نصوص أدبية

نصوص أدبية

يَا لَيْلَةَ الْعِيدِ قَدْ قَامَتْ لَكِ الْحِقَبُ

وَالْحُزْنُ فِيكِ بِقَلْبِ اللَّيْلِ مُحْتَجَبُ

*

أَسْعَدْتِ قَلْبِي وَكَانَ الْقَلْبُ مُكْتَئِباً

وَعُدْتُ أَمْرَحُ زَالَ الْهَمُّ وَالتَّعَبُ

*

أَشْدُو بِلَحْنٍ تَزِينُ الْعُمْرَ طَلْعَتُهُ

وَعَادَ أَحْبَابُ قَلْبِي بَعْدَمَا احْتَجَبُوا

*

نَادَيْتُ يَا دَهْرُ قَدْ أَسْعَدتَّنِي عَجَباً

عَادَ الشَّهِيقُ وَزَفَّتْ فَرْحَنَا الشُّعَبُ

*

هَلَّلْتُ أَهْلاً بِعِيدِ الْفِطْرِ بَيْنَهُمُ

يَا بَسْمَةَ الْعُمْرِ أَنْتِ الْمَاسُ وَالذَّهَبُ

*

إِنِّي وَهَبْتُ لَكِ الْأَنْفَاسَ مِنْ زَمَنٍ

وَتَضْحَكِينَ وَيَحْلُو يَا أَنَا اللَّعِبُ

*

فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ زُرْنَا كُلَّ مُعْدَمَةٍ

نَحْنُو عَلَيْهَا خِيَامُ الْجُودِ تَنْتَصِبُ

*

وَأَنْتِ تَدْعِينَ وَالْأَيَّامُ تَفْرَحُ لِي

وَافَى الزَّفَافُ وَعَادَتْ حَفْلَهُ الْخُطَبُ

*

يَا لَيْلَةَ الْعِيدِ عَادَ الْحُبُّ يَجْمَعُنَا

وَاللَّهُ يَرْضَى وَتَعْلُو بِالدُّعَا قُبَبُ

***

شعر أ. د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

الحصان الّذي بات خلف أسوار المدينة،

لم يكن غنيمة حربٍ

و لا كان عنوان انتصارْ،

لم يكن طالع خيرٍ،

و لا كان عربون سلامْ ..

كان كائنا من جمادٍ،

في جوفه الموتُ والخرابْ ..

جمرًا ينام تحت رمادْ.

*

اللّيل ساكن رهيبْ ..

العيون خلف الأسوارِ ..

نائمةٌ يحرسها الأمانْ..

الأسوار عالية حصينةْ،

العسس يقظونْ،

و الأبواب موصدة متينةْ.

و في مكان ما،

كانت الخيانة تنام في حضن الغدرْ ..

كانا يمارسان طقوسهما

على فراش واحدٍ،

تحت سقف واحدْ،

بين نفس الجدرانْ.

*

في جوفِ اللّيلِ والسّكونْ،

تمخّض "الحصان الخشبيُّ"،

كان المولودُ خرابا ودمارا،

و احترقتْ طروادةْ.

كانت مأساةٌ وكانَ موتٌ..

و كانت دماءٌ ..

و كان حريقْ..

و المتّهمُ "حصان خشبيّ"...

*

تناسلت السّنونُ، ومن بعدها القرونْ..

كان لكلّ بلد طروادةٌ وحصانْ،

و لكلّ أمّة مأساةْ..

و في كلّ شبر من الأرض آلامٌ وموتٌ وفناءْ،

الكلّ في المعارك أبطالْ،

الظّالمُ والمظلومْ،

و الكلّ يبحث في الآخَرِ عن "كعب أخيلْ"..

لِيُهْدِيَهُ الموتْ.

*

يا أيّها التّاريخُ،

يا مركبا تائها بين جنون الموجِ ودفءِ المرافئِ،

بين لمعةِ سيفٍ وتغريدةِ نورسْ..

يا أسطورةً تنضحُ آلاما وجراحًا..

يا قِصَصًا للغدرِ والخيانةِ لا تنتهي..

و سيوفا تؤذِّنُ للانتقامْ ..

لوجبةٍ لا تُؤْكَلُ إلاّ وهي باردةٌ

فتنزلُ في البطون سعيرًا،

فهل من متّعظٍ أريبْ...؟!

*

يا أيّها "الحصان الخشبيّ"

أشهدُ أنّك بريءٌ من الغدرْ،

وأنتم أيّها "الأبطالْ" ،

يا من ترفعون على أشلاء الموتى

و بقايا الأطلالْ،

كؤوس النّصر في كلّ عصرْ..

لِتَعْلَمُوا أنّ لكلّ منكم "كعبَ أخيلْ"،

و أنّكم لا محالةَ مَيِّتُونْ

و أنّ الانتصار عملاق يقزّمه الباطلْ،

و أنّ الضّحايا

ليسوا سوى وقود لحقد الأقوياءْ

و أنّ الانتقامَ وحشٌ شرسٌ،

لا يفترسُ إلاّ من يطعمُهُ ويغذّيهْ.

فلا تزرعوا الشّوكَ،

إنّه لا يثمرُ غيرَ الأَلَمْ،

و لا تزرعوا الرّياحَ

كي لا تَحْصُدُوا النّدمْ.

***

25/06/2023

محمد الصالح الغريسي

مذ خرجت زوجته ولم تعد وهو لايغادر البيت، بسمة ارتياح لاتفارق وجهه مرتخيا على كرسي هزاز في هدوء وسكينة نفس الى نافذة البهو المطلة على الشارع، يدقق النظر في الرائح والجاي كأنه يتلمس عودتها وقد تقمصت روحها أحد وجوه المارة الكذبة النرجسيين، أو ربما حلت في قطة وشق بأقدام سوداء، تقفز و تموء بلا انقطاع، أو كلبة بوكسير تلاكم بلاتوقف وتنبح بشراسة.. يضحك في أعماقه ساخرا من إيمان زوجته الشديد بتناسخ الأرواح كانت تعانده بحجج تتوهمها حقيقة لمعتقد لديها راسخ..

" ميلادي بعودتي سيتجدد، فخلود روحي ثابت، لاينكره الا دهري مثلك لا يعي غائية عودة الروح الى أجسادها يوم القيامة.. يموت جسدي لامحالة، لكن روحي راجعة لإتمام رسالتها على الأرض "..

يقهقه وهو بكامل ثقته بما يدور في رأسه أن رسالتها لم تكن غير روحها، أن تسكنه وفيه تتحكم وبرايها يحيا، انتقامية، لذتها أن تذيقه مما أذاقها أجيالا.. كان يدرك هذا منها فغاية معتقدها أن تطمس له شمسا..

ـ "عنك لن أغيب يازوجي العزيز ومني لن تهنأ أو ترتاح، أولك يهدأ بال، قد تغيب عنك صورتي، لكن روحي ستظل تحاصرك وحولك تحوم ليل نهار.."

يحرك راسه بايجاب وهو يوازن بسخرية بين نقائضها ويقظته..

كان مصباح صغير ضئيل الضوء هو ما يشير الى وجوده الليلي ساهرا يدخن أو يكلم نفسه، حتى أن أحد الجيران قد استبعد ألا تكون زوجته موجودة فعلا، بل هي من يرد عليه الصدى بنفس تسرعها وثرثرتها التي لايتوقف لها لسان وهي تستميت في الدفاع عن معتقدها، أو تفشي ما توصلت اليه ببحث ونبش عن أسرار من يشاركها العمل، إذ لا معنى أن تخرج سيدة معروفة بين سكان الحي من البيت بهدير يومي كإثارة، بها تلفت عيون المارة ومن يترقبون طلعتها البهية قبل أن تطل عليهم مساء عبر شاشات التلفزة فتثير الكبير والصغير بإلتفات، فكيف تخرج من البيت ولا ينتبه اليها أحد؟..لا الشرطة قد وجدت لها امارة تدل عليها ولاعيون المخابرات قد اهتدت لأثر..

بعد ثلاثة اشهر تعانقت أبواب نوافذ البيت عناقا طال وامتد وما عاد البيت يتنفس من الأبواب هواء، ولا الأبواب تسمح بنور من ذؤابة مصباح فتعكس إشارة بوجود..

أين رحل الزوج؟ لا أحد يدري !!.. فكما غابت زوجته خفية بلا علامة تدل عليها، فقد تبعها الزوج خفية كذلك بعد حزن شديد، وكأن أرضية البيت مطمورة تبتلع ما فوققها ثم تلتحم بلا اثر يدل عليها ؛وحين أثار الشك سكان المنطقة في أن يكون الزوج قد مات كمدا بعد أن فارقته زوجة كانت تبهر العين ولها تتناغر الأحاسيس برغبة، رغم ماكان يتبدى عليها من شراسة والتي كان يؤولها البعض في رغبة شبقية هي مامات في الزوج، وظلت عليها تستحوذ وبها تثير عشاقها إذ كل ما فيها يغري بالقبل والعناق. فتح أحدهم البيت بعد إذن من السلطات لكن لم يكن في البيت غيرالصراصير، وبعض الجرذان وقبائل النمل التي فتحت ثلمات بين الشقوق وتسعى جادة لبناء مدنها..

ثلاث سنوات وزيادة وجميع أبواب البيت تطبق على ما في داخلها، هي كما هي لم يتغير فيها الا لون الخشب الذي التهمته الشمس وشققه المطر فصار كألواح مراكب الصيادين المتلاشية الباهتة والمهملة على ضفاف الأنهار المنسية..

ذات ليلة عاصفة أرعدت وابرقت ورمت السماء رجومها مياها أغرقت بيوتا وقلبت أخرى عاليها على سافلها.ارتعب الناس وأفزعتهم الكارثة بذعر فتركوا مساكنهم وفروا صعودا بعناء وصبر الى صخرة عالية فوق نهر يخترق المدينة خوفا من تدمير آت لا محالة يسألون الله الرحمة و التخفيف عنهم..

الأقوياء منهم تمكنوا من النجاة بوضع قدم فوق الصخرة لكن غيرهم: منهم من غابوا نهائيا، ومنهم من قذفتهم التيارات المائية قلب بيوت أخرى لا يعرف أحد هل ماتوا ام لازالوا يعانون ويقاومون داخلها...

كان الفارون يطلون من أعلى الصخرة، متحسرين تدمع عيونهم وترجف قلوبهم على أمتعة الناس طافية أو متقافزة تندفع من النوافذ وأبواب المساكن فتجرفها السيول..

صاحب مقهى مشاكس يعارض كل شيء قال:

ـ هذا عقاب تنبيهي من الله لحكومة تعمى لها العيون عن الأثرياء وأصحاب المشاريع المقربين من يستغلون فضاءات عمومية فتنساهم بلا ضرائب، لكنها تحاصر المقاهي الصغيرة بإتاوات تدعيها حقوقا حول ما يسمعه روادها من مقاطع غنائية ويشاهدونه من برامج تلفزية، أنظروا الى المقاهي عوامة بأثاثها، كؤوسها وأكوابها وأباريقها كصيبات بلورية راجمة من سماء..

عويل، بكاء وصياح الفارين وهم يشيعون مع الامتعة والأغراض حزمات لأوراق مالية من مختلف العملات تلفظتها صناديق خشبية أو حديدية ولم يستطيعوا النزول اليها، ولا ملاحقتها او السباحة خلفها..

أحد الجباة المرضى بغرور العظمة توهم نفسه بطلا فرمى بنفسه قلب المياه الجارفة محاولا انقاد حزمة من مال ظهرت ثم غابت ومعها غاب نهائيا بلا اثر..

كانت أحاديث الفارين فوق الصخرة ؛حسرة على العلب المبطنة، والوسائد والمضربات وقد تفككت ورمت مخزونها من ذهب وفضة، جواهروقطع نقدية ذهبية رسبت في قعر المياه، ولن تكون الا من حظ الشركات التي ستتكلف بتنقية النهر بعد انحسار المياه أو عمال البلدية ومساعدي الصحة وغيرهم ممن يحشرون أنوفهم في كل شيء، ويتقنون البحث في مثل هذه المهمات..

شهقت أمراة وهي تجأر بشكوى نادبة حظها وحظ من ضاع وغبر :

ـ أموال جمعها سماسرة السياسة والنقابات وموظفون سامون، من الرشاوى بعيدة عن عيون الدولة، وأخرى لأصحاب الريع من يملكون رخص الرمال والمناجم، وبواخر الصيد في أعالي البحار، وأموال أخرى لتجار وأصحاب معامل وشركات مما تم ابعاده وحجبه عن عيون الضرائب يطوح بها الطوفان نكاية في أصحابها.ماذا بقي لنا ؟ حرمان قبل الكارثة وفقر بعدها...يا رحمة الله بنا !!..

شابة صغيرة لفتت انتباهها حزمات من كتب مجلدة بأوراق صفراء قد غابت ألوأنها، تبسمت رغم الذعر الذي كان يملأ صدرها ومع نفسها تمتمت:

أومن لو كتب الله لي النجاة لعشت في وطن بلا إرهاب فكري ولا ألسنة تزايد على ربها وتؤول كلامه بما لم يبلغه رسوله أو بلغه وحرفته اللحى المغشوشة حسب هواها ورغبة حكامها..

لوحة خشبية كمحفة طويلة من مترين تقريبا مربوطة عليها جثة بأحزمة جلدية وحبال كانت المياه تتقاذفها داخل بيت الزوجين المفقود ين، تكاد توشك على التخلص من حصار النافذة فتمنعها تيارات الماء الدوارة من قوة الدفق داخل البيت..

الجميع انتبه الى اللوحة وقد توهموا أن أحد الفارين بنفسه قد ربط اليها أمتعة قد يتداركها ولاتضيع منه بغرق.. وربما ضاع هو وغبر، وبقيت اللوحة تدور وتحاول الانفلات بارتطامات قوية مع إحدى النوافذ..

مالت اللوحة بعد ان قلبتها أحدى تيارات الماء فانحبست محصورة بين المتلاشيات مما فككته انسكابات السيول..

ثم مالبث الناس أن أرعبهم دوي قوي جعل المياه تغور وتنطمر بعد أن أنفتحت الأرض وابتلعت جميع من فوقها الا الفارين المنذعرين فوق الصخرة وقد صاروا مكان الأرض الهاوية.بعد أن تساوت الصخرة بما تحتها. دمدمات أخرى تسري بين الناجين وما أقلهم، حتى البيوت صارت أرضية لا تظهر لها غير بقية باهتة عدا البيت الذي علقت به المحفة الطويلة كان آخر ما هوى وظل فوق الانقاض كإطلالة باقية..اللوحة وما كان مربوطا فوقها قد انسلخ عنه كل دثار كشف رجال الانقاد انها المذيعة التلفزيونية زوجة الرجل الذي غبر، تم التعرف عليها بوحمة سوداء على فخدها الأيسر وبأحد الأحزمة الذي لم يكن غيرحزام زوجها الذي كان يتمنطق به في رحلات القنص..

بعد أن توقفت الأمطار وغار الماء تم الكشف عن خزان حديدي كخزانات المواد النفطية بسعة غرفة في المنزل لفظته أرضية البيت بعد ان فككت دفقات المياه القوية مقابضه وتلحيماته وهو الذي احدث الدوي الكبير الذي فسح الطريق باتساع للمياه ان تغور في النهر الذي يخترق المدينة..

ما فاجأ الشركات التي تكفلت بإزاحة ما تراكم من أنقاض وأزبال ورواسب هو كمية الهياكل العظمية المتفككة في النهر والتي فاقت بكثير عدد من جرفهم الطوفان بعد إحصاء الخسائر، وقد ابانت تحليلات الحامض النووي أنها لمفقودين سياسيين ورجال أعمال أثرياء غابوا من عشرين سنة مضت بلا اثر يدل عليهم، تناسهم الزمان لكن في عيون ذويهم قد ظلوا أحياء.. وما زاد في الاستغراب كذلك هو قادوس اسمنتي ضخم بارتفاع قامة إنسان امتداده كيلومتران وزيادة يؤدي الى حديقة غناء بها غرفة عالية تطل على رحابة الطبيعة يقيم فيها الزوج المفقود بكامل زينته وأناقته وقوة شبابه مع ملكة جمال الكون للسنة ماقبل الماضية، تومن كما عاشقها يومن أن الحياة غنيمة لذة من حاضر ولا روح تنتقل الى غير جسدها..

الغرفة مفتوحة على فيلا خارقة المحتويات لثري هندي حسب مايشاع وتردده ابواق المأجورين الخدمة ما يوهم الناس أن الرجل مقعد قد هده الزهايمر ولا يتنقل الا على كرسي متحرك..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ياعيدُ عُدْ لديارِنا ياعيدُ

طالَ الأسى، والهم فيك شديد

*

فمن المحيطِ الى الخليجِ مصائبٌ

من هولِها شمُّ الجبالِ تميدُ

*

أحفادُ طارقَ قد نسُوا غرناطةً

وهم الأشاوسُ في القتالِ أسودُ

*

والقيروانُ تبدَّدتْ أحلامُها

فذوى الربيعُ إذِ اعتلاهُ جليدُ

*

أرضُ الكنانةِ غابَ عنها فارسٌ

يُزجي الصفوفَ وللجنودِ يقودُ

*

ليردَّ طغيانَ المغولِ وظلمَهم

مجدَ الرشيدِ إلى البلادِ يعيدُ

*

يا ربِّ بتنا للضباعِ فريسةً

فينا تطيحُ ثعالبٌ وقرودُ

*

فالقدسُ تصرخُ دونَ نجدةِ ماجدٍ

ويعيثُ في مسرى الرسولِ يهودُ

*

لا شاربٌ يهتزُّ من صرخاتِها

بل لا يهبُّ إلى اللقاء جنودُ

*

وبنو أميةَ كُبِّلتْ فرسانُهم

والرومُ يعظُمُ شأنُهم ويزيدُ

*

والفرسُ تقتلُ في ذراري منذر

لا هانئُ  يحمي ولا مسعودُ

*

رحماك ربي إنّ أمةَ يعرُبٍ

قد مزّقتْها  فرقةٌ وحدودُ

*

أعِدِ الكرامةَ والعُلا لشعوبِنا

تحيا وتُحيي ما بناه جدودُ

*

وأعدْ إلى أطفالِنا ضَحِكاتِهم

فلقدْ سباها القتلُ والتشريدُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

تحسنّت علاقتي مع معلمة مادة الرياضيات بعد الموقف الثوري، وبالتالي تحسنت علاقتي مع جميع المعلمات المتضامنات معها بلا سبب ..

وهذا العيب يغزو المجتمعات النسائية أن تعادي إحداهن أخرى فقط لأنها قالت كلمة عن إبنة خالة صديقة جارتها ..!

المهم أنني فقدت إحترامي لتلك المعلمة رغم التعامل الجيد الذي عاملتني به لاحقاً لم أكن ّ تلك المشاعر التقديسية بيني وبين المعلمات ربمالأنني لم أصادف منهن من تستطيع أن تخرج من كونها مدرسة في الصف..

في ذلك الوقت من السنة كنا نستعد لمهرجان ترتيب الصفوف الدراسية، كان بمثابة تنافس بين الطالبات وبين رائدات الفصول يصل للدرجةالتي تنشب حزازيات وأحزاب وعداوات بين جميع الأطراف إلى أن يحين الإعلان عن جائزة "الصف المثالي" وتكريم الطالبات و رائدتهن من قبل المديرة في الإذاعة الصباحية..

(هذا الأمر لايعرفونه الشباب في مدارس البنين)

كان الفوز بتلك الجائزة يتطلب عدة شروط (الديكور المميز والذي يبرز العناصر الرئيسية من "لوحة الصف بأسماء جميع الطالبات ومكتبة الصف"، السمعة الجيدة،حسن سلوك التلميذات)

وبسبب أن صفنا الدراسي كان يجمعني أنا وشلّتي الثمانية لم تقبل أيا من المعلمات أن تتحمل مسؤولية ريادتنا كان ذلك بمثابة الإهانة لنا

فما كان مني أنا "رئيسة الفصل و رئيسة النظام" إلا الإمساك بزمام الأمرر وترتيب الصف..

أبدلت الطاولات والكراسي بأخرى من مستودع المدرسة لتصبح جميعها بمستوى واحد وغلفتها باللون "البيج" وكذلك الكراسي كانت بلون خشبي فاتح، علقت لوحة بعرض الجدار الخلفي كاملا لمنظر أشجار خريفية وعلى الأوراق المتساقطة علقت أسماء الطالبات

والمكتبة كانت عبارة عن رفوف صغيرة معلقة  في الزاوية الأمامية بجانب السبورة  وتحتها ثلاثة أحجام لطاولات مطلية باللون الخشبي و و ضعت على إحداها  سمكة ذهبية حية في حوض دائري وعلى الطاولة الأخرى حوض زجاجي آخر بداخله بعض الأحجار الملونة اللامعة و شموع صناعية تعمدت إختيار تلك الزاوية لأن أشعة الشمس وقت الظهيرة تسطع في هذا المكان عادة وتنعكس على الأحجار والسمكة..

كانت من ضمن شروط التقييم كان على كل صف عمل إفطار جماعي وعلى المديرة وبقية أعضاء الإدارة المرور لتذوق الأطباق وتقييمنا.

