آراء

التجاوزات في تكريت بين التفسير والتبرير والتعميم

alaa allamiهذه متابعة يومية للتجاوزات المحزنة التي وقعت في مدينة تكريت وعدد من مدن محافظة صلاح الدين بعد تطهيرها من عصابات داعش:

السبت 4 نيسان : التجاوزات الاجرامية التي حدثت خلال الأيام القليلة الماضية في تكريت وعدد من مدن محافظة صلاح الدين بعد تطهيرها من عصابات داعش خطيرة ولا يمكن السكوت عليها أو تفسيرها وتبريرها فقط بوجود مندسين في الحشد الشعبي أو بكونها أعمال انتقامية متبادلة من أبناء عشائر المنطقة لأن هذه الممارسات تحولت بالتدريج الى ظاهرة و ممارسات نمطية.

أحد الأصدقاء من أهالي المنطقة وهو شخص وطني ويساري لي ثقة كبيرة به أكد لي أن أغلب عمليات إحراق البيوت والممتلكات في تكريت قام بها ذوو الضحايا الذين ذبحهم مجرمو داعش وهم معروفون لهم وقد هربوا او قتلوا خلال العمليات العسكرية. أما عمليات النهب والسلب فقد قام بها مسلحون محسوبون على ثلاثة فصائل في الحشد الشعبي وقد شاهد صديقي بعينيه شخصا معمّما ينهب عددا من مولدات الكهرباء وينقلها بعدة جرارات أو شفلات الى مكان آخر و لم يشترك أي عنصر من فصيل معين و معروف في هذه الممارسات. لن اذكر اسماء هذه الفصائل لعدم حيازتي لدليل مادي، ولكني ذكرت الواقعة نقلا عن صديقي لنقول لهؤلاء المعتدين و النهابين : هناك من يعرفكم وسيفضحكم بالأدلة المادية في الوقت المناسب، ثم أين ذهبت وصية المرجع السيستاني التي قال فيها( من نهب مال شخص اخر فقد حاز قطعة من النار)؟ اما الحكومة فصمتها على ما يحدث يدل اما على رضاها عما يحدث او على عجزها عن ردع الفاعلين سواء كانوا من أبناء عشائر المنطقة او من الحشد و هي في كلا الحالتين مدانة..مدانة...مدانة!

الأحد 5 نيسان : إن التبرير لا علاقة له بالتفسير و بين تبرير الجريمة وتفسيرها فرق نوعي هائل. التبرير هو اختلاق أسباب زائفة للإفلات من الادانة والعقاب. مثال ذلك : أعمال السلب والنهب والتجاوزات التي حدثت سببها قيام مندسين و عملاء لمخابرات صدام و خلايا نائمة لداعش بها بهدف تشويه سمعة جهة معينة. أما التفسير فهو تعليل الظاهرة أو الحدث أو النتيجة واكتشاف أسبابها وظروفها الحقيقة. مثال: إن عمليات النهب والقتل و إحراق البيوت والممتلكات التي حدثت هنا أو هناك قامت بها عناصر مسلحة غير منضبطة في فصائل مسلحة ذات نزعة وثقافة طائفية و عناصر عشائرية مدفوعة بروح الثأر والانتقام من مجرمي داعش الدمويين . وهناك تبرير من نوع اخر هو التبرير التعميمي و يراد به تعميم الظاهرة بهدف تعميم العقوبة والإدانة لتشمل شعبا بأسره او أمة بكاملها كيف ذلك؟

الاثنين 6 نيسان : ينظر البعض الى ظاهرة العنف كلعنة حلت بشعب معين فأصبح همجيا عنيفا! للتدليل على صحة نظرتهم و "نظريتهم" هذه، يلجأ هذا البعض الى تاريخ الشعب المعني ـ و لا يوجد تاريخ لأي شعب في العالم يخلو من العنف الهمجي ـ و ينتقي أشنع الأمثلة والأحداث من مساحة زمنية واسعة ويرصفها في معرض خاص كأدلة جرمية: هنا ملك بابلي قتل رميا بالسهام، و هناك عدد من الخوازيق الآشورية، الى جانبها صور لمجزرة العائلة الملكية المأساوية ولفرهود يهود بغداد وصور أخرى لضحايا مجازر شباط 1963 ولضحايا حلبجة و نهب الكويت و ضحايا انتفاضة ربيع 1991...الخ، خاتمين هذه "الباقة المنتقاة" بأحداث تكريت الأخيرة، ثم تُطرح النتيجة أو الاستنتاج الخارق والحكم الباتر الذي خلاصته : الشعب العراقي شعب همجي و عنيف! ( خير مثال على هذه النظرة نجده في كتاب " تاريخ العنف الدموي في العراق" لباقر ياسين وكنا قد توقفنا عنده نقديا في دراسة مفصلة نشرت في تسعة أجزاء قبل عدة سنوات).

من السهل تفنيد ودحض هذا الحكم بتسجيل الحقائق التالية:

ـ ان ضحايا هذا العنف والهمجية، باستثناء حالة الكويت، هم عراقيون.

ـ ان من نفذوا وقادوا هذه الأعمال هم إما كانوا حكام طغاة عراقيين أو غزاة أجانب وفي كلا الحالتين فهم لا يشكلون نسبة يعتد بها الى مجموع السكان.

ـ ان أعداد العراقيين الذين تعاطفوا أو دافعوا عن ضحايا العنف كما في حادثة نهب وفرهود يهود بغداد كثيرون باعتراف عدد من الضحايا، وفي حالة الكويت قاطعت غالبية العراقيين البضائع المنهوبة/صديقي الروائي محمود سعيد خلد تلك المقاطعة بمشهد جميل يمتنع فيه ضيف عن تناول الشاي اذا كان مصدره منهوبات الكويت.

ـ ان العنف الهمجي ثيمة تاريخية لا يخلو منها تاريخ أي شعب قديما وحديثا وينبغي قراءتها كحدث ضمن سياقه و ليس بوصفها لعنة أو وصمة. و لكن هل العراقيون ملائكة ؟ قطعا لا .. و لكنهم ليسوا همجا مرضى بالعنف!

الأربعاء 8 نيسان : أخيرا، نطقت الحكومة بلسان رئيس وزرائها حيدر العبادي واعترفت بوقوع 152 عملية إحراق لمنازل ومحلات في مدينة تكريت. العبادي أضاف أيضاً أن المتورطين في تلك الجرائم والتجاوزات (أو بعضهم بحسب روايات) تم اعتقالهم وسيقدمون إلى القضاء. تُسجل للعبادي جرأته في تسجيل هذه الوقائع فلو كان المالكي أو علاوي في موقعه لنفى أيٌّ منهما – على الأرجح - وقوع هذه الأحداث وكرر القول، على عادة الإعلام في الأنظمة الشمولية، أن الأمور عال العال وكما يجب وينبغي أن تكون... إلخ!

ولكنّ العبادي لم يكن بحاجة إلى القول بأن هناك تهويلاً قد حدث (وكأن إحراق 152 منزلاً ومحلاً في مدينة واحدة أمر تافه ولا أهمية له) فحتى لو حدث تهويل في نقل الوقائع، وهذا متوقع من أعداء العراق بهدف التشنيع والتشويه، و من أصدقائه أيضاً بسبب استبشاع ما حدث والتعاطف مع الضحايا، فلا معنى للتوقف عنده مع هذه الأرقام لأنه يقلل من أثر وفعالية وجرأة هذا الاعتراف.

الاعتراف بما حدث لم يكن حكرا على العبادي، بل شاركه فيه عدد من قادة فصائل الحشد الشعبي ولعل أخطر تصريح هو الذي أدلى به الناطق الرسمي باسم "عصائب أهل الحق" نعيم العبودي الذي قال (إنّ هناك بعض الحالات والانتهاكات التي حصلت في تكريت من إحراق أو سرقة للممتلكات، مبينا أن أي معركة ممكن ان تشهد مثل هكذا انتهاكات) غير أنَّ العبودي بهذا التصريح يجعل من جريمة الإحراق والانتهاكات هي القاعدة في الحروب و الالتزام بالسلوك المنضبط و الإنساني هو الاستثناء، وهذا غير صحيح بل هو عكس ما تقوله التجربة الإنسانية التاريخية.

الخلاصة هي أن مصداقية العبادي وحكومته، وقيادات فصائل الحشد كلها، مرهونة اليوم بتقديم المتهمين بارتكاب تلك التجاوزات والجرائم فعلاً إلى القضاء – مع تسجيل التحفظات اللازمة على هذا القضاء وحياده - ومحاكمتهم علنا ورفع الغطاء السياسي والشرعي عنهم لينالوا جزاءهم العادل. بهذه الطريقة الشجاعة فقط يمكن تطهير و معالجة هذا الجرح الجديد والخطير في الذاكرة العراقية الجمعية وإثبات حقيقة أننا شعب كسائر شعوب الأرض قد تخطأ فئات و عناصر منه ولكنه يعترف بأخطائه ويصححها بشجاعة تليق بإنسانيته، أما الإنكار والتبرير واتهام الآخر فهي "بكتيريا" وجراثيم خطيرة تجعل الجراح تلتهب و تتعفن وقد تتحول إلى ورم خبيث أو عاهة مستدامة !

 

علاء اللامي

كاتب عراقي

في المثقف اليوم