آراء

مجزرة "شارلي ايبدو" والتضامن النقدي المراد

alaa allamiأغلب ردود الأفعال "المثقفية" على جريمة اغتيال الصحافيين والفنانين الفرنسيين في مجلة "شالي إيبدو" ، أو للدقة تلك التي اطلعت عليها، جاءت جزئية وقليلة العمق ربما بفعل الطابع المناسباتي لهذه الردود. لفت انتباهي ضمن هذه الردود ما كتبه الكاتب الفرنسي المعروف آلان غريش الذي أدان الجريمة ولكنه سجل نقده الصريح والجذري لسياسة وممارسات المجلة المستهدفة والتي كما كتب (اتخذت منذ بداية الألفية منحى تحريريا معاديا للفلسطينيين على الأخص خلال الانتفاضة الثانية وأيدت الحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 2006 وأطلقت حملات معادية للإسلام وأعادت نشر رسوم "دنماركية" مسيئة للإسلام وقد أحدث هذا الموقف انقساما في صفوف العاملين في صفوف المجلة دفعت عددا من الصحافيين فيها الى الإستقالة ) في حين كتب مثقف عربي في الصحيفة نفسها (نرفض الخوض الآن، في أي نقاش له علاقة بالسياسة التحريريّة لـ"شارلي إيبدو". فالتطرّق إلى هذه المسألة اليوم، لا يمكن إلا أن يكون تجاهلاً لهول الكارثة التي تطغى على كل ما عداها، وتبريراً للعنف الهمجي الذي يتذرّع بالدين، ليفضح مرضاً خطيراً ضارباً في أعماق الجماعة المأزومة، المتروكة على الهامش.). أعتقد أن الفرنسي غريش أقرب إلى الموضوعية والصدق مع النفس والآخر في ما كتب من الكاتب العربي .

الغريب أن جميع وسائل الإعلام العربية والأجنبية لم تشأ الإشارة إلى أن الشرطي الفرنسي الذي قتل في الهجوم هو فرنسي مسلم وأن الشرطية التي قتلت في اليوم التالي في مكان آخر هي فرنسية من أصول أفريقية! هل يمكن أن نساوي بين إهمال هذه الجزئية المهمة وبين عدم إشارة وسائل الإعلام والجهات الرسمية الفرنسية إلى أصول الشخصين المتهمين بارتكاب الجريمة "وهي أصول مغاربية عربية" والاكتفاء بالإشارة إلى أنهما فرنسيان ولدا في باريس مع التلميح إلى أنهما مسلمان تلميحا وليس تصريحا رسميا؟ و لكنَّ هذه المساواة في عدم الإشارة إن حدثت ستكون على حساب المسلمين في فرنسا والذين يواجهون الآن حملة واسعة من التخويف والتشكيك وربما تصاعدت الى أشكال عدائية أخرى.

وقد تأكد اليوم – السبت 10 كانون الثاني - أن الشرطي الفرنسي الذي قتله التكفيريون هو فرنسي مسلم من أصول تونسية يدعى أحمد مرابط وسوف يشيع المسلمون الفرنسيون جثمانه يوم غد الأحد من مسجد باريس الكبير، وثمة هاشتاغ باسمه على مواقع التواصل الاجتماعي .. كما أعلن اليوم في إحدى وسائل الإعلام أن أحد القتلى بين صفوف الصحافيين الفرنسيين في أسبوعية " شارلي ايبدو" هو مدقق فني فرنسي مسلم من أصول جزائرية يدعى مصطفى أوراد .. كل هذه المعطيات تؤكد أن التكفيريين وحماتهم لا يميزون بين ضحاياهم وأن الضرر الذي يلحقونه بالإسلام والمسلمين لا يقل فداحة عن الضرر الذي يلحقونه بالآخرين .. دماء أحمد و مصطفى والضحايا الآخرين تلقم مروجي "الإسلام فوبيا" والعلمانيين واللبراليين المزيفين والتابعين للغرب من العرب والتكفيريين معا حجرا ثقيلا.