جمعت طاولات الدراسة في منتصف الصف وغطيتها بمفرش حريري أبيض ووضعنا جميع الأطباق في أواني حديدية و حاملات شموع من الكريستال ليبدو و كأنه "بوفيه"، لحفل زفاف راقي واجهت صعوبة بإنجاح كل هذا البروتوكول نظراً لإختلاف الأذواق والبيئة الإجتماعية بين زميلاتي

دخلت المديرة وبقية المعلمات في حالة من الذهول لم  تتوقع أياً منهن أننا سوف ننجز كل ذلك بدون رائدة وبأقل من أسبوع

سألت من قامت بكل هذا و قفزت زميلتي قائلة: هذا إعداد الزعيمة لمى على فكرة  لسنا بحاجة إلى رائدة "من عافنا عفناه لو كان غالي"

كانت إحدى بروتوكولات الإستقبال التي أمرت بها ذلك اليوم أن تقف طالبتين عند الباب بسلالٍ من الخزف ترمي أوراق الورود البرتقالية  والصفراء على المديرة و بقية الضيوف ومن بينهن معلمة الرياضيات، اقتربت مني صديقتي وهي ممسكة بسلة الورد همست بإذني بإستهزاء

"هل نرمي الورود على معلمة الرياضيات؟ نحنا تحت أمرك طال عمرك "

قلت لها:

أنا أشوف نجهز لها سلة ثانية و نرميها بمية ورقة صغيرة مكتوب عليها الشتيمة اللي تطفلت بقراءتها"

ضحكنا ضحة أفسدت كل محافل الإستقبال الراقية.. وبختنا المديرة على هذه الضحكة تم تقييم صفنا على أنه الأجمل من ناحية التنسيق و الأسوأ على مقياس الإحترام وحسن سلوك الطالبات، على كل حال لم أكن أستطيع تقديم شيء لزميلاتي لربح الجائزة أكثر من التنسيق.

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية

بـَــاتَ الـحَـجـيجُ يـَضـمُّهمْ عـَرفـاتُ

تَــغـشـاهـمُ الأنــــوارُ والــرحـمـاتُ

*

أرضٌ مـــبـاركـــةٌ وربٌ غـــافــــرٌ

يـاسـعــدهمْ بـصـعـيدهـا قــد بـاتــوا

*

مِـن كـلِّ أحْــدَابِ الـبسيطةِ غـادروا

وبــمـــكّــةٍ تــتـــجـمّـعُ الأشـــتــاتُ

*

فـعـلى الــوجــوهِ بـشـاشةٌ ونَـضَارةٌ

وعــلـى الـثّـغـورِ توزَّعتْ بـسـماتُ

*

جـــاؤوا لـمــكّةَ والـحــنينُ يـسوقُهمْ

لــمّــا رأوهـــا فــاضـتِ الـعَـبَـراتُ

*

وتـهـدَّجَـتْ أصـواتـهمْ فــي غَــمـرةٍ

عــنْ وصـفـها قــد تـعـجزُ الـكلماتُ

*

بــمــآزرِ الإحــرامِ حــيـنَ تـتـوّجـوا

كـالـثـلـجِ إنْ مُـلِـئَـتْ بــهِ الـفـلــواتُ

*

طــافــوا بـبــيـتِ اللهِ مـــثـلَ نـبـيِّـهمْ

وعـلـى خـطــاهُ ســارتِ الـخـطواتُ

*

ونِـــدائــهـمْ لــلــهِ بــــاتَ مُــوَحّـــداً

لا ألــســنٌ مَـــنـعـتْ ولا لــهــجـاتُ

*

لَـبـيــكَ ربـــي كـلُّــهـمْ قـــد قــالـهـا

بــاسـمِ الإلـــهِ تـعـالــتِ الاصــواتُ

*

لــبـيـكَ قــالـوهـا بــصــوتٍ واحـــدٍ

ضــجَّـتْ بـهـا الآكــامُ و الـسّـاحاتُ

*

لــبــيـكَ قــالــوهـا بــغــيـرِ تـــــردّدٍ

و تــسـارعــتْ بـقـلـوبـهمْ خــفـقـاتُ

*

يـدعـونَ لـلـرحمنِ دعــوةَ مُـخْـلصٍ

مـــا شــابـهـا زَيــــفٌ ولا غــايـاتُ

*

طُـوبـى لــهـمْ أدَّوا فـريـضةَ حَـجِهمْ

و تــحـقـقـتْ لــنـفـوسـِهمْ رغـــبـاتُ

*

وبـطـيـبةٍ زاروا لـقـبـرِ الـمـصـطفى

مِــنْ نَــفـحِ روضـتـهِ أتــتْ نَـسماتُ

*

سَــكِـرَ الـــذيـنَ تـتيَّـموا فــي عِـشقهِ

وتـلـجْـلـجتْ بــصـدورِهـمْ زفــراتُ

*

إنَّ الـــذيــنَ تــهـاونـوا فـــي حـــبـهِ

ســيَّـانَ إنْ عــاشوا وإنْ هُــمْ مــاتوا

*

حـــبُّ الـنـبيّ فـــريـضةٌ فــي ديـنـنا

ولـــنــا بـــحــبِ رســولِــنـا آيــــاتُ

*

صــلـوا عـلـى خــيـرِ الانــامِ مـحمدٍ

حــتــى تــحـلَّ عـلــيـكمُ الـبــركـاتُ

*

ربَّـــاهُ تـعـلــمُ أَنـــتَ كـــلَّ خـطـيئةٍ

فــي الـجهرِ أو مـا أضْـمَرَته الـذاتُ

*

مَـنْ لي سـواكَ إذا الذنوبُ تعاظمتْ

و رَبَــتْ عـلـى حـسـناتـيَ الــزّلّاتُ

*

أبـــوابُ عــفـوكَ لا تـــردُّ لـسـائــلٍ

قــــد أوقـعــتـهُ بـفــخِـها الـهـفــواتُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

(ظهرت الفياغرا في حزيران 1999

فكانت هذه القصيدة)

***

فـياغـرا تبـخـتري **وفَجـِّري في السَّـحَرِ

شـهوةَ شـيخٍ شـبقٍ** حـياتـُه فــــي السُّـرُرِ

وصـيِّـريـه مـَرِحاً ** مـِنْ بعد هـذا الكـَدرِ

وأنْعِـمي عَليـْه باللطـف ِ لـحـين المـَحْـشرِ

حـتّى تـَكـونَ عبْـلةٌ **تـلهثُ خلف عـنتَـرِ

وعـنـتـرٌ يـقـطــع أعناقَ العِـــدى بالبُــتُـرِ

لـكِنْ حبـيبُ العمـر مشـغولٌ بصيد الجنبري

ومـذْ دخـلتِ جـوفـَه** هـاج كـذئـبٍ أغبرِ

سـرقتِ مـنه خُـضْـرةَ العـين وحسنَ النـظرِ

فـلمْ يـعـُدْ يـُبـصِرُ فـي دنـيـاه غـيرَ الحَـوَرِ

حُبَيْـبَةَ العُمْرِ نَفخْت ِالروحَ في ذا المُهـتري

لأنـتِ حـقـاً حـبـةٌ ** زرقـاءُ مـثلُ البحَـرِ

صـافـيـة ٌكـخـمرةٍ ** ناعـمـة كالـدّ ُرَرِ

نـاطـقـة ٌفـصـيحة** ليـستْ بـذاتِ هَـذَرِ

لـكـنَّ فـي جـوفـكِ بـركـاناً شـديدَ الشـّرَرِ

يُـحـرِقُ كُـلَّ غـافلٍ**مـا لـمْ يكنْ في حذرِ

وقد يُـصابُ بالعـمى**من بَعد حـُسن البصرِ

وقد يـكـون قـلـبـُه** فـي دوْرة المـُحـتضَرِ

أمّـا إذا كان الحبـيـبُ مُـبتَـلــى بالسكّـــــرِ

إغــفاءةٌ عميقــةٌ**تـقـرضُ حبـلَ العُـمُــرِ

جـنـيَّـةٌ عـفـريتـة** انـطـلـقتْ مـن عـبقـرِ

نزلـتِ بـين مـعـشر**رجالـُهـمْ فــي بـَطـرِ

يـشكون في وَحدتهمْ **من فعلِ وقْـع الكـِبَرِ

أعـلامـُهمْ مـطـويـَّةٌ **سـيوفُـهم لـمْ تُـشْـهَرِ

وأرضُـهمْ جـَدْبـاءُ لـمْ تَشْـهـدْ هـُطولَ المطَرِ

ومُـذْ حَـلـلـتِ بـينهمْ** جَـرَتْ مـيـاهُ النَّـهـَرِ

فانتَعـشَتْ أشجارُهـمْ**وانـتصـَبتْ في صَعـَرِ

وأوْرَقـتْ أغـصـانـُها**وافْـتـَرَّ ثـغْـرُ الزَّهَـرِ

فـراحَ كُــلّ ُواحــدٍ**يـَسْعـى لنَـْيـلِ الوَطـــرِ

مُـبـدِّداً أمــوالــَه ** فـي نـشـوةِ المـنـتصِرِ

سـروالـُه فـي لـندنٍ** وثـوبـُه فـي المـَجـَرِ

ولا يـبـالـي بالـرَّدى**مـَنْ ذاق حُـلْـوَ الثَّـمَـرِ

فـي جـنّـة يـكون فـيــــهـا هـانـئـاً أوْ سـقَـــرِ

فـلَـوْنُـكِ الخـلاّبُ يَسْـري سـِحْـرُه فـي البشرِ

أحَـبَّـةٌ مـِنْ رحـمـة**أحـيـَيـْتِ بـالي الأثـــرِ

أم أنـتِ حـقـاً نـقـمةٌ** تـنـقـُضُ روحَ الوتَـرِ!

حـبّـةُ بُـرٍّ خَـنـَقـتْ** طـيـرَ سـُليمان البَـرِي

فـكيف ترجو رحمةً **من حَـبَّة المُسْـتَـثْمِرِ!3393 بهجت عباس

بهجت في صيدليته في تورنتو

***

د. بهجت عباس

حزيران 1999

............................

من كتاب

John Molyneux and Marilyn MacKenzie ” World Prospects 1994

الحياة تشرق في عينيها الخضراوين كلما نظرتُ إليهما بين الحين والحين، دون انتباهٍ منها، تتحدى سأم الانتظار المشاكس صفاء وجهها طفولي الملامح، يتلألأ بياضه في سطوع شمس الربيع، يبدد دفؤها البرد والرطوبة المتخللين عظامي.

كانت ترمق ساعة يدها كل برهة وتزفر ثقل الوقت الماضي دون وصول حبيبٍ (غبي) تأخر عن موعدهما، مؤكد أنه حبيب غبي ليترك مثل هذه الغادة المتفتحة تجلس في شرودٍ مثير يسكن الطاولة المقابلة في الكافيتريا التي اعتدت الانزواء فيها لبعض الوقت منذ السنوات الأولى لاستقراري هنا، تطل على منحدر جبل ينصرف بطبيعته الرحبة عن زحام المدينة وضجيج أنفاسها اللاهثة، عندما يقبل البرد يغطونها ـ الكافيتريا ـ بغطاءٍ سميك تخبطه الريح خبطاتها القوية مع زخات المطر المترامية فوق الخضرة اليانعة والأشجار متمايلة الأغصان، كما لو كانت في حفلٍ راقص، يغمر أطرافها فيض الجداول المنسابة بسرعة تحت هزيم الرعد وومض البرق الخاطف، فتنازعني رغبة التخفف من معطفي وكل ملابسي والركض عاريًا، بالكاد أواري عورتي، أطارد حلم الولادة من جديد في جنبات الفردوس، أنزع عني عمرًا ناهز الخمسين دون أن يثمر عن شيء، ليس أكثر من موظف مبرمَج على الأرقام، جُبل على العمل هنا وهناك حتى يواجهه يوم لا يدرك فيه سوى رقم صفر، سواء كان على شكل نقطة ختام أو حلقة بيضوية تؤطر ما تبقى لي من حياة وهشيم آمالٍ لم تتحقق، وحكايات متفرقة نهاياتها أشبه بذيول انسحاب متشرذم من جبهات القتال، درت في حلقة هزائمها طويلًا، ولا فرق بين ما انسقت إليه مرغمّا وما اخترت بحماقة إرادتي، فالنتيجة واحدة الآن، ولا سبيل أمامي للرجوع إلى حياة خاوية ليس لي فيها من أفتقد ولا من يفتقدني، والذكريات سكرات حنين أفيق منها سريعًا بجرعات مشروب محلي قوي المفعول أو جسد انفض عنه الرجال وصار سعره في متناول اليد، يستنزف أحدنا الثاني كما لو أنه يخوض نهاية اشتباكه مع الدنيا ثم يعلن النفور أوانه، قد أجد في إحداهن، دون بحثٍ مني، بعض طيف آخر امرأة تزوجتها قبل نحو ثلاثة عشر عاماً، رأيتها في ذات المكان، جمالها يرنو من ملامح الشابة الحسناء الجالسة أمامي، أنوثتها كانت أكثر اكتنازَا، انثالت أمطارها فوق صحراء المغترب المتشبث بسنوات الثلاثين المارقة سراعا، ذات سرعة إقبالي وتجاوبها ومن ثم إقامتنا معّا في ذات الشقة، كنت أعمل في فرع شركة استثمارية كبيرة أخذت مكان مبنى حكومي قديم اعتلته راية حمراء عقودًا، أثبت وجودي في متابعة حساباتها، مسابقاً جداول الكومبيوتر، فأغدقت على سحرها الريّان كل ما أقبض، ووفرت للحياة الجديدة المتكورة في رحمها، بعد فقداني الأمل في الإنجاب واعتيادي حرمان الأبوة من ضمن ما اعتدت، لكن نبضات الجنين الكامنة في أحشائها رست في صدري حتى بعد ولادته التي لم أشهدها، هربت بحبلها وما ادخرتُ إلى بلاد الرخاء الحر التي أزاحتني عن أرضي إلى هذه البقعة الصغيرة المستلقية في حنايا جسد أسيا، يكاد إسمها لا يذكر في أخبار الفضائيات، ولم تضمها خرائط اللجوء السابلة، ربما كانت قديمًا ضمن ممر طريق الحرير العتيق، أو تتفررع من أحد جوانبه، أما الآن فلم تعد سوى مطمح تاجر خالِ الوفاض جاء يبحث عن واحة آمنة للسلام ينزع فيها أسماله المرقعة بالرايات.

سافرت وخلفتني إلى حرمانٍ جديد، يحتد نزيف الأسئلة وطنين أجوبتها في رأسي، إن كانت أنجبت ولدًا أم بنتا، أم أنها أجهضت قبل الرحيل لتتخفف من عبء المسؤولية في عبث حياتها الجديدة، سأراه أو أراها ذات يوم، سيعرف أحدنا الآخر، أين سيتم ذلك اللقاء الدرامي الغريب كغربتنا، أي لغة ستضم حوارنا، أي انتماء سيجمعنا، أنا الأب فعلًا بإرادة إلهية أقرب إلى معجزة أبت ألا تكرمني بذرية إلا بعد أن دك اليأس مقتبل العمر ومسني المشيب أم أنه وهم آخر تلذذت بخدره حتى أدمنته وصار حقيقة أريد ولا أريد الفكاك منها؟ تعوزني شجاعة المعرفة وقدرة البحث في دائرة مفرغة جديدة تغرسني في ذات الرقم المألوف لدي، ليلة أمس فقط أخرجتني من ظلماء قوقعته مكالمة من شابة قالت إنها صديقة أم ولدي ـ الهاربة ـ كانت في أمريكا وعادت قبل يومين، أوصتها أن تقابلني لأمرٍ هام يخص ولدنا!

بدد رنين الهاتف شرودي، طرق أذني ذات الصوت الناعم، يعاتب في ضيق عدم التزامي بموعدنا الذي سلبني النوم بعد مكالمتها الغريبة وشتى الأفكار والهواجس تجوب رأسي في توجس شهد شروق الشمس، ثم فاجأتني بضحكة طفولية ناعمة استفزني تلاعبها بأعصابي عند إقفالها الخط، أكملتها من كنت أتلصص على جلستها المتململة لدى انتقالها إلى طاولتي، انتهت من كركرتها بقولها أننا نسينا أن أحدنا لم يرَ الآخر من قبل فأمضى كل منا انتظاره المنفرد دون جدوى، جاملتها بقهقة بسيطة مغتاظة، مني ومنها، أوصلت إليها مدى تلهفي لمعرفة كل شيء عن ولدي الذي لم تذكر إسمه وأنا من هول الدهشة لم أفطن إلى السؤال إلا بعد الاتفاق على الموعد وإنهاء المكالمة المقتضبة، حديثها أيضًا كان كذلك وكل حواسي مختزلة في أذنين خاضعتين لكل كلمة تنطقها الشفتان المطليتان بحمرة غامقة، تزغردان بشرى احتضان الفتى العائد إلى أحد أوطانه مع أمه التي قررت الزواج من رجل ثري هاجر إلى أمريكا منذ عقود، اشترط عليها التحرر من عبء أمومتها لابنــ... (ابني أنا) المراهق وشرقي الملامح.

سألتني عن رأيي، استغرقت في صمت الذهول حتى أفرج عن ابتسامة أخذت تتسع مثل هالات الضياء في إبكار الصبح، تهبني حلم الولادة من جديد.

***

قصة قصيرة

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

22 ـ 9 ـ 2020 عمّان

زَهـَـتْ فـــي غـير موســِمِها الزهـورُ

وســارتْ طـوْعَ مَركَــبِــكَ الـبُــحـورُ

*

وأوْعَــزَتْ الــســمـاءُ لــــكـل ضـوءٍ

مُـرافَــقــة الـبَشــيــر بـمــا يُـــشــيــرُ

*

سِــماتُـك فــي الــنبـوّة مُــذ  تـراءَتْ

تَــسـامَى الفِــكرُ، وازدَهـرَ المصيــرُ

*

( وضاعَـتْ يثـربُ الفيحاءُ مِـسـْكا )

بـِمَـقــدَمِ مَــنْ لــه انْحَــسَــرَ العـسِـيرُ

*

ســـَـناءُ خُـطاكَ ، ضـوْء ٌ للقــوافـي

وايــعــازٌ بــــه يَــسـْـمـو الشُــــعـورُ

*

أبا الــزهـراء، مُـذ نُـودِيـتَ ( إقرأ)

تَـهاوى الشِـركُ وانْـدَثــرَ الــغُــرورُ

*

ولـمّـا الوحيُ فــي الافــاقِ نــادى

أضاءَتْ دَرْبَ مَـقْـــدَمِـك الـبُــدُورُ

*

تــرَنَّــمَت القــوافــي لـحــنَ شُــكْـرٍ

لِــرب الــعـرشِ ، إذ عَــمَّ السُـرورُ

*

ربـــيــعُ الخُــلـدِ ، في خُلـُقٍ وعِـلـمٍ

وصِــدقٍ ، قــد حــباكَ بــه الـقـديـرُ

*

يـُـفاخِــرُ بـَعـضُ مـَـن يَـسمو بـمَجْدٍ

ونَـــبـْـعُ عُــلاكَ ، قــــرانٌ مُــنــيـرُ

*

سـَــماواتُ البــيــانِ ، رأتْـكَ فــيهـا

فـصيـحــا ، فــي ضيائك تَـسْـتـنـيـرُ

*

وقــد دَوّى صُمُـودُكَ فـي الأعـالـي

فأعــقـَـبَ صَوتَــه غَــيـْـثٌ غــزيـرُ

*

إذا ذُكـِـرَتْ مَــحاسِـنُـك اسْــتَـبانَـتْ

لــهــا فــي الأفـقِ أطــيــافٌ ونـورُ

*

مَــشــيـنــا صَـوْبَ أهــدافٍ تَجَـلّتْ

كــرامات ، بـهـا زَهَــتْ العُــصورُ

*

إذا اقْــتُـفِـيـَتْ خُطاكَ ، لها صَداهــا

كَـذِكْـرِكَ ، فــيه تَـنـْشَـرِحُ الصُـدورُ

*

صَحـا مـَن غـادرَ الأوْهـامَ ، هَــديــاً

بـِـنـورِك فـاســتـقـامَ  بــه  المَـســيـرُ

*

تَـراتـِـيـلُ البـَـديــعِ ، لــهـا امْـتـيــازٌ

إذا ضـمّــتْ بــلاغــتَـكَ السـُـــطـورُ

*

عُــلـوُّكَ فــي الفـصاحــةِ والـتـحـدي

أذَلَّ شُــمـوخَهــم ، فـهـوى الــسَـريـرُ

*

وإنْ  ذُكِــرَتْ صِفـاتُــكَ فــي جــنانٍ

بــذِكْـرِك يَـنـحـني الرّوضُ الـنضـيرُ

*

(ومــا للمســـلميــن سِــواك حِـصنٌ )

ولا لــمَـقـامِـك الســـــامــي نــظـــيرُ

*

مـفاهـيـمُ الكـرامةِ ، صُغْـــتَ مــنهــا

قــنــاديــلَ الطـمـوحِ ، لــنـا تُــنــيــرُ

*

وشَــــعَّ الحـــــقُ فـانـدثَــرتْ قِــلاعٌ

بــكُــل جِـهــاتِـهـا ، صَــنَـمٌ يـَــدورُ

*

وأزهَــرَتِ المحـافــلُ ، فــي وفــاقٍ

وفــاضَ الـوَعيُ ، وانتفضَ الضميرُ

*

أبـا الــزهـراء ، أنـت لــنا شـــفـيــعٌ

بـــيــومٍ ، فــــيـه يـُـفْـتَـقَــدُ النــصيـرُ

(من الوافر)

***

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

هذا النَّصُّ للقاصرينَ فقط .. يُقرأُ بعيداً عن أيدي النِّساء ..

