، وخشن الملامح، أشقر، يعرف هناك بالروبيو، وهو بحار وخمار  وكثير الشجار يتلذذ بإيذاء الناس، وينشر الرعب حيث حل ووجد. الكوديو لم تكن له معلومات كافية عن الروبيو، ولكنه لاحظ أن الوحش يكاد يحشر الفتاة في ركن بزاوية الزقاق وهي مرعوبة. فكر جدي في إنقاذ الفتاة، وكان يعرف أن المواجهة مع الوحش قريبة، وهو مستعد لها يساعده في ذلك طول قامته وأيضا صلابة عضلاته رغم صغر سنه مقارنة بالروبيو. التعادل قائم ، كلا منهما كان مخمورا. اقترب الكوديو من الروبيو وكلمه بهدوء: أترك الفتاة تذهب لحال سبيلها. التفت الروبيو والغيض يتطاير من نظراته.  توقف مبرزا صدره المفتول مفكرا: من هذا المتطفل الذي يتجرأ على الروبيو؟

-  ماذا قلت أيها الأحمق. قال مخاطبا جدي.

وهجم، لكن التدريب الجيد لجدي على الرياضات الدفاعية مكنه من تفادي لكمة من الروبيو، وتراجع قليلا مشيرا إلى جدتي (أو التي ستصبح جدتي) بالهروب، وهو ما فعلته، ثم دخل في  اشتباك بالأيدي والأرجل، وتبادل بضع لكمات مع الروبيو، وفي لحظة خاطفة انقض برأسه على رأس الروبيو (اطاااق) سمع دوي اصطدام الرأسين في سكون الليل، وسرعان ما هوى الروبيو كحائط هرم.  و تعالت تصفيقات الحاضرين مشجعة جدي الفائز بالمباراة (الكوديو.. الكوديو...). أما جدتي فكانت تراقب المشهد من بعيد منتظرة النتيجة. ظل الروبيو غارقا في سباته وقد سال من جبهته الدم، أما جدي فقد ظهرت كدمة على أنفه مع بعض الدم.

تفرق الناس، وانسحب جدي يجر جسده المرهق، وظل الروبيو مسجى على الأرض، مشى جدي  بضعة أمتار وإذ به يسمع صوتا رقيقا: الكديو.. الكوديو.. التفت وإذا بماريسول تتجه نحوه. صافحته وشكرته على نبله. أحس بطراوة يدها في يده الخشنة  فسألها: أين تسكنين؟ في الحي الجنوبي  قالت. وما الذي تفعلينه هنا؟ قال. كنت أساعد خالتي في تنظيف البيت. أجابته.               - كوني حذرة من مثل هذه الأماكن. ورافقها في نفس الطريق ،لأنه كان يسكن بنفس الحي.

وتعلق بها كما تعلقت به، وتابع التواصل واللقاء وكبر حبهما إلى أن وقعت حادثة عكرت صفو الود بينهما وغيرت جدي. كان معجبا بالزعيم الأكبر فرانكو، وحين بدأت الحرب الأهلية انظم إلى صف فرانكو وأصحابه  فقد صور إليه أن الوطنيين مجرد خونة ومجرمين وأعداء للوطن، وساهم في قتالهم والاستيلاء على مدنهم. وجاء يوم إعدام رجل من غرناطة وصف بأنه عدو خطير، وطلب من عشرة جنود تنفيذ الإعدام في تل من تلال غرناطة كان هذا الشخص هو الشاعر لوركا المنحاز للوطنيين. جدي ساهم في إطلاق عشرات الرصاصات على جسد الشاعر، ولم ينفع مع هؤلاء الجنود الأغبياء قراءته لقصيدة حب.

حين عاد جدي حكى لحبيبته ما وقع، فانهارت وفقدت وعيها، صدم جدي:ماذا يقع؟ ما الأمر؟ أسعفها حتى استيقظت، فشتمته هو و عصابة فرانكو وطردته. لكنه أصر على معرفة الحقيقة، اضطرت جدتي لشرح الأمور السياسية التي كانت غائبة عن جدي، ومنذ ذلك اليوم وهو يكره فرانكو رغم انه لا يصرح بذلك. كان يردد مع جدتي دائما:

وعرفت أنني قتلت

وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس

فتحوا البراميل والخزائن

سرقوا ثلاث جثثٍ

ونزعوا أسنانها الذهبية

ولكنهم لم يجدوني قط..

***

قصة: عبد الجليل لعميري - المغرب

............................

* إلكوديو: لفظة اسبانية تعني الزعيم.

الجمال المتنكر بزي رجل

تبديه أنوثته

بتناسقٍ منقطع النظير !

*

يُغرقني البحر بكَرَمِه ِ

يترحَّم عليَّ

ويقرأ الفــــــــــــــاتحة

على روح (حــــــــاتم) !

*

عيناكِ

تأشيرة عبوري إلى عـالَمَـكِ

بتقنية (HB) !

*

ليــــــــــــــــــــــــــــــــكن

دورك ِ : التشويق والإثارة

ودوري: الكيــنج كونج!

*

أرأيت ِحبيبتي:

(الحب عذاب) بالألِف ِ

وبدونها (عذْب)!

*

أصبح الآن بمقدوري

أن أغرق البحر بنجمة!

*

وراء كل رَجُلٍ عقيم ٍ

امرأةٌ تُنْجِبْ!

*

المرأة وظيفة

والرجل يحب

(تعدد) الوظائف!

*

لا أمتلِكُ فلساً واحداً

يَسْتُر عورة جيبي

ومع ذلك ـ ما أزالُ ـ

أمنح التَّرَف للأخرين مجاناً !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

في الظل!

قدماي تشهدُ أنها مرتْ هناك

في الجرفِ بعضٌ من نتوأت

وبعضٌ من أحاديث

وبعضُ من شباك

وبها على أملٍ رايتُكَ ساهما

كالرملِ في يومٍ عصيبٍ

قد رماك

وكذا السواقي ان مررت بها

زادتك وجدا وارتباك

تمشي يحفك ظلها.

والزهر مشتبك ودان

وهناك

سرحت الاغاني

ورسمت

في كل انحناءات الطريق

بعض من الحلم

وخارطة الأماني

وبحثت عن اعشاشها حذرا

تراني

وسالت عن تاريخها

قالوا: عداك

فخشيت ان زحزحت يوما

عن مكاني

ان فز من افيائها طير

دهاني

أو مر مدٌّ من خلال النبت

والطينِ المملحِ قد سقاني

أو جالَ في انحائها غصنٌ

أتتهُ الريحُ

تعوي فاستجار بذي وذاك

لا نفع من هذا وذاك

ان جاسَ في أرجائها زمنُ الهلاك!!!

***

محمد محضار

أتقَنتُ الرَّقصَ على اشْلائي

قبل وِلادَتِي وبعدَ الفِراق

السُّفنُ راحِلةٌ

لا تطلبُ مِنِّي التَعلُّقَ بمياهِ البَحْر

مالِحةٌ جداً

بينَ طيَّاتِها المحُ اسْراراً تَتَهادَى

مَطرٌ صامتٌ

يَهمسُ مِنَ الصَّدى

أبقَى هُناكَ طِفلةٌ قُربَ الشَّاطِئ

مُدلَلَةُ المَوجْ

تُطعِمُ فَراشاتِها المُلَونَةِ

تُعانقُ الخَيالَ في كُوخِها الرَّملِي

والرِّيحُ تنسِجُ المُستَحيلَ

مَلائكةُ الحَقِ نَثرَتنِي

لُؤلُؤةً على نَحرِ القَمر

الفراشاتُ لا تُؤذي الأثير

ملاكُ الحَقِ حَوَّلنِي

نَسمَةً وضُوءٍ

ألمِس نَبضِيَ

فيه أسرارُ الشَّغفِ

ماذا  لَو لَم تُشرقُ الشَّمس؟

كُنْ فصلاً  سَرمَدياً ، وليسَ كُلَ الفُصول..

كُنْ مَطراً صَامِتاً

***

سلوى فرح - كندا

في اليد سبحة

والنظرات تُعَانق الأفق البعيد

ضَمير الغائب يبتسم "شوقا"

يسألني في هدوء "طفل"

أما يزال قلبك يخفق أيها الضارب

في السنين؟

أما تزال جوانحك تُسبح بتراتيل

الهوى؟

أما تزال تمارس شَغَبَ العِشق العَصِيّ

في حضرة الفراغ المريب؟

اليوم بين الفسحة واللّسْعة

أقيس خطوي

وأجترُّ دينار الوقار واشتعال الفُودين يباضا

وأرقام العمر تَلْبسُ أسداسا دون أخماس

الزّمن مَارَسَ غِشّه المقيت

وأنا في سهوتي

أعُدّ متواليات هزيمتي

نقطة البوح في سطر عموديّ

تلقي ظلالا فستقية على الرابية

تنتفض الكلمات في رنين خافت

تنشر أغنية جديدة للشوق العابر بصدري

تطلّ أم البنات بجلباب الكشمير

وفُولَارَ  الحرير

مبتسمة تسألني:

-أما اكتفيت من ترميم عَبَث السنين؟

أما اكتفيت من تراتيل الوجع والأَنِين؟

لا اكتفاء يا أم البنات

فثمّة ضروب من الجفاف والشقاء

تجوب عَرصات قلبي

وثمة تصدعات وضِيّاع طريق

وفَوضَى تشُجّ رَأسي

لا اِكتفاء يا أم البنات

الحياة سعالُ أيّام و خَدشُ ساعات

وأحاديث غامضة تحتاج لتفسير

الأمر كلّه أُحْجِيّة تستفز الدماغ

ونقطة استفهام وإبهام

يزأر الشّوق بين جوانحي

فأعبر إلى زمن الدفء

ونَشْوة الانبلاج

أرقص بخفة الصِّغار

في باحة بيتنا الرحبة

مُنُتَشِيّاً تملأ عيني

زخرفة الزليج الفاسي

ونقش الجبس البلديّ

الحُلْو المَلْمس

يا أمّ البنات

أنا في حضرة أمي

أتَهَجّى حروفي الأولى

وذاك أبي خاشع

في صلاته الوسطى

سألت عن إخوتي

عن جدتي

عن قططي وسلحفاتي

عن أشيائي الجميلة

عن لعبي الأثيرة

ردّت علي جدران البيت الباردة

"يا قادما من خلف السحاب

يا تائها يلهثُ وراء لغة الغياب

لم يبق من الماضي إلا عَبيرَ الذّكرى

وشجرة نوايا حَسنة

وتفاصيل صغيرة تحتاج لتفسير عميق

فتريث ،وعُدْ إلى أحضان الوعي الشقيّ

قبّلْ جبين أمّ البنات وقل لها:

"أنت عتبة العبور إلى الأمل والفرح

يداك غطاء لغدي

عيناك مرآة لحقيقتي

وجهك سراج لحياتي"

أعود على أعقابي

تحملني أجنحة الشوق

إلى أحضان زمني الورديّ

ترقص روحي مُنْتشِيّة

يتلألأ على محياي وهج التجلي

تحُلّ بِي رغبة الوجد والانعتاق

أعصر نشوة سكرتي نبيذا بطعم الفجر

أمسك قَلْبَ الحبّ، وأطلق صَرخةَ

خلاصي

أهمس لأمّ البنات:

"أنت الحياةُ سُندُسيّة

والصغيرات هِبَة الرّبِّ

وكلمة الله ويَقينه الجليِّ

سلمى شَلال نور

ايمان يَمُّ عطر

وفاطم بسمة زهر"

لن أنتظر الوقت الضائع

يا أم البنات

سأغتسل من أدران الأيام الشاحبة

سأنتفض في وجه ظلال الكآبة

وأعيد ترتيب صفحات دفاتري

ثم أدثر كلماتي بإيهاب أرجواني

وأجدد وضُوءَ حروفي

***

محمد محضار

الدارالبيضاء1أبريل 24

قصة: لازلو دارفاسي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

اقتحم الباب وهو يشتم، حاملاً الكلب في حجره. كان يسير ذهابًا وإيابًا ثم هدأ أخيرًا ووضع الكلب في مكانه بجوار مكتب الكتابة. سكب الماء في الوعاء الصغير، ونشر الطعام الجاف في الوعاء الآخر، وانحنى ليفحص إصابته بشكل أفضل. قام هذا الوحش اللعين بتقطيع الفراء المخملي الأسود في عدة أماكن. كان الكلب ممزقًا من جنبه، وانكشفت أحشاؤه، ولمعت عيناه بحزن شديد كما لو أن الألم والإذلال أعاداه إلى الحياة.

قال وهو يربت على رأسه:

- لا تحزن  سأخيطك وستكونن أجمل من أي وقت مضى، هل تسمعنى؟ لكن ليس الآن، بل غدًا فقط. بعد أن أحصل على الخيط والإبرة.

عندها فقط أدرك أنه لم يعد لديه شقة.

استقام، واستدار بتردد، وارتدى معطف العمل البني، وأخيرًا أخرج الشاش من حقيبة الإسعافات الأولية بالمكتب. لقد لبس الكلب جيدًا. في الوقت الحالي هذا سيفي بالغرض. جلس إلى الطاولة، وحدق في أرفف الكتب التي تبدو وكأنها لثة بلا أسنان، وتفحص صفوفها، ولم يستطع أن يتذكر آخر مرة قام فيها بإعادة ترتيبها. منذ انتقاله إلى هنا، واجه مشكلة في صيانة نظام الكتالوج.

لقد ضاعت الشقة، وهو يعيش هنا منذ ذلك الحين.

الآن، صار هذا المكان منزله.

لقد بدأ الأمر منذ بضعة أشهر، أو قبل عام على الأكثر. الراتب لم يصل . انتظر بصبر لمدة أسبوعين آخرين، وأخيراً توجه إلى المركز، حيث قيل له إنه يبدو أن خطأ إدارياً قد حدث وسيتم تصحيحه في أقرب وقت ممكن بالطبع. ليس لديه ما يدعو للقلق، سيتم إصلاحه. هذا بالضبط ما قالوا. وبينما كان ينزل ببطء على درجات المركز الرخامية، حاول أن يتخيل كيف يمكن أن يحدث مثل هذا الخطأ الإداري.

هل نسي شخص ما نقل مستند من غرفة إلى أخرى؟

أم أنهم نسوا الضغط على زر معين؟

أم أنهم لم يوقعوا على إحدى الأوراق؟

انتظر أسبوعًا آخر، ولكن نظرًا لعدم وجود أي علامة على راتبه في حسابه، عاد إلى المقر الرئيسي، حيث أخبروه هذه المرة أن الأمر لم يكن مجرد خطأ إداري.

لقد فكر بالفعل في الأمر وأومأ برأسه.

وأضاف أنه لم ير ميزانية صيانة المكتبة على حسابه أيضًا، ولا يقتصر الأمر على عدم قدرته على شراء المزيد من الكتب، بل إن الأموال اللازمة لتغطية التدفئة أو التنظيف أو أي شيء آخر آخر يتعلق بالصيانة الأساسية للمكتبة.

وأخبروه أن هناك عملية إعادة هيكلة قائمة، وعلى كل المستويات، وليس أقل من ذلك.

تساءل بصوت عال:

- أي نوع من إعادة الهيكلة، وماذا تقصدين بالمستويات؟ لأنه كان يعتقد أنه يمكنك إعادة هيكلة مستوى بعد مستوى، لكن إعادة هيكلة كل مستوى في وقت واحد بدت مستحيلة بالنسبة له. ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى الفوضى والعجز. وبينما كان يحدق في وجه المرأة البيروقراطية أمامه، أخبرته أنه من الآن فصاعدا سيعمل النظام وفقا لقواعد جديدة. سأل:

- وهل سيحصل على راتب أيضاً بموجب الطريقة الجديدة؟

بدت المرأة وكأنها شخص يتوقع المزيد من التفهم، في ظل هذه الظروف، ثم أجابت أنه سيتعين عليه انتظار دوره، لأن العديد من الزملاء الآخرين كانوا في ظروف مؤسفة مماثلة؛ أنه كان أمرًا لا مفر منه مع إدخال نظام جديد، لكن لم يتأوه الجميع كثيرًا، ولم يأت الجميع إلى مكتبها متوقعين الشفقة أو محاولة خوض معركة.

وقال وهو يحمر خجلا:

- أنا لا أحاول خوض معركة على الإطلاق .

هزت السيدة رأسها.:

- الحمد لله ، يبدو بالفعل أن هذا ما كنت ستفعله."

- هل يبدو؟

- نعم، ولكن هذا هو الواقع حقا. نحن نتفهم قلقك بطبيعة الحال.

لم يقل شيئا. من كان "نحن" هذا ؟ تساءل. ألم يكن هو واحداً منهم إذن؟

قالت المرأة وهي تغلق ملفها:

- سوف نخبرك .

- متى بالضبط  أتوقع راتبي؟

- هذا أيضا. والنظام الجديد كذلك. لا أستطيع أن أعد بالمزيد الآن.

- و...متى ستخبريني؟

- قريباً. شكرا لحضورك. أوه، وشيء آخر. هل تؤمن بالله؟

لقد كان مذهولًا تمامًا.

-  لا أفهم.

- نود أن نعرف.

- لكن لماذا؟

ابتسمت السيدة:

-  فقط أجب بهدوء." نعم أو لا؟

لقد غادر المركز دون أن ينبس ببنت شفة ولم يدخل مرة أخرى، وكان ظنه أن النظام لم يعد يساعده. ثم كان الأمر كما لو أنهم نسوا الأمر. لا تزال المكتبة مزودة بالكهرباء والتدفئة. عملت الصنابير، وتدفقت المياه. لم تصل الشيكات، ولم يكن عليه أن يدفع تكاليف مرافق المبنى. كان يجد في بعض الأحيان بعض الصحف أو المجلات في صندوق بريده، على الرغم من أنها كانت تأتي بشكل غريب إلى حد ما وكان من المستحيل معرفة أي منها يمكنه الاعتماد على تلقيها بانتظام. ولم يبق لديه ما يعيش منه. لقد استنفد مدخراته الضئيلة.

لقد باع بعض الأشياء من الشقة: الساعة، والملاط النحاسي الخاص بجدته الكبرى، ومقعدًا مطليًا عليه زهور التوليب، والأطباق، وأدوات المائدة التي لم يستخدموها من قبل، وملابس زوجته. لقد فكر أن يأخذ كتابًا أو كتابين لم يهتم بهما أبدًا على أية حال (اعتقد أنهما كانا مشهورين، وذلك عندما كان الناس لا يزالون يأتون لاستعارة الكتب منه) إلى متجر الكتب المستعملة المحلي الصغير. لكن الكتب التي كان يستطيع بيعها بسهولة نفدت سريعًا، ولم يكن لديه الرغبة في لمس الكلاسيكيات. وعلى أية حال، فإن تاجر الكتب المستعملة لم يكن يريدها على أي حال، حيث كان يجلس هناك يداعب سلاسل الطوابع الزرقاء الصغيرة في الكتب التي أحضرها له.قال له:

- نحن نتخلص من بعض الأشياء .

قال التاجر باستهزاء

-  أعتقد أنك فعلت ذلك بالفعل منذ بضعة أشهر.

- هل تريدهم أم لا؟

-   من الذي يجب أن أرسل الفاتورة إليه؟

- المكتبة بالطبع.

وبعد كل شيء، فكر أثناء عودته إلى منزله في أن هذا أيضاً يجب أن يكون جزءاً من النظام الجديد. لم يكن هو الشخص الوحيد الذي تم التخلص منه، ولم يكن لديه شك في ذلك؛ ويمكنه أن يريح نفسه بفكرة أنهم نسوا كل شيء عنه في هذه العملية، ربما إلى الأبد، وسيحصل أخيرًا على بعض السلام. سوف يُستغنى عنه بطريقة أو بأخرى في النهاية.

لقد باع شقته بنصف قيمتها، أو على الأقل بسعر رخيص جدًا، لكنه كان سوقًا للمشتري في ذلك الوقت، وعلى أية حال كان الأمر عاجلاً، كان يتضور جوعا تقريبًا، لقد أهدر الغرفتين ونصف الغرفة، الزاوية الصغيرة التي ماتت فيها زوجته، بنصف السعر. ولم يحتفظ إلا بالأريكة والتلفزيون والراديو، وجلبها إلى المكتبة، وعاش هنا منذ ذلك الحين.

عاش في المكتبة. ماذا يمكن أن يفعل؟ وكان كل ذلك جزءا من النظام الجديد.

لقد كان كل شيء هادئًا حتى اليوم. ولكن بعد ذلك حدث شيء فظيع.

في الأيام الممطرة، عندما كان لا يزال يمتلك الشقة، وعندما كانت الشوارع مغطاة بالطين، كان يحمل الكلب على ذراعه. لاحقًا، لم يعد مضطرًا إلى إحضاره على الإطلاق، لأنهما كانا يعيشان في المكتبة، وعلى الرغم من أن الكلب لم يكن على قيد الحياة في الواقع، فقد كان يعتني به بعناية شديدة ويحشوه بشكل جيد لدرجة أنه لم يكن بإمكانه حقًا أن يطلب المزيد.  في تلك الأيام، كان بعض القراء يأتون إلى المكتبة، أو يداعبون الكلب أو يخافون منه. كان يقول مبتسماً: ليس هناك ما يدعو للخوف، فالبركوش لا يؤذي حتى الذبابة. في بعض الأحيان كان يأخذ الكلب إلى الحديقة أمام المكتبة ويسنده بجوار شجيرة أو على العشب الأخضر الكثيف، تمامًا كما لو كان يأخذه في نزهة على الأقدام أو أثناء التبول. في بعض الأحيان، كان يضعه على العشب - كان بوركوس يتدحرج ويفرك ظهره على الأرض - كان بوركوس يقضي وقتًا ممتعًا. كان لديه كرة صغيرة، دحرجها إليه، ومشى إليها، ثم عاد إلى الخلف، وألقى الكرة مرة أخرى. هكذا لعبا. نعم، لأنه طالما كان على قيد الحياة، كان بوركوش يحب اللعب.

كان هذا بالضبط ما كان يفعله عندما حدث ذلك؛ لقد أعاد الكرة اللزجة من عشب الخريف إلى جيبه واستدار للحظة. لقد كانت لحظة طويلة جدًا. لقد جاء ذلك الوحش الأبيض الصغير وضرب بوركوس مباشرة. كان نصف حجمه فقط، لكنه كان يمزقه ويعضه بشكل محموم. وعلى مسافة قصيرة كانت هناك امرأة تحدق في المشهد. دون أن تبدى حراكا. كان لديها شعر رمادي طويل، ومعطف أبيض، وحذاء عالي برباط. كانت تمسك مقود الوحش الصغير في يدها. ثم فقد هو  صوابه  أيضًا، وركض نحو الكلب وركله بقوة حتى طار بعيدًا، مما أدى إلى شد المقود في يد المرأة. هبط الكلب بين الأوراق الميتة، وتلوى قليلًا، وظل ساكنًا. نظرت المرأة إلى كلبها واتجهت نحوه ببطء. ولم يكشف وجهها عن أي أثر للعاطفة. انحنى والتقط بوركوس وعاد مسرعاً إلى المكتبة. لم ينظر إلى الوراء. عند المدخل، كان غاضبا حقا. وعندما هدأ أخيرًا ووضع مجموعة الإسعافات الأولية جانبًا وفكر في حياته، سمع طرقًا.

وكانت المرأة واقفة على عتبة الباب، ممسكة بيدها الكلب الذي لطخ معطفها الأحمر بالدم. دخلت ردهة المكتبة بخطوات بطيئة وتوقفت أمام مكتبه. نظرت إلى بوركوش الذي كان ميتًا. وكان كلبها قد مات أيضًا.

وقالت بصوت أشيب مثل شعرها:

- بالمناسبة، لقد اتصلت بالشرطة بالفعل .

وظهر دم الكلب تحت أظافرها. ضباط الشرطة؟ ومن المثير للاهتمام للغاية، بقدر ما أتذكر، أنه لم يقم أي ضابط شرطة بزيارة المكتبة على الإطلاق. لقد مر هنا بالفعل رجال إطفاء مكابي والحرس المدني، بالزي الرسمي وفي الخدمة، بمجرد حضور ضابطين من الجيش، ولكن فقط عن طريق الخطأ. لقد كانا في حالة سكر لكن ودودين، لكن رجال الشرطة... لم يروا رجال الشرطة كتبهم بعد.

سألها وأحضر لها الكرسي:

- هل تريدين الجلوس؟

جلست المرأة. وعلى الفور سمع طرقًا على الباب، وقبل أن يتمكن من قول "نعم"، دخل شرطي إلى المكتبة.

قال الشرطي، وهو رجل أشقر طويل القامة، ووجهه مليء بالنمش الأحمر:

- هل اتصلت بالشرطة؟

قال كلاهما:

- اهلا وسهلا .

ساد الصمت، وفحصهما الشرطي دون أن يقول أي شيء. نظر إلى كلبه، المضمد، والكلب الملطخ بالدماء في حضن المرأة.

قالت المرأة بصوت ضعيف، وكأنها أشارت بصوتها الرمادي فقط إلى توقف المطر:

- لقد قُتل كلبي.

وأضافت:

- لقد كان دفاعاً عن النفس.

سأل الشرطي وهو ينظر إلى الكلب الميت بنظرة حيرة:

- هل هاجمك الكلب؟

- لقد هاجم  كلبي.  بلا سبب.

وأوضح أنه حتى كلبي مات بالفعل. فكر الشرطي، وذهب إلى رف الكتب، ومرر إصبعه على طول شوارعهم المتربة، مثلما يلعب الأطفال بالعصي الخشبية على أعمدة السياج أثناء سيرهم. انتشر تعبير الاشمئزاز على وجهه.

- إذا كان متخلفًا بالفعل... إذا كان ميتًا بالفعل، فكيف يمكنك ضرب كلب آخر حتى الموت دفاعًا عن النفس؟ وكلب أصغر؟

قال:

- لقد ركلت مرة واحدة فقط .

نظر الشرطي إلى المرأة:

- هل ركل مرة واحدة فقط؟

قالت المرأة:

- نعم، لقد سدد ركلة واحدة.  ولكنها قوية.

كانوا صامتين، سحبت المرأة أنفها. استمر كلبها في النزيف.

وقال:

- هذا الكلب، كلبي، جزء من عائلتي. أعني أنه كان جزءاً من عائلتي.

-  هذا ما تقوله دائما. لكن الكلب الميت يظل كلبًا ميتًا.

يمكنك أن ترى أن الشرطي لم يكن سعيدًا بالوضع الحالي، ولم يكن مهتمًا بالتعامل مع مثل هذه التفاهات.

لكنه غضب وبدأ يشرح بشغف لا يمكن إيقافه.

- كان اسمه بركوش، أي أنه ما زال يسمى بركوش. وكان معي أيضًا في ذلك اليوم عندما ماتت زوجتي. لقد حدث ذلك في المنزل فجأة. لم نكن نعرف أنها مريضة، ولم تكن هناك أية علامة على أنها مريضة، أو أن هناك خطأ ما. لقد كان انسدادًا، وكان من الممكن أن يحدث لأي شخص. لقد وجدتها عندما عدنا إلى المنزل في المساء. وكانت مستلقية على أرضية المطبخ. التهمت ست بيضات. ستة بالضبط. كان الموقد قيد التشغيل. آسف. هذه ليست النقطة حقا. لكن الكلب بركوش كان مضطربًا في ذلك اليوم، ولحظة وفاتها بدأ يعوي. بالكاد أستطيع حمله، واضطررت إلى ربطه في الفناء، لأنه في ذلك الوقت... كان لا يزال هناك أشخاص يأتون إلى المكتبة. عوى بوركوش في الفناء، وعرفت على الفور أن شيئًا ما قد حدث. ثم وجدت زوجتي، زوجتي، على أرضية المطبخ. ولكن هذا ليس ما أردت أن أقول. أردت أن أقول ماذا سيحدث لو أحببت زوجتي؟ إذا شعرت أنها الشريك الحقيقي لحياتي؟ لو لم أشعر بارتياح غريب لا إرادي عندما رأيتها ملتوية وملتوية على أرضية المطبخ بلا حياة؟

صمت ومسح جبهته بالمنديل. يا إلهي كم كان يتحدث.

- لم يكن لدينا وقتا طيبا. بطريقةٍ ما... لم نكن مناسبين لبعضنا البعض. لم نتقاتل، ولم نتجادل، لكننا لم نقض وقتًا ممتعًا. ولم تكن على ما يرام أيضًا. حاولت في الجنازة أن أتخيل كيف كان سيحدث كل هذا لو كنت أحبها، لو كنا طيبين. اعتقدت أنه حتى ذلك الحين كان بوركوش قد أشار لي. على الرغم من أنني كنت أحب زوجتي وأحزن عليها بحزن حقيقي وحارق، ولم أشعر بأي راحة، إلا أن بركوش كان يفرك كاحلي ليشير لي إلى أن هناك خطأ ما. لقد كنت ممتنًا لبوركوش. لقد كان كلبًا جيدًا ومستعدًا دائمًا لأي شيء. دائمًا ما يكون إيجابيًا، أتفهم ذلك. عندما مات، طلبت من أحد المحترفين من الدرجة الأولى، الذي اعتاد أن يأتي إلى هنا، أن يحنطه.

نهضت المرأة وجلست على الفور على كرسيها.

رفعت صوتها قليلا:

- هذا ليس سببا لقتل مخلوق آخر! أريد تقديم شكوى. بسبب القسوة على الحيوانات.  نظرت إلى الشرطي. هز الشرطي رأسه وأخرج دفترا. وطُلب منهما ذكر أسمائهما والإشارة إلى البيانات الأخرى الضرورية للبروتوكول. عندما عرّفت المرأة  بنفسها، بدا اسمها مألوفًا بالنسبة له، فانتقل إلى دفتر القروض، وبدأ يقلب فيه بحركات جامحة.

نظر إليها بنظرة ثاقبة:

- أنت مدينة لي بكتاب .

احمرت المرأة خجلاً وعادت إلى الحياة فجأة. حتى شعرها بدا وكأنه يحصل على اللون.

قالت بصوت ضعيف:

- أنت على حق يا سيدي .

- قد طلبت هذا الكتاب منذ عامين بالضبط. هذا الشهر بالضبط "نصيحة لأصحاب الكلاب"، كان هذا هو اسم الكتاب. ولم تقم بإعادته في نهاية فترة الإعارة البالغة أسبوعين. لقد أرسلت لك ثلاث رسائل تذكير، لكنها لم تؤثر فيك.

ولم يرفع صوته، فوجه الاتهامات بنبرة متوازنة، ومن دون استعجال.

- هل تعرفين ما هي الغرامة التي كان يجب أن أفرضها عليك؟ عشرات الآلاف من الفورنتات، بما في ذلك الفوائد .

توسلت المرأة قائلة:

- أنا... كنت سأعيدها .

نظر الشرطي إلى الاثنين بالتناوب، مفتوح الفم، مصدومًا، "اللعنة،" همس في نفسه.

- لكنك لم تعيديه.

- لا.

هذه المرة شعر بأنه أقوى، وكأنه استعاد ثقته بنفسه. يا له من عار أنه كان يرتدي معطف العمل البني اليوم. أم لا، في الواقع. بهذه الطريقة يبدو أكثر رسمية.

نظرت المرأة إلى الكلب الذي يرقد في حجرها:

- لأن... لأن... أكله فينشي. لقد أردت إعادته لفترة طويلة، لكنني نسيته بالصدفة على السجادة، و... ثم جاء بينشي.

فرك الشرطي عينيه وكأنه يستيقظ من كابوس مستحيل.

-   سيتعين عليك حل هذه المشكلة بنفسك.

هزت المرأة رأسها:

- سوف نحلها يا سيدي.

هز الشرطي رأسه وألقى نظرة أخيرة على المرأة:

- أنا ذاهب.

قالت المرأة:

- حسنا ، يمكنك المغادرة براحة البال .مع السلامة .

قال الشرطي وداعا.

ومكثا هناك مع الكلبين الميتين، وكان أحدهما لا يزال مغطى بالدماء، رغم أنه توقف عن النزيف بالفعل. كانت المرأة محرجة. على الرغم من أنها كانت هي التي عانت من أضرار لا يمكن إصلاحها، فقد تم وضعها أخيرًا على قفص الاتهام بنفسها.

فكر أمين المكتبة في الأمر.

- انظري يا سيدتي، أعلم أنني لا أستطيع تعويضك عن هذه الخسارة. انا اسف. بصراحة. أنا مستعد لإلغاء غرامة التأخير. سأتجاهل هذا الأمر على الأقل. لا يهم بعد الآن. نصيحتي، إرحلى من هنا... و اتركى بينكسي هنا؟ سوف أتأكد من أنهم  يحشونها. سوف يقومون بعمل جيد، وعندما ينتهون، يمكنك استعادتها. أو تركها هنا. ستنسجم جيدًا مع بوركوس، ويمكنك زيارتها وقتما تشاءين... لرؤيتها. أو تذكرها.

وقفت المرأة بتردد ووضعت بينكسي أمام بوركوس. يبدو أن بوركوس كان يحدق في الكلب الصغير.

قالت:

- جيد جدًا إذن .

- ماذا؟

- قم بحشوه، وسوف آتي من وقت لآخر.

لذلك قام أمين المكتبة بحشو بينسي، وكان نابضًا بالحياة مثل بوركوس. لقد جاءت بالفعل لرؤيته، وطرقت الباب مرة أخرى بعد بضعة أيام؛ وسرعان ما أصبح مجيئها عادة - فقد مكثت لفترة أطول وأطول. وأثناء وجودها هناك، كانت تسقي النباتات، وتنظف الكتب، وتنفض الغبار عنها، وتقدم بعض شطائر الكبد المقطعة التي أعدتها في المنزل. وفي أحد الأيام، بينما كانا ينظران إلى الكلبين ويتذكران، لمس أمين المكتبة كتف المرأة.

- بيرتا، بيرتا، ألام نتصرف وكأننا في مقبرة؟  دعينا نأخذهما في نزهة على الأقدام!

أخذا بوركوس وبينكسي إلى الحديقة المغطاة بالثلوج، بجوار الشجيرات، ووضعاهما في الثلج. وبينما كانت الحيوانات تُضبط وتُوضع، خرج قطيع من العصافير متوحشًا بين أوراق اللبلاب الدائم الخضرة. صرخ الأطفال وألقوا حفنة من الثلج. كانت كاسحة الثلج تتحرك بصخب ذهابًا وإيابًا أمام المكتبة، والآن رمى الكرة إلى بينكسي أيضًا.

- بينكسى .. بينكسى

- أنت جيدة، يا بينكسي!

ثم عادا مرة أخرى للإحماء.وضعت المرأة بعض الشاي وأوقفت الكلاب بجانب المبرد لتجفيف أرجلها. كانت معدة بينكسي مبللة.

جلسا ينظران إلى الكلبين ويتذكران. كان كل شيء لطيفًا جدًا. نمت بركة صغيرة تحت بطن بينكسي، واستحوذت على ضوء المصباح الكهربائي. وعندما أمسك بيد بيرثا، خطر لأمين المكتبات أنه كان سيأخذ دليل محبي الكلاب إلى تاجر الكتب المستعملة منذ فترة طويلة.

إنه  كتاب كان سيشتريه بالتأكيد.

(تمت)

***

.......................

المؤلف: لازلو دارفاسي / László Darvasi مؤلف وشاعر وكاتب مسرحي ومعلم وصحفي ومحررمجري. ولد عام 1962 في Törökszentmiklós، ويعتبر أحد أكثر الكتاب المعاصرين تنوعًا وأحد أشهر مؤلفي جيله في بلاده. ألف عشرات الكتب والمسرحيات، خاصة القصص القصيرة، وحصل على أكثر من 20 جائزة أدبية، من بينها جائزة أتيلا جوزيف المرموقة عام 1998 وجائزة إكليل الغار المجري عام 2010. وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات.

عاشرتهم لسنين طويلة يا لهم من أوغاد ..

الفقراء أوغاد لا تتعجب ! تراهم من بعيد منكسرين، مطأطئي الرؤوس، مهما حاولت رؤية أعينهم فلن تراها أبدا ..

ينظرون إليك من طرف خفي، حتى إذا أتيحت لهم الفرصة أكلوا أمعاءك، ولن أبالغ إن قلت أنهم باستطاعتهم طحنك ورميك للكلاب الضالة..

أنت تظن أن الفقير مسكين ! لا لا لا..

هناك فرق شاسع بين الفقير والمسكين، أنا عشت معهم ولولا مشيئة الرب، لأصبحت الآن ذئبا مسعورا ..

ما يحز في قلبي، أنني كنت أحب ذلك العالم، تخيل معي وأنا طفل في السادسة من عمري كنت اصطاد الأفاعي والعقارب، بل وكنا نشوي بعض الكلاب وهي حية ..

لا تستغرب !

اقسم أنني مازلت أسمع صوت أنين الكلب وهو يحترق، ثم نعود الى منازلنا نقفز ونضحك دون أي ضمير ..

أعلم أنك لم تر عقربا في حياتك، إلا من خلال محطات عالم الحيوان ..

هل تذكر ذلك اليوم عندما أتى بي والدك إلى منزلكم الفخم، كنت انظر إليك بحقد وغل، رغم أني لا أعرفك ..

كنت ترتدي قميصا حريريا باللون الأزرق وبنطال جينز، وحذاء رياضيا أبيض ..

قلت في نفسي لحظتها، حتى لو كان أنيقا وثريا أستطيع هزيمته بلكمة واحدة على خده ..

وبدأت اردد وعيناي تنظران لحذائي البلاستيكي المتسخ: هيا واجهني أيها الوغد ..

في تلك الأثناء تقدمت نحوي وقلت بصوتك الناعم:

هل تلعب معي!

قلت في نفسي: العب لم لا ألعب، وإن صدر منه شيء ساقتله ..

كررت سؤالك وانا مازلت امطرك بالشتائم خفية ..

لا أدري لماذا أخبرك هذا الآن وقد مر وقت طويل، وأصبح لدينا عائلة وأطفال ..

لكن هناك شيء ما في داخلي مهما فعلت، وحاولت نسيان الماضي، يلاحقني ليرجعني إليه

ربما كما أقول لك دائما، الفقراء يظلون أوغادا..

ذلك الوغد في داخلي لم تستطع الحياة طمسه، ولا حتى الكتب التي كنت تعيرني إياها ..

فاغلبها كانت تحكي عني، وعن الفقراء بطريقة مخادعة..

من كان يحاول تلميع صورة الفقراء للأطفال، والكبار أيضا ..

ربما أولئك الكتاب كانوا أيضا فقراء وأوغاد..لكنهم أتيحت لهم الفرصة ليتعلموا، كما حصل معي ..

لكنني لن اشارك في هذه المهزلة..

كلما اقتربنا من الحضيض يا صديقي وأخي الذي لم تلده أمي، نتقترب دون وعي للبهيمية

كما أقول لك !

دون أي مبالغة ..

لقد أزعجتك اليوم كثيرا، بثرثراتي، ربما سأزورك غدا، لأبوح لك باحاسيسي الدفينة..

سأخبر الممرضة أن تغير لك غطاء الوسادة، فقد بللتها بلعابك ..

وانا أريد أن أراك دائما نظيفا كعادتك ..

سأمسح فمك الآن، كنت أرى أمي تمسح بعنف فم والدي وهو على فراش الموت ..

لكن لن أفعل ذلك بك !

سأخبرك شيئا أخيرا، أنا أحبك بكل صدق، ومن أعماقي شعوري، لكن! أتمنى أن تموت في أقرب وقت، لأخرج الوغد الذي في داخلي دون أي تأنيب ..

***

سلوى ادريسي والي

رأسي والصداع

هو رأسي الذي بدأ يتغيّر

رأسي ولا أيّ عضو من جسدي سواه.

هكذا

من دون مقدمات هذه الأيّام أخذ يدخل مرحلة غريبة:صداع مفرط يتكاثف في منتصف الجبهة وفي بعض الحالات أشعر به ينحدر من تلك النقطة بشكل خيط حاد فظيع حتى يلامس أعلى أنفي ما بين الحاجبين.

الحقّ ظننته أوّل ما داهمني عابرا، مثلما يشكو الآخرون من من صداع يسببه الجهد أو الأرق، وحين تكرر وجدت عذرا آخر في جعبتي وجهت التهمة إلى المخترعات الحديثة فوضعت اللوم على التلفاز، والهاتف النقّال، والكومبيوتر أو الأجهزة الحديثة التي تكاد تطلّ علينا بملمسها الناعم كل بضعة أشهر.

أكتب الآن وأنا براحة تامة كوني هربت إلى مكان أشعر فيه بالأمان.

أوّل مرة فاجأني الصداع

تجاهلته

للمرة الأولى

والثانية أيضا

قلت مع نفسي لعله الفراغ الذي بدأ يدبّ في مفاصلي.. ربما عملي، فأنا ساعي بريد، أوصل الرسائل والرزم إلى البيوت والأسواق.. المدينة تعرف شغلتي الحيوية، جميعهم يبتسمون لي ويتطلعون لطلّتي اليومية:من يطالعه في المستقبل خبر سعيد أم من يتلقى أسوأ الأخبار.

بشتاقون إليّ..

منهم من يمنحني مكافأة.

لم أر أحدا قط يكلح بوجهي..

وليس هناك من يستعيذ من طلّتي عليه وإن كنت أسوق له أسوأ الأخبار. مع العلم إنّي أشعر أَنّي في بعض الحالات يمكن أن أكون مثل غراب نوح..

هذه حقيقة لا أنكرها

لكني لا أكره نفسي

ولا لأشعر بالذنب

ليعلّني أواسني نفسي حين أراني نافذة مدينتي التي تطل بها على نفسها عبر الدنيا.

لا أدّعي أني مثقّف لقد حزت على تعليم كاف جعلني أعيش حياة متوازنة. إذ حافظت على العلاقة بين الشّرف ومهنتي. أنقل الأخبار ولا أعرفها إلى الحدّ الذي جعلني أحتقر، ولا أغالي، الرقيب الذي يفتح الرسائل بطريقة لا تؤذي الرسالة أو الرزمة، فيعرف مافيها من دون أن يشعر بخجل.

أقول: قد يكون من أسباب الصداع الغريب الذي اجتاح رأسي الكسل.

نعم..

ربما أستبعد المفاجآت فلم أكن أعاني من أيّ مرض، ولا تشغلني كثير من الأحداث، أتفاعل وأنفعل بحدود المعقول كأيّ من مخلوقات الله.

واستبعدت أيضا أن يكون مرضا خطيرا

أخيرا اضطررت لعرض حالتي على طبيب. أكثر الأطباء شهرة في مدينتنا:

 - إذن وظيفتك ناقل أخبار

قال ذلك بعد أن تمعّن في معلومات دوّنتها قبل أن أدخل عليه.

- نعم ياسيدي.

- هل تعرف أخبارا تنقلها إلى الآخرين؟

أوحت إليّ قسماته الجادّة أن سؤاله استفزّني:

- لا أبدا (واعترضت) لكن لم هذا السؤال:

- يمكن أن يكون الصداع تأنيب ضمير (تطلّع في عيني):ألم تراودك رغبة في أن تطّلع على أحداها أو تتخلص من بعض مافي يدك قبل أن تسلّم الأمانة لأهلها؟

- (بغيظ) محال إنها قضيّة مبدأ وأخلاق.

هزّ رأسه:

- ذلك يعني أن ليس هناك من شئ ( وأضاف بثقة كأنّه يكتشف الحقيقة الخالصة ) إنّه وهم كل ماتشعر به وهم !

وانتقلت من طبيب إلى آخر وثان وثالث ورابع أدخل رُدَهَاً.. أقابل مديري مكاتب يدوِّنون معلومات عنّي قبل عرضها على الأطباء ثمّ أرافق ممرضات..

أشعة تتكرر..

تحاليل..

خروج..

دم..

اللعاب.. هل أتجزّأ أم أشطر نفسي لشظايا صغيرة كي أضع يدي على الداء، أدخل معهم في نقاشات عقيمة، كلّهم أكَّدوا أن رأسي سليم.. وهم.. نهاية كلّ لقاء مع طبيب.. لاشئ غير الوهم.. قد نتناسخ نحن البشر بأشكال نبات وحيوان، والوهم بالصداع.. صرفت مبالغ كثيرة وكدت اضطرّ للدين، دخلت أجهزة مختلفة بعضها قاس وبعضها ناعم، ولجأت إلى مسكِّنات لاتنفع في أن توقف وجع رأسي الذي انقلب إلى صداع فظيع فكأن الحبوب فأس واهٍ يطرق صخرة من مرمر قاس. هل أذهب إلى السحر والشعوذة بعد هذا كلّه؟

ربما دفعني الطب نفسه من حيث لا يقصد..

ساعدني بعد أدرك أنّ هناك حقائق قد يفسر غموضها الخيال أكثر من العلم.

كنت أسير في الطريق فداهمتني موجة صداع عنيفة، الوهم بصورة صداع، التجلّي الأخير للوهم، بحثت في جيوبي عن حبة أسبرين، فوجدتها فارغة تسللت من الشارع إلى أقرب صيدلية ثمّ غادرتها وصوت الصيدلاني يلاحقني بعد أن شاهدني أفرغ نصف العلبة في فمي:أنصحك ألا تلتهم أكثر من ثمان حبات في اليوم..

لا أبالي..

- ياسيدي الوهم يتقمص الصداع..

لا مرض خبيث يقولون.. لا شئ.. وهم.. وفي لحظة ما أشبه ماتكون هدنة بين جيوش تتقاتل، وسكون يعمّ وينتشر، وقعت عيناي على عيادة طبيب. خلته طبيبا جديدا فلم أتذكر أني رأيت العيادة من قبل.. فتشجعت ودخلت.. على أمل أن أجد مختصا يقول لي هناك شئ ما يداهم رأسي.

فايروس..

جرثومة

شئ محسوس

اكتشاف لايتهمّ الوهم.. أدركت أني قابلته من قبل بل تيقنت أنه أول طبيب عرضت حالتي عليه، الذي اكتشف تقمّص الوهم بالصداع فسار على خطوه الأطباء الذين ترددت على عياداتهم.. والذي سألني إن كنت خنت الأمانة أو اطلعت على ما في الأخبار لكنّه لم يعرفني.. العجب أنّي لم أمتعض حين كرّر عليّ السؤال ذاته الذي سألني إبه الأطباء الآخرون من قبل، ربما فقد عنصر المفاجأة أو فقدتها.. لكنّ ذاكرته استعصت:

- حالتك جيدة وأنا حديث عهد بالعيادة ومدينتكم هذه ولا أخفيك سرا أني أرغب في أن أجري لك فحصا عاما وأفتح لك مِلفَّاً جديدا.

إنكار

هل أنا في حلم أم هو؟

والصداع حين يراودني يمنعني من النوم بضع ليال:

- ياسيدي أنا متأكد من أن الملفَّ موجود عندك.

- يبدو أنك تفترض ماضيا لتعيش فيه.

صمتُّ.

لذت بالسكوت والذهول:

- كل مايهمّني الآن هو أن توقف الصداع.

- فإن لم يكن هناك من شئ بعد الفحوصات، وهو الاستنتاج الذي أتوقعه منذ هذه اللحظة، هل أدفعك إذن إلى طبيب نفساني.

- هل تظنني.. ؟

- لا تدن نفسك من دون أن تعلم أو تتعمّد.. فقد يكون تأنيب ضمير لقصور في العمل.

استغربت من طرحه المفاجئ وتساءلت بضيق:

-  مثل ماذا؟

فقال وهو يتطلّع في وجهي مثل المنوّم المغناطيسي:

مزّقت رسالة ما.. لم توصل رسالة.. كشفت سرّأ..

وأنا معه عضّ جبيني صداع ثقيل، ولم تكن ببالي سوى هذه اللحظة تلك الرسالة التي لاتخصّ أحدا ولعلها لي أو لغيري.. قد تكون ملكا مشاعا لاحجة لأحد فيه مادامت لا تحمل عنوانا معينا، أصررت على الرغم من الألم أني لم أنتهك شرف العمل:

لا ياسيدي هذا محال!

دورة جديدة

كلّ الأطباء الذين مررت بهم من قبل ادعوا أني أمرّ على عياداتهم للمرّة الأولى، وقد أوحت لي الحال أنّ العالم فقد ذاكرته، وإحساسه، وبقي الصداع يراودني حتى طلع علي ذات يوم وأنا أسير في وسط المدينة اسم طبيب جديد لم أمر عليه، فتساءلت بين الشك واليقين هل يعقل أني لم أزره من قبل ؟ماذا لو أنكرني وهو وجه أعرفه ثمّ تحاملت على آلام رأسي واقتحمت عليه عيادته..

فؤجت بوجه جديد

رجل في الخمسين.. أصلع قصير.. ذو بطن مددت يدي إليه مصافحا وأنا أعضّ على أسناني من الألم. فنظر إليّ بإشفاق وكان ينتظرني أبدأ الكلام قبله:

- دكتور يؤسفني أني لم ألتقك من قبل فلعلك تأتي إليّ بشئ جديد.

- أظنّك لففت على أطباء غيري وزرت مشافي ومختبرات وها أنت تعود إلي بعد تلك الرحلة الطّويلة.

- أبدا لا أظنني، وأكاد أجزم أني رأيتك.

فقهقه مشجعا وقال:

- لا يهم ذلك أنت ساعي البريدصاحب الصداع الدائم على الرغم من أني على ثقة أن ليس هناك من شئ.

- كلامك لا يختلف عنهم.

- بل هو لب الاختلاف لأني وجدت طريقة لعلاجك.

مازال ذهني ينزلق على الماضي لا أظنني زرته وهو يؤكد أنّه يعرفني ويصرّ على علاجي

- هل يمكنني أن أسألك لم انقطعت عني؟

- بصراحة انك تشتبه فأنا أدخل عيادتك المرة الأولى.

- بل قل إنك أردت أن تعثر على طبيب يؤكد لك شيئا ما فصرفت الجهد والمال.

قال عبارته متضايقا فاستدركت:

- أنا لا أشكك بعلم أيّ طبيب لكنني أحاول أن أرى استنتتاجاتهم وربما هي المرة الأولى التي أجدهم يتفقون على أن لا شئ مع العلم أنه هناك شيئا يؤذيني.

فراودته ابتسامة ماكرة

- لعلّهم خدعوك إذ هناك نقطة منتصف جبهتك نقطة مجهولة لا تتعلّق بالعلم ولا يجرؤ أي طبيب على أن يشير إليها.

أخذتني دهشة..

غفوة

شرود

- ماذا ياسيدي

- هل تؤمن بالخرافة ؟

وخزتني كلمته فانتفضت:

- أشك فيها لكني لا أشك في العلم، (أكّدت بحماس)أنا رجل متعلّم.

- هذا هو السر.

قال عبارته وسحب نفسا طويلا وأردف:

- العلم غزانا والألكترونات الخفية تداخلت في حياتنا دبّت فينا لأبعد الحدود فهجرنا الخرافة ليختل توازن عقولنا.

بين شاكٍّ ومضطربٍ ومصدّقٍ:

- ولِم َلم يشخّص الأطباء قبلك هذا العلاج.

فمط شفته السفلى شبه معترضٍ أو برمٍ:

- لأنهم يخجلون أن يتنازلوا ولو بنسبة واحد بالمائة!

كالطفل أسأل:

- مادام الأمر كذلك فبماذا تشير علي؟

لا شئ.. لن تخسر شيئاً جرّب الخرافة.

جرفني رأيه حدّ الدهشة لا سيما أنّه قالها بلا مبالاة لأنّه أتبعها بهزة من كتفيه فنهض كأنّه لم يعد لديه مايقوله، ومدّ اليّ يده، فمددت إليه يدي وأنا أقول:

- سأجرّب لن أخسر شيئاً

الخرافة

النبؤة الخيال

قصص الأطفال

المعجزات

كلّها تداعت في ذهني حالما خرجت من عيادته وفي قرارة نفسي ألا أدخل أيّة عيادة مرة أخرى.

(2)

رسالة

قبل توغّلي في عالم الخرافة..

 ألقيت عن صدري ذلك السرّ الآخر الذي لم يطّلع عليه أحد والذي لم أتذكّره وقتها وأنا أعرض حالتي على أوّل طبيب سألني عن تأنيب الضمير.

والحق

تلميح الطبيب الجديد يثير شيئا ما رأيته تافها فيذكّرتي

كنت أخالف المألوف، أكذب في هذا الموقف

سوى أنّي لا أجد تأنيب ضمير

قط

حدث ذلك منذ سنوات.

ومن نافلة القول أني أخفيت الأمر على السيد المدير. قد يبدو السبب تافها.. تافها جدا مع ذلك أظنه كمن إلى حدٍّ ما في أعماقي.

ذات يوم، رحت، قبل دخول إرادة النت ومشيئة الحاسوب، رحت أفرز الرسائل، أرتبها حسب العناوين التي ترتبت في ذهني، المدير نفسه لا يتدخّل في شؤوني، الفرّاش يتابع عمله بين الإدارة والمركزوموظف الرزم منصرف إلى ترتيب الأغلفة وتهيئة السيارة دون أن يفكر كلاهما أن يأتي يوم يحلّ فيه السيد الحاسوب محلهما.

فجأة

وقعت في يدي رسالة غريبة.. قد أبالغ إذا قلت فجأة ربما كلمة مثيرة هي الأصح والأصلح.. إلرسالة معنونة إلى مدينتا من دون أن يكون على الغلاف أيّ عنوان.. لااسم شارع ولا رقم بيت.. والمرسل إليه شخص يبعث الإثارة:

إلى من يهمه الأمر

أبقيت الرسالة في عهدتي.

خطر لي أن أخبر المدير وبلمح البصر غيّرت قصدي

لا قلت مع نفسي

وأضفت

هذه رسالة كأنّها تخصّني

من هو الذي يهمّه الأمر.. المدير.. السيد مدير البلديّة.. الكبير.. ذو الفخامة.. العظمة.. هناك أكثر من واحد يهمّه الأمر، ولا عنوان لمرسل على ظهر المظروف. مادام الأمر كذلك فيمكن أن أختار نفسي عنوانا رئيسيا قصده المرسل. هناك رسائل غير واضحة العنوان ترجعها إلى البريد المركزي، فتبقى برفّ الودائع سنوات، وقد وضعت في بالي ألّا يكون مصير هذه الرسالة على الرفّ ذاته، لن أخبر السيد المدير فأنا أحقّ بها.

مع ذلك عليّ أن أطوف بها خلال جولتي أمر على العناوين وحين وصلت إلى بيتي ألقيتها في صندوق الرسائل وعدت أواصل عملي ولا يشغل ذهني أيّ شئ.

أحاول أن أتجاهل تلك الرسالة

أحلم بشئ آخر

أتخيّل أنّي لا أنتظر شيئا

وفي ختام عملي تعمدت أن أكون على سجيتي كمن لا ينتظر شيئا، ذهبت إلى صندوق الرسائل، لأطّلع على مافيه، إلى من يهمه الأمر:

افترضت ثانية أني أنا

وليس هناك من تأنيب ضمير

بعض الحماس يدفعني لفضّها واللهفة:.

نصائح

حكم

أم

هذيان؟:

لاشئ حقّا

كانت الورقة بيضاء

بالضبط مثل الرسالة التي تلقاها المدير الذي سوف أحلّ محلّه وليس عليها من طابع فآمن بشرف المهنة ودفع، رسالتي لا ينقصها أي شئ سوى اسم المرسل إليه

لأفترض أنّي هو من يهمه الأمر.. ماذا بعد غير أن أرميها في سلّة المهملات؟

**

رسالة

 لم يعد الألم يهمني بقدر ما أحاول أن أعود إلى الطرق البدائيّة أصادقها من جديدٍ وأرافقها كما لو عدت طفلا. لا أخاف على حياتي فجميع الأطباء اتفقوا ألّا شئ، وهذا الطبيب الذي لم أزره من قبل ويؤكد النقيض حدثني عن الزاوية المجهولة في رأسي.

لابد أن يكون هناك تبادل بيت الخرافة والعلم.

في بالي أن أغيّر تمط حياتي..

منذ سنوات وأنا أنقل أخبارا وأسرارا لا أعرفها. ولا يهمني أمرها، ولا أحد ممن استقبلوها أخبرني عنها، كل جسدي يتحرك. يداي، رجلاي. أعبر بدراجتي الشوارع والأزقة، وحين أنتهي من الرسائل أعود إلى الشاحنة فأقودها وهي مليئة بالرزم.

لا أحد في المدينة يجهلني

ولا أظنّ أحدا يتشاءم منّي لخبر سوء أسلّمه إيّاه بيدي

تأكّدت من ذلك تماما

حتّى ذو العاهة الثلاثيّة المركبة يعرفني

ذات يوم هادئ

ركنت درّاجتي عند الرصيف ودخلت محلا يبيع الآيس كريم، هناك سلّمت رسالة وحالما خرجت وجدت ذا العاهات الثلاث يمسح براحة يده مقود الدراجة، ثمّ يمررها على حقيبة الرسائل يمسح على بعضها:

تركته لحظات

راقبته

ثمّ دنوت منه، وربت على كتفه عندئذٍ تشبّث بي بقوة، كان من عادته إذا اصطدم بأحدٍ أو اصطدم به أحد ما يتشبّت به ويطلق همهمة فيشفق الآخر عليه ويدسّ بيده بعض النقود، ثمّ ينصرف في طريقه يساعد أصحاب المحلات في تصفيف بعض الأرفف وترتيب زجاجات قناني البيبسي كولا والكوكا والفانتا الفارغة في صناديقها..

الناس يعدّونها معجزة عوّضه الله بها عن البصر والسمع والكلام.

أمّا أنا فالأمر اختلف معي تماما

في هذه اللحظة الحاسمة وضع يده على رسالة وسط الرزمة ثمّ مسح على عينيه فانقلبت قسمات وجهه إلى حزن مطبق، كان يبكي من دون دموع بعدها عبرت يده صفّ الرسائل إلى رسالة ما وفتح فمه واسعا. كان جبينه يتحرك بين الحزن والفرح.

ولم يكذّبني ذو العاهات الثلاث..

في اليوم الذي سلمت فيه الحزن

غطّت الشارع مراسيم حزن

سمعنا صراخا

رائحة موت

في الجانب الآخر كان هناك فرح ما

عرس أو مايشبه العرس..

نجاة من حادث جلل

فوز ببطاقة يانصيب

أيّ حزن

هي المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى أسرار خفيّة تتأرجح بين الشؤم والفأل الحسن وقد نبّهني إليها من لا يسمع ولا يرى ويبصر.

ومن قبل كنت أعتمد في تبيان العناوين والطرقات على ذاكرتي ثمّ جاءني صديق آخر.. الهاتف النقال.. والكومبيتر. ارتاح ذهني قليلا، وأكاد أقول بكلّ ثقة إنّني بمساعدة صديقيّ الجديدين أستطيع أن أقود سيارة الرزم والدراجة وأنا نائم.

مبالغة حلوة.

ارتحت كثيرا.

كنت أخرج الساعة التاسعة وأعود الواحدة، بيدي أسرار مدينة أجهلها، وفي هذه الأيام أقضي ساعتين في العمل ثمّ أعود لأقابل وجه السيد المدير الذي سوف يتقاعد بعد بضعة أيام، وقد أصبحت المرشّح الوحيد الذي يحل محله.

قال لي بكل ثقة:

- سأغادر العمل وأنا مرتاح.. أنت تحلّ مكاني..

- مادامت ستتركني فعليّ أن أعلن عن حاجة المؤسسة إلى ساعي بريد يوزع الرزم والرسائل.

- لا أعتقد.. تستطيع أن ترتب كلّ شئ بساعة أصبح الناس يعتمدون على الإيميل والرسائل النّصية والتوصيلة.

وجدته على حقّ. سيل الرسائل انحدر في مدينة كبيرة مثل مدينتي إلى أقلّ من عشرة باليوم، ثمّ قلّ إلى بضع رسائل.. وأهل المحلات التجاريّة فضّلوا التوصيلة، والتعامل مع الشركات السّريعة.. كنت أتذكر كيف بدأنا وزخم الرسائل والرزم الكبير وعدد الموظفين والعمّال الذين معنا، وشيئا فشيئا يبدأ العدد ينقص. ترتاح أجسادنا وتسترخي عضلاتنا، أصبح لي أصدقاء جدد.. كومبيوتر.. هاتف.. مرشد طريق.. لكننا نبدأ نشعر بالصداع والدوار.

ويبدو أن رأسي لا يريد أن يرتاح.

يغزوه الصّداع بقسوة. أدخل في موازنة جديدة: أذا تعب جسدي ارتاح عقلي ومن الممكن أن يتعب عقلي لراحة جسدي، قد أكون الوحيد في هذا العالم المفرد الذي لم يكتب أحد إليه رسالة، قد أتلقى مثل مديري رسالة تنبؤني بتقاعدي بعد سنوات، قلت له:

- هل فاجأتك الرسالة؟

أجاب بصمت وأراه لايبالغ:

- منذ اليوم الأوّل الذي باشرت فيه العمل توقّعتها!

كما لو أنّي في دوّامة:

بعد سنوات سوف تطالعني واحدة مثلها

فقهقه حتّى خلت جدران المؤسسة تهتز:

-  شغلتنا نوزع الفرح والحزن على الآخرين، أما أنا أو أنت نستلم رسالة فيها علامة حزن وفرح، حزن لأننا أصبحنا أقرب إلى النهاية، وفرح كوننا أصبحنا أحرارا في الحياة.. ننام.. نصحو وقتما نشاء!

أمّا أنا فعليّ أن أواسي نفسي قبل أن أصبح مديرا في هذه المؤسسة، لا أعرف على من أكون المدير ولا أحد معي، مثلما لاأفهم سبب صداعي، يحقّ لي في هذه الحالة أن أواسي نفسي قبل أن أتلقّى الرسالة الوحيدة التي تصل إليّ، رسالة التقاعد.

أحبّ أن أستقبل رسالة ما

من أيّ كان

فيها جانب واحد

فرح وحده

أوحزن وحده..

عصر اليوم نفسه، تناولت حفنة من الأسبرين خفَّفَتْ قليلا من موجة صداع، وخرجت إلى مدينة قريبة من مدينتنا. ثمانية أميال.. العدد لايهم. جلست في إحدى المقاهي، أمامي بضعة أوراق.

أتأمّل ماذا أكتب.

هل أبدؤ رسالتي بمقدمة تقليدية..

تحيتي واحترامي. شوقي وسلامي..

هل أكتب على المظروف شكرا لموزّع البريد..

رحت أتناول كأس الشاي على مهلٍ وأنتقي الكلمات:

السد المحترم..

لا أبدا لتكن من صديق أو قريب أفضل.. (السيد) لاتدلّ على علاقة حميمة.

صديقي العزيز..

تلقيت رسالتك باهتمام بالغ، وكم أزعجتني فيها قضيّة الصداع التي ترهقك، وسعدت كثيرا حين قرأت أن أكثر من طبيب أكّد لك أن لا شئ.. ضحكت كثيرا إذ قرأت أن الوهم يتقمّص الصداع والبشر الحيوان هل الوهم أكثر نقاء من الإنسان.. لا أخفيك أنّي ضحكت من اكتشافك الجديد.. لا بأس عليك ياصديقي العزيز.. اللاشئ في كثير من الأحيان يكون مزعجا ومؤلما، والطبّ في هذه الحالة لاينفع، اودّ أن ألفت نظرك بمثال غير معقّد أرأيت معظم الفنانات يقمن بعمليات تجميل إنهنّ يرغبن أن يهمِّشنَ الماضي يرجعن للوراء حتّى وإن لم يكن الماضي جميلا.. أرايت.. الصداع الذي يغزو رأسك لا علاج له إلّا إذا هربت إلى المستقبل.. اثقب الآتي لتعرف كلّ شئ

لقد قضيت سنوات تحمل أخبارا لاتعرفها

مع ذلك شكّ فيك الطبيب

لعلّ حكمي يبدو قاسيا لكن لا حلّ سواه

لأنّي لكي أكون منصفا

تتبعت الحقيقة وحدها

فوجدت

أنّك ولدت سعيدا فرح بك أبوك وأمّك وأختك التي تكبرك بثماني سنوات

ثمّ فقدت أبويك في حادث وأنت في الثالثة عشرة من عمرك

فعشت مع أختك وزوجها

بعدها

عملت في دائرة البريد فعشت وحدك

عليك ياصديقي ألّا تكتفي بالحقيقة وحدها ولا تعود إلى الماضي على وفق طريقة ممثلات السينما

ينقصك شئ من الخيال

فارحل إليه

مع أطيب تحياتي

المخلص

وضعت الرسالة في مظروف ثمّ كتبت عنواني، وقصدت بكلّ ثقة مكتب البريد، أودعتها هناك وعدت إلى مدينتي.

كنت على ثقة أنها أول رسالة تصل إليّ في حياتي بغض النظر عن الرسالة التي كانت معنونة إلى من يهمه الأمر.. ساعي البريد لا يحتاج إلى رسائل من آخرين، أما أنا فبأمس الحاجة إلى رسالة أجد فيها نصيحة تدلّني على علاج رأسي. انتظرت صباح اليوم التالي وصول الرسائل والرزم، كنت أحدّق في أيّ عنوان، وأظنّ صديقي الذي كتب العنوان بدقة ووضوح. على يقين من أنّه وضعها في البريد السريع.. دفع أجرا مضاعفا. لم يكن هناك من اضراب في بريد أيّة مدينة ولا تعطّل في العمل.

مع ذلك لم تصل الرسالة.

أحتاج لبعض الصبر.

وفي اليوم التالي حدث لي ماحدث في اليوم الأول.

ومر يوم وآخر.

لم أستطع صبرا، فتوجهت إلى السيد المدير الذي بدت علامات القنوط على وجهه.

سألته:

يمكن ألّا أضايقك بسؤال آخر.

عليك أن تقول كلّ ماعندك قبل أن أغادر.

قلت بفضول الملهوف:

أتتوقّع أن تأتيك رسائل بعد أن تغادر إلى منزلك؟

فأطلق هذه المرّة ضحكة فيها بعض المرارة والسّخرية:

- بالتأكيد سوف تصل إليّ رسالة من مؤسسة المدافن تخبرني كيف أشتري قبرا وفي أيّ مكان وبأيّ سعر ورسالة من نادي المتقاعدين فيها هويتي الجديدة والامتيازات التي تحقّ لي (التفت إليّ وبسمة باهتة على شفتيه) أريت كيف أصبحت عرّافا أعرف الأخبار عن بعد..

قلت ببعض المواساة:

-  لك طول العمر والصحّة والسلامة

وكنت أنتظره لأحلّ محلّه وأبحر باتجاه آخر أتحرّر به من صداع رأسي.، فأنا الساعي الوحيد الذي استولى على رسالة ليست له وليست لغيره، ولعلّه تأنيب الضمير.

(3)

ثانية ذو العاهات الثلاث

لكنّي لا أنطق عن نفسي

بل

عن خرافات كثيرة كنت قد نسيتها

هجرت العمل بعد أن غادر المدير، المكتب بقي قائما أما الناس فيظنوني حللت محله. لا أحد يرغب في الكتابة على الورق، وأرفض أن أحمل أخبارا لأ أعرفها، القانون نفسه يعدّني خليفة المدير، كنت أترك العمل

 وأغلق باب البناية. فلا يثير غيابي أيّة مشكلة، أرى مركبات الشركات تجوب الشارع في أي وقت توصل الرزم إلى أصحابها.

رسالتي التي كتبتها بيدي لم تصل.

ولا أظنّ أنّ هناك رسالة غيرها إليّ في الطريق

وقد أصبح الصداع يعشعش برأسي

لايفارقني قطّ

مطارقه تكاد تهشّم جمجمتي..

لا طبيب بذهني

حثثت خطاي إلى المجهول أفكّر بطريقة أتحرر بها من صداع يشطر رأسي

الخرافة نفسها

 بل ما أراه رأيته من قبل عن بعدٍ

 لمحته يدعوني

الشيخ الكبير تاريخ المدينة الأسطوري. هكذا سمّيناه، في الزقاق القديم اعتاد أن يفرش حصيرة على الأرض، يظل صامتا يرتّل بشئ ما، يتلو.. ويتلو. ولا يقف عن التلاوة إلاّ أن يقترب منه أحد ليجلس جنبه.. وحين يأتي من يجلس عنده يظلّ يثرثر على مسامعه بحكايات غريبة. منذ أن فتح الناس عيونهم على الدنيا يعرفونه، أما أنا فقد عرفته قبل عشر سنوات يوم تركت بيت أختي والتحقت بوظيفتي، جلست أمامه فحدثني ذات يوم عن البرازيل وبريطانيا، كان يحدّث عن كلّ الدول: الهند.. فيتنام. اليابان.. روسيا، لم تبق بقعة لم يتحدّث عنها من يسمعه يظنه بحارا رست سفينته في موانئ العالم التي لا تحصى.

لكنّه لم يغادر مكانه قط.

لا أحد يجرؤ على أن يصدِّقه

ولا أحد يكذِّبه

عندما انحرفت من زاوية الرصيف أبصرت ذا العاهات الثلاث يجلس جنبه، ينصت والشيخ المهاجر في كلّ الدنيا يقصّ عليه. لم أسمع حديثه، وعندما اقترب سلمت عليه. وبادرته بالسؤال من دون مقدمات:

- ياسيدي الشيخ أتيتك لا أحمل لك أي شئ..

- دع أخبارك للآخرين فلست بحاجة لها.

كان دو العاهات الثبلاث يعبث بالحصير ويتمتم بحشرجته المعهودة:

- ياشيخ هل تحدث من لا يسمع ولايبصر أو يرى؟

فقال ببرم وضيق:

هذا أمر لايخصّك فلا تتدخّل فيما لا بعنيك.

- بل جئتك ياسيدي طالبا بركتك (وأضفت)إني أعترف بخطأي كوني لم أتذكرك إلّا الآن.

- أنت لم تتذكرني لكنّهم ذكروك بي.

ملت برقبتي أمامه وتضرّعت:

- متى يغادر رأسي الصداع؟

مدّ يده إلى هامتي وقال:

- يذهب في الحال بشرط واحد لا يحقّ لك أن تسأل عنه.

عندئذ همهم ذو العاهات، فخفضت بصري، وأجبت قبل أن تنزل يد الشيخ عن هامتي:

- موافق على أيّ شرط كان.

عاد الرجل إلى صمته، والتفت فلم أجد ذا العاهات، كان قد غادر مابين التفاتتي إليه والتفاتتي نحو الأرض وأنا أطأطئ رأسي لأقبل بالشرط الذي لا أعرفه مقابل أن يزول صداع رأسي.

(4)

رأسي المعجزة

نهضت من النوم، وقد شعرت بثقل خفيف في رأسي.

مزاجي رائق وليس هناك من صداع..

ولم أعد بحاجة إلى أسراب حبوب البانوديل والأسبرين.

فرح

نشاط

رغبة

ودماء جديدة تسري في عروقي.

هناك فقط شئ ما في رأسي.. شئ لايؤذيني، ظننته من بقايا المرض السابق الذي تحدّى الطبّ وهُزم بمسحة من يد وليّ قديم يعيش بعيدا عن ضجّة الشّارع، ولا يفهم كيف يستخدم المخترعات الحديثة غير أنّه مع ذلك يتحدّث عن مدن أخرى لم يرها من قبل كأنّه عاش فيها وعاشر أهلها من دون أن يغادر مكانه.

في اليوم الذي هزمت الصداع بعودتي إلى الخرافة أدركت أن العلم لايمكن أن يسكن عقلي وحده وإلّا لتآكلتُ من الوجع، ولم أعد - إذ جلست على كرسيّ الإدارة- أفكّر برسالة تأتيني عن شراء مثوى في مقبرة، أو يهمّني ضياع رسالة كتبتها في حالة مرضي وهي الرسالة الوحيدة التي أعرف مافيها. لقد أدركت حقيقة جديدة هي أن رسالة من دائرة التقاعد سوف تأتيني بعد عقدين.

ترتيب آخر

وضع ثان

نهضت من مكاني.. قصدت، دورة المياة وحين لمحت وجهي في المرآة اكتشفت شيئا غريبا، بعض احمرار في جبيني، وقليل من الورم.

لا أراه ورما

لكنّ رأسي كبر قليلا

زاد حجما عن المألوف.

هل يعقل أن الصداع كان يقضم رأسي، وما أراه من تغيرواضح في حجمه يوحي أن يكون ردّة فعل لتآكل عانيت منه..

بعض القلق

ربما الريبة وليس الخوف..

ولا رغبة فيّ لزيارة أيّ طبيب

أغلقت باب البناية، وهرعت مشغوفا باكتشافي الجديد عن رأسي. كانت معي الدراجة الفارغة من أيّة رسالة كأنّي أودّ أن أظهر للعالم أنّي مازلت حيّا مادامت الدراجة ذات الحقيبة معي ولا أحد يعرف إن كانت فارغة أم مليئة بالرسائل. لمحت في طريقي ذا العاهات ينتظر عند إشارة المرور، واصلت سيري حتّى ارتقيت إلى مكان الشيخ. انحيت أمامه، قلت مشفوعا بالدهشة والمفاجأة:

- هل ترى يا سيدنا الشيخ

فابتسم بحنان مفرط وقال:

- هذا هو الشرط.

- أن يتغيّر رأسي؟!

- نعم كنت تجهل ما في أحمال تحملها تحمل فيراودك صداع يقضم جمجمتك أما الآن فترى كلّما عرفت شيئا جديدا كبر رأسك!

- يا مولانا الشيخ!

- لِم َتتعجّب!

- إذن ممكن أن أصحو فأجد رأسي كبيرا بحجم بطّيخة كبيرة أو قرعة ضخمة.

وسكتّ ألهث من الفزع، فواصل بدلا عنّي:

- أو بحجم أكبر رأسك يظلّ ينمو وينمو وستحمله رجلاك من دون أن تتعبا (سكت بينما بقيت صامتاً مأخوذا بالدهشة) لا تعجب من رأسك الذي يكبر كلَّما عرفت معلومة جديدة أنت شرطت على نفسك.

- وماذا تريدني أن أعرف؟

فابتسم وقال من دون أن يلتفت لي:

- ستعرف الأصيل من الغريب والقاتل والمقتول ولست بحاجة إلى أن تذيع سرّك فرأسك الكبير يكشف عنك.

عندئذ سمعت صوتا ًأشبه بالزئير فالتفت إلى الخلف، فوقع بصري على ذي العاهات الذي واصل حشرجته وهو يسير بخطىً بطيئةٍ باتجاه ٍمستقيم ٍكَالرّجلِ الآليِّ حتّى دنا من الشيخ وجلس جنبه عندئذ التفتَ إليه وقال:

- جاء دورك الآن

والتفت نحوي قائلا:

- اغرب عن وجهي فقد تحقق شرطي معك.

كنت بعد لقائي الشيخ أواجه مشكلة حقيقية

أجد رأسي يتضخّم كلما عرفت شيئا جديدا

قلق

من دون صداع يصبح أكبر

حيرة:

العالم كلّ دقيقة يمنحنا معرفةً جديدة.. إلى أيّ حدٍّ يصبح حجم رأسي؟

هل خدعني الشيخ أم خدعت نفسي؟

ومثلما كان الصداع خفيّا لايثير الناس من حولي أصبجت مثاراً للفضول

السيد مدير البريد برأس غير طبيعي.

هل هو مرض حميد؟

الكل يسألون ويجيبون أنفسهم.

من يعرفم ومن لا يعرفك.. الذين حملت إليهم البهجة والحزن. بعضه يشفق ومن لا يبالي.

هذه المرة أعرضت عن الأطباء تماما، لم أذهب إلى عملي، ثمّ ثارت ضجة من حولي لاسيما أن هناك ظاهرة غريبة بدأت تثور مع كبر رأسي ونموه المفرط.

وأنا أعلم وأعلم ورأسي يكبر

لقد بدأت هذه الأيام حملة اغتيالات في البلد.

فوضى في الليالي ثمّ امتدت جذورها إلى وضح النهار

وأنا أعرف عمّا يجري.. عن كلّ صغيرة وكبيرة ماعدا محاولات الاغتيالات تلك

عرفت..

عندئذ لفتٌّ نظر الجميع لاسيما أن الاغتيالات وبعض أعمال العنف زادت عما كانت عليه في السابق. يوم كنت ساعي بريد وراودني الصداع حدثت أعمال مريبة. حوادث متفرقة على فترات متباعدة، ويوم أصبحت مديرا واختفى الصداع بدأ رأسي يكبر، وازدادت تلك الحوادث.

أروح أفتتح المكتب

يائس من وصول أيّة رسالة. أتّصل بالدائرة العليا، فيجيبني الصوت الآلي، لا رسائل، مرّة واحدة أجابني صوت حيّ بالتفصيل:ربّما نستغني عن البريد ونضمّ العاملين إلى رقابة الإيميلات.

يشدني الحنين للدراجة، فأخرج بها أوهم الناس أنّي أمارس عملي

أذهب إلى البيت أفكر برأسي ومدى المساحة التي سوف يحتلها

وفيي صباح اليوم التالي أسمع أن في أحد البيوت قتيلا أو على الرصيف

أعرف الحوادث قبل وقوعها

قبل أن تسري بين الناس وفي وسائل التواصل الاجتماعي

كلّ شئ أعرفه

نزول البورصات وصعودها

الجديد في العلوم والابتكارات

مايمكن أن يكون

كأن نومي يجتذب أحلاما تتحق في النهار

يمكن أن أعرف كلّ شئ وأتوقع حوادث القتل لكني لا أعرف من القاتل

أو

من هم القتلة

حالة غريبة مثل حالتي

في البدء ظنّوا رأسي انتفخ ورما..

تحاشوا الاقتراب منّي

كلّ يوم يرونه يكبر

والحوادث لا تتوقف

هناك لغط.. حول رأسي، واهتديت إلى أن جميع القتلى من أفراد الحكومة ذوي الرتب العالية ومعاونيهم الغرباء.

في هذه الأثناء استدعاني كبير البلدية. طلب مني الحضور إلى مكتبه بعد أن اعتاد الناس على رأسي وراحوا يقتربون مني.

بعضهم وضع يده على هامتي.

آخرون وجدوني علامة شؤم.

ومجموعة رأتني علامة فأل

من هؤلاء المتفائلين برأسي الكبير، المجلس البلديّ ورئيسه. الذي ابتسم بوجهي وقال:

- نحن ندرك تماما وقائع الرعب والجرائم التي تحدث وأثرها في الناس ومادامت الرسائل قد انقطعت فيمكنك أن تسّري عن الناس لينسوا المأساة.

وأكّد نائبه:

- في الوقت نفسه يمكن أن تكون معلما سياحيا من معالم مدينتا.

قال المسؤول المالي:

- قد نفكر بنسبة من الربح لك.

سألت عن طيبة وقد استحسنت الفكرة:

- أين أقف؟

- ستكون في مركز البلد حيث تجري كثير من الفعاليات أيام العطل والأعياد.

لا أخفي أني رغبت في العرض ومردوده، هناك جانب مادي في حياتي ربّما أتجاهله ولا أنكره، لا أرى نفسي مثل قرد في حديقة الحيوانات داخل قفص يأكل الموز، وينطّ فيبهر الزائرين. كنت أقف في ساحة مفتوحة تحت حراسة، ورأسي يكبر أمام الناظرين

يظلّ يكبر

ويكبر

والناس من مختلف بقاع الدنيا يأتون ليروني،

ولا حديث لأحد إلا رأسي الذي يكبر

وفي المساء قبل أن يحلّ الظلام وتبدأ الاغتيالات، وتنعدم حركة الشارع، أسارع شأني شأن الكثيرين في حثّ الخطى إلى منزلي.

في ذلك المساء المضطرب عدت إلى البيت وفي رأسي تتلاعب أفكار جديدة، ماذا لو قابلت السيد كبير البلدية وشرحت له وضعي الجديد والتعب الذي أعانيه بوقفتي طول النهار. لم أشعر ببعض الخجل أو يراودني شعور بالمهانة من نظرات المتطفلين والسيّاح. فكرت بامتيازات أكثر، ومكاسب تريحني. يمكن أن أجلس، وأتمشى قليلا داخل الرقعة المخصصة لي وسط المدينة، ويمكن أن أطلب يوما أرتاح فيه كلّ أسبوع.

هكذا فكرت

وعندما دخلت الشارع، وقع بصري عن بعد على ذي العاهات الثلاث، راح يتلفت، ليتأكّد من خلوّ الطّريق.

شككت

وأخذتني دهشة شديدة

فنسيت نفسي

رحت أتبعه عن بعد. هو الوحيد الذي لا أعرف عنه شيئا. كان يمشي في الظلمة بخطوات سريعة. لم يكن إنسانا آليا.. مع ذلك حثثت خطاي خلفه حتى رأيته يقف أمام بيت كبير المدينة يتلفّت ويعود إلى مشيته الأولى.، وقف أمام البوابة وهو يفحّ فحيحه المألوف، وسمعت الحارس يقول:تعال هل تريد أن تموت ماالذي أخرجك في هذا الوقت ليتك تسمعني فتعرف مايدور في هذا الليل..

فجأة

تشبت بالحارس كنسرٍ أنشب مخالبه ببطن طائرٍ وديع.. ثمّ استلّ شيئاً ما حاداً من جيبه غرزه في ظهره وراح يسحل الرجل من قدميه إلى خلف البوابة.. بقيت متسمرا في مكاني مثل الصنم وبعد دقائق خرج ذو العاهات من البيت وآلته الحادّة تقطر دما

لا أنكر

أني رأيت كلّ شئ

فإذا برأسي يكبر

عرفت أن ذا العاهات الثلاث قتل كبير المدينة وحارسه. لقد مرّ بي وهو يفح، وقرأت على وجهه ابتسامة تشفٍّ وزهوٍ، وأسرع كالبرق..

من يصدّق أن من لايسمع ولايبصر ولايتكلم..

وعندما وصلت إلى المنزل، وأنا أتخبط بالظلام، أدرت المفتاح في القفل، ودفعت الباب.. حاولت أن أدخل لكنّ المفاجأة الأخرى أدخلتني في رعب حقيقيّ..

تساءلت ماذا لو كبر رأسي وأنا داخل المنزل من المحتمل أن يصبح بحجم لايطاق!

كيف أحرج إذن؟

سوف يسفر الصبح فيعرف الناس وذوو الشأن أني بقيت الليلة كلها خارج البيت.. هناك احتمالات كثيرة.. سوف أتهم ببالجريمة الجديدة وكلّ الجرائم من قبل..

ولا يصدقني أحد حين ألقي التهمة الأخيرة وتهم كثيرة قبلها على صاحب العاهات الثلاث!

لا أحد يصدّق

ولا أرغب في أسوأ الحالات أن أكون مخبرا لذوي الشأن

كانت آخر فرصة متاحة لي أن أهرب برأسي الكبير الذي فاق الحد إلى الصحراء وأظلّ أعترف أمام الفضاء الواسع المفتوح لعلّ رأسي الكبير يعود إلى حالته الأولى وإلا ستظلّ التهمة تلاحقني إلى الأبد.

***

قصة: قصي الشيخ عسكر

بغدادُ الآنَ

مطرٌ غزيرْ

و{حالوبٌ} أَشقر

ورياحٌ وزمهريرْ

و"ع الحواجبْ

يلعبْ الشَعْر الحريرْ"*

وأنا …

وبغدادُ المظلومةْ

وحبيبةُ روحي المجنونةْ

تحتَ الأمطارِ نسيرْ

وبمظلاتِ العشقِ البغداديِّ

الفاتنِ

سوفَ نطيـــــــــــــــرْ

*

وبغدادُ الآنَ

شوارعُ غارقةٌ

وقلوبٌ عاشقةٌ

تمشي تحتَ دموعِ اللهِ

ولا تخشى الأَطيانَ

ولا الطوفانَ

ولا أَيَّ بروقٍ وأَعاصيرْ

*

إلٰهي …

ياربَّ المطرِ الطُهْري

إغْسِلْ بغدادَ

من الأدرانِ

والأَطيانِ

والديدانِ

الـ تملأُ أَفئدةَ البشرِ الجوفِ

والحمقى والقتلَةْ

واللصوصٍ السَفِلةْ

وموتى الضمائرْ

وكلِّ الذينَ بلا أَحاسيسَ

ولا أرواحٍ صافيةٍ

وبلا دمٍ

ولا رؤىً

وحيثُ لا أَحدٌ يُطيقُ

رؤيةَ وجوهِهم الفاقعةْ

من هولِ السُمِّ الأَصفرِ

الناضحِ من أَلسنتِهمْ

وقلوبِهم المسعورةْ

وعيونِهم النابحةِ بالمكائدِ

والاكاذيبِ والأَقنعةِ

وجَمَراتِ الزمنِ الشرّيرْ

*

وها بغدادُ الليلةَ

يغسلُها مطرُ الرَبِّ

وندى الحُبِّ

ومياهِ الخلقِ الأُولى

وها بغدادُ الآنَ

ترقصُ حافيةً معَنا

أَنا والمعشوقةُ

والشعراءُ المسحورونْ

والعشّاقُ الصوفيّونْ

ثُمَّ مع الطيرِ

وعلى قلبِ الريح

نحنُ وبغدادُ الوردةُ

سوفَ نطيـــــــــــــرْ

***

سعد جاسم

أوتاوا في 25- 3 - 2024

........................................

* من أُغنية عراقية للفنان فاضل عوّاد

 

في كل وقتٍ يحط الحمامْ

أراه يفتش

عن خله أو بقايا طعامْ..

وعند تخوم السواحل

يمرح الحزن

في عيون النوارس

تشتكي من ضباب القلوب

وعمق الندوب

ومسخ الكلام..

**

وعند قدوم المراكب والسفن

بأشرعة

تئن أنين الصواري

تثير الشجن..

وتسلب مني عيوني المنام..!

**

فخذ ما شئت

أيها الطائر بين الغيوم

وفوق الصخور

ودعني أفتش عن مرتعٍ في الغمامْ..

**

يراودني العيش عندَ السواحلِ

أدفن وجهي بين القوافي

لتنعش روحي بمعنى السلام..

وصوت النوارس

وصمت الكلام..

**

أجدني،

أضاجع هذا المساء

بهمس الثواني..

أرى العاديات يزرن

جنون الغواني..

فيبزغ فجر هذا الصباحْ..

يُعطرُ قِبْلَةَ الوجد

وينثر عطرها المستباحْ..

**

تمر سريعاً أمامي

حزمة من ضياء

ونفحة عطر الياسمين

والشبابيك

عند المساءْ..

تشتهي

نسمة عابرة،

وخيال

تشتهيها القوافي إشتهاءْ..

**

ليس هذا نثيث الرؤى

في عيون المها

تتعاطى

رقصة القهر

والتعاسات في جوفها لا تنامْ..

**

يصطفي الغبش الملعون

فوق الربى

يترنح

يعلن ترحابه

قبيل نزيز السخامْ..!

**

عندها،

تخطت هواجس

هذا الزمان المريع

وتاهت فلول القطيع

تصول بعري الرؤوس السكارى..

وترغي

ولا تستفيق

على صرخات الجياع الحيارى..

وتذري بذاءاتها

على طول تلك التخوم..

من يداوي الكلوم..؟

من يراعي نجمة الصبح تبكي

صغار النجومْ..؟

**

يسود السكوت

سحاب الوجوم..

يجول بأقدامه العاثرات

دروب الجحود

دروب السجود

ولا من يداري رضيع الفطامْ..

**

فكم حاصرته الكآبة

في مشوارها

وكم لآزمته المهابة

حتى يفك القيودْ..

**

الطريق إلى مدخل السور

رهن النهارات

يضيء بصمت الدروب

وصخب الحروب

وعبر المساءات

يموت الغروبْ..

فكيف يكف العزاء

ويمنع نيرانه

تحت وطئ الهشيم..؟

وتلك الرياح على حالها

تصفر

عبر الغصون اليابسات

لتلهب من تحتها

رغبة الصحو

فتغدو شواغلها عاصفات

بِهَمِ المتاع الحرامْ..

**

تموت النهارات

من فرط هذا العبوسْ..

وتلك النفوس التي شربت

ذلها بحرب البسوسْ..

**

من يداري سلام النفوس..؟

من يعيد الرؤوس إلى أعناقها

في مواخير المدام..؟

هل يمسح الليل أهدابه

كي يجاري الليالي القفار..؟

مستنيرًا بأحلامه

وبُعْد المسافات الطوال

يسترق السمع

كلما حاورته العصافير

والناس من حوله

يمتطون سويعات هذا النهار..

ويسكر بعضهم

دون خمرٍ

بل الحلم يبني الطريق

ولا يشتكي من سكاكينه

فهذا يدور بترحاله

وذاك يئن أنين الجريح..

" وذاك يدق بناقوسه

وذاك بمأذنة يصيح " ..

وبينهما يمرح الموت

سكرانًا

يحث الخطى

ويَعِدُ السهامْ..!

**

ولو حاول الموت

أن يستظيف النوارس

لغداء السواحل

مهرجانًا للسنانير

وللغربان

تقفل الحارات أبوابها

لم تعد تستقبل

الشمس

والهمس

وصوت العصافير

والريح يملؤها العفن

تجتاحها رغبة في البكاء..

على حفل ذاك الشواء

تنهض من نومها

تتحاشى عواء الذئابْ

في هزيع الظلام..

**

أراها تحدق في هوة

ليس فيها قرار

إلى أين يفضي الفرار..؟

فتلك إيقونتي

أرى فيها شهوة الأنتظار

لم تكن قد فارقت

شفتيها قهوة الصبح

حتى تلاشى الصمت في نغم الحوار..

**

من يدين لتلك

الرؤوس الفارغات

يرونها

محشوة بالقش

يساقط منها

في نوبة الصحوٍ

يحار الغضبْ..

فيا للعجبْ..؟

كيف تبقى الرؤوس

معبئة بالقش

تطوي حالها في نذور

الماكرين

القانطين

ومنهم من تولى ذرى الأنتقامْ..

أهو الغمام..؟

أم الحرام

أم المدام

في نوبةٍ الوهم صولاتها

فتاوى هذا الجذامْ..؟

**

يمضغون الوقت عند السواحل

في نوادي السجالاتِ

في مقاهي الفراغاتِ

حالهم

كالنرد

لا يبرح الرقمٍ

ولا يعتليه القدر

دعوه يرنو طويلاً

إلى ساحل البحر

يشكو عناء السهر..

لكي يبقى عصيًا

يقاوم محنةً لا تنامْ..

**

تقول له:

أوزعني أيها القلبُ نفحًا

لكي أبقى في عيونك أصلي..

**

آه من صمتها الراسخ

حين يدب

دبيب الخطايا

ويسأل .. أين نحن

من نهاراتنا العابقات

بشذى الأقحوان

وعبق النذور

فهل أقتفي ظلها

كلما لآح لي شبحًا في المنامْ..؟

**

أفتح في الغبش نافذتي

فيندلق الصمت سيلاً

والهواء الرطب

يحمل نسمة البحر

والفجر يمضي

ليسجد ركعتين

بينهما مرتعين

هما الدفء

لا غير في عالم الأشتهاء

سوى الصمت

وهذا نذير كلامْ..!!

***

د. جودت العاني

22- 01 - 2018

 

شـــــوق

أشتــــــــــاقُ فيخذلني صبري

وأسيــــــرُ إليــــــكِ ولا أدري

*

سيرَ المقرورِ إلـــى نـــــــــارٍ

سيــرَ الظمـــــآنِ إلـــــى نهـــرِ

*

قولي مـــــــا سرّكِ يا امرأةَ

هــــل أبرأُ مـــن هــذا السحْــرِ

*

يـــا نشوةَ نشـــواتي الكبرى

هـــل صحْـوٌ مــن بعــدِ السكرِ

*

يا أعذبَ ما غنيّتُ ويــــــــا

أحلى ما أشدو مـن شعـــــــرِ

*

أشواقـــي مثلُ فراشـــــاتٍ

لمْ تبرحْ تحلمُ بالزهْــــــــــــرِ

*

أتهرّبُ منـــــكِ علانيـــــــة ً

وأذوبُ هيــــــاما ً فــي السـرّ

*

فأنا فـــــــي حبّكِ منشطـــــرٌ

نصفيـنِ.. أعيدي لــي شطري

*

حاولـــــــتُ بأنْ أنســى فإذا

بخيـــالكِ يخطرُ فـي فكـــري

*

يغرينــــــي يملؤنـــي شغفا ً

ويؤجّجُ نــــــارا ً فـي صدْري

*

فأحسُّ بأنّكِ حاضـــــــــرةٌ

أنفاسكِ تلهثُ فــــي نحْـــري

*

والشعْــــرُ الأشقـرُ مُنســدلٌ

كسنابــــــلِ قمحٍ فـي الفجــــر

*

ترميهِ الريحُ على وجهــي

فتفـوحُ قواريـــرُ العطــــــــرِ

**

أهواكِ وزورقِ أحلامــــي

يستغــربُ مثلي من امـــــري

*

والريحُ تجنّ ومن حولــــي

تتلاطمُ أمــــــواجُ البحْـــــــــرِ

*

قلِــقٌ تتسـارعُ فــي صدري

دقّــــــاتُ القلبِ مــــن الذعْــرِ

*

فأنا لم أبحــرْ سيّـــــــــدتي

منْ قبلُ وأجهـــلُ مــــا يجري

*

سأعــــودُ وأنزلُ صاريتي

من حيثُ بدأتُ الـــى البــــــــرّ

*

وسأكتبُ بيتا ً مــــن شعري

وسأنقشــــــهُ فــوقَ الصخْــــرِ

*

كلّ الأحــــــلامِ إلى أجــــــلٍ

وتمـوتُ جميعــا ً فـــــي الفجْــرِ

***

خـــــــداع

لاشـئ سوى عيـــــنٍ تبكـــي

ويقيــــــن ٍ يُذبَــــــحُ بالشـــكِّ

*

ومشاعـــرصادقـــةٍ حيــرى

تتألــــمُ مِنْ وَخْــــزِ الإفــــكِ

*

وَجعـي قدْ زادَ على صبري

ماذا سأدوّنُ أوْ أحكــــــــــي

*

يا مــنْ فتنتنــــي طلعتهـــــا

وهــــواها أمسى كالنُسْـــــكِ

*

يا مَنْ في قلبـــــي معبدهـــا

بالطِيبِ تعطّرَ والمسْــــــــكِ

*

أخشــــى أنْ أصبحَ مُتّهمـــاً

بهواكِ وأوصَـــفُ بالشـرْكِ

*

قدْ كنتِ ملاكــا ً في نظـري

فرويتُ حكــــــاياتٍ عنــــكِ

*

أحسسـتُ بأنّــــكِ مملكتـــــي

بالحــبّ سمـــــا فيهــا مُلكـي

*

فإذا بالحــــــالِ قد انقلبـــــــتْ

واستُبدِلَ وردٌ بالشــــــــــوكِ

*

مـــا أنتِ ملاكــي اليومَ كمـا

بالأمــسِ ولســتُ أنــــا منكِ

*

تمثيــــــلٌ ، أدوارٌ شتّـــــــــى

شيــــــطانٌ أنـــــتِ بلا شـــكِّ

***

فــــــــراق

لا تغضبــي وتثوري مثلَ زوبعـــــةِ

فلنفتـــــــرِقْ بســـلامٍ يــا معذّبتـــي

*

سيـفٌ لســــانكِ كمْ أخفيتُ فـي كبدي

مِنْ طعْنـــــةٍ منْ كلامٍ منهُ مُنْفلـــتِ

*

كلُّ الدروبِ أراهـــا الآنَ موصـــــدة ً

فلا تسبّـــي فليسَ السبُّ من لغتــي

*

جرّبتُ قبلكِ طيْشَ البحــرِ مِنْ زمـــنٍ

صارعــــتُ أمواجهُ شوقا ً لأمنيتي

*

لكنّــهُ زادَ طيشـــــا ً والريــاحُ جرتْ

حولي بغيـرِ الذي تهـــواهُ أشرعتي

*

فعفتُـــهُ وسلكتُ البرَّ أهبــــط ُمِـــــنْ

عالـــي الجبــالِ الــى أعماقِ أوديةِ

*

هواكِ ذنــْبٌ أراهُ غيـــرَ مُغْتفـــــــــرٍ

ولا أظنُّ بأنْ يُمْحـــــى بأدعيتـــــي

*

هوَ الفراقُ ومـــــا غيـــرُ الفراقِ بــهِ

غـــدا ً أكفّـــرُ عنْ ذنبي ومعصيتي

*

غدا ً سأهجـــــرُ هذي الدار منطلقـا ً

كالطيـــرِ في سفـرٍ مِنْ غيرِ أمتعــة ِ

*

فلتأخذي كلَّ مــا فيها ولا تَدعـــــي

شيئا ً نفيســــا ً بما فـي ذاكَ مكتبتي

*

إنّي اشتريتُ خلاصي وهْوَ أثمنُ مِنْ

هـــذا المتــاع الذي يُغــريكِ سيّدتي

*

غـــــدا ً أكونُ طليقــــــا ً لا يرافقني

إلا الجوازُ وأشعــــــاري ومحفظتـي

***

جميل حسين الساعدي

كانت توزع المرايا على جميع جدران المنزل وفي كل زاوية من زواياه (تجر الحسرات)، وهي تنظر الى وجهها وتتحسسه بيدها كأعمى يتهجس بعصاه الطريق. تتوقف يدها فجأة حين تقترب وتلامس شفتها العليا وانفها الافطس.

كانت وصية جدهم الاكبر، هو عدم الزواج من الاغراب مهما كلف الأمر ومن يخالف ذلك يطرد ويحرم من الميراث.

لذلك حرص الجميع على أن يحترم وصيته، ويعمل بها وكأنه حاضر بينهم. لم يخرج الارث والمال خارج العائلة بل تضاعف كما و تضاعفت أعدادهم ايضا وازدادت كجحافل من النمل. الجميع سار على خطا الجد الأكبر وامتهن (الدلالية) وهي مهنة مربحة في بيع وشراء العقارات، وأخذوا يتبارون بمن يملك عقارا يفوق به الاخر، وكان عدوى قد سرت بينهم. وتم شراء جميع المنازل المجاورة لمنازلهم، وتعدى ذلك بأن يمتلكوا الشارع بطوله ثم الحي بأكمله، حتى تم أطلاق عليه تسمية حي (الارانب) تسمية غريبة بعد ان تعددت الزيجات داخل العائلة، تسبب بشذوذ في شكلهم وتغيره مع مرور الزمن وكأنهم من سلالة مختلفة، وصارت جميع نسائهم تلد أطفالا بشفاه أرنبيه، كانوا يتفاخرون بالمال والشكل الذي تميزوا به الا ان ذلك ترك اثرا كبيرا في نفس (خلود) وهي واحدة من سلالة (حي الارانب). كانت تشعر بالاختلال في شكلها وخصوصا حين تكون خارج حيها، بدأت تفقد شعور اللامبالاة وهي تطالع وجهها في كل مرة بالمرآة والشق الطولي يقسم شفتها العليا بل وتعدى ذلك بان يحدث شرخا كبيرا سرى الى كامل روحها وجسدها، كل كنوز الارض لم تخفف عنها هذا الشعور. حاولت الهروب من النظر الى وجهها بالمرأة لكن دون جدوى، ارتفع منسوب الكأبة لديها وصار التفكير يؤرق نومها (الشجاعة ليس أن يرضى عليك الاخرون بل أن تتخطاها وتجد نفسك). استمدت كل شيء من قرارة نفسها، كتعبير عن رباطة الجأش والثقة بالنفس. معللة ذلك محدثة نفسها: بأن نتائجه حتما ستنهي كل معاناتي وتقربني ممن أحب و كشف مشاعري نحوه. قررت القيام بإجراء عملية تجميل وردم ذلك الشق والى الأبد ومضت في قرارها دون النظر لمطبات الطريق الذي سارت فيه وتجهل وعورته، تخلصت من الشق الأرنبي اللعين بعد اجراء العملية والتي تكللت بالنجاح، أصبحت تتمتع بشفاه قرمزية كحبه كرز أضافت لشكلها جمال جعلها تتهادى ولأول مرة في مشيها كأنثى طاووس تتباهى بحسنها، أثار ذلك سخط جميع النساء في حيها وحتى بعضا من الصديقات المقربات اليها، أصبحن يرمقنها بنظرات تنم عن غيرة قاتلة بثت سمومها وفحيحها نحوها !! بدأت أصوات ضحكاتهن الساخرة تتعالى، بسبب شكلها الجديد الذي كان يمثل انتماءها لحي الارانب وصارت حديث الساعة، وما أشيع وتناقلته الألسن بأنها تخطط للهرب مع شاب غريب من خارج حيها، وقعت في حبه وقد تكون تحمل داخل أحشائها طفلا منه. وما أكد ذلك رفضها لكل من تقدم لخطبتها، تلك الإشاعات أيقظت داخلها جسامه الموقف وتغير الحال وأصبحت مغتربة بذاتها. أنتشر الخبر سريعا وتعالت الأصوات ضدها رافضين وجودها بينهم والتخلص منها وغسل عارها وصار الجميع يطلق عليها أسم (الزانية)، ربما يقوم حي الارانب بطردها او قد يقومون بقتلها او حرقها والتخلص منها !! هذا ما أخبرته بها والدتها بعد ان تصاعد قلقها وشعرت بالخطر الذي يهدد حياة ابنتها، حاولت أن تخبئها و تبقي عليها داخل المنزل وعدم خروجها مهما كلف الامر لان الوضع يزداد سوءا كل يوم أكثر من سابقه. وفجأة وفي احد الايام طرُق الباب في وقت متأخر من الليل، تناهى الى سمعها صوت والدتها وهي ترحب بهم، كان الصوت لأولاد عمومتها واحدهم  يسأل عنها.

قائلا: أين خلود؟

أجابت الأم: نائمة

أصابها الهلع وجلست منتصبة على سريرها جلوس المتهم، وهي ترتجف تضم ساقيها نحو صدرها بقوة، فتح باب غرفتها ودخل ثلاث من ابناء عمومتها أمسكوها من ذراعها محاولين اصطحابها معهم قائلين: لها لا تخافي فقط كوني مطيعة وأنهضي معنا دون أن تصدري صوتا سنعود بك بعد قليل كوني مطمئنة، نهضت معهم مستسلمة وقد تذكرت مشهدا لاحد الافلام حين اتهمت واحدة من نساء القرية بالزنا وتم رجمها بالحجارة حتى الموت، الفلم الذي الهم الكثيرين ممن يتمسكون بعادات عشائرية ومنها غسل العار، استمروا في سيرهم في ليله غاب فيها القمر بثلاث مركبات وسط صمت مطبق لا يسمع فيه سوى صوت ضربات قلبها، شعرت بأنها تسير في جنازتها بعد ان توقفت بهم السيارة خارج المدينة على رابية ترابية ثم قاموا بسحبها خارج السيارة توسلت اليهم ان يعودوا بها الى الدار

..لا مجيب لتوسلاتها كانوا صما كزبانية جهنم ربطوا يدها الى الخلف وعصبوا عينيها وطلبوا منها أن تستغفر الله على الذنب الذي اقترفته وان تنطق الشهادتين قبل ان تطيح برأسها اول رصاصة تطلق عليها، فقدت القدرة على الوقوف ولم تعد قدماها تحملنها نطقت الشهادتين وأهتز جسدها خوفا ويدها ترتعش وهي تبحث عن زر الكهرباء عسى للنور يهدىْ من روعها.

***

نضال البدري

 

قلبي ترنّم بالمحبّة والهوى

فأتيت طيبة زائرا متعبّدا

*

بي لهفة الوجد يدرك سرّها

تنمو وقد وسعت مداها سرمدا

*

أذكت تباريح الهوى بلواعجي

فتأججت نار الغرام توقّدا

*

حبّي لبيت الله حبّ طاهر

يسمولما فوق المعاني مقصدا

*

الحبّ حبّ الله شرّف حبّنا

والحبّ بعد الله شرّف أحمدا

*

جئت وقد لاذ الجوار بأنسكم

والأنس يبقى بالجوار مؤيدا

*

الله يعلم أنّ قلبي معلق

بالبيت والحرمين أشرف موردا

*

وبآل مكة والمدينة كلّهم

وبكلّ من تبع الرسول محمدا

*

أحببتهم والحبّ أسمى غايتي

ومقاصد الحبّ الشريف توددا

*

أحببتهم والحبّ عندي تقرّبا

لأنال من طاعات ربّي تقرّبا

***

شعر/ تواتيت نصرالدين

رمضان 1445هجرية

 

أُحِبّها ثلاثةٌ

وسبعة ٌ

وعشرةٌ... مؤكَّدةْ

وألفُ. .ألف ٍ

بالصلاة ع النبي تُعيذها

من شر خُوَّانِ البلاد المُجْهَدَةْ !

الشاذبونَ...

المرتخونَ

على التقحُّب ِ

والتقلُّب ِ... حسبما

تُمْلي عليهم

مَشْيَخات العَرْبَدَةْ !

*

فكل شيءٍ عندهُمْ مُتَاجَرَةْ

بالدِّينِ ...

والإنسانِ...

والمُـــؤَخِّرَةْ !

*

تأبى نِعالي

أن تَظلَّ قاعدةْ

دون أدنى فائدة

مالم تَدُسْ  أنوفهمْ

وتحني كل رَكْبِهِمْ

قُــوَّادُ (جاراتِ) الليالي السُّوءِ

والجرائم المعهودة الإطارِ

والمُهــَوَّدة !

*

هذا أنا

فلتشهدوا بسالتي

ومنتهى رسالتي:

عاشت بلادي حُرَّةٌ مُمَجَّدَةْ

عاشت( فلسطين) الجريحة حرةً

أبداً

بِذَرَّاتِ الدماء الرَّافِدةْ !

والموت لــ(التساخُف ِ) اللقيطِ

والعمائمِ المُجَنَّدةْ !

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

"الى صديقي أ. ماجد الغرباوي: تهنئة قلبية بمناسبة الإحتفاء به مفكرا إسلاميا تنويريا"

***

فـي حـفـل تـكـريـمِ الـمـفـكِّـرِ

أنـتـقـي مـن روضـةِ الأفـكـارِ

أشـذى  مـاتـضـوعُ بـهِ زهـورُ الأبـجـديـةِ  ..

أرتـدي أحـلـى تـسـابـيـحـي

فـأبـتـدئ ابـتـهـالاتـي بـآيـةِ " نـون .. "

و" الـقـلـمِ " الـذي بـدأتْ بـهِ سُـوَرُ الـكـتـابِ

بـنـورِ شـمـسِ " الـبـسـمـلـةْ "

*

وكـمـا بـأعـيـاد الـبـيـادرِ

يـسـتـعـيـدُ الـحـقـلُ فـضـلَ الـسـنـبـلـةْ:

*

شـقّـتْ صـخـورَ الـمـسـتـحـيـلِ

فـأنـجـبـتْ دُنـيًـا مـن الـواحـاتِ فـي صـحـرائـنـا

أشـجـارُهـا بـقـطـوفِ أثـمـارِ الـمـحـبَّـةِ

مُـثـقـلـةْ:

*

شــقَّ الـمـفـكِّـرُ نـهـرَهُ

لِـيُـزيـحَ مـن بُـسـتـانـنـا سَـبَـخَ الـدُّجـى

ويُـعـيـدَ تـشـكـيـلَ الـحـقـولِ الـمُـمْـحِـلـةْ (*)

*

هـذا أوانُ الـقـلـبِ يـشـهـرُ نـبـضـهُ

ضِـدَّ انـفـلاقِ الـقـنـبـلـةْ

*

ذودًا عـن الأطـفـالِ والـعـشــاقِ ..

والأشـجـارِ والأنـهـارِ ..

والـمُـدُنِ الـتـي أفـراحـهـا مـن ألف عـامٍ فـي الـعـراقِ

مُـؤجَّـلـةْ

*

شـكـرًا لـحـرفِـكَ  يـا صـديـقـي " مـاجـدُ / الـقـلـمُ "  الـمُـبَـشِّــرُ بـالـمـحـبـةِ  ..

دُمـتَ ضـوئـيَّ الـمـدادِ

ودُمـتَ مـن قـلـبـي بـأشـرفِ مـنـزلـةْ

*

أدنَـيـتَ مـن حَـرفـي مِـدادَ الأمـرِ بـالـمـعـروفِ

والـنـهـيِ الـمـقـدَّسِ عـن لـهـيـبِ الـحـقـدِ والـعَـنَـتِ الـذي يُـفـضـي

الـى بـئـرِ الـدُّجـى

والـمـقـصـلـةْ

***

يحيى السماوي

 

تغذ مع الذئاب

خذ لؤمك الوهاج بعيدا

عن رصيف الحلم العليل

وابك مع الراعي حال الرعية

اللافتات بما تحمل من ألوان صارخة

لا تعي هول الشارع

أوجاع الجسر الـ هدته الخطى

وما أعاق أجنة النشيد الوطني

فامتدت نحيبا في أروقة السماء

*

زانية أرضنا ...فارجموها بالجمر ..

قبل أن تنجب أحلاما لقيطة

لن نعثر لها في الدوائر الرسمية

عن انتساب مهما استعرنا من أسماء

من تواريخ .. خارجة عن مدارات الزمن

مريم لن تهز السعفة

فنحن خائنون ....خائنون

الأفلاك ترتعش بهدب العين

بالشعر تتناحر ...

وبالزيادة والنقصان ..تتقارب

ليورق الحبر غيضا يكوي الأكباد

يحملنا إلى كوكب .. يتسع فيه أفق النار

يرتل الوجود شعائره المفضوحة

آيات ...تفرغ الوعي من جموحه

تسكبه نارا للعاكفين

بين نقرات الأقلام ...ورجس الكهنة

*

كلما رمشت السماء غيومها السوداء

حلقت النوارس بعيدا .. عن أوطانها

عند أقدام قصيدة مستحيلة ...

تركع الأحلام

و الأبجدية عاجزة عن فك عقال الحكاية

فانزوت ...علها تغنم هدوءا يساعدها

على نسج الهموم رداء

لرعشة تنتاب الكون قسرا ..أو طوعا

بين الزمن الجدي ....وأوراق مهربة

يعوزها حبر حر لتصير دليلا

نحو نبع لم تلوث الغربان سيله

*

قاحلة أعيادنا ...متشحة بالأضاليل

وما سقط سهوا من كرامات الخطيب

الوصايا تعود مبتورة

يحملها المارقون ... دروعا وقائية

واحيانا عربون محبة لغروب قتل بـ :

التأجيل كلامه

بالتبجيل أحلامه

بالتحنيط تمرده

فنامت الصحراء على أشلائها

غرق البحر في حمرته الداكنة

أقام التاريخ نصبا

تذكارية لنكبات متتالية

و لمكائد الغدر ننظم قصائد مدح

تقينا هول   للعاصفة

*

مهزومون نحن ....

مذ مات المعنى غرقا

في النصف  الملآن من الكأس ...

سأنظر إلى الجزء الفارغ ...

لتجد الأجزاء الباقية متسعا ....

كي تتنفس الأنواء ...

لعلها تطرح عند آخر السراب ..

كائنا لا يعاني من عمى البصيرة

يتجرأ العودة إلى عمر خلّفه

عند سرة الخوف

يقطع حبلا سريا يربطه بالانهيار

استعدادا لنزوح عصي

نحو نيزك الإشراق !!

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

يا ترى

من يقودهم الى الرشد

انهم مجرد شهود

صم بكم عمي

خونة العهود

انهم مجرد عبيد

لآل صهيون

ينفذون اوامرالسيد العنيد

رغم انه رعديد

*

البعض يصلي

على الاسفلت الساخن

والبعض الآخر

يصلي فوق القباب

وحاكم عربي

يمشي خلال النوم

وهو جاثم على الرقاب

*

فلسطين المنكوبة

منذ سبعة عقود

وحكام عرب

على وشك الانقراض

فقدوا مصداقيتهم

وانتهت مدة صلاحيتهم

وعفا عليهم الزمن

وسينتهي بهم الامر في مزبلة التاريخ

وسيعاد تدوير شواهد قبورهم

من جديد

*

ثمة محتل جبان حاقد

ومطبع مضبوع

وشعب عربي متواطئ وخائن

وجندي عربي مترهل

لم يضغط يوما

على زناد

*

هل حقا عندنا حكام عرب

أم دمى من خشب

ما أتعس الحاكم

الذي ينام قرير العين

ويتحكم في رعيته

بالرموت كنترول

بناء على الطلب الامريكي المستبد

*

انهم مجرد شهود

وجنودهم الكسالى

لا يقولون شيئا

ولا يبصرون

عقولهم جامدة

من فرط الخمول

في ثكنات آيلة للسقوط

وارجلهم مقيدة

وبنادقهم العتيقة

ملتفة حول اعناقهم

حتما ستكون عليهم شهيدا

في ذلك اليوم الموعود

***

بن يونس ماجن

(من اساطير ايامنا)

احب ميال الزهري البحرَ منذ اللحظة الاولى لمعانقته مياهه، كان ذلك يوم اصطحبه والده المرحوم، الى حافته وقذف به في لجته قذفة صاروخية، (حتى اليوم لا يعرف سببها تمام المعرفة)، تلك القذفة كادت تودي بحياته، لولا ان والده المرحوم قذف نفسه وراءه وأمسك به ساحبا اياه من بين فكي المياه في اللحظة الاخيرة. منذ تلك اللحظة قرر ميال الزهري امرين أحدهما ان يتعلم السباحة، مهما كلفه الامر، وذلك تحقيقا لحب لا يعرف تمام المعرفة من اين اتى فاحتل كيانه، والآخر ان يغير اسمه ليصبح، بكل فخر: ميال البحري.

قرار ميال البحري هذا..  قاده فيما تلا من السنوات، الى ان يرافق كلّ من اقترح عليه.. او دفعه هو ذاته بالأحرى، لان يقترح عليه، ان يقوما معا برحلة بحرية. وقد ترافق ميال البحري مع العديد من الناس.. في زيارة محبوبه الغادر: البحر، وكان في كلٍّ من مرافقاته هذه يضيف فشلا الى فشل سابق، في التغلب على امواج البحر الهادرة، واكتناه اسرارها.

بقي البحري على هذه الحال الى ان التقى شابا يدعى حبّوب النهري، وقد كان هذا حين التقاه شابا في مثل عمره، في اوائل الثلاثينيات، ويربط بينه وبينه اكثر من شبه.. اهمه معاركة البحر. ذات مساء، حمل الاثنان نفسيهما، وانطلقا مُعطيين السيارة ان تقلهما الى حيث تريد وتشاء، فكان ان دحلت بعجلاتها الاربعة باتجاه واحد: هو اتجاه البحر.

عندما توقفت عجلات السيارة.. الاماميان في الماء، والخلفيان في البر، هرع كل منهما الى الماء والقى نفسه فيها، غير عابئ بالجو العاصف القاصف، وراحت الامواج تتلاعب بهما، مبعدة أحدهما عن الآخر، الامر الذي اوقعهما بسرعة مذهلة في حيرة هائلة، وراح كل منهما يصارع الامواج العاتية، في محاولة عبثية لأن يعثر على مرافقه، تقدّم الوقت وكلّ منهما يغالب الامواج للوصول الى قرينه، لكن عبثا. وحدث كما يحدث في القصص، ان عثر كل من البحري والنهري على جسم طاف، فتعلق به اعتقادا منه انه خشبة الخلاص، ليكتشف فيما بعد انه كائن بحري حنون.. يبدو ان البحر ارسله مكافأة غرامية او رأفة. الغريب والطريف ايضا، انهما، هما الاثنين، أسلما امرهما لذاك الكائن البحري، واقتعدا متنه دون ان يرياه وسط العتمة المطبقة حولهما.

مضى الليل متقدما بقلق وبطء، وكان كلّ منهما يشعر ان لحظة منيّته قد دنت، الا انه كان في الآن ذاته يشعر بأمان وثقة.. لا يعرف مصدرهما، فما داما قد وجدا ذلك الكائن البحري فانهما بأمان.. موجودان. بقي كلّ من الاثنين يقترب من رفيقه ويبتعد، الى ان اقتربا غصبا عن الامواج، وغاصا معا عميقا.. عميقا.. في اغوار الماء.

هناك في اعماق الماء البعيدة السحيقة، اكتشف كلّ من الاثنين، البحري والنهري، انهما ما زالا حيين، فراحا يتراكضان في كلّ الاتجاهات، باحثين عن مستراح لهما، كانت الاسماك تحيط بهما من كل جانب، اما الاصداف فقد بدت وكأنما هي ترحب بهما محتضنة اياهما.

دخل كل منهما صدفة كبيرة، ليولد فيها مجددا، لينمو ويكبر، ويلتقي حبيبة قلبه بعدها ينجب منها اطفالا.. سبحان الخالق، وسرعان ما حانت اللحظة لان يخرج الاثنان كلّ من قوقعته. كانت رحلتهما هذه اشبه ما تكون بيوم او بعض يوم!!

في البداية رفضا المغادرة، مُصرّين على ان يبقيا هناك في حياتهما البحرية الحالمة الرائعة. غير انهما ما لبثا ان وجدا نفسيهما يصارعان الماء، وبقيا على ما هما عليه الى ان عثر كلّ منهما على ذلك الكائن البحري، فجلس على متنه، واندفع الكائنان البحريان مخترقين الماء، ليفتح البحري وقرينه النهري، عينيه وقد اطل الصباح.. على مناظر شائهة إذا ما قورنت بتلك التي رأياها في قعر الماء.

رغم ان الاثنين اتفقا على ان ما رأياه هناك في الاعماق المائية قد يكون من خلق الخيال، فقد راحا كلّما التقيا يتحدثان عما رأياه وكأنما هو الواقعة الحقيقية الوحيدة في حياتهما.

هكذا اصبح الاثنان صديقين حميمين للبحر، وباتا يتوجهان كلما سنحت الفرصة الى الشاطئ ذاته، في الظاهر ليصطادا الاسماك وليجمعا الاصداف النادرة وفي الباطن حلما بليلة مماثلة لتلك التي.. تتسمى.

***

قصة: ناجي ظاهر

هَزَّ المواسِمَ في الرياضِ وصالا

هَوَساً وَرَقْصاً ماجِناً وخَبالا

*

وَقُرودُ أهْلِ الفَنِّ قد مَدّوا يَداً

فَتَفجّرتْ سُحُبُ النُجودِ رِيالا

*

وَمواسمُ الترْفيهِ أشْعَلتِ الفَلا

حَطَباً لِأرْوى رِدّةً وضلالا

*

حَمّالةٍ  لَهَباً  بِهِ  حُمّى  الوغى

لِتَزيدَ   غَزّةَ   هاشِمٍ   إشْعالا

*

وَرُغاءُ آلِ الشيخِ بَزَّ شَخيرَهُ

وَبِهِ أغاظَ أباعراً وجِمالا

*

بِمُدامةِ الترفيهِ طاشَ بعيرُهمْ

فَأحالَ خيطانَ الخطامِ عِقالا

*

صَعَدَ المِنَصَّةَ فارِساً مُتَلثِّماً

وَإذا رَقَصْنَ وَجَدْنَهُ طَبّالا

*

مُتَمادِياً بفنونهِ وجنونهِ

مُتَمنّياً لِقَضيّتي الإذْلالا

*

أوْفى لِسيِّدِهِ الجَليلِ بِوَعْدِهِ :

أبَداً يُطاردُ في الحِجازِ بِلالا

*

ياخادِمَ الحَرَمينِ جِئْتُكَ ماحِياً

للعاكفينَ بِذي الديارِ هِلالا

*

عَرَبُ الجزيرةِ راقصينَ وراءَهُ

ونساءُ غزّةَ بالكُروبِ حُبالى

*

أمْسيْنَ فحماً من صواريخِ الأُلى

حازوا الحضارةَ غايةً وَكَمالا

*

حَسِبوا التَسامُحَ توأماً لبياضِهمْ

يَتَوارثونَ عنِ السماءِ خِصالا

*

قَرَعوا كؤوسَ النصْرِ نَخْبَ أرومَةٍ

أضحتْ لقافلةِ الأنامِ مِثالا

*

وتبادلوا الأنخابَ عند قبيلةٍ

بَرَزتْ لأقدامِ الغزاةِ نِعالا

*

أَفَهل كَرَعْتَ الوهْمَ يوماً مثلما

شَرِبَ العَطاشى في الهجيرِ زُلالا ؟

*

عجباً لِعُرْوَةَ كيفَ غادرَ سيفَهُ

فغدا صعاليكُ الفَلاةِ كسالى

*

أرضُ اليمامةِ أنكرت أيّامَها

نَسِيتْ هناكَ فوارساً أبطالا

*

كانَ التمرّدُ نزعةً وَسَجيّةً

للطالبينَ كرامةً وَمَنالا

*

رُدّوا لِعُرْوَةَ ورْدَهُ وسيوفَهُ

فَقَرينُها لا يرتضى الأبْدالا.

*

وَخُويْدِمُ الفَسْطاطَ أغْلَقَ ثَغْرَهُ

فَأبادَ جوعاً رُضّعاً وعِيالا

*

يقضي النهارَ مُخاطِباً أذْنابَهُ

مُتَقَلِّداً في سوحِها الخُلْخالا

*

مُتَهافِتاً حَدَّ السَماجَةِ باهِتاً

عَقَدَ الوَلاءَ إلى الخُصومِ فَغالى

*

شَأْنَ الفراعنةِ الصِغارِ وإنّما

صاروا لِعُبّادِ الرِبا أذيالا

*

مُسْتغْفِلاً أهْلَ الكِنانَةِ ناسِجاً

حِيَلَ الخِداعِ فَحازَها مُحْتالا

*

وَكَحَيَّةٍ تسعى وراءَ ظهورِهمْ

قد أصبحت رَفَحٌ لَها عِرْزالا

*

فَعُتُلُّها المعتوهُ عادَ القَهْقَرى

للجاهِليَّةِ وإسْتَطابَ رِحالا

*

خَتَمَ الظلامُ جَنانَهُ وضميرَهُ

فغدا الطريقُ الى الضياءِ مُحالا

*

مِصرُ الشقيقةُ أدْبَرتْ وَتَنكَّرتْ

وَلَئيمُها حَرَمَ الشقيقَ وصالا

*

فصَلَ الجَنينَ عنِ الشقيقةِ بينما

لَفّوا على عُنُقِ الجَنينِ حِبالاً

*

فَمِنَ الجنوبِ شَقيقَةٌ نَكَثتْ بِها

وَلَقيطَةٌ حِمَماً تَصُبُّ شمالا

*

تَبّاً لِحاكِمِنا الخَؤونِ وَلَعْنَةً

وَلَسوفَ يلقاها لظىً ونَكالا.

***

د. مصطفى علي

قالَ مديرُ الفُنْدُقِ، للرّحالِ المتعبِ:

معذرةً

فُنْدُقُنا مشغولْ

كلُّ فَنادِقِ بلدتِنا شُغِلَتْ

لا غرفٌ شاغرةٌ بَقِيَتْ،

إلاّ واحدةً

في الدَوْرِ الحادي والعشرينْ

سلّمهُ مفتاحاً لا رَقْمَ لهُ

فاِندهَشَ الرّحالُ التعبانْ

قالَ لهُ

مُرتبكاً حَيرانْ

ما رقمُ الغرفةِ؟ ما رقمُ المفتاحْ؟

جاوبهُ :

غرفُ الفُنْدُقِ لا تحملُ أرقامْ

و لها مفتاحٌ واحدُ لا غيرْ!

..................................

..................................

قادتهُ خطاهُ إلى الغرفةِ

ساعدهُ الإرهاقُ على أن يغفو ، ثمّ ينامْ

غطّ بنومٍ راحَتْ تتلاحقُ فيهِ الأحلامْ

صار يرى من نافذةِ الغرفةِ

أشجاراً تمشي بينَ الناسِ،

و أشرعةً تبحثُ عن قاربْ

صار يرى مفتاحاً

يتنقلُ بين أناسٍ مجهولينْ

كلٌّ مِنهُمْ يفتحُ دونَ استئذانْ

باباً أغلقها بعضُ النّاسِ و ناموا

صارَ يرى نهراً تَهْرُبُ منه الأسماكْ

صار يرى الشُبّاكْ

يُصبِحُ باباً

يملكُ مفتاحاً

لكنّ البابْ

فرّ من الحائطِ

صارَ سرابْ

و المفتاحْ

فرّ هو الآخرُ

بعدَ البابِ، وغابْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

أنتَ القصيدةُ وأنا الصدى

في عالمٍ لا يعرفُ الرتابة

فكيف لثالث أن يتسلل بيننا؟

كيف له أن يجد مكاناً

في حيزٍ أنتَ فيهِ الكلمةُ والمعنى؟

أنتَ القصيدة وأنا النغم

في لحنٍ يسكنُ الأفاقَ

أسطّرُكَ و الأشواق في صفحات الفضاء

فمن يقوى على الدخول

حيثُ اللغةُ تتوجُكَ إمبراطورًا؟

أنتَ القصيدةُ وأنا الحبرُ

يسيلُ على جلد الزمان

يخطُ الأبديةَ بين يديكَ

فلا مجالَ لثالثٍ أن يختط

سطرًا في ملحمةٍ أنتَ فيها البطل

أنتَ القصيدةُ وأنا الصّمتُ

الذي يتعظمُ في حضرةِ الجمال

صمتٌ يصغي لنبراتِ أصابعكَ

يتلوكَ شعراً، يناجيكَ حلماً

فكيف يعبُرُ ثالثٌ هذا الصمت العارم؟

أنتَ القصيدةُ وأنا الوقتُ

الذي يهربُ من تحتِ أقبيةِ المساء

ليستمع لكَ

يتنفسُ من رئة الإلهام

فلا تجري اللحظاتُ إلا بك

أنتَ القصيدةُ وأنا الذكرى

التي تلونُ الأمسَ والغد

حين تتوغلُ في الذاكرة

تتركُ بصمتها على جدُرِ العدم

فمن ذا الذي يجرؤ على الثبات بين تلك البصمات؟

أنتَ القصيدة وأنا الإيمان

بأن الجمال يخلدُ بين الأسطر

وأن الأحرفَ تصيرُ أنجماً

عندما تنسجُ من ضيائها قصيدة

فلا يكونُ هنالك ثالثٌ،

هي انعكاسٌ لحقيقةِ وجودنا

أنتَ القصيدة

وأنا لا شيء إلا مرآةٌ

تعكسُ جمالَ ما خطت يد الزمن

أجعلُ الثالثَ غيابًا

والحقيقةَ قصيدةً بين يديكَ.

***

ريما الكلزلي

29/3/2024

 

لم أحسبني يوما أن أكون موضعا للشبهات فأنا قد جاوزت الستين عاما من العمر غير اني لا زلت احتفظ بأناقتي وهندامي. التقاعد مرض مزمن خاصة عندما يكون واقعا سمجا. المقاهي تنتعش بمن هم على شاكلتي، الاحاديث و فروسية الشباب في محاربة الطواحين، سرد حكايا مثل الف ليلة وليلة، كل يوم نحن في شأن، ما برحنا ان نكون ساسة او مجاهدين او مناضلين او حتى بائعي كلام... حديث المقاهي والشاي المرافق الدائم لزبائن مساء الخير يا وطن... في احد تلك المساءات من الليالي دعيت ومن كنا من مرتادي المقاهي المطلة على شوارع مليئة بالصخب... صخب المارة وصخب اصحاب المركبات الى جانب الدخان المتطاير الاسود من عوادمها الذي اعتدناه كدخان شيشة الاركيلة التي لا احبها، كُلٌ له مسمى، فالمقاهي وقت ضائع بين اشواط عمرية لا دقائق تحكمه ولا ثوان، مجرد عناوين اتكأت على طاولات آيلة للسقوط كل روادها ينتظرون تساقط اوراقهم الخريفية من حركة دوار الاسودان، اتحفنا احد الاصحاب من الرواد بأن يدعونا الى حفل زواج احد ابنائه وأظنه الرابع او الخامس لا ادري؟! فهو متزوج من ثلاث نساء بحكم الشرع الموسع قدره، جعلتنا دعوته تغيير مكان وزمان، أما الوجوه فأغلبنا حملناها معنا بكل اقنعتها، كان هناك من يتقدمنا الاكبر عمرا والبقية تتابع، لكني لم احبذ الافضلية في الالقاب لكنها عادات و تقاليد حتى لو كانت عمياء فعلينا ان نماشيها بالرغم من عدم صحتها، هذا ليس موضوعنا المهم دخلنا صالة الاعراس التي كان جميع من فيها شباب يتراقصون بطريقة افضل من الفتيات بهز الوسط والارداف، على موسيقى افلات اللاوعي وخروجه ماردا يداعب ما بين فخذية متحسسا تحوله الى غير بني جنسه، في الخمس دقائق الأولى كانت واجبة جلسنا نبارك للعريس وأهله واغلب معارفهم الذين نعرف، اما صاحب الدعوة فقد كان شبه سعيد فأكثر من ضربة بالرأس تُوجِع، للمصادفة كنت الى جانبه وقد رأيته يبتلع السيجارة تلو الاخرى فتحمست سائلا له: ما بك يا رجل إنها ليلة مباركة لولدك اسعد بها الله ايامكم، نظر إلي كأنه منطاد منفوخ بالهيليوم ما ان لكزته بقولى حتى انفجر صارخا... اراك ياهذا؟!! تريد ان تقول بأني مقصر ولم يكن العُرس كما كان للاول من اولادي، صحيح اني تداينت حتى اكملت المهر وقد اخذت ايضا سلفة من البنك كي اتمم هذا الزواج الذي كسر ظهري ولولا ملحة والدته ما اقدمت على زواجه لكنها اصرت وانا تابع لما تقول فهي الصغيرة ولها الطاعة و الامر، لكن يبدو انك تريد ان تبين للناس اني لا استطيع ان افي بوعدي لها ولا  ازوج ابنها الذي هو ولدي البكري منها، قالو لي الجماعة في المقهى عنك بأنك لا تستريح الى مثل هكذا دعوات و تنتقد أهلها، هيا قل ما عندك يا حقير، في وقتها تغيرت ألوان وجهي وبلعت ريقي خجلا فأنا لم اقل شيئا، لكن يبدو ان ساسة المقهى اصحاب القيل والقال ومن كثرة حبهم لي ونفاقهم ضربوه إسفينا خرج عن رأسه، لا حظت انه ممتعظ بعض الشيء لكني لم اعتقد أني سبب امتعاضه، على اية حال ابتلعت خجلي وقمت مبتعدا كي اتسلل الى الخارج خلسة، غير ان هناك من زرقه بإبرة شحن كانت في لسانه فازرقت وجنتاه واحتقن ثم امسك بي يقول منذ عرفتك وانت تظن انك احسن من الجميع بهندامك وثقافتك، تحسب من حولك إمعات او عوالق، اشرت له بالتوقف معلقا يا سيدي الفاضل يبدو ان خلافك ليس معي لكنك حولته الى مزامير تريد ان تدفع بنشازها الى أذني و تحرجني، لكن صدقني وحتى اللحظة لا اعرف سبب غضبك مني، فرد منزعجا هكذا انت يا لئيم تجد منفسك متأنقا مهندما كأن طاووس تزهو بالرفاهية، فاجبته على مهلك وهل هناك عيب في ما البسه او امتلكه إنني إنسان تربيت على ان اكون ابن خير ومتواضع، فجأة ودون ان يكون هناك سبب تَجَمع من في الصالة عندما تعالت الاصوات وفي لحطة كانت الايدي تدفع بي والاخرى منها تلطمني، في تلك العاصفة الهوجاء طارت ربطة عنقي وتمزقت ياقة قميصي و تطايرت ازرارها، بالكاد تخلصت من تلك الهجمة المرتدة دون ان احظى بالاحترام لكبر سني، اما هندامي اظنني بت كالمتشرد ممزق الثياب مهلهل، خرجت هاربا لا عنا الحظ، دخلت البيت خلسة، فكانت المفاجأة حين رأتني زوجتى وام ابنائي وبناتي وهي تصرخ.. ماذا حدث لك؟؟؟  أين كنت؟؟؟؟ أكيد كنت سهران مع احداهن لقد خرجت من الوظيفة، تقاعدت حتى تقضي لياليك الحمر كما كنت في السابق قبل ان ترتبط بي، تحملتك كثيرا لكن الان لم اعد بإستطاعتي ذلك، تجمعوا ابنائي وبناتي ورأوني بذلك المنظر المحزن، تعاطفوا معي حين قصصت عليهم الحكاية لكن امهم ما ان رأت رقبتي بها لطخة من احمر شفاه لا ادري كيف وصلت لي مع اسنان تركت علامتها حتى صرخت هذا هو الدليل انك قضيت ليلة حمراء مع احد السافلات... زمجرت وصرخت ولطمت ثم طلبت الطلاق، ولأني رجل أخاف على اسرتي وبيتي وسمعتي خرجت من البيت حيث بيت اخي الذي لم يتزوج في حياته وهو سعيد جدا في فيها، لم يسألني لكني قصصت له الحكاية فنان و تعلو وجهه الابتسامة، في صباح اليوم التالي طرق باب بيت اخي وإذا بأحد ابنائي بيده يحمل حقيبة ثيابي وهو حزين يقول: ارجو ان تقدر حالة امي يا أبي فابقى مع عمي حتى تعود الامور الى مجاريها، في المساء خرجت مهندما وقد وضعت لفحة على رقبتي دون ان ارتدي ربطة عنق او أزرر ياقة قميصي لاكون حجر عثر في الحياة في مقهى التسامر الليلي يعنوان متقاعد.

***

القاص والكاتب: عبد الجبار الحمدي   

 

العارف

بجنونٍ يعشقُ العارفُ لا

يطلبُ العارفُ حباً عاقلا

وكذاكَ القتلُ إن يُقتَلْ فقد

تجدُ المقتولَ كانَ القاتلا

أكلَتْهُ البيدُ لمّا أزفَت

ساعةُ الموتِ فأمسى راحلا

شاءَ أن يصبحَ مأكولاً ولم

يتقدَّمْ ليكونَ الآكِلا

عاشَ ما عاشَ سنيناً جمةً

راكباً أحصنةً أو راجلا

ثم ماذا، صارَ تاريخاً مضى

بعدَ أن كانَ بمجدٍ حافِلا

كان يدري أنَّ هذا المجدَ لا

يمنحُ الروحَ أماناً شامِلا

ولهذا فرَّ من أعضائِهِ

وتلاشى عاجلاً أو آجلا

**

مناجاة

ما شربنا منكَ إلا جرعةً

ففقدنا كالمجانينِ العقولا

كيفَ لو أنا شربناكَ ولم

نبقِ شيئاً ثمَّ كدنا أن نزولا

مثلَ معصومينَ نغدو كلُّنا

شرطَ أن يبعثَكَ اللهُ رسولا

ولْتَخُضْ فينا حروباً جمةً

بين عينيكَ فإنا لن نقولا

اذهبِ الآن فقاتل إننا

قد تقاعسنا وأصبحنا كهولا

بل نخوضُ الحربَ لا نعبأ لو

قد تساقطنا جريحاً وقتيلا

اعطِنا خيلَكَ كي نركبَها

أنتَ تدري أننا نهوى الصهيلا

ولكونِ الخيلِ من أحبابِنا

قد تجرَّأنا وقبَّلْنا الأسيلا

**

مصالحة

لا تسحبِ النصلَ الذي قد جَرَحا

دعهُ بقلبي ثابتاً لأفرَحا

فإن خشيتَ أن أموتَ هكذا

منتكساً يكفيكَ أن نصطَلِحا

بقبلةٍ سريعةٍ ساخنةٍ

تنسي فؤادي الألمَ المبرِّحا

ولتطمئنَّ لن أموتَ دونَ أن

أشربَ من خدِّكَ هذا قَدَحا

قد متُّ مراتٍ وعدتُ ثانياً

كالمتنبي كلَّما ماتَ صَحا

أخسَرُ في تجارتي بحيثُ لا

أبغي الثمارَ فاهتمامي باللِّحا

لكنْ أعدُّ ما خسرتُ لم أجدْ

خسارةً فكلُّ بيعي رَبِحا

لو لم أجِدْ من الأنامِ لاحياً

شطرتُ نفسي عاشقاً ومَنْ لَحا

**

قلبٌ حجري

لما بكى استهزأتِ الدِّيارُ

ولم تثرْ أشجانَها الأشعارُ

صاحبُنا يرثي الديارَ، كلُّ ما

يرجوهُ أنَّ الشِّعرَ يُسْتَثارُ

قالت لهُ إن كنتَ تبكي صادقاً

على الديارِ تنطقُ الحجارُ

لكلِّ قلبٍ حجريٍّ قصةٌ

محكمةُ البناءِ يومَ ساروا

تذكرُ لي خمارَ محبوبٍ نأى

كأنَّ عارضَيهِ جلَّنارُ

سافرةُ القوامِ كلُّ غادةٍ

في نظرِ الشعرِ فما الخِمارُ

والشعرُ سكِّيرٌ بحكمِ طبعِهِ

فكلُّ بيتٍ خمرةٌ تُدارُ

إني شربتُ الخمرَ من رضابِ مَنْ

أحبُّهُ فانتحرَ الوقارُ

**

إعصار

فضلُ إعصارِ الغرامِ صرصرُهْ

وأفضلُ الشِّعرِ كلامٌ تضمرُهْ

أرهقَني الصِّدْقُ فلستُ خجلاً

من قولِ شِعْرٍ كاذبٍ أزوِّرُهْ

فمثلاً أنتِ برأيي عنَبٌ

وإنَّني كخمرةٍ سأعصرُهْ

ولستُ أعني غير أني ساجدٌ

بينَ يدَي ربِّي الذي أكبِّرُهْ

أو أنَّ إسرائي دنا ميقاتُهُ

لكنَّني لحِكْمةٍ أؤَخِّرُهْ

أو أنَّني أستغفرُ اللهَ ولا

أريدُ محوَ الذَّنْبِ إذ أستغفرُهْ

بعضُ الذنوبِ منهجٌ مقدَّسٌ

يحبُّهُ اللهُ لذا أوقِّرُهْ

**

ضياع

كراكبِ البحرِ بلا أيِّ حمى

أو كالقتيلِ نحوَهُ السهمَ رمى

أو كالجدارِ حينَما أصغى إلى

مستندٍ متيَّمٍ تهدَّما

أو كالكتابِ باعَهُ بدرهمٍ

مؤلِّفٌ يموتُ جوعاً بينَما

طفلٌ لمسؤولٍ حقيرٍ جاهلٍ

سيشتري بيتي إذا باعَ الدُّمى

أعملُ في أرضِ العراقِ راعياً

أهشُّ لكن لا أرى لي غَنَما

في يومِ قيظٍ قد نصبتُ خيمةً

معلِّلاً نفسي بألطافِ السَّما

جاؤوا وفي أيديهمو مشاعلٌ

فأحرقوا فوقَ دماغي الخِيَما

قالوا الخيامُ عندَنا ممنوعةٌ

إلا إذا ماتَ الفتى من الظَّما

***

باسم الحسناوي

الريحُ تعصف في الثنايا

في وجههن يشتعل المدى..

وعند خابية الجمال قصائد

وشِعارِهِنَ تحدياً

لا ضيم بعد اليوم

يسلبني الصدى..

**

تحت السماء غمامة سوداء

تملؤها المنايا..

**

والريحُ تعزفُ لحنها الموتور

في قعرِ الرزايا..

وتعاسة الامصار تجتاح الصبايا..

وشعارهن على الهواء طلاسماً

وعلى الرصيف

صراخ اشكال الضحايا..

ترتجي موت الطغاة

**

وعند منعطف الطريق

تنوح أفئدة الكبار..

وتموج جمهرة الصغار

في كل منعطف ودار..

تكابد ضيمها المبثوث

في لحن الخطايا..

**

والموتُ يمرحُ في الشوارعِ والبيوتْ

ونراهُ في السجنِ المخيفِ غمامة

سوداء ما انفكتْ

على مرمى النخاسة والوعيد

والكلُ في المعنى شريدْ..

والكل في المسرى طريدْ..

والناس كالإعصار تصرخ من بعيد

لا تلوي على حال يحيد..

**

والسائرون على الضلال

سهامهم ردت كعاصفة الرمال

حتى إذا فاحت روائح جرمهم

راحوا وراء حصونهم

يتسترون

بألف عذر أو شعار..

**

هي حرةٌ بين الجموع صبية

والثائرون على الطغاة

سياطهم،

هي مجزرة الحياة..

لم تخلق الأنثى لتذبح كالشياة

من الوريد إلى الوريد..

الكل في المعنى شريد

الكل في المسرى طريد..

***

د. جودت العاني

20/10/2022

........................

من وحي صبية، ذهبت إلى الشارع، وعادت بتابوت..!!

(الرياحُ) التي

اسْتَعارَتْ يَداً

مِن هبوب العواصفِ

واسْتَأْجَرَتْ

مُمْكِنات الدخولِ

إلى (نــــازفٍ)...مايَزَالْ

طريُّ الرُّكامْ

يَئنُّ

يَئنُّ

يَئنُّ

فلا مِنْ قريبٍ يُغيثُ

ولا مَنْ بعيدٌ يَشُنُّ

سوى قهقهات اللِئامْ

تَعُجّ المكانْ  !

وإلا المنازلُ

تَبحثُ ــ هارعةً ــ

تحت أنقاضِها

عن ظفائرِ مُبتلَّةٍ...

ولِثَامْ

وخِيامٌ...

ما اكْتَهَلَ العُمْرُ فيها وزالْ !

وحقائبُ مفتوحة الدرسِ

أُولى وظائفها

ما انتهتْ... بالمآلْ

والسؤال انْدَفَنْ !

وعصافير قبل الأوانْ

غَدَتْ بذْرةً

بِدِمَاها ارْتَوَتْ

أنْبَتَتْ

مُصحفاً.. ووطنْ !

*

فاقرأ رِجَالكَ...

إنَّ (الرياح) على البابِ

والبحرِ...

لاتُؤْتَمَنْ !

*

وإنَّ المِلاحة لاتَقْبَلُ الغَثَّ

في الماءِ...

مهما طغى الخُبْثُ فيهِ

وطال الزمنْ

*

إنّ الملاحةَ ليستْ

لذاك البعيد

العديم الشرفْ

فُسحةٌ... وتَرَفْ

أو لِعبورِ عَدُوَّاتِ تَمْخُرُ

مثقلةٌ بالدَّخَنْ!

*

إن المِلاحةَ فَنْ

وأنتَ المُؤَمَّلُ

أنْ تَذْرَعَ البحرَ طولاً

وعَرْضَا

وتَفْلَقَهُ بِعَصاكَ

لِتَدْفَعَ شرَّاً مُحيطاً

وتَحْمِيَ عِرْضَا

وتوْصِد (باب) الحياةِ

أمام العَفَنْ :

ريحٌ تَجُوبُ

بِحَمْأَتِها في الدِّماء

مِن أجل أنْ

يتعالى

الوضيعُ

السـريعُ..

(النَّـــتَنْ) !

*

وأنتَ المُؤَمَّلُ

أنٰ تَرْسُمَ الضوءَ

خارطةً لـِقضيتنا (الأُم)

دون حُدودٍ

ودون خَوَنْ!

إن دِماها ملائِكةٌ

تَغْسِلُ العارَ عن وجهها:

(قِمماً) عارضات النهودِ

بشجْبٍ...

ونَدْبٍ...

وقِحْبٍ غَلَبْ!

*

فياللعجبْ!

مِن تَبَاكٍ رخيصٍ

قليل الأدب

بكل مُكاءٍ

وتَصْدِيَةٍ

ووَقْصٍ خَبِيصٍ

وهُمْ (عورةٌ) سَتَرَتْ وجهها

بانْبطاحٍ لطيف الهوى

وانبرتْ للعيانِ

بِحِشْمَةِ زَعْمٍ

شريفِ النَّسَبْ!

*

ألا فالعنوهُم عن ظَهْرِ قًلْبٍ

بما اقترفوها...

بحق الشعوب التي

قد أَذُوهَا...

وكانوا السببْ

وتَبَّتّ أياديَ حَمَّالَتَيْنِ:

(أُمُّ احْتِطَابٍ)..و(أُمُّ الخُطَبْ)!

*

(الرياحُ) التي

اسْتَعارَتْ يداً

من هبوب العواصفِ

واسْتَأْجَرَتْ

مُمْكِنات الدخولِ

إلى (نــــازفٍ) ...مايزالْ

إنها لِلزَّوالْ

إنها للِنَفَـــادْ

وَلَّتْ أحاديث بَادْ

(ألم تَرَى كيف... بِعَادْ)؟!

سَيَذْرُوها إعصارُنا

كا

ل

ر

مَ

ا

دْ

***

محمد ثابت السُّمَيْعي -  اليمن

٢٠٢٤/٣/٢٦م

 

يتساءلونَ كفيضٍ لا ينتهي

يأخذهم تيهُ الخنازيرِ

يتقمصونَ نتانةَ الضباعِ

الضباعِ التي تقبرُ خارجَ مدنِ اللهِ

مَنْ يكتبُ بلا أنا؟

حتى أنا لي ارتدادٌ اخاطتهُ إبرُ الريحِ

ايةُ مجاهلٍ تلكَ ايةُ تهاويلَ

إني لأستنسخُ الروحُ من الروحِ

أساجلُ كلَّ ريشِ اللوحاتِ

حتى أحتارَ كيفَ أأطرها

أجعلُ دميَ خرسانةً

وقلبيَ لا يساومُ خسةَ التندرِ الغريبِ

قالوا أضاعتهُ الاوهامُ

قلتُ لا لقد طوقني الرفضُ

وايُّ رفضٍ جردني من العرشِ

هوى بي دونَ نجادةِ صحوٍ

أنا

مَنْ يكرهُ الابوابَ ومطارقها

وانا مَنْ عشقَ الشعرَ الحرَّ كيفني معَ الحريةِ

وأنا

مَنْ تمردَ على التمردِ

صاغَ له جوزاتِ عتقٍ

انتزعَ الاغلالَ وتسامى مهاجراً

وأنا

الذي يقلبُ الوردَ في سندياناتهِ

ويبتهلُ أنْ يبقى عطرهُ

على موعدٍ ربما يأتي

هذا العطرُ يحتضنُ القاعَ

يفوحُ ذكرياتٍ ونسائمَ

أغنيةِ عبورٍ في منجدِ الحبِّ

وأنا

الحلمُ ودلالُ التيجانِ

السارحِ كالليلِ في أحضانِ الصبايا

الكفُّ التي تمسحُ فوقَ جبينِ

مرضى الولهِ والنسيانِ

وأنا المتقمصُ أدوارَ المسيحِ

أنزعُ كذبةً تراودني

أفتحُ عيونيَ أرى الكونَ تجمدَ

في بطنِ حوتٍ

وأرى غرقى وطني يستحمونَ بالامواجِ

اصابهم زكامٌ أبديٌ

أنا ضحكةٌ متفردةٌ في كومةِ النسيان

هي وجناتٌ يدغدغها القمرُ

يخرُّ صريعاً امامَ منصةِ النساكِ

أنا مجنونٌ كالظلِّ يتربصُ بطلوعِ الشمسِ

وأنا ازيزُ احبارٍ تغازلُ الجدرانَ

تنتظرُ انتفاضةً كالسيلِ الجارفِ

السيلُ آتٍ طوفاناً يصنعُ

غزلَ الانتصارِ

أنا

وحشةُ البرجِ في الغيمِ

الحبيسِ في ابعدِ منفى

المتنمرِ على أهاتهِ

الكارهِ لتسلقِ الفضولِ

مَنْ يمنحني جناحَ صقرٍ

عيونَ صقرٍ

أبصرُ بها كلَّ مَنْ أحببتُ

وكلَّ مَن غادرني لضيعةِ المجهولِ

أنا

وحدي الذي يحتوي وحدتهُ

خاتمي المسحورُ بالعقيقِ المزيفِ

خاتمي المبهرُ عنوةٌ للاقدارِ

خاتمي الذي داعبَ أناملَ الجميلاتِ

خاتمي الذي كان سحراً

لدليلِ احلامي لأميراتي الخالداتِ

لقد انهيتُ رؤيايَ

انهيتُ شهوةَ الرضاعِ مِن مصيري

المقهورِ

أنا

المهرُ المؤجلُ في لعبةِ الخسارةِ

آهٍ كم لنا من الخساراتِ

متى يزورنا الفرحُ

(اراهن في كلِّ السباقاتِ اجدُ خيلنا

كسيحةً كصحراءَ قاحلةٍ)

وأنا

أُدونُ كلَّ مراجعاتي

أجدُ مدوناتي عن الشفقِ المرتجى

منصاتٍ كسرتها أقانيمُ الوهمِ

وهمنا المؤبدِ وصيحةً لن تسمعَ

وأنا

في الليلِ  المتوقدِ بالنهارِ

يلاحقني السهرُ بقصيدةٍ هائمةٍ

بنجومِ الصباحِ وانكسارِ كواكبِ اللهِ

ليتني اسبحُ انتشلكَ من سباتكَ المحزنِ ايها الوطنُ المسجى

وأنا

الباحثُ عن أصواتِ الثكالى

وترانيمِ الاحزان

لقد جمعتُ صورَ تخومِ المدنِ

زرعتُ فيها عشراتٍ من شتلاتِ الوردِ

كي يستنشقَ منها الهاربونَ من ضيمِ

الغدرِ آخرِ نسمةِ عطرٍ

وانا

الكأسُ المنصوبُ فوقَ مائدةِ الحبِّ

ليتَ أجنحتي تحملُ كلَّ الآهاتِ

وليتني ازرعُ الفَ بستانٍ

أجمعُ نساءَ المعمورةِ تحتَ حراسةِ

ملائكةِ السماءِ

وأنا

مَنْ تشاجرهُ فاطماتُ الحبِّ

لجلسةٍ غجريةٍ

وأنا لاشئَ لديَّ سوى كتيبٍ

يتحدثُ عن الاحقادِ التتريةِ

وأنا انتِ وأنتِ انا في ميزانِ الرفضِ

ننتظرُ قوافلَ المسافرينَ ومنشوراتٍ

ثوريةً

وأنا

استحالةُ الخنوعِ لتلمودِ الجبناءِ

أجدكِ الظلَّ وشجرةَ زيزفون

أجدكِ طفلةٌ تشهقُ بضحكةٍ

تنادي (يا اطفالَ العالمِ اتحدوا)

ضحكةٍ تهزُّ ضمائرَ انهارتْ ودونتْ

قصائدَ منسوخةً من جدرانِ الطغاةِ

وأنا

الماكثُ فوقَ جبالِ القهرِ

أظلُّ أشهرُ بندقيتي

وأرسمُ بريشتي الفَ نصبٍ للحريةِ

***

عبد الامير العبادي

- بما أني غريب جدا

في وطن مظلم

أدع وجهي طوال الوقت

داخل المرآة

ليفترس المزيد من الضوء

ويعلن ولاءه الخالص

لسنوات الطفولة العذبة

يمعن في التحديق

في تابوت المستقبل

شباك الأصدقاء السيئين

حصان الشك الجامح

الذي اختفي في جبال المرآة

وحين تقرع نواقيس الخطر

أخرجه وأضعه على جسدي

كما لو أني نحات ماهر

من الفراعنة القدامى..

با أني كائن غريب جدا جدا

ليس لي أحد في هذا العالم

لا أهل لا بيت لا أصدقاء

لذلك أكلم نفسي كثيرا

أطعم الفراغ حبال أعصابي المتهدلة

أضحك كثيرا أمام أسد متناقضاتي

أدعو الوحوش النادرة

لطرد هواجسي من شرفة النهار

أدعو جميع الفراشات لتأبين براهيني الهشة

والكلمات الجميلة

لتشييع جنازتي يوما ما

بما أني غريب جدا جدا

في وطن موحل

مملوء بالمسوخ والرهبان

بالقيح والرماد والصدأ

لذلك أعبد مرآة البيت الضخمة

أرثي عيني شبه الكفيفتين

وعظامي التي تطقطق

مثل فاصل موسيقي جارح

وحين يمسني الجوع

أفتح النار على طائر قلبي

أدعو الأشباح المهذبة

لعشائي المقدس

أضرب النسيان على قفاه

بجزمتي المهترئة

أضحك كثيرا بفم سكران

أمام ضآلة الأشياء

أمام السماء التي تمطر بالجثث

أمام سيل عارم من العميان

يحملون تابوت النهار

بأسنان صدئة

أمام سفينة الشرق الغارقة

في العفن والهزيمة والعار.

***

فتحي مهذب - تونس

 

ولــي قــلبٌ تعاندُهُ الصّروفُ

ونــهرُ الــحادثاتِ بــه يحوفُ

*

إذا تــركَ الــرَّبيعُ بــهِ زهوراً

عــلى عجلٍ يُسَاقِطُها الخريفُ

*

إذا يــنجو مــن الأقــدارِ يوماً

مــن الأشرارِ تطعنُهُ السّيوفُ

*

كأنِّي والسرورَ على اختلافٍ

وإنّ الــهمَّ وحــدَهُ لــي حليفُ

*

ســيرتاحُ الــحسودُ إذا رآنــي

وصــحنُ الخدِّ تَلْطُمُهُ الكفوفُ

*

ولــكنْ خاب ظنّاً حيثُ يدري

فــمثلي لا تُــنهنههُ الــظروفُ

*

فــما زالــتْ تُصبِّرُني الأماني

وطيفُ الوهنِ يَزجرُهُ الوقوفُ

*

على نكْءِ الجراحِ أرشُّ مِلحاً

مــع الأيــامِ يــنقطعُ الــنَّزيفُ

*

إلى ربِّ العبادِ شكوتُ ضعفي

وأَعــلمُ أنَّــهُ الصَّمَدُ الرؤوفُ

*

إذا يــرضى عــليَّ أنــا سعيدٌ

ولــنْ أَهْــتَمَّ إنْ سَخِطَ الألوفُ

*

فــلي ثــقةٌ بربِّ العرشِ دوماً

وإنّ اللهَ عــــدلٌ لا يَــحِــيفٌ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

صرير ضيفها الصرصار، وراء الغسّالة، في غرفة الغسيل الصغيرة، جعلها ترى الحقيقة في واقعها المؤلم. جسد زوجها الملقى على السرير إلى جانبها، جعل الليل عبئًا ثقيلًا، أثقل منه في أي ليل سابق، وجعل من الخروج إلى غرفة الاستقبال، للاقتراب من ذلك الضيف، للاستماع إلى صريره وإلى مواساته لها من الوحدة، مهمة لا بدَّ من القيام بها وتنفيذها للتو.~

بعد ثوان، حملت جسدها، كأنما هو جثمان ميت يسبح في سديم الكون، وانطلقت باتجاه، غرفة الاستقبال، في طريقها القصير الطويل إلى هناك، وقع نظرها على ابنتها الصبية، ابنة العشرين، كانت ابنتها نائمة، لولا وجود ابنتها في البيت، ولولا حاجتها لأب يحدب عليها ويرعاها، لما سمحت لذاك الثقيل، زوجها، أن يأتي إلى البيت مرة في الأسبوع، ولاكتفت بالصرصار، بصريره وبمواساته لها.

ذاك الضيف، وراء الغسالة في الغرفة الصغيرة، اختفى في البداية مثل زائر ثقيل، لا ليس ثقيلا، ابتدأ عهدها به، ليلة صحت على صريره، إثر مغادرة زوجها للبيت قبل أشهر.

حين شعرت بوجوده بحثت عن قبقاب خبأته في الجوارير القديمة، حتى وجدته. هرعت بعد ذلك إلى الغسالة فأزاحتها، لسحق ذاك الضيف غير المرغوب به، إلا أنه كان أكثر ذكاء وحنكة، فقد زاغ منها، وانسرب...

في الليلة التالية، شرعت في إغلاق أذنيها بما توفَّرَ من قطن في البيت، غير أن الصرصار أبى إلا أن يرسل صريره مخترقا الليل.

فكَّرت في أن تشرب حبة منّوم، كما كانت تفعل حين كان زوجها حاضرا غائبا. بيد أنها ما لبثت أن طردَت هذه الفكرة، وتبنَّت فكرة أخرى، متمردة على المجهول، كما فعلت دائما. الفكرة الأخرى، تمثلت في الاستماع إلى صرير الصرصار. لماذا هي لا تستمع إليه؟ لماذا لا تستمع إلى ما يبثه في الليالي الطويلة الموحشة؟ ألم تدرك منذ فتحت عينيها حتى بلوغها ما بلغته من عمر، أنه يوجد لكل شيء سبب، وبالإمكان التوصُّل إلى أسراره بشيء من الأناة؟ فلماذا لا تستمع إلى الصرصار؟ لماذا لا تحاول أن تفتح أذنها، ولماذا تغلقها أصلا، ألم تغضب يوم فضل زوجها النوم على الحديث معها، فأشعلت الدنيا نارًا لم يخبُ لها أوار، إلا بدفعِهِ إلى خارج البيت، على أن يعود مرة واحدة في الأسبوع؟ لماذا هي تغلق أذنها أمام الصرصار؟ وكأنها ملأى بالطين؟ أو ليس من الأفضل لها أن تستمع إليه، فإما يعجبها صريره، وإما تمجُّه أذنها، فتجد له علاجا يشبه ذاك الذي عالجت به زوجها؟

في الليلة الطويلة التالية، شرعت بالاستماع إلى الصرصار. أعطت نفسها كلَّ ما ملكته من إمكانية على الإصغاء. استسلمت لسماع صوته، مثلما يفعل العاشق المتيَّم حينما يستمع إلى صوت محبوبته. استمعت إلى الصرصار، استمعت إليه بكل ما لديها من قوة متبقية. مهلا.. مهلا ابتدأت تألف صريره، بات صريره في فترة قصيرة، أو طويلة، لا تدري، جزءا من ذاكرتها، بل أكثر من هذا باتت تنتظر الليل كي يأتي، كي تستمع إلى ضيفها المرحَّب به، وإلى صريره الشبيه بالغناء. هي لا تبالغ إذا قالت إنها وجدت أخيرا معزوفتها بعد طول انتظار.

الليالي بعد وفود الصرصار، بعد إقامته وراء الغسالة، باتت ذات رائحة، نكهة ولون، هكذا راحت لياليها بالتغيّر.

وطرق الأمل بابها مجددا، فراحت تهتم بنفسها، ترتدي أحلى ملابس النوم، بانتظار صوت صديقها وراء الغسالة، ولم يكن هذا يخلف ميعاده معها. كان ما إن يرين الصمت النائم على أرجاء البيت، حتى يرسل صريره موقظا أجمل ما في المرأة وأحلى ما في الليل. وكانت المرأة تحاول المحافظة على الصمت، محافظتها على روحها، وزاد في محافظتها هذه، أنها أحست أنه يوجد بالصَّرصار مثل ما بها، وأنه يطلب طوال الوقت ويسأل من يحلّ وثاقه، كأنما هو يحكي بلسانها، ويطالب بحقه في الحياة والصرير، وكأنما هو يطالب بهذا الحق لكلِّ من ينشده، ويهفو قلبه إليه!!

هكذا بات صديقها، سلوتها الأساسية، بل إنها مع مضي الأيام، باتت تعرف كيف تدفعه إلى الصَّمت، كي يستمع هو إليها، فما أن تنهض من مجلسها، في غرفة الاستقبال، حتى يتوقف، عن الصرير، وتشرع هي في التحدث إليه: اسمع جيدا، أنت الوحيد الذي يستمع إليَّ بكل مشاعره وأحاسيسه، ويعرف كم أنا بحاجة إلى زوج، حظ اليقظة لديه، أكثر من حظ النوم. أنت الوحيد الذي يُحيي حياة توشك أن تموت في داخلي. أنت من يستمع إلى شكواي. أنت مَن أناجيه ومن يناجيني، من يسمعني حين أكون وحيدة ومن يستمع إلي حينما أريد. كان صديقها يستمع إليها، وكذلك هي، لا يقاطع أحدهما الآخر وينتظره حتى ينهي كل ما لديه. لم يكن يقاطعها، فيضع الكلمات على لسانها كأنما هو لا يريد أن يستمع إلى غير ما يريد أن يستمع إليه، ولم يكن ينظر إليها شزرا حينما تتحدث عن شؤونها الصغيرة، لم يكن يلغي مسافة الصمت المطلوبة بين أي متحدثين، بل كان يصمت، وكأنما هو لا يريد أن يستمع إلى أي إنسان آخر سواها في الكون.

حينما كان هذا كله يحل بينهما، كانت تبدو وكأنما هي المرأة السعيدة الوحيدة على الأرض، فكانت عيناها تفيضان بمحبة لكل شيء، مكتسبتين لمعة كادت أن تخبو وتتلاشى.

مع الوقت ابتدأت تعتاد على تهيئة الجو وإعداده، ليكون ملائما للقاء الفريد بينها وبين صديقها، فكانت تشعل شمعة ينبعث منها نور خفيف، وتطفئ الضوء، فينتشر جوّ شعريّ ساحر، يدفعها للاسترخاء على أريكة وضعتها خصيصا في غرفة الاستقبال. وما إن كانت تضع رأسها على وسادة وثيرة وضعتها في أقصى الأريكة، على يدها تحديدا، ما إن كانت تمضي لحظات من الصمت، حتى يبادرها صديق الليل بصريره المألوف، الأثير على روحها القريب من قلبها. فكانت تغمض عينيها وتستمع إليه بجوارحها كلّها، وكان صريره ينهال عليها وكأنما هو نهر من زبرجد، فتمدّ يدها مرحّبة به ومهلّلة.

أمّا حينما كانت تريد أن تتحدث، أن تعبّر عمّا بها، فما كان عليها إلا أن تتحرك على أريكتها، فيصمت الصرصار، منتظرا أن تفيض نفسها بما اضطرتها حياتها إلى جانب زوج غير متفهّم، من مشاعر وأحاسيس، هي لم تكن تبخل على صديقها، ولم تكن لتخفي عنه أية صغيرة أو كبيرة، وإنما كانت تصارحه بكلِّ ما في دخيلتها، بل إنها كثيرا ما كانت تنسى نفسها، فتصارحه بما خجلت أن تقوله أمام أي من الناس، وربما أمام ذاتها. هي نفسها، لم تكن باختصار تتردَّد في أن تفكَّر أمامه بصوتٍ عالٍ، وكان أشدّ ما يسعدها هو أنه كان يستمع إليها بخشوع أشبه ما يكون بخشوع راهب تمنَّت أن تلتقيه وهي ماضية في صحراء حياتها.

ونشأت مع مضي الوقت، لغة مشتركة بين الاثنين، لا يفهمها سواهما، كانت أشبه ما تكون بلغة عاشقين عرفا طريقهما.

*

استلقت المرأة، صاحبة البيت، على أريكتها في غرفة الاستقبال. وضعت رأسها على وسادتها الخاصة، هيأت الأجواء كلَّها، بما فيها إشعال شمعة خفيفة النور، واستلقت تفكر في زوجها الغائب هناك في غرفة النوم، حتى في يوم مجيئه الوحيد في الأسبوع، ها هو يناغي الكرى، ويتركها وحيدة مثل كتلة تائهة تسبح في سديم الكون، ها هو يوغل في سباته، وها هي توغل في يقظتها، ها هما يفترقان مجددا، وها هو كل لقاء يتحوّل إلى ظل للقاء، لا معنى له.

تحركت على أريكتها. رفعت صوتها هامسة بما بها. اقتربت من غرفة الغسيل. أدنت رأسها حيث تعرف أن صديق ليلها يقبع بانتظارها، وراحت تحكي عمّا بها من ألم.

في تلك اللحظة شعرت بزوجها يسير باتجاه الحمّام. كان واضحًا أن حاجته أيقظته، وأنه سيعود بعد قليل إلى نومه. توقَّف عند باب الحمّام، سألها عمَّا إذا كانت تريد أن تنام، ولم ينتظر إجابتها. دخل إلى الحمّام وأحكم إغلاق بابه وراءه. بقيت هي وحيدة بانتظار صديقها المنتظر، ليبعث صريره شاقا صمت البيت، ومواسيًا إياها في وحدتها الرهيبة.

***

قصة: ناجي ظاهر

تـبّـتْ يــدا الـجــاني وتـبْ

طـوفـانُ غــزّةَ مِـنْ لـهَـبْ

*

نـــارٌ عـلى بـــاغٍ عــتـا

ولـعــنــةٌ فــيـهـا تُــصَــبْ

*

قـد حـانَ يــومَ هــلاكـهِ

ولـحـتــفـهِ الـباغي اقـتـربْ

*

نــامَ الـزنـيــمُ بـحِـــلــمـهِ

وصحا بـطوفانِ الـغـضـب

*

يـجــتـاحُ كُــلَّ كـيــانـهِ

لـيـقـولَ هـا نحـنُ الـشعـبْ

*

وتـكـونُ غـــزّةُ غــــزّةً

في جـنـبهِ وبـهـا الـعَـطـب

*

ظــنَّ الــزنــيــمُ بـأنّـها

هـي نِـزهـةٌ ولـهـا طـربْ

*

حــتّـى تَـبــيّــنَ أنّــهـا

مـوتٌ زؤامٌ قــد حَــطَـبْ

*

والـحـقـدُ صار مَـجـازرًا

في كُــلِّ يــومٍ تُــرْتَـكـبْ

*

وأمــامَ أنـظـارِ الـورى**

قـتـلٌ وســبـيٌ وسـغَـبْ

*

أيـنَ الـمـبـادِئُ يـا تُـرى

أيـنَ الضميرُ قـد احـتَجَبْ

*

أطـفـالُ غَــزةَ شــاهـدٌ

لـلّـــهِ حُـكّــامَ الـعــرَبْ

*

ألِـفُـوا الـهَوانَ فـساوموا

وتـوسـلـوا غـربًـا غــربْ

*

ســبـعـون عـامًا أفـرزتْ

والجَرحُ يـنـزِفُ كالـقِـرَبْ

*

زيـفَ الـحـكوماتِ الـتي

كانـتْ تُـطـبّـلُ في صَخَبْ

*

ســبـعـونَ عـامًـا ثُـمّ زِدْ

تُـطوى على نـفـسِ الـمِكَبْ**

*

آمـــالَ شـــعـبٍ مُـبـتـلى

بـالـداعِـرٍبن ذوي الـرُتَـبْ

*

وقضـيّـةُ الـقُـدسِ انـتَـهَتْ

هِـبـةً وأرضٌ تُـسـتَـلَـبْ

*

وعلى طـبـولِ الـغـابـرينَ

يـسـيـرُ مَــنْ هــبّ ودبْ

*

جـيـلي وأجـيالٌ مَـضتْ

كانتْ تُـشَـنِّـفُـهُ الـخُـطـبْ**

*

حُـكّـامُـنـا الـمـتـأسـلـمون

هُــــمُ هُـــمُ صـاروا اللُـعَـبْ

*

سـبـعـونَ عـامًـا طـبّـلـوا

حـتّى تَـبَـيـنَ لي عَـجـبْ

*

فـيـهـا تُـخــــدَّرُ أمّـــةً

لـيُـواطِـئوا وصـلَ الـنَـسـبْ**

*

وعِــتـابُ حُـكّــامٍ هُـــمُ

بـالأصــل خُـــدّامٌ تَـعَــبْ

*

لا نـخــوة تُــرجى لـهـمْ

والـخِزيُ قـد بَــلغَ الـرُكَـبْ

*

مـــاذا أقــــولُ لأُمَّــــةٍ

أوغـادُها صاروا الـنُـخـبْ

*

ســبـعونَ عـامًا افـرزتْ

والـكلُ فـيـهـا قـد رسَــبْ

*

والـقـولُ فـي حُـكّامِـهـا

كالـماء في رمـــلٍ يُــكَـبْ

*

تَـبّـتْ يــدا الــبـاغي وتَـبْ

ظـنَّ الـجـرائـمَ مُـكْـتَـسـبْ

*

فــإذا الــدمـــاءُ تـحَــدّيًـا

أورى  سُــــعـارًا وكَــلَـبْ

*

مـوتًـا بـطـيـئًا أصـبـحـتْ

لـكـيـانـهِ في مــــا ارتَـكَـبْ

*

فـكـيـانُـهُ الـخــاوي غــدا

يـشـكـو الـتـصـدّعَ والـكُـرَبْ

*

إذْ صــار كــــلُّ مُــراده

ولِـجـيـشـهِ مـنـهـا الـهـــرَبْ

*

شــــيــطــانُـهُ قـــــد أزّهُ

والآنَ قـد أمـــسى أجَــــبْ**

*

جَـلـبَ الـهـوانَ لـنـفــسـهِ

والــويـلُ في مـا قــد جَـلَـبْ

*

تـبًّـا لــصـهـيـونٍ وتَــبْ

بـؤسًـا غــدا مـا قـد حَـلَـبْ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الاثنين في 19 آذار 2024

..........................

** الورى: الـبشر الناس  

** الـمِـكَب: الـمغـزل الذي يُطوى عليه الغَـزِل

** تُـشـنّـفه الخُطب: أي تُـمـتِعُهُ الخُطب   

** الأجب: المقطوع

 

عُدْ أبي..

نَعُدُّ الحمام

وهو يحطُّ على السدرةِ

ليطعمها الهديل

أيام بيتنا ..

كان كلما شهقَ

ابتكر لنا صباحا نغرقُ فيه ملء الأغاني

فما التعب

لو عدتَ كقطرةِ ندى من خريفكَ الخافت

وشفتيكَ الذاويتين !

**

عُد أبي بنا

لنلحق ولو بأمنية

تسربلتْ من أصابع الغروب

حتى شَهِدَ العمر

بأنكَ الوان رحلته الطويلة

فبأي نحيبٍ ترقدُ الآن أنفاسكَ

وبأي شمعة تفضُّ هذا الليل ليكون سبيلي

وحدكَ.. غائرا في فراغ الانتظار

أعبر به اليكَ

حيث يستسلمُ الموت لهذا الصمت

وكعادتهِا..

تقوم القيامة.

***

زياد السامرائي - ألمانيا

 

أمش الهوينا

وأجلس برفقة مقعدي

إن لي مع المجانين وعدا

وجدالا

وكلاما

قد يبدو لكم محالا

*

دعوني لشأني

أمش الأرض عمري

إنني لا أبتغي حسابا

ولا عتابا

إن بي من العاقلين حزنا

واكتآبا

إن لي مع المجانين شجوا

وصبابة

وراحة في النفس

قد تبدو لكم غرابة

*

دعوني لشأني

واقفا وقفتي المجروحة

أمام القبور المفتوحة

إن لي مع الأموات وعدا

وجدالا

وكلاما

قد يبدو لكم محالا

صالح الڨرمادي

من كتاب اللحمة الحيّة

***

زهرة الحواشي - تونس

 

سيرحلُ الغَسَقْ

وكل أشرار الدُّنا

من هاهناك...

أو هنا

ومن أَبَقْ!

*

وما بجُعْبَة ِ الطغاة ِ

والبُغاةِ:

من فتاوى حارقاتٍ...

عائقاتٍ

أو حُروب ٍ قائماتٍ...

قادماتٍ

أو فِـــــــــــــرَقْ

سَيرْحَلُ (الفَسَقْ)!

***

محمدثابت السميعي - اليمن

٢٠١٧م

اندس الى جانبي مفترشا سجادة صلاته، دفع برامل الماء قليلا حتى يسعه المكان، ثم شرع في أداء ركعتي تحية المسجد؛ ذاك كان دأبه كل ليلة من شهر رمضان على سطح الحرم المكي، حيث كان يأتي بعد الآذان، وقبل صلاة العشاء بقليل، شاقا طريقه في الزحام، ومندسا بين المصلين الى ان يصل بجواري الى مكانه المعهود، وقد تعودت ان أترك له فسحة يستغلها لصلاة العشاء، ورغائب القيام ..

هو رجل ربعة، اميل الى الطول، في سمنة لا تخفى، وان لم تكن مفرطة، قمحي اللون، باسم الوجه تجحظ عيناه الواسعتان قليلا اذا ضحك .. في صوته بحة، قلما نجدها في صوت خليجي..

على سجادته يضع عقاله، ووسط دائرة العقال يحط هاتفه ذا اللون الأبيض، وقارورة عطره التي هي ما يعلن عن وجوده اليومي بين المصلين، حيث لا يشرع في صلاة الا بعد ان يبخ عطر قارورته على سجادته، وسجادات المصلين من حوله فكأن عطره احتجاج على روائح زرابي ما وجدت من يغيرها او ينظفها، وهي ظاهرة لاحظها معتمرو هذه السنة في عامة جهات الحرم المكي، فالى جانب قلة ماء الشرب توجد ظاهرة الاوساخ، وقلة النظافة، وتراخي العملة الذين كانوا يتوسلون ايادي المعتمرين وجيوبهم، اكثر مما كانوا يتوسلون تنظيف ما انيط بهم تنظيفه .

حين غادر المكان بعد ركعات قيام الليلة، نسي هاتفه الذي غطاه جانب من سجادتي فلم يره ...

اخذت الهاتف، وفي يقيني انه سيعود، او سيتصل للسؤال عن هاتفه .

مابين السلم الكهربائي الذي يربط السطح بالمخرج، وبين مكان اقامتي اصدر الهاتف ثلاث اشارات ضوئية اعلانا بمكالمة..

كانت الاولى من صهر صاحب الهاتف الذي ينبهه الى ان زوجته في الانتظار بالمطعم.. وقد رجوتُه طمأنة صاحب الهاتف، ثم قدمت له بيانات الاتصال ومكان اقامتي ...

وكانت الثانية زوجته التي ابلغتني ان زوجها في مهمة وسيتصل بي بمجرد عودته، ثم نبهتني في صيغة أمرية ألا اقدم الهاتف لاي كان، فزوجها ضابط استعلامات، وربما تكون له معلومات سرية في الهاتف...وقد ختمت حديثها بلهجة تحذير آمرة عنيفة:

"انت مسؤول عن الهاتف وقد تعرض نفسك لعقوبات اذا لم تصنه في أمان، فانتبه واحذر !!.."

لم أستغرب طريقة حديثها فهي انثى بين مطرقة الأوامر والنواهي وبين سندان العادات وتقاليد التحكمات، نصف كائن في مجتمع ذكوري بامتياز، ومن تحاصرها ولاية رجل متحكم فلن تفرز غير عنف اللسان وحقد الباطن..

ما ان قطعت عنها الخط وانا احتقر سلوكها حتى أتتني المكالمة الثالثة كانت من صاحب الهاتف نفسه الذي شكرني بحرارة، ودعاني الى لقائه ..

هدوء حديثه قد جعل نفسي تستكين قليلا من السخط الذي اثارته زوجته والذي لم يكن غير قلة ذوق وجفاف طبع وتعال مذموم ..

من حسن الصدف انا معا كنا نقيم في نفس الدائرة في فندقين متقاربين لهذا لم يكن اللقاء شاقا بيننا ..

احسست غبطة في عينيه، وحرارة شكر، وهو يعانقني بعد ان تسلم هاتفه ..ثم اصر على ان نتعشى معا، ورغم اني حاولت التملص لعلمي ان زوجته قليلة الذوق في الانتظار، وأن ليس من اللياقة أن احرم زوجة رغم عجرفتها من خلوة عشاء مع زوجها الوديع فقد ألح وشدد في الالحاح، وبصراحة فرغبتي في رؤية شكل الزوجة قليلة الذوق كانت تحريضا قويا على قبول الدعوة، حتى أتعرف على سلوكها وهي مطوقة بحضور زوجها ..

حين ولجنا باب المطعم، أقبلت نحونا صبية في الثالثة من عمرها تعلقت بالرجل فحملها وقال:

ـ ابنتي عايدة !! ..

اهتز قلبي و قد تهادى في خيالي طيف بنتي حبيبتي عايدة،  تطلعت الى الصغيرة في لهفة ثم أمسكت بيدها البضة أقبلها ..

كانت الطفلة بعينين حجليتين، تركزان النظر من وجه دائري ابيض، يفيض حيوية وحياة ؛وكان شعرها الأسود المجموع الى الوراء، يضيف لجبهتها رونقا وقد ايقظت صورتها الطفولية صورة انثى سبق وأن تعرفت عليها ...

ـ جميلة.. حفظها الله و رعاها..

كانت امرأة هناك في الانتظار هي زوجته .. لم استطع ان ارى منها شيئا، فقد كانت مكفنة في سواد .. كل عضو فيها له غطاء يناسبه ويحكم حجبها..وحبذا لو استطاعت كبح لسانها قبل وجهها لكانت الى الدين اقرب ولصانت نفسها عن الظهور بمظهر الكبر والتحكم بلسان أعور بعيد عن لياقة خطاب يمكن ان تصدره انثى تدرك قيمة ما وهبها الله من أنوثة وطيب لسان..

اهتزت المرأة لما رأتني، احسستُ اضطرابها حين قدمني اليها:

ـ صديقنا المغربي من كان الهاتف عنده.

لم اسمع لها الا همهمة تمتمتها شفتاها، ثم التفتت حول نفسها وكأنها تبحث عن شيء سقط منها ...

ادركت ان المرأة في غير طبيعتها ..ربما ملت انتظار زوجها وهي تمني النفس بعشاء منفرد معه... فتضايقت من غريب يشاركها المائدة، خاصة وانها لن تستطيع ان تضع لقمة في فمها، الا بعد رفع النقاب المسدول على وجهها، ربما كانت تعبة او تشكو مغصا ما..أو ربما هو جفاف الطبع الذي يتضايق من كل ماعداه !!!..او ربما لها حساسية تجاه المغاربة وما يقال عنهم كذبا وزورا، فأن يتعرف الزوج على مغربي فمعناه ضرة ثانية آتية في الطريق .... ربما لفها ندم على ما بدر منها لما راتني انسانا وديعا متحضرا عاملها بتقدير  ..

انا نفسي تضايقت.. كيف احرم انثى من متعة الجلوس والتصرف بحرية مع زوجها، رغم انها لا تستحق تلك المتعة فأنثى بلا ذوق مثلها البقاء في البيت او الفندق أولى لها، فأنثى الصناديق قد تعميها الأضواء متى واجهتها الأنوار ...

استشعرت ان الرجل نفسه قد لاحظ اضطرابها وقلقي مما جعله يميل عليها ويسالها بوجه عبوس و كلمات تكاد تكون همسا: بك شي ؟إِيش فيك؟!!..

ردت ويداها تضطربان: لا، ما في شي ..تعبانة !!.أروح للمغاسل واعود..

قامت وقد كادت أن تتعثر في الكرسي ...

قلت ملتفتا اليه:سا ستسمحك وانصرف ..الحق بزوجتك ربما تحس شيئا..

زفر زفرة عميقة وقال: لا عليك هي تصاب بحالات عصبية..مذ تزوجنا ...أبشر ستعود بخير ..

"لا غرابة فلسانها الأعور كان بريدا وصلني قبل حقيقة ما أرى " ..

صمت قليلا ثم قال: احيانا نغامر بزواج بلا تفكير .. اني اعاني ياصديقي في زواجي...

معذور !!..وانا على ذلك شاهد، وكانه اراد ان يضفي نوعا من المرح حتى يقلل من وقع الحدث على نفسي :

ليتك تزوجني مغربية ...

عادت السيدة وقد كانت أقل اضطرابا، وقبل ان تجلس قالت:

ـ اعتذر، صداع حاد..

ثم بدأت تتجشأ وكأنها قد ألقت ما في جوفها قبل ان تعود من المغاسل.

ركزت بصري على المائدة دون اهتمام بوجودها ..

بصراحة ما تذوقت للاكل طعما ولا لذة ..المهم ان جسدي موجود، فقد كنت نادما على قبول دعوة مثل هذه..ربما صداع السيدة هو ما افسد لسانها بمنطق مقبول دفاعا عن مصالح زوجها ..

حين كنا نتناول الفاكهة رن جرس هاتف الرجل .. لما عرف المتكلم قام من مكانه وابتعد قليلا عن المائدة ؛عندها رفعت السيدة راسها وقالت:

كيفك ياسعد ؟!!!..

بلغ قلبي حلقي ..تصاعدت انفاسي واحسست بضيق في صدري.. بصعوبة بدأت احاول بلع ريقي، الى وجهها رفعت بصري بحذر وانا استشعر برودة أطرافي!!.. كيف عرفت اسمي ؟ هل لأجل ذلك ارادت ان توهمني بمكانة لدى زوجها وهو من لحظات من كان يذمها ؟

قالت:انا ريم ياسعد!!..اعتذر عما بذر مني ..

ازداد وجيبي، وبين التفاتة الى الرجل وتطلع اليها ادركت مامعنى اضطرابها، عصبيتها ..وقع المفاجأة عليها .. تسمية الصغيرة بعايدة ..

التفتت للصغيرة وقالت: روحي استعجلي بياك..

حين انطلقت الصغيرة رمت امامي ورقة صغيرة وقالت:

ـ خبيها بسرعة أرجوك

وضعت الورقة في جيب قميصي وأدرت الكرسي الى حيث كان الزوج يكلم مخاطبه احتراسا وخوفا ..

اقبل الرجل ..جلس بعد ان اعتذر عن الغياب معللا: شغل..

تلفت لزوجته وقال: انت أحسن الآن ؟ارتحت ِ ؟!!..

سؤال كم يحتمل من معني .. قد يكون مقصودا ..قد يكون عفويا ..قد يكون للإثارة فالرجل رجل استعلامات، ولا ادرى هل دار بذهنه شيء اثاره ...

صدري يعلو ويهبط كمنفاخ، والف وسواس خناس يتراكض في رأسي .. أصابع قدمي العشرة قد تجمدت حتى ما عدت أحسها مني، حاولت أن أتمالك نفسي، ان أحسس جليسي اني اتصرف بعفوية، جاهل بما يدور حوله ...

اقبل النادل ينظف المائدة .. كانت ريم تدقق في وجهي وهي غير آبهة بأن التفاتة من زوجها قد تجعلنا معا في قبضة من نار...

انشغلت بالحديث مع الزوج حتى امنعه من الالتفات اليها، فيضبط نظراتها، فهو ادرى بعيونها من تحت نقابها، وادرى بتعابير وجهها من وراء غلالة سوداء ما تعود عليها رجل مثلي ...

اقتربت الطفلة مني وكأنها قد استانستني .. اجلستها على ركبتي وقبلت يدها... نوع من الهدوء زرعته الطفلة في نفسي حين سألتني: انت شي اسمك ؟ لثمت يدها مرة أخرى ثم قلت: اسمي سعد، هل تذهبين معي الى المغرب؟

احنت راسها و حركته في رفض ..ثم استدركت: اذا تروح معي ماما

قلت:وبابا معها

قالت:لا بابا يسافر كثير كثير، ومشغول ..

كادت ان تقول شيئاآ خر حين قاطعها أبوها وسألني:

عندك أطفال الاخ سعد ؟

بسرعة تكاد تشبه اليقين:

في الطريق لاعانق أمهم اولا ..ضحك للتعبير ..

قمت استئذن للذهاب وقد قفزت الصغيرة من فوق ركبتي الى الارض، شكرت الرجل على دعوته وقلت للسيدة وعنها قد حولت البصر:

تشرفت بمعرفة زوجك سيدتي، انا مدين لكما بهذا الفضل .. حفظ الله عايدة.. تتربى في عزكما.

عانقت مضيفي وانصرفت ..

بسرعة داهمتني ذكرياتي .. شريط الصور يترى على فكري، يهز كياني، يعيد الحياة لعاطفة قدماتت في صدري ...

صرت اسير في الطريق على غير هدى .. اي صدفة هذه التي تعيدني الى خمس سنوات مضت ..يوم وقفت مع والدي في باب بيت ريم تصاحبني شخصية مرموقة من وطنها كواسطة لطلب يدها.. استقبلنا والدها ببرودة كنت اعرف نتيجتها مقدما ؛كان من بين الموجودين في بيتهم شيخ تجاوز الثمانين وشاب في عقده الثاني، لم يراع والدها حرمة الشخصية التي كانت معنا، ولا كرم الضيافة الذي يتوجب ان يبديه حتى ولوكانت بيننا عداوة مكينة، بالرغم من انه لم يتعرف احدنا على الآخر من قبل .. لا ادري ان كان السلوك الذي قد تصرف به وقاحة، او نظرة فوقية وتعالي، او انانية و ثقة زائدة بالنفس، او هو غرور الناقص عندما يستشعر في نفسه كمالا لا وجود له الا في تلافيف عناكب فكره ...

ما ان اقتعدنا بساطا ارضيا حتى بادرنا بالقول: ليست لي بنت حتى ازوجها لأجنبي ..بناتنا لابناء وطنهم، وبنتي الوحيدة مخطوبة لابن عمها هو ذا .

واشارالى الشاب الجالس ...

بسرعة تلفظ والدي قائلا وقد هم بالوقوف:

ونحن لم نأت لنخطب بنتا اجنبية بل فقط صاحبنا معالي الحاكم حين دعانا معه لتناول كاس شاي في بيتكم ككرماء من ارض كريمة ..اما وقد جف زمزم في بيتكم فما بقي لنا غيرالرحيل لاننا عطشى الى ماء مغربنا الرقراق..

قصدناالباب دون ان نرمي كلمة سلام وكنت احس بحنق الشخصية التي تصاحبنا وادري ان بعد حنقها سيكون ما بعده.

من يومها بكيت حبي.. بكيت عروبتي .. بكيت ديني الذي هدمته تقاليد عروبة زائفة، غارقة في البداوة والجهل بعيدة عن الايباء والنخوة والاحساس بالآخر، بكيت اساطير ما محتها مدنية ولا حضارة ولا تقدم الانسان بما وهبه الله من خيرات تؤهله ليكون من خير أمة اخرجت للناس ..

تذكرت الورقة التي دفعتها ريم الي خلسة .. وقارنت بين سلوكها وسلوك ابيها، غصن من تلك الشجرة ومعاودة انتاج، اخرجت الورقة من جيب قميصي؛ لم أفتحها ولم اعرف ما فيها ..مزقتها ثم طوحت بها بعيدا وانا اردد في سري: "وربك يفعل مايشاء ويختار ماكانت لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون"

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

وَجْـهُ المَودَّةِ في الصراحـة ناصعُ

والنـفـسُ يؤنِــسُها شــروقٌ ساطعُ

*

يَـتَـرنّـمُ الحـرفُ البليغُ  بِـذِكْرِ مَنْ

حَـفَـظَ الأصولَ وبالتجارِب ضالِعُ

*

نَـبَـضُ التآلفِ فـي السّـرِيـرَةِ  قائمٌ

فـإذا العَـزِيـمَةُ عَـضّـدَتْـهُ ، يـُواقِـِعُ

*

للـذكريات صَـدىً ، يُـجَـدِدُ طـيْفَها

فــتـعــود يــرفـدهـا خـيـالٌ واسِــعُ

*

صـبْـراً على بـُعْـد المَزار، فإن لي

قـلـباً يـراكـم فـي المـنام فَـيَـهْـجَــعُ

*

سِــفْـرُ الـنـقـاءِ ، لــه خــلـودٌ دائــمٌ

وَسَــنا الأصالةِ  في رُبوعِه يـَمْرعُ

*

ان التـفـنـنَ فــي الـكــلام ، بـعِـفّــةٍ

يسْــمو بـه مَـنْ في الصياغة بارِعُ

*

فــاذا البــيانُ مـع الـبـديـع تَـعـانَـقـا

فـلِـنَـغْـمة العــزْفِ الـبلـيغِ مَـسامِـعُ

*

ورَفـيفُ اجنحـةِ القَرِيضِ له صَدىً

في الليل يسْرقُ غَـفْوَتي ويـُضاجِـعُ

*

يـَصْـبو الى وصفٍ يـليقُ وصورةٍ

فـيهـا الجَـمالُ ، كما يـشـاءُ مُـوزَّعُ

*

يتسامرُ الأحبابُ في قصص الهوى

وهَوانا يَـخْـتَـبِـرُ الوِصالَ ، فَيَشْرَعُ

*

شــتّان مـا بين ابـتســامةِ مُـرْهَـفٍ

مِـن قــلـبه وُلِــدتْ ، ومَنْ يَـتَـصنّعُ

***

(من الكامل)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

لا تلوموني إذا هاجت جنـوني

بعد هذا الظفـرِ

كنتُ محرومـاً ولم تغمُضْ عيوني

يا لَطـولِ السَّـهـرِ

قد نصبتُ الدين شَـركاً بفنـونِ

مـنْ دهـاء الفِكَـرِ

فلقد أبدلـتُ دنيــاي بديــنـي

بعد جَنْـيِ الثّمــرِ

إنَّ هذا الغفـلَ شعبي تبِعــوني

في دجى معتكر

وهُــمُ مـنْ جهلـهمْ قد حَسِبـوني

منْ دعاةٍ غُـرَرِ

وأنا الغارق دومـاً في شؤوني

في التقاط الدررِ

فغليلي ليس يَروى مِـنْ عيونِ

ماؤهـا في نـزرِ

فدعوني أشفط السّحتَ دعـوني

ولأكُـنْ في سقـرِ

وإذا ما شئتمُ أن تشتمـوني

فافعلوا في حذرِ

أنتمُ إنْ تفهمـوني، تجدونـي

دمـيـةً من حجـرِ

2

إنّ روحي هي خضراءُ كخضراءِ الدِّمَنْ

إنّ قلبي جَذلٌ كالطير غرّيدٌ على كلّ فَننْ

وطموحي! آهِ ما أدراكَ في هذا الزمنْ!

عندما يُذبح طفلٌ ذاك تضميد جروحي

عندما يُنحـَرُ شيخٌ فهو تعزيزُ طموحي

عندما يُهدم بيت ذاك تشييد صروحي

وإذا ما دنِّسوا الأرض، فلنْ تدمى قروحي

أمنياتي، آهِ ، أن أبقــى رئيساً للوطنْ

لا أبالي:

وقِحٌ إنْ قيل عنّي أمْ حرامي ذو فِطنْ

3

صلّى وصام ولفلفـا ** قرأ الكتاب وحرّفا

وسعى بشوق عارم**ما بين مروة والصفا

سكب الدموع على الـ خدود تملّـقـاً وتزلّفا

متـرنِّحاً مُترنِّما**والمال في الغيب اختفى

يا ويله لمّا غـفـا** نكث العهود وما وفى

هذا الغلام المجتبى**باع الضَّميرَ وزيّفـا

***

د. بهجت عباس

إنها تمطر الان،

أيها العشاقُ...

تذكروا حبيباتَكم برسالةٍ

إبعثوا لهنَّ رابطاً لأغنيةٍ ساحرةً

مع عبارةٍ جميلةٍ

مع أمنيةِ أن (تظلّا معاً)

أو عبارة اعتذارٍ عن كلمةٍ جارحةٍ

سقطت سهوا ذاتَ يومٍ

أيها العشاقُ...

إنكم تخطؤون في حقِّنا دائِماً

ونسامحكم

يا صديقي المطرَ

أطِل هطولَكَ

كي تمنحَهُم فرصةً أخرى

للمرةِ الألفِ.

***

سمرقند الجابري - بغداد

 

المطر ضرير يخبط في صحن البيت المتداعي. البيت الأشيب  إلتهم طفولة (م) بفكي حيوان ضار. العتمة تفتح النار عشوائيا على الجيران. رائحة مقززة متعطنة تتطوح في أصقاع الحجرة المليئة بثعالب الهواجس.

هنا كل شيء يرغب في الموت.

في الهجرة الأبدية  إلى أقاليم الغياب الوسيعة. مومياء مسنة تحمل ذؤابة شمعة بين أصابعها المكسوة بتجاعيد كثيفة. تحدق في تفاصيل وجه الأب المتكوم مثل حشرة عملاقة نافقة.تبدو جثته مقطوعة إلى نصفين متوازيين كما لو أن شظية طائشة كانت وراء ذلك.

تزرب من حدبته ديدان مقرفة.

عيناه الضيقتان تبدوان نصف مغمضتين

أمضى نهارا يتخبط في خرم اللامعنى تلاحقه الأعين المتجسسة المرفودة بالكراهية والسخيمة.

تعض شحمة أذنيه أشباح نزقة.

عربة الجار ذات الحنجرة  المبحوحة المزدحمة بالغيوم تنادي باسمه كل صباح ليقترف العبث والجنون واللاجدوى بغية الحصول على رغيف أسود سام فظيع.

(ن) تخطفها حوذي الموت في الرابع عشر من آذار الفائت.

ماتت مثل سحلية قميئة في مكب نفايات. مخلفة فراغا يزعق مثل بومة عمياء كل مساء.

طردتها الحياة بمكنسة على مؤخرتها باتجاه الهاوية.

رغم ذلك لم تيأس من كسر قوقعة الفقد والتحليق بأجنحة متوهجة

في أصقاع البيت كلما تختفي الشمس وراء أكمة الأفق البعيد.

تزور بعلها المتشقق المنبوذ وابنيها اللذين ما عتما يحلمان بدفء عائلي أثير.

كان إبنها (س) يحس بوجودها وبخاصة حين تصهل فرس الظلمة

ويطلق الرعد أول قذيفة مروعة باتجاه الأرض وتتعالى أوركسترا القطط المتوثبة إيذانا بحفلة تنكرية ساخطة.

كان يناجيها بكلمات رقيقة ناعمة

بينما حزمة من الدموع تتساقط مثل شآبيب المطر على وجنتيه.

الأب حشرة منبوذة.

أخوه الصغير (ر) يثغو مثل شاة يهددها قطيع الذؤبان.

منذ يومين لم يذق شيئا على الإطلاق.

الله لم يعد مهموما بمشاغل هذا الكوكب الملعون المنذور لموسيقى  الموت البطيء. لا ينظر إلى الفقراء بعينين صافيتين.

نام الإبن الصغير بجوار جثة أبيه المنتفخة.حالما بنصف رغيف طازج وحذاء جديد لقدميه المتفحمتين.

تأبط (س) سكينا حادة واختفى في بطن العتمة. لم يحظ بأي عمل بسبب العاهة التي التي تكسو وجهه الكابوسي.

الناس موتى والبيوت مقابر.

لا نجوم على سطوح السماء.

الأشباح تتقاطر مثل مسافرين جاءوا من مدن نائية.

لا بد من ملاحقة جنود الجوع الذين يحلقون حذو جسد أخيه الصغير الذى طفق يتلاشى ببطء مثل غيمة في سماء محدبة.

وبينما كان يحرث الحواري بساقي كنغر أبله إذ لاح له بيت وسيع يشي بضرب من النعمة وبلهنية عيش قطانه.

وفجأة  تقحم بيتا فخما.

دقات قلبه تتسارع مثل عجلات قطار يحمل جثثا ورهائن.

ينز عرق بارد من جبينه الناتىء.

تفر من زجاج عينيه المكهربتين شياطين مجنحة مخيفة.

خطا خطوات مثيرة للأعصاب.

إنطلق خفاش من شجرة مجاورة

مثل سهم مصطدما بعامود كهرباء خشبي. صمته المتهدل يدق الطبول كما لو أنه في ساحة ملآى بالزنوج.

تسلق الجدار مثل فهد.قفز من البلكونة إلى غرفة الإستقبال المؤثثة التي تشي بالنبالة والبذخ.

ملأ جيوبه بمجوهرات نفيسة للغاية. ثم عاج على المطبخ بخفة.

إلتهم  ما لذ له من أطايب المأكولات. ثم إرتد على عقبيه سعيدا بهذا الكنز الذي يتلألأ في جيبه. ثم قفز من سور البيت الفخم متجها إلى بيته المتواضع كما لو أنه فاتح كبير لمملكة السعادة الأبدية.

وبينما كان يمني نفسه بقضاء آخر أسبوع مريح لعائلته البائسة جدا.

إذ قبضت عليه دورية أمن على حين غرة وتم اقتياده إلى السجن لما إقترف من جرم مشهود.

وأعيدت المجوهرات إلى أصحابها.

***

فتحي مهذب - تونس

 

في نصوص اليوم