من ردود الأفعال التي توقفت عندها مستمتعاً ومستفيدا تلك التي وردت في برنامج خاص بمناسبة الحادث الإجرامي وبثَّته القناة الفرنسية "آر تي أو" التي استضافت عددا من الكتاب والفنانين الفرنسيين أحدهم من أصل مغربي هو الطاهر بن جلون (وكان في مداخلاته - للأسف - ملكيا أكثر من الملك و هذا أمر يمكن فهمه وليس تفهمه أو الاتفاق معه! في هذا البرنامج أصرَّ مقدمه على أن يكون الجو العام للمداخلات جوا بعيدا عن الحزن التقليدي والرثاء المكرر معللا ذلك بأن المغدورين المحتفى بهم هم فنانو كاريكاتير كانت صنعتهم إدخال البهجة والضحك في حياة الناس. كانت مداخلات أغلب المشاركين في هذا البرنامج رصينة ومتوازنة بل أن بعضهم، إن لم يكن أغلبهم كان متعاطفا مع المسلمين والإسلام أكثر من بعض المسلمين الذين غرقوا في موجة هائلة من اللغة الاعتذارية الفجة والتبريرية التي لا مبرر ولا منطق لها، سجل – بعض المشاركين في البرنامج - مخاوفه بصراحة مما يحدث وسيحدث للمسلمين في فرنسا ضمن تداعيات جريمة لا علاقة لهم بها، وقد أدهشني أغلبهم بسعة معرفتهم بالإسلام وموقفه من الحياة و الفنون والآخر وعرض أحدهم صورة كبيرة وملونة للوحة نادرة متخيلة أظنها في أحد المتاحف الفرنسية من نمط رسوم الفنان العربي المسلم يحيى الواسطي من القرن الثالث عشر الميلادي (وربما هي أحد أعمال الواسطي ولكن عارض اللوحة لم يشر إلى ذلك بل قال أن عمر اللوحة خمسة أو ستة قرون)، وفي هذه اللوحة يظهر النبي العربي الكريم محمد بقميص أزرق وخلفه النبي عيسى بن مريم بقميص أخضر وهما يركبان جملا واحدا، ليثبت المتحدث أن الإسلام ليس معاديا للفنون وأن الرسم لم يكن محرما بهذه القطعية والجزم إلا في فترات متأخرة من قبل مذاهب متطرفة كالمذهب الوهابي الذي ذكره المتحدث بالاسم.

في ضوء ما سبق عرضه، أعتقد أن خلاصة الموقف المتوازن المراد والأقرب للموضوعية وهو إدانة هذه الجريمة بحزم و دون تردد مع تسجيل الموقف النقدي من سياسة الجريدة المستهدفة "شارلي ايبدو" و أيضا وبقوة أشد إدانة الحكومات الغربية وفي مقدمتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة و التي تتبنى سياسات منافقة تولد الكراهية والعدوان المسلح والتوترات المجتمعية فهذه الحكومات والدول تعادي اليوم (داعش لأنها – كما يعلنون - تقيم دولة دينية دموية وبربرية) ولكنها حكومات تبني أفضل العلاقات الاستراتيجية مع دول دينية متزمتة في الجزيرة العربية والخليج لا فرق بينها وبين دولة "داعش" سوى في الدرجة وعدد الجثث وليس في النوع والنمط والجوهر بل وتتحالف مع هذه الدول البربرية وتمدها هي والولايات المتحدة بالسلاح والحماية الكثيفة ضد شعوبها.

إن عداء ما يسمى "الديموقراطيات الغربية" للدولة الدينية التي تبشر بها "داعش" وتعمل من أجلها هو عداء منافق وشرير لأن هذه الدول تتحالف عمليا مع أكثر من دولة دينية قائمة فعلا وتطبق ذات القوانين التحريمية والتكفيرية التي تنفذها داعش، بل وتدافع عن مطالبات المتطرفين في دولة اسرائيل واشتراطهم الاعتراف بأن دولتهم هي دولة "يهودية وخاصة باليهود فقط"، وهنا نضع أيدينا على الدور الحقيقي للدول الغربية في كل ما يحدث من جرائم تقوم بها فرق وشراذم دموية منعزلة ومتطرفة، دينية أو عرقية...الخ.

بهذه الرؤية يمكننا استشراف وبناء وتبني موقف تضامني نقدي مما يحدث من جرائم يرتكبها التكفيريون وحماتهم في العالم بغض النظر عن الدين الذي يزعمون النطق باسمه، أو الأصل الذي ينتمون له، بعيدا عن المنهج الاعتذاري المنافق و المأزوم والذي يحمِّل الإسلام وعموم المسلمين، بشكل مباشر أو غير مباشر، مسؤولية جرائم لا علاقة لهم بها، بل هم وقودها المباشر وضحاياها الدائمون مثلما تتحمل مسؤوليتها أولا الأطراف التكفيرية التي تنفذها، و ثانيا، الدول المنافقة التي تتحالف مع دول وطغم حاكمة لا تختلف عن القتلة التكفيريين نوعا وجوهرا.

 

*كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم