آراء

ملف: رجل الدين: لماذا؟ رائد عبد الحسين السوداني

وبروز حركات إسلامية (شيعية وسنية) على خط المواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية الأمر الذي أدى إلى تحول الصراع لصالح العرب والمسلمين، كما حدث مع انتصار لبنان في عام  2000 بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان ولأول مرة تحت ضربات عسكرية وليس بفرض شروطها على العرب كما حدث مع باقي الحكومات العربية، والانتصار الثاني في حرب تموز عام 2006 في لبنان أيضا والذي تحولت فيه المدن (الإسرائيلية) إلى أهداف عسكرية وقد أجبرت الصواريخ اللبنانية سكان المدن الإسرائيليين إلى النزول للملاجيء طيلة أيام الحرب ولأول مرة في الصراع العربي الإسرائيلي وكانت القيادة في حرب التحرير وفي حرب التصدي ـ لو صح التعبير ـ لحزب الله اللبناني ومعه حركة أمل بقدر أقل والجميع يعرف أن مؤسس حركة أمل السيد موسى الصدر،وبنفس روحية الدفاع عن المباديء جابهت حماس الفلسطينية الهجوم الإسرائيلي على غزة ذات الكثافة السكانية العالية في 2008-2009 دون أن يحقق العدو الإسرائيلي هدفه في كسر شوكة حماس ولا حتى العثور على الأسير الإسرائيلي (شاليط) والذي بُدل بمئات الأسرى الفلسطينيين لدى قوات الاحتلال فيما بعد في خطوة جريئة من حماس سبقها في هذا الأمر حزب الله بعمليات تبادل أسرى كان فيها للمفاوض العربي الإسلامي روحية اتسمت بالذكاء والمطاولة والصبر ـ استثني هنا حركات ارتبطت ولائيا وتنظيميا بالقاعدة وأسامة بن لادن ـ

في مثل هذا التحول في مجريات الصراع كان لابد لآلة الإعلام العالمية المتمثلة بإمبراطوريتها الأمريكية أن تشمر عن سواعدها في دق ناقوس الخطر من (الرجعية) القادمة من القرون الوسطى والمتمثلة بحكم رجال الدين ومحاولة إعادة الحياة إلى عهود الظلام والتخلف والاستئثار بالحكم والادعاء إنه حكم الله ،وكانت أول خطوة هي ضرب الثورة الإيرانية من الداخل وفي بدايتها تمثلت بقتل العديد من رموزها مثل آية الله مطهري وبهشتي والرئيس رجائي وباهونار وغيرهم كثير بالتزامن مع تصعيد التوتر مع الجار (العراق) تحت حكم صدام حسين الذي شن حملة دعائية في باديء الأمر ضد الثورة وأيضا حملة بوليسية وبيد من حديد ضد شيعة العراق عموما والحركات الإسلامية الشيعية بحجة العمالة لإيران صاحبتها حملة تسفير كبرى في عام 1980ضد الكرد الفيليين وبطبيعة الحال كانت بسبب تشيعهم، وقد شمل التسفير العديد من الأسر العربية الشيعية لنفس الغرض، كما هاجر مئات الألوف من الشباب إلى خارج العراق لمعارضتهم توجه حكم صدام حسين الذي بدأ بشن حرب ضروس ممولة من قبل حكومات الخليج العربية وبدفع أمريكي بزعم الدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية متمثلة بالعراق ضد الأطماع (المجوسية الكسروية) متمثلة بإيران وقد أصدر صدام حسين الأوامر لقواته بالاندفاع نحو الأراضي الإيرانية وفعلا احتلت منها ما يساوي مساحة لبنان ولا أريد أن أستفيض في هذا المجال فالجميع يعرف إن صدام حسين قد أنهى الصراع باعترافه بما تطلبه إيران في رسالته للرئيس رفسنجاني بعد غزوه الكويت عام 1990.

أما بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003فقد تلقت القوات الغازية ضربات شديدة في جنوب العراق لاسيما من قبل جيش المهدي التابع للتيار الصدري وكذلك في المناطق الغربية من العراق من حركات لم ترتبط بالقاعدة تكبدت فيها القوات الأمريكية خسائر فادحة وقد اعترفت الحكومة والأجهزة الأمريكية بحجمها الكبير، في هذا الخضم بدأت تتسع دائرة السؤال عن علاقة رجل الدين بالسياسة وأحقيته بالعمل السياسي والحكم لاسيما إن القاعدة أو ما نسب إليها من أعمال أعطت المبرر لآلة الإعلام لتشويه صورة رجل الدين والدين عموما وبدأت تتسع معها استخدامات مفردة الدولة المدنية وعلاقة رجل الدين بها وهل هو مؤهل فكريا في أن يدخل في مضمارها أم لا، ولإعطاء الموضوع حقه لا بد لنا أن نطرح سؤالا مهما هو: ما مفهوم الدولة المدنية بصورتها الظاهرة لا بفلسفتها العميقة؟

فإذا كان المفهوم يعني فيما يعنيه الحكم على مبدأ فصل السلطات والاحتكام إلى الدستور الذي يتفق ويوافق عليه أغلبية أبناء الشعب فلنا وقفة معه وبمثالين، الأول قريب منا وفي العراق، فالجميع يعرف إن دستور عام 2005 كان المطالب الأبرز في تشريعه والموافقة عليه من قبل الشعب هو المرجع الأعلى السيد آية الله العظمى علي السيستاني الذي اعتبره أغلب السياسيين العراقيين صمام الأمان في هذا البلد الذي أدخله الأمريكان في معمعة الصراع الطائفي قبل وبعد الاحتلال، إن كانت في عدم موافقتها على إسقاط صدام حسين من قبل قوى الشعب العراقي المختلفة علما إن هذا الحاكم وحزبه القومي العلماني (حزب البعث العربي الاشتراكي) مارسا النهج الطائفي بكل أبعاده، أو من خلال المؤتمرات للمعارضة العراقية التي رعتها أمريكا وفيها أصرت على التقسيمات الطائفية والعرقية لهذه القوى بدءا من مؤتمر بيروت وصلاح الدين بعد إخراج صدام حسين من الكويت وانتهاء بمؤتمر لندن أواخر عام 2002 الذي كرس المنهج الطائفي وقد طبق فيما بعد في مجلس الحكم الذي شكله الحاكم المدني الأمريكي (بول بريمر) على أساس طائفي وقد صاغ بعد ذلك (بايدن) نائب الرئيس الأمريكي أوباما عندما كان سيناتورا في مجلس الشيوخ فلسفة تقسيم العراق على أساس طائفي وقومي .

المثال الثاني هو من إيران، فبعد انتصار الثورة فيها لم يُفرض على الشعب الإيراني حكما فرديا مطلقا كما يتصور البعض أو يصور بل تم التصويت على دستور حاز على أغلبية مطلقة قسّم السلطات وفصل فيما بين القضاء والتشريع والجهاز التنفيذي أما مبدأ ولاية الفقيه فلا أستطيع التعرض له من الجانب الديني لعدم إلمامي بفلسفته لكني أريد أن أسأل من الناحية السياسية حول مبدأ حق نقض الولي الفقيه في المصادقة وعلى حق النقض على التشريعات الصادرة من البرلمان وأقول ألم يتمتع الرئيس الأمريكي بالدستور بصلاحيات قد تفوق صلاحيات الولي الفقيه في إيران وله حق نقض قرارات الكونغرس الأمريكي؟ أما مسألة الدين في الحياة العامة فلماذا لم يتم التعرض لرعاية الكنيسة البروتستانتية من قبل ملكة أو ملك بريطانيا والذي ينظر إلى صاحب هذا المنصب بروح تقديسية؟ أما الحكم كظل الله فقد مارسه الرئيس الأمريكي بوش الابن بكل أبعاده فهو قد رشح للرئاسة بإيحاء من الله وغزا العراق بأمر من الله وقد وصل به الأمر بادعاء إنه ظل الله في الأرض، كما إن الدين في أمريكا هو المحرك الأساس للسياسة، كما هو في فرنسا الرسمية والشعبية التي تدعي إنها راعية الكاثوليكية في العالم. ويجب أن لا يفوتنا الحديث عن إسرائيل سواء اعترف الفلسطينيون بها كدولة يهودية أم لا فهي قامت على أساس ديني ودعمها من قبل أمريكا البروتستانتية المؤمنة بالتوراة والإنجيل معا قائم على أساس ديني وليس على أساس إستراتيجي كما يتصور البعض. فالقضية قضية صراع وإدارة دفته فرجل الدين الثائر أمثال أحمد ياسين وحسن نصر الله لا يساوم على قضيته وإن توقف القتال فالصراع على مساحات أخرى يكون على أشده على العكس من العلماني الذي يعطي دون مقابل في سبيل الكرسي والحكم له ولأسرته والأمثلة عديدة على الأقل من أنور السادات إلى صدام حسين، وهناك ملاحظة تخص التاريخ الإسلامي، ألم يكن الرسول الأكرم (صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام ) هو من أسس مفهوم الحكم القائم على الشورى رغم إنه نبي؟ ألم يكن الإمام علي عليه السلام يقرأ الرسائل المتبادلة بينه وبين معاوية في المسجد لإشراك الناس ومشاورتهم في أهم قضية تواجه الحاكم؟ ألم يكن القضاء منفصلا في تاريخ الدولة العربية الإسلامية؟ اعتقد إن الدين هو محور أساسي في الحكم الآن وقبل الآن سواء لدى العرب أو الغربيين رغم ادعائهم العلمانية. أما سؤالكم: هل يحق لرجل الدين أن يحكم؟ فأقول جوابا: لماذا يحق للعسكري أن يحكم وللطبيب أن يمارس السياسة وللمهندس أن يترشح لمجلس النواب أو غيره، ولماذا لا يمارس هؤلاء ومن بينهم رجل الدين السياسة والحكم تحت مراقبة الشعب والقوانين والمجالس المنتخبة؟

ولو أجرينا مقاربة بسيطة أو جردة حساب صغيرة لوجدنا الحقائق والنتائج ليس في صالح العلمانيين لاسيما في العراق ومنذ تشكيل أول حكومة في ظل حكم فيصل الأول وحتى سقوط العراق بيد الاحتلال الأمريكي علما أن حكم العراق في هذه الفترة باستثناء عبد الكريم قاسم رفع راية القومية العربية كشعار وهدف لحكمه ومتسترا بها ليمارس حكما طائفيا وقوميا شديدا يرفض الآخر ويقصيه ويهمشه إلى أبعد الحدود يقابله رجل الدين الثائر ضد التبعية للمحتل من خلال اتفاقيات جائرة كما حدث في 1922 متمثلا في معارضة الشيخ مهدي الخالصي وباقي المجتهدين الذين تعرضوا للإبعاد من قبل فيصل الأول بزعم تهديدهم لتطلعات القضية العربية وهكذا جرت الأحداث التالية وصولا إلى صدام حسين الذي قابله المفكر محمد باقر الصدر والثائر محمد محمد صادق الصدر الذي فضح العلاقة بين حكم البعث وأمريكا ولذلك رفع شعار كلا كلا أمريكا مبينا أن العدو الأكبر للعراق هو أمريكا وإن سلاحها الأمضى في هذا البلد الطائفية فرفضها ووجه أتباعه إلى التوجه لمساجد السنة والصلاة خلف أئمتها،ولم يرق ذلك لأمريكا وجنديها صدام حسين وكان لا بد لهم من تصفيته وفعلا اغتالوه في 19/2/1999.

إن أكبر الجرائم السياسية التي وقعت في العراق كانت على يد العلمانيين واللادينيين والدليل الأبرز عليها ما جرى عام 1963بعد استلام حزب البعث للسلطة إثر القضاء على عبد الكريم قاسم فقد صفى هذا الحزب عشرات الألوف من الشباب والشابات بزعم الانتماء إلى الشيوعية وقد امتدت هذه الفترة لتسعة أشهر فقط لكنها مثال صارخ على وحشية هذا الحزب العلماني القومي، أما الفترة التي امتدت من 17/7/1968إلى 9/4/2003 فلها وضع ودراسة خاصة بها .

 

رائد عبد الحسين السوداني

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2012 الاربعاء 25 / 01 / 2012)

 

في المثقف اليوم