سأهبُكَ عقلي

لتزرعَ فيه آخرَ شرائحِكَ التِّقنيَّة ..

*

أعدْ برمجةَ مشاعرِي

وعواطفي

وأفكاري

ووجهاتِ نظري ..

*

أريدُ أن أرى الأشياءَ على غيرِ ما كنتُ أراها

أخرِجْني من عالمي القديمِ

من عباءةِ جدِّيَ الأوَّلِ ..

*

أخرجْ منِّي امرأَ القيسِ

وعنترةَ

والحلَّاجَ

والقبَّانيَ نزار ..

*

أخرجْ منِّي عُقدَ أدونيس

وجنونَ قيسٍ

وثورةَ الشَّنفرى

فأنا كرهتُ الكذبَ

والنِّفاقَ

ونباحَ الكلابِ

وصخبَ الرِّماحِ

وتاريخَ الطَّبري وابنِ الأثيرِ

وحكايا شهرزاد

وذكوريَّةَ شهريار ..

*

ماسك:

أرجوكَ أن تُعيدَ برمجةَ ذاكرتي

أُريدُ أن أختزلَ الأمكنةَ والأزمنةَ

لأقرأَ الماضي والحاضرَ والمستقبلَ في لحظةٍ واحدة ..

*

ماسك:

ازرعْ شريحتكَ بين خلايا عقلي

لأخرجَ من العصورِ المُظلمةِ

ومن قوانينِ الطُّغاةِ

لأرى سماءً غير السَّماءِ

وظِلالاً غيرَ ظِلِّي ..

*

أُريدُ أن أتنزَّهَ في الحدائقِ الضُّوئيَّةِ

وأسبحَ في البحارِ الضُّوئيَّةِ

وأفيضَ ضوءاً على هذا الزَّمن

كمصابيحَ لا تنطفئ ..

*

ازرعْ فيَّ آخرَ شرائِحكَ

لأخرجَ من أسطورةِ الفينيقِ

لا أريدُ أن أحترقَ

لا أريدُ أن أصيرَ رماداً ..

*

اجعلني أتجدَّدُ كلَّ ومضةٍ

كلَّ نبضةٍ

كلَّ رمشةٍ

فقد سئمتُ يا صديقي هذه العتمة ..

*

ماسك:

ازرعْ شريحتكَ في عقلي

لأقرأَ الأحلامَ والأسرارَ

فأعرفَ السَّرَّ المُقيمَ وراءَ الجرحِ

ووراءَ الدَّمعِ

فالجرحُ يا صاحبي سرٌّ

والدُّموعُ المُتحجِّرةُ في العيونِ سرٌّ

وتسارعُ نبضاتِ القلبِ سرٌّ

ولكلِّ سرٍّ صوتٌ

فازرعْ شريحتَكَ لأسمعَ هذا الصَّوت ..

*

هبني لغةً غيرَ لُغتي

أُريدُ أن أُحاورُ الجذورَ

والطُّيورَ

والسَّماءَ

والحيتانَ

والموتَ

والغيمَ

والعاصفةَ

والمطرَ

والبحرَ

لأكتشفَ أسرارَ الجذورِ

لعليَّ أُعيدُ تكوينَ هذه الغابة ..

***

د. عاطف الدرابسة

ما إن خرجتْ قصتي ذات المشاهد العاطفية الحميمة إلى النور صباح اليوم، حتى أصبحتُ كمن أفاق من غيبوبة. لم أعرف كيف أتصرف، إزاء تلك المشاهد الصارخة التي توسطت صفحات أكبر جريدة في البلد.

حاولتُ أن اتذكر بماذا كنت أفكر عندما ضغطتُ زر الإرسال إلى مدير التحرير. لكن يبدو لي أني كنتُ مخدّرة، أو مأخوذة بفكرة ما، فغاب عني تماما وجه أمي الزاهد في الحياة، وملامح أشقائي الصارمة، وغابت وجوه الجيران، والصديقات في العمل، والزملاء. وأبناء عمومتي وأولاد خالتي، والأهم أني نسيت عيني والدي اللتين لا تتوقفان عن النظر إليّ من إحدى أركان جدران المنزل.

والآن هذه الصحيفة ستدور أحياء العاصمة، ومن يدري! ربما ستمضي إلى محافظات البلد الآخرى، حاملةً معها القُبل التي رسمتها، وتشابك الجسدين، والتأوهات الحارة المتلاحقة، وسائر التفاصيل التي في لحظة مجنونة وجدت طريقها نحو لوحة المفاتيح!

يا رباه! سيطردونني من العشيرة، ويعزلونني عن العائلة، في حجرة مظلمة، ولن يقدموا لي الطعام والشراب حتى أموت!

أكاد أسمعهم جميعا يصيحون بي (حقيرة ..سافلة)، حتى لو تأكد لهم أنها محض كلمات كُتبت بلحظة جنون.

أسرعتُ إلى مقر الصحيفة. هناك رئيس التحرير، صاحب الإبتسامة الأبوية! ياويلي! حتى هو ابتسامته اليوم تبدو مختلفة! بدا كأنه يغمز ُ لي (ها نجوى)!

إرتبكتُ كثيرا وأنا أحاول لملمة الكلمات لأسأله عن عدد النسخ التي تُطبع من الصحيفة وأماكن توزيعها.

قال لي مستغرباً: ليش؟

- هكذا أستاذ.

- ‏نحن نطبع بحدود خمس مئة نسخة، يذهب نصف العدد لبعض المحافظات.

- هل استطيع معرفة منافذ البيع أستاذ؟

- ‏نعم بكل تأكيد.

ناولني ورقة فيها أسماء بعض المكتبات.

صممت على شراء جميع النسخ في المدينة الكبيرة.

لقد جمعتُ المال، عبر عامٍ كامل، من عملي كبائعة في أحد المحلات التجاريه. كنت أدخره لشراء المزيد من الكتب. لكن تباً! لن يكون ذلك مهماً الآن. سأجمع المال مجددا وأواصل شراء الكتب، والكتابة، وكل شيء جميل ..ما يهمني الآن هو إفراغ العاصمة من الجرائد.

في حوالي الساعة الرابعة مساءً أصبح لديّ مئة وأربع وستون نسخة،

نصف العدد طار لمدن وسط وجنوب البلاد، بعد عملية حسابية صغيرة، عرفت أن ثمة ست وتسعون نسخة تم بيعها في العاصمة قبل أن تقع في يدي. إستبعدتُ أن تكون إحدى هذه النسخ الست والتسعين، قد وقعت في يد شخص أعرفه.

بقي أن أذهب للنهر، وأرمي النسخ التي اشتريتها.

هناك ساعدني سائق السيارة التاكسي، حيث كان يقذف معي بالجرائد وهو يضحك بقوة. في الحقيقة لم أعرف حتى هذه اللحظة لماذا كان يبدو شغوفا ومأخوذا برمي الجرائد بيديه بتلك الحماسة، وهو يقهقه سعيدا، دون أن يعرف السبب.

عندما رجعت للبيت إستقبلتني أمي بابتسامة حانية وهي تقول لي مثل كل مرة ( الله يساعدج).

وأنا في طريقي إلى غرفتي، لمحتُ نظرات أبي، من الصورة على الجدار.

نظرت فورا إلى الأسفل متجنبةً إياها.

تمددتُ على السرير. تنفستُ بعمق، أغمضتُ عينيّ، وكدت أنزلق نحو غفوة أشتهيها، لولا أن دوّى صوت شقيقي من مكان ما في المنزل: (نجوى)!

***

قصة قصيرة

تماضر كريم

عليك نفسك

اتخذها

عدوك الأول

*

لا يعرفك

أكثر منك

إلّا ذلك السؤال

العالق

بخيوط ذاكرة عنكبوتية

*

لا تبال

ولا تتلعثم

فجوابك قاب عينيك

أو...

*

اتقِ شرَّ من...

ليُبتَلِع

الإحسان

خوفا من الشرِّ

*

الوقت كالسيف...

لتفشل

محاولات اللحاق بها

لحظة يتلاشى بريقها

وإن سعينا

لامتلاكها

*

لا تؤجل عمل...

ولشدة خوفي

كرهت الغد

وتشبثت بيومي الكسول

*

وتطول الوصايا

لتتزاحم في رأسي

الذي أبى

إلّا أن يضرب بها عرض حائط

آيل للانهيار

***

ابتسام الحاج زكي

القسم الثاني، الفصل (6) من رواية:

غابات الإسمنت

***

أحسست بشيء ناعم يداعب وجهي، فتمطيّت وفتحت عينيّ، فقد كنت أغطّ في نومٍ عميق بعد وصولي الشقة، والوقت يكاد يشرف على الفجر، بقيت بعد مغادرتهن أتربّص ساعة، وفحصت قاعة الاحتفال فوجدتها نظيفة، إلا من سلة المهملات التي امتلأت ببقايا الطعام، لقد اختفى كلّ شيء.. إنّهنّ نظيفات ومرتبات على الرغم من عبثهن وغرابة أطوارهن... رائع جدّا... وعلت الابتسامة شفتيّ:

ـ هذه أنت؟

ـ أوه حبيبتي

قَبلّتني من شفتي: هل أزعجتكِ؟

ـ أبدًا.. كم الساعة الآن؟

ـ الحادية عشرة.

على أية حال نهضت مبكرًا ودخلت الشقة، أعددت لك فطورا، اليوم استثنائي ولو كان يوم جمعة، لدينا اجتماع طارئ مع مديري الأقسام.

ـ إذن سأقضي اليوم مع مديحة.

ـ براحتك.

ـ مارأيك بالشريط؟

ـ رائع جدًا، وأكثر من رائع.

ولمستْ يدي برفق وعادت تُقبلني، ثم رفعت شفتيها عن شفتيّ وقالت:

ـ صدّقيني لو حدثت بينهن علاقات مثل التي بيني وبينك، لغضضت الطرف عن الموضوع.

ماذا نفعل؟ أنا عاطفتي معكِ، مشاعري دلّتني على نساء مثلي، وعندما تحرّكتْ نحو رجل أحببته وغدر بي تيقنّت أنهم وباء، وثبت لدي بأن مشاعري الحقيقية لا بد أن تكون مع بنات جنسي، حتى وصلتُ إليكِ.

أنتِ تعرفين كم أنا متعاطفة مع المرأة؟ لكوني محسوبة على الإناث... وكيف أتعامل مع السجينات، والله لو حدث ذلك بينهن لكنت أعدمت الشريط؛ لكننا الآن أمام ظاهرة جديدة في البلد، ربما دخول دين جديد!

فقاطعتها باهتمام:

ـ لديهنَّ مطلق الحرية في السفر والتمتع بالحياة، فلمَ اخترن مثل هذا الطريق؟

ـ لعله التحدي!

ـ لكن لم أفهم قصدك، ماذا عنيت بقولك دين جديد؟

ـ انفتاح هؤلاء الفتيات؛ السفر للخارج، والحرية، والإنترنت، كلّ ذلك جعلهن يبحثن عن الغريب والجديد، فتحول البحث إلى الإيمان بمبدأ آخر، وقد يتطور الوضع إلى تنظيم أو مجموعة، وهذا من تخصص الأمن القومي.

ـ أرجو ذلك.

ومسكت يدي وعصرتها برفق:

ـ لا تقلقي عليهن، أنا مثلك حزينة، الهدف الأول والأخير من تسجيل الفيديوهات، آباؤهنّ الذين يحتلون مناصب رفيعة.

ـ كلّي ثقة بكِ يا حبيبتي.

ـ على أية حال، حين تنهين تجوالك مع مديحة ستجدينني في الشقة، أما إذا تأخرتْ فانتظريني هنا.

بدتْ على وجهها نظرة توحي بأسفها لأنها لا تستطيع أن تعطيني مفتاح شقتها، كانت تقفل الباب، وتفعّل جهاز الإنذار خشية من اللصوص، أو وصول أحدهم إلى بعض الملفات والأقراص الموجودة عندها، أو بعض مجوهراتها التي لا تلبسها إلا في مناسبات خاصة، أو تتزيّن بها لي عندما ترغب في أن أؤدي دور الرجل، أو ألبسها حين ترغب أن أكون حبيبتها.. تفهمّت الأمر واقتنعت به، سرّني إخلاصها، كانت مغرمة بي حدّ الجنون.

عندما خرجتْ للاجتماع، عدتُ للاسترخاء على السرير، ربما غفوت نصف ساعة أو أقلّ، كنت أشعر بهدوء اليوم.

بقيتُ في سريري لبعض الوقت، تسللتْ لنفسي بعض الخواطر وكأنني أسلخ ثوب ميساء وارتدي ثوب إنعام ما قبل جريمة القتل، الفتاة الجميلة، التي كان كل حلمها أن تعيش حياة طبيعية مع زوج أحبّتهُ، تُنجب وتؤسس أسرة، يا ربي كيف أقحمت نفسي في جريمة ضد الطبيعة؟ سلوك يُدينه مجتمعي وديني؟ هل أنا مريضة؟

ربما مريضة، لأنني أشعر أن علاقتي مع ابتسام شيء لا مفرّ منه، علاقتي تولّدت من مخاوف الفشل والخيانة، خيار جنسي مُتاح دون عواقب وخيمة، وبغضّ النظر عن المحرّمات، فأنا اخترت الخيار الأكثر إرضاءً بالنسبة لي بعد جريمة قتل وسجن وسمعة فرضها عليّ المجتمع.

من دون ابتسام ماذا كنت أعمل؟

كيف أواجه الحياة؟

وأشدّ ما يقلقني هو يوم الجمعة، يوم العطلة.. تبدو المدينة ميتة هادئة ساكنة، يزيد خوفي سكونها؛ وقد أحسّتْ ابتسام بي فكانت تأخذني إلى مدينة أمها نقضي النهار في شقتها هناك.. لم ننم قط في غرفة أمها، بل نقضي النهار ساعات في فراشها، أو ننطلق في شوارع المدينة، الذي لفت نظري أنّها كانت تحتفظ بألعابها وهي طفلة.

خلال السنوات الأولى من عمرها كانت ألعابها دمى وعرائس، ورأيت بندقية، وأحذية تزلج على الجليد؛ ومن دون أن أسأل عرفت أنها بدأت في سن ما تميل إلى لعب الصبيان، فسألتها وأنا أقلب حذاءها الخاص: هل تعلمت التزلج على الجليد؟

الرقص على الجليد، نعم في أمريكا عندما كنا نسافر أنا وماما..  ثم قلت في نفسي:

لو لم تكن مديحة معي الآن، لقضى عليّ الضجر في غياب ابتسام، رفعتْ الهاتف النقال:

ـ أهذا أنت؟

ـ ومن غيري؟

ـ "صح النوم".

ـ اليوم عطلة، أين تحبين أن نذهب؟

ـ سأذهب الى المقبرة؟

ـ إلى أين؟ّ!

ـ المقبرة، لزيارة قبر المرحوم، هل تأتين؟

ـ طيب، مثلما تحبين.

ـ أمرّ عليك؟

ـ دقائق.. أرتدي ملابسي فأكون جاهزة.

ربما كنتُ أكثر احتياجا منها إلى خشوع يمنحني صفاء أكثر، فأنا منذ ساعة الجريمة التي ألقتني في السجن، ومشهد الدم، ماعدت أفكّر بالجنة والنار بقدر ما أفكّر بحياة تحقق ذاتي وتجعلني أتحاشى التشرد، نعم أحنّ إلى الصمت.. خشوع، إيمان بالقدر والغيب، لعل ذلك في لحظات ما تعيدهُ إليّ مقبرة صامتة، إلا من نوح متقطع لحمامة، أو تغريد لطير يقفز بين أغصان شجرة يوكالبتوس يتيمة في زاوية بعيدة من زوايا المقبرة.

الصمت وأشجار السدر والنخيل التي تصطف حول سور المقبرة، تبعث الرهبة والخشوع في نفسي.. لم نكد نجتاز البوابة حتى وضعت مديحة نقابًا على وجهها، ناولتنتي واحدًا غطيتُ به وجهي، قالت لي صديقتي مديحة:

لننتظر هنا قليلًا لأتأكد.

قلت: مم تتأكدين؟

قالت: اليوم جمعة، ولعلّ أحدًا من أهله عند القبر.

ترقرقت دمعتان بعينيها كاللؤلؤتين فسألتُ أواسيها:

ـ هل صادفتِ أحدًا من قبل عند القبر؟

ـ إحدى الجُمع رأيت أمه من بعيد جالسة وهي تجهش بالبكاء.

ـ لم لا تأتين في يوم آخر؟

ـ إنه الثواب للميت.. زيارة الجمعة.

رحنا نطالع العابرين ونتسابق في تجلّي أصوات الطيور وشهقات العصافير، لم يكن هناك والحمد لله نُهام بوم أو نعيق غراب، حتى تجرأتْ وتقدّمتْ، فتبعتها ووقفت جنبها أقرأ الفاتحة، لم أسمع ما همست به، بل رأيت شفتيها تتمتمان بكلمات لا أفهمها لخفوتها، ثمّ اختفت الكلمات وتلاشت، وعلا بدلها نشيج خافت، ففقدتُ جأشي ورحت أنشج معها..

*** 

ذكرى لعيبي - ألمانيا

نهضت مبكراً قبل الوقت المعتاد بساعة كاملة ولم يكن ذلك الإستيقاظ بالحدث الجيد لمزاجي المعتم، حيث، بقيت أطرد الشياطين من وجهي حتى الساعة ٨ صباحاً..

بعد الطابور الصباحي دخلنا الفصل وجلسنا على مقاعدنا إستعداداً للحصة الأولى ولإكمال الناقص كانت حصة مادة الرياضيات والتي سوف تمتدلساعتين..

كانت مقاعدنا مقسمة إلى ثلاثة مجموعات وكما هو بديهي فمكاني هو في المقعد الآخير و تجلس على المقعد الموازي لي صديقتي ثم بقيةالشلة الذين يشغلون الصف الأخير وماقبله كاملين..

في ذلك اليوم كانت صديقتي هذه تفيض بالطاقة وبالثرثرة مع صباح لا يلائمني، حلّت عليها الحكايات الرومنسية مع خطيبها مبكراً وهذاالأمر يعد خلاف المعتاد لأن هذه المواضيع توقيتها بعد الظهر ..

لم تكن تعلم عن الجهاد الذي أقاسيه داخل رأسي فأخبرتها أن تؤجل الموضوع إلى فترة الغداء لكنها أصرت على الثرثرة قبيل دخول معلمةالرياضيات فمددت يدي لأمرر لها جملة  لائقة ولسواد حظي شاهدتنا المعلمة فتقدمت نحوي وسحبت الورقة من يدي بقوة، حاولت إيقافهاأخبرتها : "لو سمحتِ يا أستاذة الكلام لايعنيكِ اتركي لنا بعض الخصوصية" ولكن لحظتها بدت كأنها صماء فتحت الورقة رغم ترجيهاوبمجرد أن قرأت تلك العبارة اللائقة اتسعت عينيها واحمر وجهها غضباً ..

عوقبت من تلك المعلمة بأسوأ أنواع العقاب

فقد عنفتني نفسياً بتجاهل تصحيح دفتري أو الإجابة على أسئلتي فصلاً دراسياً كاملاً ولأننا مجتمع للأسف إعتاد على الشخصنه فمن الطبيعي أن أشعر بالذنب خاصة  أني مجتهده وشقيه وهذه الصفتين ناداً أن يجتمعا، شعرت بالضيق الشديد لأن أهم مادة في مرحلة الثانوية العامة أخفق فيها بهذا الشكل

بسببها إنقلبت علي كذلك معلمة الفيزياء ! رغم أنه لايوجد أي خلاف بيننا فقط اتخذت ذلك الموقف تآزراً مع صديقتها ثم معلمة اللغةالإنجليزية وهكذا وبدأ الجميع يعاملوني بشكل سيء و ملحوظ من صديقاتي مما عرضني للتنمر لاحقاً،

صبرت فصلاً دراسياً كاملاً حتى اعتقدت هي أني خضعت، كنت ألاحقها في كل ممر وبعد نهاية كل حصة أن تقبل إعتذاري فكانت  تتجاهلني كالعادة،  وفي يوم  دخلت غرفة المعلمات وناديت عليها فتجاهلتني وكأنني لست إنسانه تقف عند الباب همزت لها إحداهن بشماته وضحكةغريبة لشدة خبثها لم أستطع للآن تفسيرها

ردت عليها  أنها تعرف سبب مجيئي فشكلي مثير للشفقه لوحت لها بيدها معطية إشاره أن تتجاهل وجودي هي أيضاً ويكملوا فطورهن.

فجأة وقفت في وسط غرفة المعلمات صرخت فيها بكل ما أوتيت من قوة في حالة من الإنهيار أخبرتها أنها بلا ضمير لأنها شخصنت فعلي بآداء واجبها المهني وأنها تستحق الشتيمة التي قرأتها

إلتفت على البقية لاحقاً وقلت "كلكم إمعات،مجرد حريم قطيع"

وخرجت مقفلة الباب لكل قوة ..

الغريب أنها بعد ذلك عادت بشكل طبيعي ..!

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية.

 

راح يستجير بالصمت بحثا عن إجابة لسؤال وقع في خاطره منذ طور بعيد، جلس مع وحدته متجولا في محيط أفكاره الأصم.

عادت المشاهد تمد أخاديدها، تجرجر أقدامه، تنأى بوجوده المكاني صوب انتشارات لم يكن يتصورها من قبل. أمست الحوادث مثل قصور لها أقفال لا يمتلك مفاتيحها إلا هو.

تمثلت على هذه الشاكلة علامات أضداد عاش حلاوتها ومرارتها استجابة لمعادلات أوجبت نفسها وفقا لأسرار عالم خفي، بما في ذلك- عمره الذي تجاوز منتصف الستينات، المكان الذي يسكن الآن فيه، علاقاته مع الآخرين، انشغاله بأبحاث يروم نشرها ضمن اختصاص فرض نفسه مؤخرا، ليشغل هذا الحيز من السنين من عمره، انقطاعه عن اصدقائه الذين كان يلتقي بهم عبر المنصات، ابنته التي ما زالت تنتظر علاجا جديدا لسرطان المثانة، زوجته التي لم تعد تقوى على المشي أو الحركة، بيته السبعيني- المأوى الذي فارقه بمقدار ارتحاله، وطنه الذي انفصل فجأة عن زهو علاقاته مع الأبناء، مقاطعا إياهم دون اكتراث، لغة هذه الكثافة من العناوين ما يطلقون عليه بالعولمة؛ أو ما يسميه هو بالأخطبوط الذي أضحى يتحكم بجميع بنود هذا الكائن، جبروته، طرائق حركته، أفكاره، علاقاته مع الأمكنة.

احتشدت الأشياء جميعا في ذهنه؛ غدت المشاهد مثل مناشير تتطاير في يوم عاصف، أعاد مراجعة اللوحة التي سرعان ما تناثرت أصداؤها بعد أن تبارت على شاكلة طفولة ستينية، ومراهقة سبعينية، تعقبها تفاصيل وتداعيات أخذت تعلن عن نفسها تباعا وفقا لأحكام ثمانينيات وتسعينيات مأخوذة بشروط ألفية لم يكن يقوى بعد على الإمساك بنبضاتها، أو الاصغاء إليها.

***

عقيل العبود

القصيدة الطائية

شعيط ومعيط

***

زَمَــــانٌ فــيــهِ أعْــيـانـا الـبَـطِـيـطُ

تَـنـحّـى الـقَـرْمُ وارتَـفَـعَ الـحَـطِيطُ

**

(شـعِـيطٌ) بـاتَ يَـحْكمُ فـي الـبرايا

وراحَ لـحـالِـهـمْ يَــبْـكـي (مَـعِـيـطُ)

**

وأفــــواهُ الــسُّـرَاةِ بــهـا انــغـلاقٌ

ولــــم يُـسْـمَـعْ لــهـا إلّا الـنَّـحِـيطُ

**

تـحـاشَ الـنـاسَ واسْـلُـكْ غـيـرَ فجٍ

ولا تَـــحْـــزَنْ إذا بـــــانَ الــخَـلِـيـطُ

**

تَـخَـيَّـلْ عَـيـشَنا كــمْ بــاتَ صـعْـباً

كــأشـواكٍ بـهـا اِشـتَـبَكَتْ خـيـوطُ

**

مُــجَـافَـاةُ الــلِـئَـامِ بــهِــا ارْتِــيَــاحٌ

فــــمـــا وَالَاهُــــــمُ إلّا الــعَــبِـيـطُ

**

إذا نَــفِـدَ الـحـلـيبُ بـضَـرْعِ شَــاةٍ

فـمـا يُـغْـني عــن الـلَـبَنِ الـعَـفِيطُ

**

ومَــنْ يَـركـبْ بـرَحْـلٍ فــوقَ دِرْسٍ

نـهـايـتـهُ الــتّـدَحْـرجُ و الــسّـقُـوطُ

**

لَـعَـمْـرِي مـاعَـلِمْتُ سـمُـوَّ رَهْــطٍ

تَــوَلّـى أمْــرَهُـمْ سَــمِـجٌ رَطِــيـطُ

**

قــلـيـلُ الــفـعـلِ جَـــوّابُ الـبـرايـا

فـــــلا حـــــدٌّ يَــــرُدُّ ولا خــطُــوطُ

**

كـتَيسٍ فـي الـسفينةِ بـاتَ نـجماً

يــعـظّـمـهُ الــتُـوِيـفـهُ والــضَــرُوطُ

**

وكـالـطّـاووسِ يـمـشـي بـاخْـتِـيالٍ

وقـــدْ أخْــفَـتْ حَــوَافـرَهُ الــمُـرُوطُ

**

عـلـى صَــدْرِ الـمـوائدِ بــاتَ يَـجْثُو

كــمـا تَـجْـثـو الـشـويـهَةُ والـرَّبِـيطُ

**

عَـظِـيـمُ الـكَـشْـحِ تِـلْـقَـامٌ أَكُــولٌ

إذا هَــرَسَ الـطـعامَ عَــلاَ الأطِـيطُ

**

فَـلـو حَـجْـمُ الــرُؤُوسِ لـهـا اعْـتِبَارٌ

لــسَـادَ عــلـى الـخُـضَارِ الـقـنّبيطُ

**

ومَـنْ طّـبَّاخهمْ أمـسى (جـعِيصاُ)

فـــإنَّ طـبـيـخَهُمْ حـتْـمـاً يَـشِـيـطُ

**

ومَـــنْ يَـلْـبسْ لأَسْـمَـالٍ تَـدَاعَـتْ

سَـيقضي الـوقتَ مـنْشَغلاً يَخِيطُ

**

وفــي حــقِّ الأكــارمِ كــمْ تـمادى

يـعـيـبُ عـلـيـهمُ الـنَـغِـلُ الـلَـقِـيطُ

**

فـــلا تَـنْـصَـحْ جَــهُـولاً ذاتَ يـــومٍ

بــهِ الـغَـضَبُ الـمؤججُ يـسْتشيطُ

**

يُــجَـادِلُ دائِــمـاً مـــن غـيـرِ عـلـمٍ

كــــأنَّ لــسـانَـهُ عــــدْلٌ سَـلِـيـطُ

**

يُــثَـرْثِـرُ بــالـكـلامِ بــغـيـرِ مَـعْـنـىً

بـبـحـرِالـمُفْرَداتِ غــــدا يــســوطُ

**

وقــدْ يُـعـطي ولـيـسَ نَــدِيَّ كــفٍّ

وتـرْغـمهُ عـلـى الـبـذْلِ الـضّـغوطُ

**

بـبـعـضِ الـمـالِ يـصـطادُ الـضَّـحايا

كـمـا اصْـطَـادَ الـفـرائسَ أَخـطَبوطُ

**

فَــعِــشْ حُــــرْاً كــريـمـاً بــاقـتـدارٍ

ولا تــضــعـفْ فـيـغـلـبُـكَ الــقـنـوطُ

**

وكنْ كالشمسٍ تسْطعُ في سماءٍ

وبــاقــي الـكـائـنـاتِ بــهـا تُـحـيـطُ

**

عبد الناصر عليوي العبيدي

.............................

البطيط: العجب أو الكذب

شعيط ومعيط: محتالان تقلدا حكم بلد (باتا مضرب المثل)

النحيط: الصوت المكتوم مع الالم

دِرْس: ذنب البعير

الرطيط: الأحمق

الأطيط: صوت الجوف او الأمعاء

تلقام: كثير اللقم وكبيرها

جعيص: بدوي لايتقن صنع الطعام

أتقَنتُ الرَّقصَ على اشْلائي

قبل وِلادَتِي وبعدَ الفِراق

السُّفنُ راحِلةٌ

لا تطلبُ مِنِّي التَعلُّقَ بمياهِ البَحْر

مالِحةٌ جداً

بينَ طيَّاتِها المحُ اسْراراً تَتَهادَى

مَطرٌ صامتٌ

يَهمسُ مِنَ الصَّدى

أبقَى هُناكَ طِفلةٌ  قُربَ الشَّاطِئ

مُدلَلَةُ المَوجْ

تُطعِمُ فَراشاتِها المُلَونَةِ

تُعانقُ الخَيالَ في كُوخِها الرَّملِي

والرِّيحُ تنسِجُ المُستَحيلَ

مَلائكةُ الحَقِ نَثرَتنِي

لُؤلُؤةً على نَحرِ القَمر

الفراشاتُ لا تُؤذي الأثير

ملاكُ الحَقِ حَوَّلنِي

نَسمَةً وضُوءٍ

ألمِس نَبضِيَ

فيه أسرارُ الشَّغفِ

ماذا  لَو لَم تُشرقُ الشَّمس؟

كُنْ فصلاً  سَرمَدياً، وليسَ كُلَ الفُصول..

كُنْ مَطراً صَامِتاً

***

سلوى فرح - كندا

كانت تصر على أن يسير جنبا الى جنب معها، بل في غير قليل من الأحيان تصر ألا تفارق يده يدها.. لا حبا في حصاره، بل فقط لتحسسه بواجب حمايتها..

كم مرة امتنع نافرا من رغبتها!!.. قبل أن تعاقبه بانسحاب حتى اذا حرك راسه بالتفات وجد ها قد تبخرت من خلفه ، كثيرا ما كانت تتعمد التسلل الى إحدى الأزقة فتظل تراقبه وهو يدور حول نفسه كطفل صغير غابت أمه عن عينيه، ولا اثر لها خلفه.. يضج باعتراض فتعاقبه بمزيد حتى انها منعت نفسها من مرافقته لاي أمر يخص أحدهما أو هما معا الى أن رضخ بعد أن تحرش بها أحد الشباب الطائشين اسقط نقابها وهبر قبلة من خدها.. صاحت صيحة حعلته يلتفت ومن حوله المارة يحكون ما وقع، وقد أفهموه أن سيدة وضيئة مجدولة كزوجته السير بجانبها لا أمامها هو حماية لها من ذئاب الشوارع..

ـ "كان يتقدمني وكأني ذيل له تبيع، ولن أكون كذلك، واذا كنت لاأعجبه فالحل بيده. وقد رأى النتيجة بأم عينيه "..

كانت تمعن في السخرية منه وهي تضيف:

"انت مني اخذت قبلة بمهر وهو نالها هدية ببلاش "

"يرحمك الله يا جدي كان يجعلني أنط بينه وبين جدتي وهي تسير خلفه، وحين كنت أستحثها على مزيد من السرعة تقول:

الدين يقول: الرجال أولا ثم الأطفال ثم النساء..

أبدا لم أشاهد جدي يصلي ماشيا وجدتي به مأمومة حتى في الشارع؟

حين كبرت وتزوجت قلت: ساستعيد كرامة جدتي أما أمي فقد كانت أقوى من أن ترضى بأن تكون تبيعا يتحكم فيها رجل بسلطة قد تمحو لها وجود.. كان ابي يرحمه الله يعبد الله بالعقل متياسرا يؤمن بقولة الرسول الكريم، واقوال الصالحين المؤمنين من صدقوا الله بعقل بعيدا عن موجة الانتماءات المذهبية:

"إن هذا الدين ليسر وأخاف من شق فيه أن يشق الله عليه"

"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا "

"أنى تكون المصلحة فتم شرع الله"

لكن وجدت "بعلي" بعد زواجي وقبل أن أهدده بطلاق يفرض علي أكفانا من خيش أسود، قطعا تحجبني، بل تحرقني خصوصا في حر، وفي الشارع يتقدمني وقد تعرى له ذراع وصدر، هل ولد زوجي من لحم ودم ومن صخرقد الله جسدي؟..

يعيدونني رغما عني الى زمان جدي الذي لم يترب الا في ظلمات كهوف التقليد والجهل بفلسفة الدين، رجل حِرَفي لم يدخل كتابا ولا مدرسة، ولا في زمانه كان مذياع ولا تلفزة، فهل ترسخ الماضي بقتامته وعليه نصبوني صنما شاهدا والناس خلفي يسيرون الى ماضيهم القهقرى؟ كيف خرج ذوو الاجترار الظلمة من المغاور والكهوف، يرفعون عقيرتهم بكذبة إحياء الدين؟ وهل مات الدين حتى يتم احياؤه؟ أليس قاتلوه هم من اختلقوا أسباب موته؟ أوقفوا العقل والاجتهاد وبين الناس بثوا ثقافة الاتكالية وخرقوا للموت قواعد ووسائل؟ أفتوا بالجهاد وجعلوا من الإرهاب نصرة للدين وطريقا للجنة، ومن قواعده ووسائله الحرب والترهيب لأكثر من عقل بنور الحياة قد انبرى يوضح أخطاء أزمنة الظلام؟ هل لا إحياء يتم الا عن طريق التشدد والقتل؟ ومتى كان التخويف من وسائل الإصلاح والرقي؟

أليس ذلك المسعى هو الجبن والنفاق والدس والنميمة التي صرناها وبها ندير حياتنا؟

لم يكن زوجي يتجاوز الثلاثين من عمره، شابا مجازا في الرياضيات لكنه يفقد بوصلة زمانه، الخير كل الخير في ما كانه أجداده، أما نحن "فقد ضيعنا الدين وتماهينا بالغرب الذي أنسانا ربنا "..

وهل الغرب منع عنا الدين ام من نصبوا نفوسهم نوابا عن السماء بلا إذن من سماء هم من ركبوا سوء الفهم والتأويل لتغطية نفوس مريضة فأغرقوا الناس بالتشدد محولين الدين نارا وجحيما في الدنيا والآخرة؟.. ببغائية مقيتة، وشرح ونقيضه بتأويل، أو قياس ليس في مكانه ولا زمانه، وبحث عما لم يعد له وجود في حياة الناس..

حين كنت أضحك من أقوال زوجي كان يغضب ثم لا يلبث ان يشهر الصمت كعقاب.. فاذا كنا في البيت هجر مضجعي، متوهما أن ترك السرير عقاب قد يقضني بأرق ثم يوقف نفقة يومي ، أما اذا كنا خارج البيت فقد كان يدير راسه كإشارة عودة.. كنت أتعمد الدخول للتجوال في المتاجر الكبرى لاني كنت أكره أن احسسه بالرضا فيزداد كبرا وتأمرا..

في البيت ترتفع خصوماتنا، بل تشرع آلامي في الانفجار، كنت أحس غبنا، أحس قهرا، فلا أجد راحتي الا في دموعي، وصياحي..

كم حاول الجيران أن يسددوا بيننا، أن ينبهوه الى أن الدين يسر ومن شق فيه يشق الله عليه ، كانوا يستغربون تناقضه بين تخصصه المنفتح على العالم والحياة وبين سلوكه كعقل يعيش في جلباب جده في مبالغة وتشدد في الدين...

كنت أدرك أن سلوك زوجي آت من عدم قدرته على الانسجام مع واقعه الحقيقي، واقع زيَّفه بالدجل أحد الشيوخ من ادعوا السلفية وحولهم لموا طلبة من الجامعات، وكونوا حواريين من صناع وحرفيين جهلة، ومن أطفال وشيوخ بلا مدارك واعية كان زوجي يومها طالبا بالجامعة ومن زمرة المغرر بهم، كانت للشيخ قدرة على غسل الأدمغة فاستطاع أن يفتئت عليه وعلى غيره حقائق التاريخ وفلسفة الرسالة النبوية في بعدها الإنساني...

وأتى طلاقي بعد أن يئست من أن أحقق ولو جزءا من وجودي الى جانب وجود زوجي ، أنشر بعضا من افكاري وما أومن به اضاءات في عقل زوجي وسلوكه.. وهي إضاءات كونتها من قراءاتي العميقة للديانات والتي كان زوجي لايومن بها ولا بمن كتبها فكل ماعدا فقيهه فهو كافر يحيد عن الإسلام الحق..

أتاني يوما حاملا فتحا مبينا، توهمه تقربا من ربه وبه يضمن جنة النعيم..

"لفد قدمت أستقالتي من وظيفتي وعزمت الخروج مع فقيهنا للدعوة "..

فاجأته: هل ظهر نبي جديد؟ ألم يكن محمد آخر الأنبياء والرسل؟ جميل أن تجد الدعوة رجالا بشواهد عليا، في الرياضيات والاقتصاد والطب والفلسفة، معناه أن الدعوة الجديدة قادرة على تغيير الناس الى ما يحقق لهم مزيدا من فرص الشغل ورفاهية الحياة، وأن تنقلهم من فكر التشدد والتركن للعبادة الى عصر أنوار العلم والعمل وقدرات العقل وتحرر المرأة، وحرية المعتقد...سعي حثيث لنكون أمة توحد الله من منطلق العقل لا الأساطير والخرافات....

"الحقيقة أننا في امس الحاجة الى اجتهادات جديدة وجريئة وتطويع شريعتنا مع متطلبات التطور وتقدم العصر.. "

وتفاجأ بي وانا أطلق زغرودة ملات الفضاء ثم صيحة مني أستنفر بها الجيران:

ــ "لقد تحررنا كنساء واصبحنا خارج قبضة ديكتاتورية العقول العنكبوتية..

تعالين لتأخذن القدوة من رجالنا الجدد المثقفين ، قدوة تحرركن من عبادة أوثان أفكاركن وتنشر عليكن ألوية السلم والأمان"..

أكذب لو قلت أني لم أحس بسوط ينزل على رأسي بمس جنوني..

وغبن يقمطني في قهر وجودي يحول كل ما حولي الى كراهية مقيتة، الى عدمية تقتل معنى الحياة من حولي..

كل ما بنته الإنسانية، في معتقد زوجي تفاهة وسراب، هو وحده ومن والاه ومن هم له تُبع زبدة البشرية.. ضئيلا صار زوجي امامي، صغيرا بلا عقل ولا شخصية ولا كيان إنساني، والا كيف يترك مهنة يسترزق منها بكرامة، وزوجة هي من تحقق له مأوى يستتر فيه؟.. تتحمل عجزه وعقمه بصمت وصبر ونكران ذات؟.. ويأتي ليرمي عليها فتحه المبين..

أمام جمهرة الجيران أراد أن يظهر رجولته، ركبه غضب انطلق شررا من عيونه فاستل حزامه من وسطه وحاول أن ينزل علي بسوط، وكأنه يريد بدء تداريبه الجهادية على ظهري بلاحياء ولا كرامة.. بخفة ارتمت عليه أحدى الجارات ودعته دعا قويا فاسقطته أرضا.. أمام صيحات النساء. وبكاء اطفالهن فر هاربا كجبان مقيت خارج البيت، فكان طلاقي، تنازلت عن كل شيء فقط ارتاح من شبه رجل بلا عقل ولا شخصية، كان البيت ارثا من أبي.. فزوجي كان حريصا على كل ما يحقق له أكلا وايواء يتمتع بهما بلا معارضة أو مقابل وماعدا ذلك فلا حديث على لسانه الا على الحرام والحلال خصوصا فيما له صلة بي حتى حقه الشرعي يؤديه بمشقة في ظلام كأننا جرذان الليل لم أحس يوما أنه قبلني برغبة اولامس أجزاء من جسدي كإثارة.. كان يؤدي مهمة كما يريدها هو ثم يتركني نافرة كما بدأ بنفور ويبادر الى الحمام.. وحرام أن ألحق به لان نظر أحدنا الى عورة الآخر حرام..

بعد ثلاثة أشهر من طلاقي وجدت عملا في إحدى شركات تموين الفنادق والمطاعم بتدخل من أحد من كانوا شركاء لأبي.. بسرعة تعلمت وأكتسبت أصول مهنتي.. صرت أخالط الناس فاتبادل الأفكار والخبرات وافهم الحياة أكثر..

تفتحت أمامي الآفاق فصرت اسافر في رحلات سياحية جماعية، وأمارس في حرية رياضة المشي لاحافظ على رشاقتي وحيويتي.. ولنفسي سننت قانونا يفرض احترامي ويحذر كل عين زائغة أو نفس ذكورية لاتحترم حدودها في كل التعاملات لا في الجوانب الجنسية فقط، وصرت قدوة للكثير من النساء يتعلمن من سلوكي أن ليس بالحجاب نصون كرامتنا، ولا تشددا في الدين نمنع الفساق من التحرش بنا أو تجاوز حدود احترام انسانيتنا، بل وليس الدين من يصنع الأخلاق فالقيم من منابع الأعماق وهي فينا شاملة للدين والعدالة والأمانة واحترام حقوق الغيروحريتهم الشخصية...

" ماذا نريد من نفوسنا وكيف نحب ان نحيا؟"

تبنيت طفلة فقيرة من أسرة معدمة كانت أمها تأتيني ثلاث مرات في الأسبوع لتنظيف البيت ، كانت الطفلة شعلة من ذكاء، استطاعت ان تحرق مراحلها الدراسية بتفوق مدهش حقق لها منحة للدراسة في بوسطن بالولايات المتحدة الامريكية..

هكذا تحررت من ضغوطات الذكريات فآلامي السابقة أنستني الرجل وضرورته لحياة أنثى، فبعد أن كان لي ظلما وتناقضا يعرقل راحتي ويقيد حريتي وجدتني أتحرر منه وأدعو عبر جمعيات انتميت اليها الى فكرة تنطلق من مثل دارجي:

تهجالت العناية ولازواج الذل..

فاجأني اسم زوجي ذات صباح على الصفحة الأولى لأحد الجرائد..

مات مطعونا بخنجر أحد ألاتباع الذي شك في سلوك زوجي مع زوجة قاتله..  استغربت !!.. سبحان من يحيي العظام وهي رميم، فمن التشدد والدعوة وترك الوظيفة جهادا في سبيل الله الى التفسخ والزنا...أي تناقض هذا؟ لعلها الاندفاعات المتهورة التي لاتميز بين الأفكار كقيادة عمل وحث على الخير والعدل واحترام الآخر، أو ربما هي جنوح عن قانون الإسلام كدين وهي الوسطية بين الجمود والشره ؛ انها سوء فهم للحياة ودور الانسان فيها، ربما لم نستبطن كبشر مفهوم زينة الحياة الدنيا فبالغنا في التقشف بالمتعة ولم نكن وسطا منصفين بلاضرر ولاضرار، كما لم ندرك رمزية الآخرة فنعرف كيف نتوب ونصلح بعد ظلم وهكذا ننجو برجمة من الله...

عادت بنتي من بوسطن وهي تحمل شهادة عليا في تكنولوجية الذكاء الاصطناعي تخصص برمجة وتحليل النظم وتصميمها.. أبهرتني بما عنه قد تتحدث حتى خلت نفسي أني اسمع حكايا عن الخيال العلمي، لكنها زادتني ايمانا بربي وثقة بالعلم حين قالت:

ـ الله بعباده رحيم ـ ماماـ والا لما هيأ عقل الانسان لعلوم الذكاء الاصطناعي والبيانات اغناء لما بلغه من علوم بيئية ومساعدات إنسانية ويوجهنا لطرق تعزيز وسائلنا لانقاد الناس والتعامل مع كل ما قد يضرهم فيتوهمونه قدرا مقدورا وهو من الطبيعة وسوء استغلالها..

ووجدتني أؤمن على كلام بنتي.. "

الله أكبر من أن ينظر الى صورنا الظاهرة ويتغافل عن عقولنا واعماقنا التي هي مايحرك وجودنا الإنساني وهي مايحاسبنا الله عليه "..

"بنتي هي من يسوقني لزمانها، للحياة التي لايمكن أن نركض فيها تراجعا الى الخلف، الحياة التي نوحد فيها الله الذي يبدي ولا يبتدى ليترك للإنسان حرية الفعل لما يمكنه من حياة لايشقى فيها ولا يعرى أو يعيش عالة على غيره بلا عمل ولا منفعة، الحياة التي لم يميز الله فيها بين أنثى وذكر، معا خاطبهما على قدم المساواة بعضهم من بعض"..

فاجأتني بنتي يوم كتب كتابها مع شاب وسيم بشروط خجلت أن تصرح بها لكن الشاب كان صريحا منطقيا حين قال:

"للي اوله شرط آخره نور ياحماتي "

أدركت ان العالم قد تغير وان فهم الناس اليوم للحياة هو غير ما كناه، فتغير الحياة من تغير العقول والنفوس وهو بالتالي تغير المفاهيم نحو إدراك واع لحقيقة الدين والحياة والوجود والعدم..

قد تنفلت بعض الأصوات لازالت تعيش العدم وتقول هذا شر آت رغم أن كثير من التفاسير قد أعيد تأويلها بما حققه العلم للناس من طفرات عالية في الفهم والابداع، أليست فلسفة القرآن تسير في اتجاه انتفاع الانسان بما يوجد على ارضه وهو من قال عن كثير من الظواهر: "لاتحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم"

***

محمد الدرقاوي - المغرب

كائنٌ من ورَقْ

ودهاءٍ ورياءٍ ونَزَقْ

وهوَ يَمْتَهِنُ الزحفَ

الى البيوتِ المَشبوهةِ

الحاناتِ المسعورة

الملاهي الموبوءة

والفنادقِ الغامضة

ويحترفُ الحضورَ

في المؤتمراتِ السريّة

والصفقاتِ والطقوسِ الغريبةْ

والحفلاتِ التنكّرية والجنسية

والجلساتِ الخمرية العجيبةْ

**

إنَّهُ يزحفُ دائماً

الى قاعاتِ عروضِ الازياءِ،

والمهرجاناتِ الشعريةِ

وخاصةً (الدراماتيكية) منها

والتشكيلية والاشكالية

والغنائيةِ و" النسونجيةِ " الرهيبةْ

**

هوَ يُجيدُ التملّقَ والتزلّفَ والتهريجَ

وخصوصاً للسياسيينَ والمعممينَ

والقتلةِ والجنرالاتِ والنساءِ الشبقات

والأَثرياءِ المخانيثِ وتجّارِ البترودولارْ

وكذلكَ يحترفُ المُتاجرةَ

ببناتِ " اوربا "

وبالأخصِّ الشرقياتِ منهنَّ

ويستوردُ ويُصدّرُ الصبايا

من بلادهِ الجريحةِ

الى بلدانِ الجوارْ

ويعرفُ اشياءً كثيرةً

وخطيرةً وحقيرةْ

ولكنَّهُ لايعرفُ أَنَّهُ كائنٌ

دنيءٌ وبذيءٌ ونَزِقْ

وهوَ محشوٌ خرافاً

وهراااااءً وخرَقْ

***

سعد جاسم

2023-5-20

اُذْكُرِينِي يَا ضِيَاءً فِي عُيُونِي

يُشْرِقِ الْإِبْدَاعُ مِنْ فَيْضِ جُنُونِي

*

اُذْكُرِينِي يُشْرِقِ الْحُبُّ بِقَلْبِي

وَيَفِيضُ النُّورُ مِنْ نَهْرِ جَبِينِي

*

صُورَةٌ تُرْسَمُ فِي حُلْمِ اللَّيَالِي

تَطْرُدُ الْأَحْزَانَ مِنْ بَحْرِ شُجُونِي

*

لَمْ أَزَلْ أَهْوَاكِ يَا بَحْرًا جَمِيلاً

عَانَقَ الْأَشْوَاقَ فِي قَلْبِ السَّفِينِ

*

لَمْ تَزَالِي وَرْدَةَ الْعُمْرَ بِقَلْبِي

تَبْعَثُ الطِّيبَ وَلَا تَحْيَا بِدُونِي

*

اُذْكُرِينِي فِي صَبَاحِي وَمَسَائِي

وَاجْعَلِي الْأَيَّامَ  سَقْفًا مِنْ يَقِينِي

*

يَسْتُرُ الصَّبَّ وَيَعْطِيهِ مَعَادًا

لِعَرُوسِ الْبَحْرِ فِي جَوِّ الْفُتُونِ

*

إِيهِ يَا وَرْدَةَ قَلْبِي خَبِّرِينِي

آخِرَ الْأَنْبَاءِ فِي دُنْيَا وَدِينِ

***

شعر أ. د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

هنيئاً لنا سِفْرُ هذا العطاءِ ...

يُهَدْهِدُ عُمراً

تَجدَّدَ حِبراً،

تَفتَّحَ فجْراً

ليُشعِلَ فينا شموعَ البهاءِ ...

سألتُ:

أَأَنْتَ النخيلُ

تَجمَّعُ فيهِ مياهُ الفُراتَينِ ؟

أمْ أنتَ نيلٌ

تَجدَّدَ من وحْيِ مائِهِ

عذْبُ الكلامِ

وصَفْوُ النقاءِ ؟ ...

فقالَ : بلى ،

كلُّ هذا أنا

ولعلّي أبوحُ بأكثَرْ ...

ففي نجَفٍ أبْحَرتْ في مياهي

سَفائِنٌ عِلْمٍ

مناراتُ شِعْرٍ

وقلبي بها قدْ تعلَّقَ طِفلاً

وعقلي يُسابِقُ قلبي

لعلِّيَ أبلُغ عمقَ الفكَرْ ..

وقالَ :

دعوني أشقُّ عبابَ الحقيقةِ

أفتحُ باباً

وأرسُمُ وجهَ الصباحِ

بألوانِ صَبْري

وأنفاسِ جُهْدي

وإن أتْعَبَتْني صُروفُ الحياةِ

فلنْ أتأثَّرْ ! ...

أيا صفحةً من حياتي،

توهَّجُ نوراً

بأشخاصِ علمٍ وفِكرٍ

أبادِلُهمْ خبزَ علمي

لنخبزَ أرغفةً للحياةِ

بها الكونُ قد يتغيَّرْ !!

**

أيا ذِكرى،

بكلِّ العمقِ يحفرُها

لتقفزَ من مواضيها

إلى الحاضِرْ

لتأخُذَنا معاً

من عَبْرَةٍ هطلتْ

إلى قصصٍ..

ومن شِعْرٍ إلى نثْرٍ

ومن زمنٍ إلى زمنِ

ومن وطنٍ إلى وطنِ

عبيرٌ،

كلُّها عِبَرٌ

وفيها مثلُ مافينا

من الألمِ

من الهِمَمِ

من النَّغَمِ

فنلقاها وتلقانا

نعيشُ شخوصَها فينا

ككاتبها

ويسعدُنا تلقِّيها

كتجربةٍ

ومغزىً للحياةِ سرتْ

بماضيهِ وماضينا ..

قطارٌ هاهي الذكرى

من الترحالِ قد تعبت

وما سئمتْ من التَّعَبِ

فمن بلدٍ إلى ولَدِ

ومن أملٍ إلى أملِ

ومن عملٍ إلى عملِ

ومن وطنٍ إلى غربةْ

يهدهِدُنا قطارُ الشّوقِ للْبلَدِ ...

***

شِعر: إباء اسماعيل

......................

* ألقيت في حفل توقيع  كتاب (من أعماق الذاكرة) للشاعر والباحث العراقي المغترب الدكتور صاحب ذهب في مكتبة هنري فورد في ديترويت- ميشغن

كلما غسلت الأحلام تمثال الحقيقة

من غبار السنين

خلت شجر العمر سيتسابق نحو الظلال

لأحظى بلحظات مترفة

تحملني بعيدا عن كبواتي الممتدة

وعن مرآة طالما هيأت لي الضربات

**

يحتاج قلبي إلى ضماد حي

من أعشاب البحر

وما خلفه الغجر من كلمات

سقطت سهوا ...أو قصدا

دون وعي من الرمل الممسد

لأستطيع امتطاء الهزيع الأخير

من ثمالة الوجع

لأغادر سكون الغياب

هدوء الحضور واستغفال القدر

قبل أن أخرّ على جمر نفسي

وأهدّ كل ما بنيت من قواف

وما صغت من جمل :

فعلية ...اسمية ...مجازية ...وشرطية

وأنا ارتب أوراق روحي

لأنظم شعرا : مدحا ...غزلا ...

لقبيلة كم رمتني بالجمر

حين تشقق وجهي على لحاف رجائها

وخار صبري على كأس مرها

ثقلت خطوتي تحت وطأة أقفالها

كم بعث من رسائل ممهورة بالحب ..

مطرزة بالشوق

حتى بلغ الوجع اليباب

وأطفأ الانتظار جذوة اللفظ

**

حروفي اليوم تلفّها كمائن أخرى

ترسم خرائط لفرار سحيق

نحو مكان قصي

أنفض فيه الغبار عن جسد

أتربته البلاغة

علّي أنجو بما بقي في الروح

من صور بليغة

تقيني أجاج العيون

منجنيق اللغو

في سط سوق عكاظ !

***

مالكة حبرشيد - المغرب

كان النهار يحتضر، والغيوم المنخفضة التحفت السهول والوديان، وجعلت من البحر رماديا، ووسعت المسافة بينها وبين السماء، فحظي جسد الطائرات بدفء الشمس الساطعة.

كانت المدينة ترزح تحت ضباب كثيف، ولم تكن الشمس قد انبلجت بعد. الخريف غزا الفصول وشرع في تعرية الأشجار من أوراقها الواهنة، التي تكدست في الأزقة والشوارع صابغةً الأرض بألوانها الزاهية. غرفتي الصغيرة شبه المظلمة، بابها مواجه للممر المؤدي الى الباب الخلفي للمنزل، نافذتها الوحيدة كانت متوارية خلف الستائر القاتمة. بدت الأجواء كضباب الليل.

كنت ألوذ بالصمت، فالصمت في تلك اللحظة كان غذاء الفكر والروح، مستلقيًا على الفراش منغمسًا في أوهامي، كانت تلك الأوهام تهاجمني في الظلمة والمطر والريح، متناسيا الفوضى العارمة داخل الغرفة، حيث الأوراق المبعثرة فوق المنضدة والصورة المعلقة على الحائط على وشك السقوط، والساعة المنضدية قد سكتت للأبد بعد ان اقلقتني يوم أمس ورميتها بعيدًا، وفجأة ترامى إلى مسمعي في الممر الذي يفضي الى باب غرفتي خطوات سريعة، جعلتني انتفض من سريري، كما لو كنت في نوبة حراسة أيقظني رنين الخطر.

هبط صمت لا يحتمل عدَّة لحظات، شرع مقبض الباب بالدوران، اندفع الباب الى الداخل بقوة فأصدر صريرًا صاخبًا، بعد أن استفاق الصدأ من غيبوبته.

امتطى المشاعر وجهي وبانَ الذهول في نظراتي، سرعان ما أماط اللثام عن هواجسي معبراً عن خفايا غامضة، حالما وجدتها واقفة قبالتي فجأة كقطرة ندى نقية لا تمسها الريح، بقامتها المتزنة، وخصرها النحيل، وخطواتها الرشيقة.

دَخَلتْ الغرفة، تاركة الباب شبه مفتوح، فتخللت خيوط الضوء الرقيقة من خلاله لتتكسر على وجهها بنقاء ملحوظ، علت وجهها جهامة لا شعورية، كما لو أن كل تفاصيل حياتها بدت لي في لحظة من فوضى الحواس العارمة. اكتشفت على الفور خفايا المخبأة على امتداد حافات شواطئ ذكرياتها.

اجتاحني السهد كتيار جامح يندفع بسرعة رهيبة. طفقت الأسئلة تنهمر عليّ كمطر الصيف في زخة قوية. تجول في رأسي مفردات الطفولة، هل من المعقول ان أحظى بفرصة اللقاء؟ هل انا في حلم أم ارى شبحا؟ في هذه اللحظة خالجتني مشاعر كثيرة كانت تجرفني كطوفان نوح. لم أنبس بكلمة، بل كنت أحدق إليها فقط. انتابتني قشعريرة في اوصالي. والتوتر ينال من مظهري، لم أدرك مغزى الحدث.

هيمن على أجواء الغرفة كليا سكون مطبق. نعم انها فتاتي التي أغرمت بها في شبابي. راح قلبها يخفق بشدة حتى تناهى نبضاته الى مسامعي. خطوت نحوها بأناة. بدأت احنو على شعرها وأداعب بأناملي شحمة اذنها. بدا للبصر شعرها اسود اللون أول الوهلة، ولكن عندما انكسرت خيوط الضوء عليه بدا لونه مائلا الى البني. حاولت ان أمسك بها بقوة كي لا تهرب بعيدًا.

على حين غرة أخذت الظلمة تكتنف الإرجاء، والضوء المتدفق عبر شق الباب يتلاشى الى ما لا نهاية.

وفجأة أصبحت وحيداً في عالم الآخذ بالاندثار بعد ان غاب طيفها عن ناظري. خاب أملي وطغى التجهم القاتم على وجهي، عندما اكتشفت ان ما رأيته للتوّ، لم يكن سوى أوهام.

***

كفاح الزهاوي

العزيزة سوالف

فاجأني طلبك الانفصال عني وعن بلدة الحب التي اقمناها معًا. لم أكن أتصوّر أن يأتي يوم مثل هذا، تطلبين فيه مثل هذا الطلب.. فانت المليكة المتوّجة إلى جانب رتل من المليكات في بلدتنا الغالية علينا نحن، أنا وثلّتي، من العشاق الفلسطينيين.

ما الذي دفعك غاليتي لاتخاذ قرار المغادرة؟ أهو الزمن أم الروتين أم الحلم بالأفق الآخر المختلف.. أو الافق الاجمل كما ردّدت أكثر من مرة؟ الآن وأنت تتقدمين بمثل هذا الطلب أعود إلى الماضي البعيد القريب دائمًا وأبدًا لأستعيد ما حصل منذ البداية حتى هذه اللحظة القاتلة المصوّبة إلى صميم بلدتنا وقلبنا.

يومها جلست إلى صحبي وأصدقائي في مدينة الملل، مدينتنا القديمة، وشرعت بالتشاور معهم فيما عسانا نفعل كي نقضي على وحدتنا وسأمنا. اقتعدنا الارض وطالت قعدتنا ولم نصل إلى أي نتيجة. بعدها عدنا إلى جلسة اخرى.. 

في الجلسة الثالثة هيمن علينا المزيد من الملل والوحدة، فراح كلّ منّا يرسل نظره في الافق الاخضر البعيد.. القريب.. وكنت أول من شاهد حصانه الابيض واقفًا هناك ينتظر مَن يأتي إليه ليخرجه من استكانة الاجواء المحيطة. بسرعة أدهشت جلسائي قبل أن تدهشني عدت إلى طفولتي هناك، في قريتنا المهجّرة سيرين، فلاحت لي صورتك أنت صديقة الطفولة وحبيبتها. وسرعان ما ربطت بينك وبين حصاني، وفاجأت جلسائي بقراري أن أطير بحصاني الابيض إلى هناك حيث تمكثين في عالم السحر والجمال، وأن أقوم بفعل غير مسبوق في تاريخنا.

أطلعت جلسائي وهم من المئات من القرى المهجّرة في ربوع بلادنا الجديبة، على قراري فما كان منهم إلا أن يرسلوا ابتسامة تشبه تلك التي أرسلتها قبل قليل، وكأنما نحن نتواطأ على أمر واحد..

هرعنا كلنا إلى احصنتنا في الخلاء الرحب، وجرينا وراءها وجرت أمامنا حتى أدرك كلّ منّا حصانه بطريقته الخاصة. عندما امتطينا أحصنتنا بدت الصورة مذهلة في حُسنها وجمالها. ما أروع أن يقف الحصان الابيض، حصاني، إلى جانب الادهم والاشهب والأجون، الصورة بدت حينها كاملة متكاملة، لا ينقصها إلا ما تواطأنا عليه مجتمعين، من مشاعر تعيدنا إلى أمنا الطبيعة بكلّ ما لدينا من حنوّ وحنان تجاهها.

بلا طول سيرة انطلق كلّ منّا باتجاه قريته المهجّرة.. وسرعان ما وجدت نفسي وحيدًا أغذّ الانطلاق إلى قريتي الحالمة حيث تركتك صغيرة.. هناك في القرية وعلى أراضيها الدافئة، تخطيت العقبات كلّها تجاوزت الجنود، الدبّابات والطائرات، ووصلت إليك مُتخطيًا الانفاق واحدًا تلو الآخر، عندما اقتربت منك.. هناك في أعماق غياهب عتمتك، كنت أستهدي انطلاقي إليك بشُعلة من نور سرعان ما اكتشفت أنها وجهك. اقتربت.. من وجهك المنير.. ما أجمل أن يلتقي المرء بماضيه.. ما أجمل أن يكبر الماضي بالضبط كما نكبر نحن. كنت أجمل بما لا يقاس مما كنت عليه عندما تركتك. لم نكن عندها بحاجة لأن يعرف الواحد منّا الآخر.. خرجت أنت من الذاكرة وكذلك فعلتُ، وباتت السنوات الفاصلة بيننا هباءً في هباء.. بسرعة البرق مددت يدي فامتدت يدك إليها لأجذبك برقة البرق، ولأنطلق بك طائرًا فوق الجبال المسترخية بحنوّ، جبال بلادي. باتجاه بقية الاحصنة تحمل فرسانها ووراء كلّ منهم محبوبته.

طرنا وطرنا وطرنا.. طرنا معًا.. وكانت وجهتنا واحدة موحّدة.. كنّا منطلقين إلى هناك.. إلى بلدة السحر والجمال..

غاليتي سوالف

هناك على أرض خصيبة تكسو الخُضرة التلال المحيطة بها وتتجول الخيول العربية الاصيلة أقمنا بيوتًا عزّها فاق الخيال.

هنا أتوقّف عن الكلام، لأنه لا يوجد ما أضيفه إلى ما سبق وقلته، في رسالتي هذه، سوى انني كنت أراك كلّ لحظة امرأة جديدة متجدّدة.. امرأة بألف وجه ولون.. امرأة الحب الابدية.. إنني أتوجّه إليك بهذه السوالف.. يا سوالف، وكلّي أمل أن تعدلي عن قرارك بالانفصال.. أذكرك أن ما جمع بيننا أكثر بكثير مما فرّق.. فعودي إلي.. عودي إلينا، أنا وصحبي، في مدينة السحر والجمال.. عودي لنبعث فيها الروح مجدّدًا.. عودي لنبعث الحب.

***

اقصوصة: ناجي ظاهر

الناصرة

مقعد مريح فى شرفة تطل على شارع مغلق

فى جلسته المريحة فى هذا المقعد الجديد الذى أتت به زوجته من دولة الإمارات فى الإجازة الأخيرة، لا يتذكر هل كانت إجازة نصف العام أم نهاية العام، ليس هناك فرق، فى هذه الجلسة المريحة وعبر الشرفة التى تطل على شارع مغلق، تذكر وتذكر وكل ما يتذكره يبدو له ناقصا أو مشوشا مثل كتبه ومشاريعه التى لم تكتمل أبدا، تذكر رجلا مريضا وشابة صغيرة، تلميذة، فى المرحلة الثانوية، تجلس أمامه يلقنها معلومات عن الفعل والفاعل ونائب الفاعل والمفعول به والمفعول معه والمفعول لأجله، وامرأة شابة أيضا لا يذكر منها سوى كفها الضخمة وفمها الشهوانى الوسيع، هل هناك علاقة بين الكف الضخمة والفهم الشهوانى الكبير؟ ورجل مريض يجلس فى مقعد مثل المقعد الذى يجلس عليه الآن، وفتى ضخم أسمر الوجه لا يشبه أبدا ذلك الرجل المريض ولا يشبه تلك المرأة الشابة أيضا. الفتى ينظر إليه شذرا. آه يا للذاكرة اللعينة، هناك طفل أيضا، من ثلاث إلى أربع سنوات، ها هو اسمه يقفز أمام عينى، اسمه، اسمه محمود. يتذكر الآن أن هذه الأسماء كانت مشروع رواية لم تكتمل، كتب منها عدة فصول وتوقف، شعر للحظة أنه يكتب سيرته الذاتية وأن ثمة أحداث ستكون محرجة وسوف تسبب له مشكلات مع زوجته والمجتمع، أى مجتمع، إنه لا يخشى أحدا ولا يعمل حسابا لأحد، هذا ما يقوله فى العلن، لكنه فى الحقيقة يخشى المجتمع، يخشى نظرة المجتمع له، تؤلمه نظرات الناس إليه. هل يتذكر الآن ما حدث له مع جارته الصغيرة عندما رأته أمها وهو يقبلها فى فناء البيت، وكيف أنه لم يعد يدخل بيتها ولا يستطيع أن يصوب نظره نحوها، تزوجت الفتاة وبقيت تلك الذكرى مثل غيمة خفيفة . لديه مشكلة مع الماضى، يحاول أن يمسك به، يحاول أن يجمع تفاصيله فى يده ويعيد تركيبه من جديد، يحاول أن يجعله يمشى أمامه أو يروضه ويركب صهوته، وفى كل مرة يفشل، مثلما يفشل الآن فى الإمساك بخيوط الأحداث، لكى ينسج منها قصة ذات مغزى وإيقاع وبهجة تشرح القلب، وتعيد بسمة إلى وجه شاحب يشعر بالقرف من كل ما يحيط به من بؤس وعبث. وهذا المقعد المريح، هل طلبه من زوجته أم أتت به من نفسها،لا يتذكر يا للذاكرة الخئون ! أين هى الآن؟ هل انتهت إعارتها، وعادت إلى عملها فى مصر، فى هذه المدرسة الملاصقة للمنزل، منزله الذى اشتراه من بائع الخردوات ودفع فيه مبلغا خياليا، لماذا يدفع مثل هذا المبلغ الكبير فى هذا المنزل الحقير؟ أبسبب تلك المرأة الجميلة، زوجة بائع الخردوات التى سلبت لبه؟ وها هو جالس فى المقعد المريح فى هذا المنزل الحقير الذى يطل على شارع مغلق لا تدخله الشمس، وها هو يشعر بالبرد وعليه أن يعود إلى داخل المنزل قبل أن تنادى عليه وتوبخه على جلسته فى تلك الشرفة حتى هذا الوقت المتأخر من الليل.

(تمت)3369 محمد غنيم

قصة: د. محمد عبد الحليم غنيم

.....................

* من كتابى الجديد (منديل ورقى أرجوانى اللون ) يصدر قريبا

ما أقساها!

عبارة تحيل ما بعدها إلى ركام

سقط سهوا

*

لكن

ما الذى قادني إليها؟!

يا لها من سذاجة

بل من عبط

بل من سفاهة

بل من عته

بل من جنون

هذا ما أجابني به

من منحونا بسخاء

هوية

محفورة بعبارة....

...

...

...

أرفض ان اكررها

وكل ما أملك

هذا

الرفض

***

ابتسام الحاج زكي

نمشي إلى الحق أبطالاً وننتقلُ

فلا يهم إذا نأسى ونُعتَقَلُ

*

لأنَّ ذا الدرب شوكٌ فيه يوخزنا

أسلا من الريش .. بالتَّعذيب نحتفلُ

*

نبني صروحاً من الأجساد تُصعِدنا

نحو السَّماء لكي نلقاك يا (زحلُ)!

*

حيث (المخانيث) في الدهليز يقبعهم

يمشون في الدرب .. حتى اليوم ما وصلوا!!

*

لأنَّ ما كان في وجدانهم أملٌ

أنْ يقتفوا ﷲ أو ينتابهم خَجَلُ

*

لذا ترى اليوم أعجازاً مهيكلةً

عرجون نخلٍ وحشفاتٍ .. لذا انهملوا

*

لكنَّ من سار نحو ﷲ تحمله

أبهى الرموش .. به تزهو وتكتحلُ

*

تمشي التوابين بالأحرار شاهقةً

مثل المسامير دُقّت حولها القُبَلُ

*

لذا نسير .. وما زلنا ، وما تعبت

يوماً خطى العزم ، يحدونا بها الأملُ!

***

رعد الدخيلي

‏أفرغتُ كاساتي دنانًا ملءَ ثغري

و أدمنتُ حرَّ يبابِها سرًّا بجَهري

*

فأحلامٌ نسجتُ ضياءَها باتتْ سرابا

بِصحاري القيضِ في مُهجتي تَسري

*

رحَّالةً أمسيتُ..أضنتْني الثنايا

وارتجالٌ في غدي قد باتَ قدري

*

همَس الناصحُ بي صبرا جميلا !

فأذبت هامَ صبابتي بلُجاج صبرْي

*

وقطعتُ أوصالَ الحنينِ و قلت ولَّى

و شربت نخبًا تِلو نخبٍ وهْج خمري

*

فأعادنِي لهَبي أجيجًا  في الضُّلوع

و تهاوى بي حلمي ... و ظلَّ يُهري

*

فمن يَرثي لحالتي و يفكُّ أسري ....

ويشتري بِقِراط صبرٍ باقي عُمري

***

زهرة الحواشي

من مجموعة دبشليمات .

القسم (5) من ذكريات من رماد

***

قبل أن تفتح محلها التجاري تعودت سلمى أن ترافق سعد في سفرياته تساعده انطلاقا من ثقته في قدراتها التواصلية الفعالة وتدفقها المنطقي والطبيعي اللذين كثيرا ما حققا له رواجا بعائد ماكان ليصله لولاها ثم لا يفوتان فرصا للسياحة والتجوال يغيران بها جو العمل اليومي لسعد..

بعد يوم متعب من زيارات مآثر وحدائق إحدى المدن العتيقة عادا الى الفندق وقد أنهك سلمى التعب فنامت،بينما ظل سعد مشدودا الى رواية عن الشمانية كدين منقرض..

كان يقرأ ثم يسرق نظرات يتملى خلالها وجه سلمى وهي نائمة.. كم يزداد جمالا وفتنة كلما امتدت بها الأيام !!..

وجه طفولي لكنه تحدى وجه أختها بوضاءة تؤنس غربة الروح،يذكره بأختها زوجته المتوفاة قبل حملها، فهي وأختها كانتا كتوأمين متطابقين رغم فارق السن تحملان نفس التقاطيع، ونفس الغمازة على الخد الأيمن، ونفس الرموش الطويلة... كانت أنفاسها الصاعدة النازلة هادئة كهدوء نفسها تزيدها بسمة لا تفارقها إثارة حتى وهي نائمة،وكأنها دعوة لتقبيل تلك الشفاه المنفرجة الصارخة أنوثة؛كان يتملاها وهويقطف من ملامحها أروع ذكريات ماضيه مع أختها..

خمسة عشرة سنة مرت لم تكن سلمى سوى طفلة صغيرة في العاشرة من عمرها، أتت لتعيش في بيت سعد بطلب من أختها ضحى لتساعدها طيلة حملها ؛ قليلة الكلام، تتحرك برزانة وشعلة ذكاء لا يحتاج من يخاطبها الى شروح ليبلغ ما يريد،دقيقة الملاحظة، منتبهة، قوية الذاكرة، يتوهمها الناظر اليها انها غير مبالية بما يجري حولها،لكنها كانت لها قدرة على التقاط كل صغيرة وكبيرة بدقة متناهية.. وهاهي اليوم لسعد زوجة، اقتناعا بحبها له وتفانيها في حب عايدة ابنة أختها،وايمانا بأنها الوحيدة القادرة على أن تعيد له ماض انفرط من حياته كلمح البصر،وقد أصرت أمه على ان يتزوجها للشبه القوي بينها وبين أختها مما قد يخفف عن سعد لوعات الذكرى التي لم يخمدها زمن بنسيان خصوصا وأنها من أسرة عريقة، تحمل شهادة علمية عالية، تحبه وترجو ان تكمل مابدأته أختها، فهي تعرفه وكان لها قدوة ومثلا يحتذى في صباها..

يتنهد بقوة، وهو يستغرق النظر اليها،تتموج صورتها أمامه فتحركه عيونها شهوة تجنح بذكرى تتماوج في صورة أنثى ليبية تعرف عليها قبل أن تعود سلمى من رحلتها الدراسية.بسنتين.

نوران،انثى بعيون واسعة سوداء،جسم سمهري ممشوق، حواجب كثيفة،وقد متناسق..استطاعت أن تشده اليها بقراءاتها المتنوعة عن الديانات القديمة ونقاشاتها الثرية الخارجة عما ألفه،مع أسلوب متين يغرف من ألفاظ القرآن الكريم وصوره النابعة من بنائه المتين..

شرعت نوران تملأ بصره وخاطره ما عمق صلته بها وشجعه على أن يرتبط معها بعلاقة تواصل موصول حقق لهما ثلاث لقاءات احدها في الأردن واثنان بأرض الكنانة من خلال رحلات سياحية متفق عليها، ورغم ماكان يتبدى عليها من ايمان بالخوارق والماورائيات.فقد كان يجاهد النفس على أن يخفف عليها وطء ما كانت تستبطنه كمسلمات تكفنها في أقمطة لاترحم، مفصلا لها وحسب دراساته الغربية ماكان يطبق عليها من ايمان أعمى بكل ماقاله السلف وبالغ فيه حسب المذاهب والطوائف وفترات من التاريخ هيمن فيها الفكر الديني المتشدد والذي يناقض الكثير مما تقتحمه من سلوكات.. واضعا أمامها عشرات الكتب تم تأليفها في أزمنة مختلفة كلها بنفس المضامين لايتغير فيها غير العنوان والبناء المنهجي في حالات قليلة ينقل منها الخلف عن السلف بلا تمحيص ولا تجديد وانما حبا في الظهور واثبات الوجود أو التقرب من الحاكم السخي بفتوى يرتاح اليها، فتبيح له ما منعه الدين..

شوق آسر يشده اليها.. يتمنى لو كانت هي من يتمدد بجانبه.لشرحت له الكثير مما ينبشه في الكتاب الذي بين يديه.فهي مغرمة بالخوارق وماكان يعبده الناس من أوهام..

يفتح هاتفه ويشرع يتملى صورتها.. يتذكر حديثها الذي لا يغيب بحكم تخصصها الدراسي عن الحياة والموت والعوالم الخفية، سرقته التفاتة الى ستارة النافذة التي اهتزت بقوة: " ربما ريح قوية تحركت في الجو "يعود الى صورة هاتفه فتشرع في التلون امام عينيه بألوان غامقة،احمر،اسود، ازرق وأخضر. انقباض يشد صدره،وقد بدا يتنفس بصعوبة، رهبة تغزوه، يقشعر لها بدنه، شعر رأسه يقف... روح ثالثة تحوم في الغرفة..غزت صدره بتأويلات تلاعب عقله بتصديق حينا وتكذيب أخرى...

عرق بارد شرع ينز من جبهته وعنقه،انفاس غير أنفاسه ولا انفاس سلمى النائمة أمامه هي ما يحوم حوله،يسمع لها هدير،طيف نوران يظهر ويغيب، يتماوج أمامه، كذبابة العين التي لا تلبث أن تكبر فتصير كطير يترك خلفه غيمة سوداء، يمد يده لعلبة ورقية ويسحب منها منديلا يمسح به وجهه وعنقه، سلمى تفتح عينيها، تتنفس بقوة وكأنها تكاد تختنق، تركل برجليها كخروف اثر الذبح لم يصف له دم..

الهدير يعلو، وقهقهات تخترق سمعه من عمق الغرفة، تجلس سلمى في مكانها ثم ترتمي عليه فتشد عنقه بقوة، عيونها كلهب يرمي بشرر، تريد أن تخنقه، تشرع تضحك بهستيرية، يناديها بصوت مرتفع علها تنتبه،يمسك بذراعيها ايمانا منه أنها لاتزال نائمة، واقعة تحت كابوس مرعب، تتعالى قهقهاتها، فتشتد قبضتها على عنقه، يتيقن من هلاكه لا محالة، هل حقا ان سلمى الوديعة تصير بقوة أكثر من اعتى الرجال، يصيح بها علها تنتبه:

ـ سلمى انا سعد، سعد سلمى، أفيقي..

يترك ذراعها الايسر. لا تزداد الا تغولا وإصرارا على خنقه:

ـ أنا لست سلمى ياسعد، سلمى انتهت.. وأنا في حياتك الباقية..تتجاهلني وكانك لا تعرفني، انظر الى وجهي جيدا، انا نوران، نوران الليبية من توهمتها ضعيفة، من كنت تضحك على تخصصها وتسميها "حارسة الموتى" أتتك من وراء البحار لتكشف لك عن قوتها وقدراتها، قوة ما تستبطنه من أسماء عليا.. هل عرفتني الآن ؟

كنت أسخر منك وانت تقول عني ساحرة، انا أقوى من ساحرة انا مارد..

حاولت أن استدرجك لتصير لي، فيك وجدت هواي،رغبتي المعرفية، ومتعة جسدي الذي تعود اناملك والتهب بعضاتك..آه من عضاتك التي كانت تنسيني التزاماتي الدينية، ألست من قلت لي يوما أمام رغبة الجسد تغيب الروادع؟..

لست متأسفة على ماضاع مني وهبته لك عن طيب خاطر وتستحقه..

وجدت فيك قلبا ينبض بصفاء هو غير قلوب الرجال في وطني، قلب يعشق المرأة من صباها الى لحدها.. لايميزلها بين الاعمار عمرا..

يتذكر الطيف الذي مر به، والذي كان يترك خلفه غيمة سوداء، يستعيد صوت الهدير الذي اتاه من احدى زوايا الغرفة، يحدق في وجه من تخنقه فيجده اصفر فاقعا، وعيونها لهيب من شرر جهنم، يحاول ان يتذكر آيات قرآنية أو كلمات يتحصن بها.. كل شيء غاب عن ذهنه،تفكيره محصور في كيف يفك قبضة الماسكة به حتى لا تقتله. يحس بانهياره،الهزيمة تتجمع في دواخله وهو يئن بصوت متعب.. أخيرا يتذكرآية الكرسي، يقرأها بعدها يرتل:

"وقدمنا الى ماعملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ".. يهتز جسد الماسكة بعنقه تجحظ عيناها ثم به تصيح:

ـ لا لا تقرأ، فقط اعطني صورتي وأتركك، صممت أن أتركك،فالغرق معك قد يبعدني عن ملوكي، وأنا أخشاهم.، بعد أن هددوني بقتل...

بدأ يرى سلمى تستعيد ملامحها لكن عيناها لازالتا جمرة ملتهبة، يرفع راسه ليعب نفسا قويا فيرى طيف والده أمامه،عندها يتذكر تحصينا، يرتله، "ماجئتم به السحر ان الله سيبطله "..

تصيح القابضة بعنقه، ويداها ترتخيان، فتتوارى قليلا وهي تقول:

ـ لا تحرقني اتوسلك، أخذت مني كل ماتريد وأعطيتك بسخاء ما لا كنت أريد.. استفدت منك الكثير،وتعلمت الكثير.. لي قد صممت طريق التصحيح تصميمك لمواقع جسدي حتى احتويتك ولباس وجود قد ارتديتك.. فقط اريد صورتي وسابتعد عنك الى الابد، توهمت اني ساحرة فولاذية فاذا بقوتي تخور أمام ما تقرأ.. أنت اقوى ياسعد، لا لأنك رجل،لكن لانك عشت حرية الاختيار وعشت انحطاط العقول ودرك الثقافة..

رآها تتراجع الى الوراء، تجحظ عيناها وهي ترتمي على ظهرها فوق السرير وكأنها تهوي من عل، بدأت ترتجف، فتبدى وجه سلمى مزيجا من حمرة تخالطها صفرة على خديها، تذرف عيونها مطرا من دموع، تصيح: سعد مابي ؟ ماذا فعلت بي؟أحببتك سعد من كل اعماقي لماذا تحاول قتلي؟

يرتمى عليها، يضمها لصدره، يمسد ظهرها بيده،يقبلها، ترتعب منه بادئ الأمر ثم لا تلبث ان تهدأ..

ينهض ويخرج مهدئا من محفظته الصغيرة، يناولها إياه...

يحس ان تعبها مما عانته مع اثر المهدئ بدأ يسري مفعوله فيجعلها ترتخي ثم تنام، يرمى عليها دثارا..

طرقات على الباب يتجه اليها ليرى من الطارق.. مدير الفندق ومعه أحد الخدم يسالان عن سبب الصياح، يطمئنهما ان الامر لا يتعدى كابوس نوم راته زوجته..

ينامان حتى العصر بعد ليلة ليلاء من رعب كاد ان يضع لحياتهما نهاية...

يطلبان طعاما الى الغرفة، يشربان قهوة ويتمددان على السرير ثم يشرع يحكي لها قصة نوران..

"أنثى غارقة في وحول الطقوس، العادات والتقاليد، تؤمن بالقوى الخفية من جنون وأبالسة ايمانها بمفعول السحر وقدرته على تغيير أحوال الناس، صممت على التعمق في هذا المجال بإعداد ماجيستر حول عوالم السحر والماورائيات بدأته مع بعض شيوخ مصر وأنهته مع طائفة دينية تعمل بالسحر في لندن.."

تحرك راسها باستغراب وهي تقول:

ـ أتساءل كيف تتواصل مع أنثى وبها تتعلق وهي عنك بعيدة، ثم هي بنت سجينة عناكيب،أوهام واساطير؛ أن تسعفها ياسعد فهذا من تكوينك وثقافتك وقيم اسرتك، لكن أن تتعلق بها لما تحمله من سحر فهذه طوباوية اشبه بالوهم , وان تثق بتعلق لا تعيشه حقيقة فهو خيال مريض..أنا عشت رعبا لم أره في حياتي، ورأيت صورا وحشية،من الرعب أمامي لم أقرا عنها حتى في قصص جوزيف لي فانو..

يخرج هاتفه ويظهر لها صور نوران فتقفز من السريركأنها تريد الفراروهي تقول مذعورة:

ـ هي من حاولت قتلي.. سعد يجب محو هذه الصور.. هذه السيدة ليست طبيعية، لا شك أنها تحمل خلفها سرا لم تعرفه ياسعد، أتوسلك انقدني..

يقفز اليها من فوق السرير ويضمها اليه وهو يهدئ من روعها واعدا أياها أن يعيد الصورة لصاحبتها..

تبدي قلقا وهي تقول:

ـ ترد الصورالى صاحبتها ؟ !!.. امحها من هاتفك وكفى..

يتنفس بعمق: "سلمى حبيبتي ما زحف الينا من رعب والينا قد وصل بتهديد لن يكون غير أعماق تلك الأنثى التي تغلي على حالها ومصيرها، يشهد الله أني ما وجدتها غير لفة قطن بيضاء لا اثر للشر في نفسها، هي لفيف قيم وطقوس لكنها كأنثى تحركها بشرية الانسان تتمنى وتريد،ينفعل جسدها برغبة فتنسى القيم والمثل التي تم حشرها في عقلها بتخويف ورهبة واقنعة كثيرا ماتسقط بدليل.. تسعى جاهدة لتغير من حالها وما جرها اليه بعض عديمي الاخلاق من معلمات عوانس بائرات ومن فقهاء السوء ومن يدعون بالدجل البركات، وقد بدأت تتلمس أولى الخطوات بقراءات جديدة..

أكره ان أتواطأ مع الزمان عليها، هي ضحية لتنشئة لا حضارية وتعليم رجعي هو ما يلف أكثر العرب ممن تم تلقينهم دينا مدرسيا سطحيا، بعيدا عن حقيقة الإسلام وفلسفة الدين القويم،ما لقن لهم من دين قد لعبت فيه الخرافة مع الشعوذة والاساطير مع التقاليد، انستهم سماحة خالقهم ورحمته فنسوا أنفسهم، والنتيجة هي ما عشناه في ليلتنا..

سلمى عزيزتي، أعرف أن نوران تتعذب وتعاني، وكان يلزمها طبيب نفساني ليخرج ما ترسخ وتجذر بأعماقها، لكن ما تحياه من ضغوط التقاليد، وما يمطرق راسها يوميا من طقوس ووصايا يحولها الى أنثى سلبية راضخة بلا اعتراض، والا كان عمرها الثمن..

يحس ان التي امامه غير راضية عما يقول وان خوفها عليه اشد من اثر ما بلغها عن المسماة نوران، تقول:

ـ ساتركك لضميرك ـ يا سعد ـ وعليك أن تتصرف بسرعة وارجو ان ما حدث الليلة يبقى بيننا، وثق اني لست مستعدة أن أتركك ولوكان عمري قربانا لانتزعتك مما لا اعرفه عنك..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

القسم الثاني، الفصل (5) من رواية:

غابات الإسمنت

***

في تلك الليلة وصلتُ قبل ساعة.

حسبت حساب الزمن، وهيّأت لي مكانا آمنا لا يخطر على بال أيّ من المحتفلات.

اختبأت في المكتب.

أحكمت إغلاق الباب، كنت أتابع ما يجري في الطابق الرابع.

حالما سمعت صوتا عند باب البناية الرئيس، بدأت أستعدّ للتصوير... في البدء دخلتْ ابنة السيد ذي الوزارة غير السيادية، تحمل بيدها سلّة تبعث حركة مكتومة، وحقيبة محشوة تبدو خفيفة الحمل، ثم أعقبتها حركة ما لعاملات خدمة مطاعم دخلن بأطباق وقدر كبير، ثم خرجن ولم يعدن، بعد ذلك تقاطرت المدعوات تباعا.

ابنة السيد وزير وزارة سيادية، ابنة مدير عام السفر والجنسية، حفيدة رئيس أركان الجيش، لم أكن أعرف الكثير منهن، غير أن ابتسام أخبرتني بوظائف آبائهن، وقالت لي:

قسمًا بالله، إن كنّ سيمارسن الجنس مع بعضهن، سوف أعدم تلك المشاهد، لأنهن خلقن بهذه الصفة؛ لكن إذا كان الأمر غير ذلك، فسيكون المشهد الاحتفالي عند الأمن الوطني.

لم أستهجن قطّ قولها، فحبيبتي لا تناقض نفسها، ولا تسلك سلوكا لاتطبّقه على نفسها، فهناك أمور وأحداث غير الحب والحياة الشخصية، يمكن أن نراقبها ونتدخل فيها من غير أن نشعر بالندم وتأنيب الضمير.

ومثلما توقعت،

لم يكن تصرفهن بدافع مَثلي.

وقتها أكبرتُ حبيبتي ابتسام التي تقدّر خلقة الله، نحن أحرار في أن نحب، والحب شيء مقدس عندها، لم تنتهكني أو تفرّط بي، فلمَ أفرط بها؟

أراها تغامر بكل شيء من أجلي، ولو كنّا في مجتمع أوروبي لأعلنتْ انتماءها لي؛

كان عدد المحتفلات ثمانية من بنات الطبقة الراقية، التي تتحكم باقتصاد البلد وجيشه، وكان من بين المدعوات شابّة شقراء في الثامنة عشرة من عمرها، تتكلم لهجة غير لهجتنا، وقد عرفت أنها ابنة السيد رئيس غرفة التجارة الذي قضيت ليالٍ في شقته وأنا سجينة... ابنته من زوجته الأجنبية.

آخر من قدِم كانت الميساجست الآسيوية، ويبدو أن نرجس بنت السيد ذي الوزارة غير السيادية، أدارت كل شيء بإحكام، بدءًا من أولى القادمات، وانتهاء بآخراهنّ، وهي الميساجست، لأكتشف بعد ذلك أنّ الوضع الترتيبي جاء لغرض روحاني.

نعم هناك سمو من نوع آخر.

سمو بطريقة أخرى؛ لكنه يتعارض مع مجتمعنا ولا بدّ من أن تطّلع عليه ابتسام.

وبدخول "ميري" أغلق الباب الرئيس وبدأت مراسم الاحتفال.

لفّتْ "نرجس" في الشقة، وأطلّت من النوافذ، ثمّ أغلقت الستائر لئلا يلمح أحد في الخارج، أو يسمع بعضا من الاحتفالية المهيبة، كنّ يضحكن ويلعبن، وتخرج كل واحدة من حقيبتها قناعًا غريبًا؛ تعدّدت الأقنعة، واختلفت أشكالها، قالت "نرجس":

أنتِ تعنين الرياح، وأنتِ تحملين اسم الماء، أنتِ الشمس، أنتِ الوحوش، وأنا الصدى، منحت نفسها والأخريات أسماء، احفظن أسماءكن سترافقكن إلى الأبد؛ وفي المستقبل عندما نحتفل ستخاطب كل منا الأخرى باسمها الطبيعي، والتفتت إلى"ميري" الميساجست وقالت:

أنتِ ممثلة ربنّا الشيطان.

صاحَ ما في السلة... فعرفتُ أنه ديك أُحضر لغاية ما، فربّتت "نرجس" على السلة وصاحت:

لا تتعجّل ستكون فينا!

مسكتْ "ميري" من يدها وأجلستها عارية على كرسي وسط الصالة:

ـ أنتِ من الهند؟

ـ نعم.

ـ جئتِ من تناسخ الأرواح؟

ـ ماذا؟

صاحت الريح حفيدة رئيس الأركان: reincarnation

فقالت بلكنة محببة وابتسامة: نعم

ـ والسحر... أنتِ من عالم السحر.

ـ نعم.

ـ لذلك اخترناكِ لتكوني ممثلة لسيدي ومولاي صاحب الجلالة الذي لم يسجد لأحد قط، ممثلة لسيدنا الشيطان، ومرّرت يدها على صدرها: جلّ اسمك يا من رفضت أن تسجد لغير الله، وإن كان أبانا الذي هو من التراب.

الوجه الأرنب قرعت طبلًا ثلاث مرات، فوقفن في صف واحد وبيد كل واحدة كوب، وتلت وجه النمر بيان الجماعة بلحن متتال ذي نغمة حادة:

ما دمتِ قد جئتِ من الهند بلد السحر وتناسخ الأرواح، فإننا جعلناكِ ممثلة لسيدنا ومولانا الأبدي الأزلي الشيطان.

فأومئت الميساجست برأسها، ومسكتْ الديك من رقبته: الآن نذبحه لنشرب دمه.

بجرأة صارخة حزّت رقبة الديك، فتساقط دمه في الوعاء البلاستيكي العريض... وحملته وجه النمر وهو يركل برجليه إلى المطبخ، وسرعان ما رجعت وهي تحمل إناءً زجاجيًا مملوءا بالماء سكبته على الدم، وانضمّت إلى آخر الصف؟

قالت الميساجست: تقدمن؛ وَضعن الأكواب على الأرض، وتجرّدن مما يرتدينه باستثناء الأقنعة، ظهرن عاريات تماما.

راحت العاملة الميساجست تغمس فرشاة بالدم وتمررها على سرّة كل من يأتي دورها، ثم تضع قليلا من الدم في الكوب فتشربه صاحبتهُ بلّذة متناهية.

حتى انتهين من آخر كأس؛ وآخر من شربت هي الميساجست التي اختاروها لتكون ممثلة الإله الشيطان، وقبل أن تخيّم أية لحظة هدوء، طلبن منها أن تغني باللغة الهندية، فأخرجت ذات وجه النمر قناعا وقالت:

هذه أخواتي في الشيطان، كلمات الأغنية، أخرجن أوراقكّن واقرأنها بصوتٍ عال، وستغنيها لنا بصوتها ونحن نعزف، فرتلنّ:

أين تمضين يا روحي بعد أن تفارقي جسدي.

سيجعلك الإله الشيطان.

سيدي ذلك الذي في الأعلى وفضَّل أن يكون في الأسفل.

معنا وقريبًا منّا.

سيجعلك في وردة أو بقرة أو وحش ضار.

أي شيء كان.

لكن لا تخافي، لن يجعلك تتعذبين طويلًا في مكان واحد.

بدأن ينقرن بالدّف والطبل، والميساجست الهندية تغنّي بصوتٍ شجي، وهنّ خاشعات تكاد الدموع تنهمر من عيونهن.

وكنت أراقب حركتهن بفيض من الدهشة والاهتمام.

أنصت لخشوعهنّ.

أتساءل وعيناي لا تفارقان الشاشة: أهو تنظيم جديد أم ديانة جديدة؟

كيف استوردنها وبأية طريقة وصلت إليهن؟

دهشة تلبستني منذ بداية الاحتفال حتى نهايته...

تُرى ما سبب إقدامهن على ممارسة هذه القبائح بطقوس ومعتقدات غريبة رغم أنهن بنات ذوات؟

هل هو الترف الزائد؟ أم الفراغ العاطفي؟ أم الوصول لدرجة مبالغة من القناعة بأن الرب يجب ألا يظلم مخلوقا مهما كانت إساءته؟

ورجعتُ لنفسي أحدّثها: وأنتِ ما تفسيركِ للقبائح التي تمارسينها مع سيدة مثلكِ؟

لكنهنّ يمارسن معصية وشركا... بينما أنا أمارس حقّي في الحب دون خوف.

لا تختلفين عنهن بشيء، ولا تختلفين عن أخريات يبعن أجسادهن وقلوبهن مقابل المال، أو اللائي يقنعن أنفسهن بالشرف بعلاقات مشبوهة تحت مبدأ التضحية من أجل الغير، جميعكن بنات هوى وعتمة وضلال.

بل جميعنا ضحايا سلطة ذكورية عفنة وقوانين قاسية ومنغلقة.

تبريرات هشّة لسلوكيات مقيتة، ما أتعسكّن من نساء.

معظم الأحيان أقنع نفسي أنني لستُ على خطأ.

انتبهت من حديثي العقيم هذا مع نفسي، على صوت "نرجس" وهي تعلن انتهاء حفلة الليلة.

انتهت حفلتهن في وقت متأخر من الليل، وعندما غادرن بقيتُ أتربص ساعة حتى تأكدتُ من مغادرتهن تمامًا، ثم خرجتُ من المبنى.

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

هناكَ

على ساعدها

يغفو الفراتُ

ونغفو

في احضانها

لنراودَ الحلمَ

أنواراً

تفيضُ من الوجناتِ

أرضُ النُّبوءاتِ

وبلسمُ الشَّوقِ المحنَّى بترابِك

هناك

على صدرها

زرعنا وشوشاتِ الهوى

وعبَقَ الطُّفُولةِ

وابتساماتِ الصبّا

هناكَ

نخيلُها الغافي

على أكتافِ العزِّ

يحرسُ الضِّفافَ

كرمشِ حسناءَ

أبدَعها الربُّ

بكلِّ قداسةٍ وبهاء

هناكَ

عانقها الشَّمسَ

حين هامتْ

بأحضانِ فراتِها

وعانقتِ الموجَ

وتاهتْ

ترشفُ الصَّباحَ

إشراقاً

يحملُنا على ضفافِ الشَّوقِ

إلى سيَّدةِ التَّكوينِ

***

سلام البهية السماوي - ملبورن

من ديوان - بقايا حلم

مُهْدَاةٌ إِلَى الشَّاعِرَة اللبنانية: سميرة غانم

أُشَاهِدُ أَكْوَانَ الْوَفَاءِ بِمُقْلَتَيْ

كَ عِزًّا بِفِكْرِ النَّاسِكِ الْمُتَشَدِّدِ

*

أَمَاناً وَأَحْلَاماً وَطَيْفُ مُوَاعِدٍ

وَآمَالُ قَلْبٍ فِي الْوَفَاءِ مُعَوَّدِ

*

تَشُدُّ حَيَائِي نَحْوَ حُبٍّ يَقُودُنِي

لِدُنْيَا مِنَ الْأَفْرَاحِ فِي دَارِ مُسْعَدِ

*

وَأَرْقُصُ رَقْصَ الْحُبِّ فِي نُورِ بَسْمَةٍ

تُلَاعِبُ أَعْضَائِي بِفِكْرٍ مُخَرَّدِ

*

أُنَادِيكَ يَا طَيْفا بِدُنْيَايَ هَائِماً

بِعَقْلِي وَرُوحِي وَابْتِسَامَاتِ مَعْبَدِي

*

فَمَا هَمَّنِي شَيْءٌ بِدُنْيَايَ شَدَّنِي

سِوَاكَ أَمِيرِي وَاشْتِيَاقِي وَسَيِّدِي

*

أَبُثُّ إِلَيْكَ الْحُبَّ مِنْ بَحْرِ صَبْوَتِي

وَأَلْثُمُ أَشْوَاقَ النَّسَائِمِ فِي يَدِي

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

أنا أُنثى ..

نعمْ أنا أنثى!

أتألقُ بِحيائي زاهيَة

أنا الجمالُ بأنْقى صورهِ

أنا البهاءُ،

والحنانُ بمضامينهِ الحانيَة

الوفاءُ، منْ سجايا خُلُقي

وصِدقاً أنا الوفيَّةُ الوافيَة

مشاكلُ الحياةِ أنا منْ يفكُّ عُقدِها

ويجدُ الحلولَ برويّة

وللمحبّةِ والوئامِ داعيَة

قويّةٌ شخصيّتي

وإرادتي تزيّنها عزيمةٌ،

على الصِعابِ القاسيَة

وإنْ شئتَ نسمةٌ أنا

بلونِ السَديمِ قلبي

أطيّبُ النفوسَ، وأجبرُ الخواطرَ

بالكلمةٍ الشّفافةِ الدافيَة

بلسمٌ لجِراحِ الحياةِ لوْ تدْري أنا

وسعيّ الى رغدِ العَيشِ

سعادةٌ بالهناءِ والعافيَة

أُنثى أنا يا سيدي . .

شريكةُ روحِكَ بالمودّةِ والرحمَةِ

ومشاعرُ دنياكَ الجّميلةُ

بالودِ والمحبّةِ ساميَة

بسْمتي سموٌ!

والبهاءُ بأناقتي

وبالكبرياءِ والتواضعِ

ترقى شخصيّتي . .

وتسمو همّتي العاليَة

وإنْ تبحثَ عنِ الهدوءِ يا شريكي

أنا هسيسُ السُّمارِ وصفاءُ بهْجتهِمْ

أنا لونُ السماءِ الصّافيَة

هُوَيناً مِشْيَتي بلا ضجيجٍ

وحُضوري مؤثرٌ . .

وتطلُّعاتي بالقناعةِ ماضيَة

أنا الحبُّ أصلاً

يا لاهِياً بِحَصى الغدرانِ(1)

وتنسى..

أميرةَ هواكَ الراقيَة

فإذا أردتَ معْرِفتي بصدقٍ

فأنا نصفُكَ البهيُّ

رومانسيّةٌ بِمَشاعِري الساميَة

واذا نويتَ إنصافي حقاً

فكُن عادِلاً!

وانصفْ عِشْرةَ السنينْ

وروحكَ العذِبةِ الدافيَة

وإن تمعنْتَ قليلاً

ستجِدني أجملَ منْ كلِّ قِصصِ الهَوى

فأنا الشعرُ المَوزونُ بالمعنى

والمختومُ بالحِبكةِ والقافيَة

وأنا كما تعرِفُ أُنثى

ونظرةُ عُيوني معروفةٌ بسِحرِها

مُميّزةٌ بغِنَجِ الأُنثى

الى اشاعَةِ الحبِّ هاديَة

***

د. ستار البياتي

بغداد / نادي الصيد 5/6/2023

..................

1. استعارة من ديوان (لو أنبأني العراف) للشاعرة العراقية المعروفة لميعة عباس عمارة، الصادر في 1985، من قبل المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ب (121) صفحة .

لا شيء يسعدني

مطر الصيف يغازل شرفتي

صوت الشجن يباغث مهجتي

عصافير الشفق تعاتب دمعتي

بعدما عزفت لحن الرحيل

قناديل الوحدة تنير ليل غربتي

لا شيء يسعدني

أفتح نوافذ ذاكرتي

وصال الأحبة

درب من خيال

ورسائل باردة

من هاتف جوال

أنتظرها بفارغ الصدر

لا شيء يسعدني

سنابل القمح الصفراء ذبلت

منابع الماء الزلال جفت

الغابات الخضراء احترقت

الأسعار في البلاد ارتفعت

وأخلاق العباد انحدرت

لا شيء يسعدني

زغاريد نسوة الحي

في مواسم الأعراس

حكايات العشاق

يغتالها الفراق

وعلاقات الأصحاب

يغالبها النفاق

لا شيء يسعدني

آلام   المرضى والمعذبين

بكاء المكلومين والمغتربين

لا شيء يسعدني

عقارب الساعة تتسابق

وايامنا كالبرق تتلاحق

لا شيء يسعدني

سوى بسمة طفل

يحلم بغد مشرق

***

لطيفة حمانو

كنت سأعبر هذا النهر، أقف على حافته، أنظر إلى زورقي المتهالك، أهم بالركوب، أسمع صوتا من بعيد كأنني أعرفه.

صوت دافئ، يشع بالحب والحنان، تمهل يا بني، انتظرني، ألتفت إلى الوراء، كأنه طيف امي، تطير عبر السحب، تلوح لي بيديها الناعمتين، أحدق في السماء، أنسى الزورق والعبور إلى الضفة الأخرى..أركب زوارق الذكرى، أمتطي صهوة الأحلام وأرحل بعيدا....

" لم ادر كيف رحلت في غفلة من العمر، عندما تأملت في المرآة شعرت بأنني قد كبرت، لم أعد ذلك الطفل الشقي، الذي عاش محروما من طفولته، من يد حانية تأخذ بيديه في دروب الحياة المثقلة بالآهات والأوجاع....

أتذكر عندما طلبت منا المعلمة أن نكتب عن رحلة قمت بها أنت وعائلتك إلى البحر، صف لنا أجواء الرحلة معبرا عن شعورك وفرحك بها ...

توقف القلم بين أصابعي، ارتعش من هول الصدمة، ماذا يكتب ؟و صاحبه، طفل غريب، لا يعرف إلا الطريق إلى المدرسة وباب المنزل، يعيش في عزلة قاتلة، أصدقاؤه الوحيدون الذين يخففون عنه مرارتها هم الكتب، يمتطي صهوة البياض ويطير بعيدا إلى عوالم لم يرها هناك يعيش بحرية ودون خوف ولا اغتراب ...

انتهى وقت الكتابة وسلم لها الورقة ناصعة البياض..و كأنه يقول لها:

البياض كتابة، كتابة تخفي وراءها حروف الألم والفقد، البياض لغة من لا لغة له، احتجاج على فقدان المعنى، ابتسمت المعلمة وربتت على رأسه بكل حنية، شعر بالراحة وانزاح عن قلبه الصغير جبل الثلج ..

المرآة صادقة معي، تريني حقيقتي، وخط الشيب شعري، رسم لوحة ناصعة البياض عليها بقع سوداء لا تكاد ترى، يا هذا ها أنت اليوم تودع الطفولة والشباب معا، لم تعد تلك اليد الحانية تربت على شعرك، لم تعد تسمع تلك الدعوات وانت تقبل رأسها متوجها إلى مدرستك بمحفظتك الجلدية البنية اللون، فتستقبل تلاميذك بكل فرح وسرور، لقد أخذت بركة اليوم من والدتك ..

لم أعبر النهر، لقد جف نهر الحياة برحيلها، حطمت زورقي ونمت على ضفته توسدت أشواك الذكريات واسلمت قلبي لعواصف الزمن العاتية .

***

شدري معمر علي

وقصص أخرى قصيرة جدّا

في العمر بقيّة

أجدني أقف على شاطئ لا بداية له ولا نهاية. ثمّ أجدني على سلّم سفينة كبيرة يحيط بها غيم كثيف شفيف، لا تفتأ تقطّع السّكون بصفيرها المتواصل، فكأنّها تحثّني على الرّكوب... انتبهت فعرفت بعض ركّابها ولم أعرف أكثرهم... عرفت الثّعالبي وابن عاشور والدّوعاجي والشّابي والعقّاد ومحفوظ ومنيف وشكسبير وكافكا وثلّة أخرى من الكتّاب والأدباء...

فجأة أجدني مقذوفا بعيدا عن السّفينة وهاتف يلحقني:

"ليس الآن!"

**

الدُّرُّ والدّجاج

في حديقة بيتي الجديد قنٌّ فيه دجاج... وكم مرّة رأيت إحداها تحاول التمرّد على السّياج فيعلق عنقها حينا وتعلق ساقها حينا آخر لتظلّ أسيرة لسجنها المقيم...

وكان لا بدّ أن أطلق سراحها جميعا وأتركها تنعم بالشّمس والهواء وخيرات الحديقة... بيد أنّ الحلّة القشيبة بدأت تكلح مع الأيّام وصارت أرض الجنّة بورا بعد عطاء...

وهكذا أفقت من أحلامي وعرفت أنّ الدّرَّ ليس للدّجاج...

**

تجّار السّماء

اصطففت وراءه مع آلاف من المسلمين وغبت معه في ملكوت بعيد يحدوني إليه مزمار داوود الذي أوتيه... وكم كان يهزّني من الأعماق بكاؤه الخاشع عندما يتلو: "وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. "

ويُرفع عنّي الحجاب فأرى خيطا رفيعا أوّله عند البلطجيّ الأكبر وآخره عنده، مرورا بسموِّ الأمير... ثمّ أراه يرقص بعمامته ويفتي ببيع عروس العرب والمسلمين...

**

الخُشبان

جلست وراء الجمهور ورحت أتأمّل منصّةً طالما حلمت باعتلائها وأنا حيّ، قارئا اسمي مكتوبا بالخطّ العريض... وتكلّم المتدخّلون فأثنوا على كتبي ثناءً حسنا، خالعين عليّ ألقابا عظيمة لم أحلم بها وأنا بين ظُهرانيهم...

أطلقت قهقهة ساخرة، ثمّ سبحت إلى المنصّة حيث يجلس سدنتها... تَفِلتُ عليهم واحدًا واحدًا فلم يسمعوا لي ركِزا... قلت: "عَاشْ يِتْمَنَّى فِي عِنبَة. مَاتْ جَابُولُو عَنْقُودْ!"

***

لمْ تكنْ عيناكِ إلّا فتنةً

وأنا المفتونُ كم

كنتُ تقيا

فغواني طرفها في نظرةٍ

سَلبتْ عَقْلي

وما كان لديَّ

كيف لا أصبو إليها

والهوى

قد كوى الأضلاعَ

والأحشاءَ كيّا

هل يردٌّ الكوخُ

ريحاً صرصراً

أو يصدُّ الفردُ

غزواً بربريا

لم أكن يوسفَ يوماً

وأبي

ليسَ يعقوبَ

وما كنتُ نبيّا..!

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

لا أحد يُلازمك

ويُشبهُك أكثرَ من الجميع

مثلُ ظلّك

ظِلّك أنتَ

تسيرُ يسيرُ

تقفُ يقفُ

تمُدُّ يدَك يمُدُّ يدَه

يُطيعُك يُطاوعُك

رفيقُك أنيسُك

أنتَ هُو...هو أنتَ

إذا غابت الشّمس

يتخلّى عنك

تجدُ نفسَك وحيدًا

وحيدًا

يُداهمُك الزِّحامْ

فتمضِي وحدَك

بدونه

إلى الأمامْ...!

***

سُوف عبيد ـ تونس

لا أحد يدري كم من الايام مضت، وهي تبحث عن عمل يؤمن لها قوتها اليومي. ساورها القلق حين بدأت صحة والدتها تتدهور فما كان عليها سوى القبول باي عمل حتى لو كان تحت مسمى (خادمة).

وعن طريق احدى اقاربها من النساء وافقت على العمل في بيت رجل مسن يسكن في منطقة تقطنها العوائل الثرية والميسورة. كان المنزل يبدو كبيرا جدا من الخارج ربما بقدر منزلهم أربع مرات، توقفت ونظرت الى باب المنزل الكبير ثم طرقته، ففتح لها الباب رجل انيق يبدو انه في منتصف الستينات من العمر، نظر اليها وهو يقول: تفضلي، فقالت بحياء انا العاملة الجديدة رحب بها ثم دعاها الى الدخول.

أخبرها بنوع وطبيعة العمل في المنزل فلا يتعدى الامر سوى تنظيف بعض الاثاث واعداد الطعام لثلاث ايام في الاسبوع مقابل مئة ألف دينار اسبوعيا. شعرت بانه اجر مجزي لذا طلبت منه ان تبدأ بالعمل مباشرة، أشار اليها براسه موافقا. كان الأثاث في الصالة قديم وثقيل يحمل لمسات الزمن الماضي، ذكرها برائحة الأزقة القديمة، الانارة في غرفة الاستقبال خافتة، الا من ضوء ينبعث من شاشة التلفاز حيث يعرض على احدى القنوات فلما عربيا بالأسود والأبيض. لهذا الرجل مهابة واناقة ملفتة للنظر، مع أنه كان يتابعها بعض الاحيان بنظراته من حيث يجلس بمكانه المعتاد في الصالة او الاثير لديه وابدى اعجابه بنشاطها في العمل. في الاسبوع الثاني لها طلب منها ان تعد له فنجان قهوة، واحضار علبه السجائر واشار الى درج المكتب. كان قد تركها هناك منذ زمن، لان الطبيب قد منعه منها، قال لها: لا اعلم لماذا اصبحت لي رغبة في التدخين، نفث دخان سيجارته وتنهد قائلا كل شيء يزورنا كثيرا الا النسيان يأتي متأخرا. لقد توفت زوجتي منذ خمس سنوات، كانت سيدة فاضلة لم تفعل شيئا يعكر مزاجي طيلة سني زواجنا، انجبت لي ولدان هما الان متزوجان ونادرا ما يأتون لزيارتي لأنهما خارج البلاد. اعتدت العيش هنا لوحدي، قبلك عملت في هذا البيت امرأة مسنة تركت العمل لان اولادها لم يسمحوا لها بالعمل لأنها كبرت وتعاني من امراض عدة، كانت امينة وتعمل بإخلاص، رفع سبابته قائلا في المرة القادمة لا تضعي سكرا في القهوة، انا اعاني من مرض السكري، وأحيانا مزاجي يكون متعكرا، قالت: حسنا سأفعل ذلك.

انهت عملها وغادرت المنزل، كانت والدتها بانتظارها اخبرتها كعادتها عن تفاصيل عملها في ذلك المنزل مع الرجل المسن الانيق الذي ينحدر من طبقة ثرية في المجتمع. كان عليها ان تصحوا مبكرة كي تذهب وتعد الفطور لهذا الرجل قبل ان ينهض من النوم. وعليها ايضا ان تقوم بتنظيف غرفة المكتب التي كانت تحوي مكتبة كبيرة تضم المئات من الكتب وعشرات شهادات التكريم المؤطرة التي علقت على جدران الغرفة، قال لها بإمكانك المغادرة عندما تنهين عملك.

لفت نظره جسدها وجمال ضفيرتها السوداء الطويلة وهي تعاكس عجيزتها حين تروح وتجئ. سألها باهتمام: هل انت متزوجة؟ فأجابته نعم. فرد عليها على الفور وكيف يقبل زوجك بان تعملي في البيوت وانت بهذا الجمال. أطرقت بخجل، انا منفصلة، سألها هل لك اولاد، اجابت نعم بنت صغيرة فقط. طلب منها رقم هاتفها لربما يحتاجه لو حدث وجاء لزيارته أحد الضيوف، او حدث طارئ ما.

في اليوم التالي استيقظ مبكرا واخذ حماما ولبس ثيابا انيقة ووضع عطرا ونظر الى الساعة لم يبق على وقت قدومها سوى نصف ساعة، عندما مرت هذه الدقائق ولم تحضر انتابه القلق ولاحظ انه دخن عدة سكائر بينما تركز نظره باتجاه الباب واخيرا وصلت بعد طول انتظار سألها لم تأخرت؟ قالت له ابنتي مريضة وحرارتها مرتفعة ولم أنم ليلة الامس جيدا، اعتذر ولن يتكرر الامر. استغربت حين رأته بهذا المنظر وهو يضع هذا العطر وظنت ربما انه سيخرج لقضاء بعض شؤونه خارج المنزل، طلب منها ان تحضر له قدح ماء ليأخذ علاج للصداع قائلا لها اصابني الصداع بسبب تأخرك، لم تعلق على كلامه، قدمت له الماء ورات انه ينظر الى عينيها وبسرعة امسك يدها التي سحبتها بخجل واسرعت، تتوارى عن ناظريه في المطبخ، أدركت في داخلها بان نظراته لم تكن بريئة، بل انه يخفي في داخله شيئا ما يمكن للمرأة الشعور به فهو في كل الأحوال يبقى رجلا.

سمعت جرس الباب فأسرعت لكي تفتحه ووجدت رجلا في أواسط الخمسينات كما يبدو من هيئته سئل عن الرجل المسن فأخبرته بانه موجود، اتضح لاحقا أنه أحد اقاربه وهو يتردد عليه بين الحين والاخر لكي يطمئن عليه، جلسا معا وتبادلا الحديث وقدمت لهما القهوة، اختلس الضيف النظر اليها ورأى كما يبدو التغيير الذي طرا على المنزل وعلى الرجل المسن. وبعد ان جال بناظريه في ارجاء المنزل قال له: تبدو بخيركما اظن والمنزل ايضا دبت فيه الحياة. قال له نعم هذا بجهود مدبرة المنزل الجديدة انها تعمل وتطهو بشكل رائع، اطمئن لم أعد وحدي في المنزل.

اصبحت تلاحقها الشكوك والمخاوف من ذلك الرجل خصوصا بعد ان امسك بيدها وحدثت والدتها عن مخاوفها، التي قالت لها لا تدعي الغراب ينعق برأسك ولا تسيئي الظن بالأخرين، فربما حصل الامر بالمصادفة ولاشيء غير ذلك، فانت بعمر ابنته، نظرت الى الساعة لتجد انها اصبحت في الثانية بعد منتصف الليل.

عندما دخلت الى المنزل في الصباح كانت رائحة العطر تملا المكان و الرجل المسن في مكانه وبعد ان القت بتحية الصباح طلب منها ان تعد الافطار وتجلس معه على المائدة لكي يتحدث اليها بأمر مهم، فكرت بأمور شتى وذهب بأفكارها بعيدا والتزمت الصمت وعندما جلست كما طلب منها نظر الى وجهها وقال لها: لقد حلمت بالأمس حلما غريبا اود ان تسمعيه بدون تشنج، لقد رأيت أنك تنامين الى جواري تحت غطاء واحد، كانت صامته وتشعر بالذهول لجرأته فأكمل حديثه معها، لم لا يصبح هذا الحلم حقيقة؟ أنت تعرفين بان وجودك بدد وحدتي واعتدت على الحديث معك وتناول الطعام الذي تعديه، لا تفكري بفارق العمر بيننا انه لن يقف عائقا، سأهبك المبلغ الذي تطلبينه، شعرت بالصدمة وتذكرت احدى صديقاتها التي اصبحت ملعبا لعبث الرجال وضاعت الى الابد.

دفعها كلامه الذي لزم الامر مها بقسوته الرد عليه بغضب مبطن بالتهديد. اهل تظن ان حاجتي للعمل تجعلني استسلم لرغباتك المريضة، واموالك ستجعل مني سلعة رخيصة، لست عاهرة أنا امرأة أكسب لقمة عيشي بكدي ؟.

وعموما سأجعل الجميع يعرف حقيقتك ايها المسن. تفاجئ بردة فعلها ونهض من مكانه باتجاهها وقال اسمعيني جيدا يبدو أنك لم تفهميني بشكل جيد وامسكها من يدها بقوة وحاولت الافلات منه فأمسك بقميصها وبحركة سريعة وقوية مزق قميصها فظهر صدرها الذي يختفي خلف ملابسها الداخلية الخفيفة ودفعها في هذه الاثناء بقوة لكي تسقط على اريكة قريبة وسقط فوقها بثقل جسده ورفع تنورتها وهو ينظر الى بياض ساقيها ويلهث وقال لها سأعطيك كل ما تطلبين لا تفكري بالمال ستكونين السيدة في هذا المنزل، لا تخافي، لا تقاومي، قلت لك لا تقاومي، وصفعها بقوة افقدتها تركيزها واتزانها وشعرت بالضعف امام قسوة هذا المجتمع، قال انه سيقول عنها انها حاولت سرقته ويرميها في السجن، الوقت كان يسرقها ويضعف من مقاومتها له، خرجت من البيت منكسرة ومهزومة وباكية تلعن حظها السيء.

تركت العمل لديه وعندما سألتها امها قالت لها انه ذهب لكي يعيش مع احد أولاده، وبعد مرور ثلاثة ايام زارتها المرأة التي وجدت لها العمل وشعرت بالريبة من زيارتها وبعد ان تبادلت معها حديثا قصيرا قالت لها اظن بان العمل في بيت الرجل المسن كان جيدا وبسيطا ولكنه الحظ السيء الذي حرمك منه، شدها كلام المرأة التي واصلت حديثها بالقول رحمه الله كان رجلا نبيلا وشريفا ورحيما فليرحمنا الله، وكما يبدو فان الرجل قد اصيب بنوبة قلبية مفاجئة ولم يجد من يسعفه، ووجده اقاربه الرجل الخمسيني جالسا على مقعده الاثير كما قال حينما كسر الباب ودخل المنزل وقد سقطت يده اليمنى وبدا هادئا وكانه يستمع للموت اخيرا يتلو عليه نهايته.

***

نضال البدري / العراق

ابتدأت القصة ضحك بلعب. سألتني ابنتي رماح ونحن نقترب من عيادة الطبيب:

- هل أنت واثق من أنني سأطول؟

- بالطبع ستطولين، أنت ما زلت في الرابعة عشرة. أنا واثق من أنك سوف تطولين، قرأت عن هذا في كتاب طبي، الإنسان يطول طوال أيام حياته لكن بتباطؤ يقلّ تدريجيًا حتى يتوقّف أو يكاد في مرحلة مُتقدمة من العمر. ثم إنك لست قصيرة إلى حدّ مُقلق.

- أبي لا تَقُل هذا. أنت تهتم بالكتب. لست طبيبًا على أية حال. كم أحبّ أن أطول ولو بضع سنتمترات، يقولون إنني جميلة لولا أنني قصيرة قليلًا.

أرسل نظرة أبٍ مُحبٍّ طالما أرسلتُها إليها، أقول في سرّى: كم أنت جميلة يا رماح. أغمض عينيّ أراها وهي تقف قُبالة مرآة والدتها في غرفة النوم، كان هذا قبل أيام، كانت تمشّط شعرها، ما إن فتحت عيني حتى رأيتها تمشّط شعرها الأسود المسترسل، كم أنت جميلة يا ابنتي، الحمد لله أنك ولدت لنا، لتضحي قمرًا مُقيمًا في بيتنا. أتصوّرها ترشّح نفسها ملكةً للجمال فيدق قلبي بسرعة غير معتادة.

أسرح في أفكاري تلك، تجلس هي إلى جانبي على مقعد الانتظار، لا يُخرجني من تجوالي في عالمي الرحب الجميل سوى انفتاح باب الطبيب. رماح؟ رماح هنا؟ نرد، أنا وهي بصوت واحد: نعم رماح هنا.

يدعونا الطبيب للدخول، نعم يا رماح، تريدين أن تطولي؟ سيكون لك هذا. لا تقلقي. هناك أكثر من طريقة لتطولي. لا تقلقي. أرى على وجهك الجميل قلقًا. لا تقلقي لديك والد كاتب مشهور وتقلقين؟ لا تقلقي. الآن سأجري لك بعضًا من الفحوص اللازمة، سأصور يدك، كي نفحص ونقارن بعد فترة. هناك فحوص روتينية سنجريها كي نوفّر لك الإمكانية لأن تطولي كما تشائين.

يطلب الطبيب منها أن تسترخي على سرير الفحص الطبّي، تسترخي هناك. يشرع في إجراء الفحوص لها. بتوقّف. يواصل. ثم يعود للفحص، يهز رأسه.

يتوجّه إليّ وهو يحمل بيده سماعَته الطبية. هل سبق وقمتم بفحص لها؟ أبقى صامتًا لا أردّ.. أريد أن اعرف سبب السؤال، يوجد خشّة في قلبها. هل سبق وعلمت بها؟

خشّة؟ في قلبها؟ أتوه في عالمٍ من الصمت. لا أفوه بأية كلمة. أخشى أن يقول لي كلامًا مُرًّا لا أتحمّله فأسقط من فوري. أشعر بقلبي يغادر موقعَه. يخرج ..يبتعد بضع سنتمترات عن صدري. أحضن قلبي بيدي، حتى لا يسقط على أرضٍ لا ترحم. أغمض عينيّ. أغلق عالمي على ما حلّ به من خراب. لا أريد أن اسمع أكثر. لا أريد ..لا أريد. لن أسألك أيها الطبيب المُدواي المزيد. ما دام الأمر وصل إلى القلب لماذا أسألك المزيد. أرسل نظرة آسية إلى رماح أما كان بإمكانك أن تقبلي البقاء قصيرة وتسليم أمرك لطبيعتها، أما كان بإمكانك يا روحي أن تقومي بكلّ ما قمت به؟ آه لو لم أوافق وأصطحبك إلى الطبيب.. آه.

أحمل قلبي بين يديّ. أمشي وتمشي في الأرض، تمشي رماح إلى جانبي، كأنما لم يحدث شيء، وكأنما الطبيب لم يفجّر قنبلة ذرية في وجهى، أوصل رماح إلى البيت. وآخذ في الجري، أجري وأجري وأجري، أردّد بصوت يكاد يختنق، إجري إجري إجري، ودّيني قوام وصلني، دا حبيب الروح مستني. نعم يا عبد الوهاب دا حبيب الروح مستني.

أركض في الشوارع، لا أستوعب ما حصل. لا أريد أن أستوعبه. خشّة في قلبها يا دكتور؟ لم تأت الخشّة إلا في قلبها؟ خلص انتهت رماح؟ انتهى الحُلم الجميل؟ وصلنا إلى البدر في اكتماله ليفارقنا؟ خلص انتهت الرحلة بهذه السرعة؟ وغدًا لن ترسل رماح شعرها قُبالة مرآة والدتها ولن تكون بيننا؟ يمكن أن يحصل هذا؟ بهذه السرعة؟ بهذه السهولة يحصل الكدر؟ أما كان أفضل لي لو لم أرافقها إليك؟

أفتح عينيّ لا أرى سوى العتم. أركض في الشارع وقلبي بين يدي.. لا يريد أن يعود إلى موقعه، لا أرى سوى الصحراء والقحل حولي. ها أنذا أصل النهاية.

ماذا بإمكاني أن أفعل أنا المهجّر المُعذّب؟ ماذا بإمكاني أن أفعل سوى الركض، فلعلّي أصل إلى حلّ؟ تطلّ الحيرة من عيني. يراها الأحباء. يتساءلون ويمضون. وماذا يفيد لو أنني أعدت أمامكم ما قاله الطبيب، هل سيتغير شيء؟ ستشفقون علىّ؟ لا أريد الشفقة، إذا كان بإمكانكم أن تزيلوا الخشة من قلب رماح، سأتحدث أما إذا كنتم عاجزين مثلي، فلماذا أفتح دفتر قلبي وأبوح بسرّ حزني؟

أعود في ساعة متأخّرة من الليل، أرسل نظرة إلى وجهها وهي نائمة في غرفتها، آه يا ملاكي ماذا حلّ بك وبي، غدًا أو بعد غد قد أبحث عنك فلا أجدك لأنك غادرت إلى عالمك الآخر.. عالم الظلام، ماذا ترى بإمكاني أن افعل وهل أنا أشطر من شاعرنا المتنبي؟ المتنبي حين وقف عاجزًا أمام حالة مشابهة، فخاطب عزيزته الراحلة قائلًا: هبيني أخذت الثأر فيك من العدا فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى؟ قاتل الله الحمّى، وقاتل الله الخشّة حين تغزو قلب من نُحب وتهوى قلوبنا.

أصعد في الليل إلى تلّ الصرخات، لعلّ أحدًا يستمع إلى نداي، أصرخ يردّ الصدى. ويل لهم قالوا لي إقرع يُفتح لك هذا أنا أحمل قلبي وأقرع، إلى متى سيطول هذا العذاب؟ أما آن لي أن أرتاح؟ أما آن لي أن أفيق لأجد أن ما كان لم يكن سوى وهم، كابوس مزعج مضى ومرّ، كما يمرّ الظلام على البسيطة؟ أما آن؟

يمرّ الليل الأول وأنا اصرخ، أعرف أن هناك من سيستمع إلى صراخي، والله انني أعرف لكن إلى متى سأنتظر؟ وما هو المطلوب مني؟ ما هو المطلوب منّي لأخرج بأقل ما يمكنني من خسارة، كما فعلت دائمًا؟ أنا الرجل المهجّر، أعرف حين أشعر بالخسارة أنني يجب أن أدفع نصيبي فيها. قد يكون هذا النصيب من المعرفة موروثًا. أبي حينما أدرك أن الخسارة طرقت أبوابه، وأن اليهود جاؤوا بدبّاباتهم وطائراتهم ليستعيدوا ارض الميعاد من سكانها الأوباش العرب، سلّم أمره، ومضى يضرب في أرض الله الضيقة، هاربًا من اليهود. لم أكن حينها ولدت، لهذا لم أره، أما اليوم وقد أضحيت كاتبًا وذا خيال خصب كما يقول معظم المحبّين وهم ليسوا قلة، فإنه بإمكاني أن أتصوّر أبي وهو يمسك بيد أخي الأكبر ويستحثه قائلًا هيّا يا ولدي لننجو بجلدنا، البلدة ذهبت على الأقل نبقى نحن حتى لا يضيع الحلم ويتلاشى في عتمه. لا لن أخسر المعركة يا أبي. سأبذل مثلما بذلت سأحمل رماح بأسناني، سأطير بها إلى عوالم لا مرض فيها ولا احتمالات موت، لن أدع الموت يأخذها منّي كما أخذوا منك بلدتك، سأطير بها. لكن أين ستطير يا ولدي؟ السماء ضيّقة. سأطير يا أبي هذا الضيق في سمائنا سيكون كافيًا لأن أحلّق بها وأطير عاليًا. لا تطر يا ولدي، الأفضل لك أن تواصل صراخك على تلك.

أعود في الليل التالي. حاملًا قلبي وحزني، أعود إلى الصراخ، لا أحد يردّ، في الليل الثالث، أواصل الصراخ، يـُطلّ جنيّ من سُدف العتم، لقد أقلقتني. السمك نام في البحر وأنت لم تنم؟ ماذا تريد؟ الخشّة في قلب رماحك تصيب ثلاثة أرباع الأطفال، عندما تطول ابنتك وتكبر قليلًا ستذهب الخشّة وستولّي أثارها، نم الآن ودعني أنام، ثلاث ليالٍ وأنا لا أنام، دعني على تلّتي أهيم.

تنتابني سكتة مَن نفد بجلده، مَن أدرك أن الخسارة المحتّمة باتت وراءه وليس أمامه. يعود قلبي إلى موقعه بين أضلعي، أمشي بسرعة أسرع أكثر فأكثر تنبت لي أجنحة فأطير باتجاه البيت، أقف على شبّاك غرفة رماح، أرسل إليها نظرة استطلاع. أراها تبتسم، ما أجمل البيت بلا خوف أو مرض.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم