آراء

حصان طروادة: أحداث الموصل “ثورة الشواف” سنة 1959 .. مقاربة جديدة (3)

alaa allamiإن هذا الواقع الصراعي والتنافسي الحاد داخل المجموعات العسكرية الثورية السرية كان له تأثير كبير بل وهائل على مجريات الأمور بعد نجاح الانقلاب الجمهوري، وفي العديد من الأزمات والهزات التي حدثت ومنها تمرد الموصل. فحتى لو اقتنعنا بحقيقة أن هذا القائد أو ذاك ليس له مطامع شخصية في السلطة وانه زاهد فيها، وهذا يصدق كثيرا على بعضهم كالشواف والحاج سري وليس كلهم ولكن الأكيد هو أن جزء كبيرا من المشكلة التي حدثت يكمن هنا بالضبط، أي في طبيعة الحالة الصراعية والتنافسية التي طبعت سلوك وتفكير المجموعات العسكرية السرية الأربع. لقد سادت الروح والعقلية الفردانية والاستحواذية والتماهي الزائف بين الذات والمشروع الوطني التي هيمنت على سلوك القادة الكبار الذين قادوا العملية العسكرية عمليا وتحديدا قاسم، كما كان لتعطش عارف للسلطة وهو تعطش امتزج بسذاجة سياسية وفكرية مشهودة له و شعور بالنقص كشف عنه في مناسبات كثيرة لعل أشهرها تلك التي روتها مصادر عديدة لمشهد اللحظات الأخيرة لقاسم ورفاقه الذين قتلوا من قبل الانقلابيين، حيث انشغل عارف بِهمٍّ عجيب وهو محاولة انتزاع اعتراف من قاسم وهو يواجه فوهات رشاشات الانقلابيين في 8 شباط بأنه هو – عارف- وليس قاسم مَن كتب بيان الثورة الأول في 14 تموز فرد عليه قاسم بعبارة بليغة ( نحن كتبناه)! فلتتخيلوا المشهد لطفا: رجل أمام فوهات الرشاشات وسيقتل بعد ثوان بالرصاص و جلاده يجادله حول اسم من كتب البيان الأول ليسجل عليه نقطة! فأية شناعة، بل أية حالة عقلية هذه التي كانت تسيطر على عبد السلام عارف؟! والواقع فقد لعب عارف دورا مشؤوما ومضرا جدا بالمشروع الوطني الاستقلالي طوال حياته المتقلبة و ما يحير المراقب كثيرا تمسك قاسم بعارف وقربه منه و ابتعاده عن الشواف والحاج سري ونفوره منهما مع أن هذين الرجلين أقرب إليه فكريا وسلوكيا! وفي مقابل ذلك، سادت روح الغلبة والثأر، الممتزجة بمشاعر الحرص "الأعمى" على المشروع الوطني الاستقلالي، و التي دفعت عددا من الضباط المهمشين أو المشتتين في قواعد عسكرية متناثرة في طول العراق وعرضه بعد الثورة التموزية إلى التحرك ضد حكومة قاسم بشكل أوقعهم في سلة اليمين الإقطاعي والقومي اليميني المتربص بالمشروع الوطني هو وحلفاؤه الغربيون، ولعل التفسير الممكن والبدئي لهذه الانحيازات لدى قاسم والشواف والحاج سري خصوصا، نجده في سيادة روح التحزب للتنظيم الخاص إضافة – طبعاً- إلى فوارق و ضغوطات أخرى.

إن هذا الاستنتاج المتعلق بالجوانب الذاتية لعدد من قادة تلك المرحلة التاريخية الصاخبة والمهمة من تاريخ العراق لا يعني قطعاً إهمال الأسباب والسيرورات الاجتماعية العميقة والمحتدمة التي تفاقمت واستعرت بعد الثورة ونتيجة لإصلاحاتها وقراراتها الجذرية، بل أن الأساس التعليلي في تفسير ما حدث نجده في الأرضية الاجتماعية والصراع الطبقي الحاد - رغم التكوين الطبقي الجنيني والمشوه للطبقات الاجتماعية في المجتمع العراقي في خمسينات القرن الماضي- وقد وجد هذا الواقع الاجتماعي المحتدم تعبيراته السياسية المباشرة والمختلة في صراع مجموعات الضباط الثوار المتصارعين فمالت الملايين إلى جانب قاسم وإصلاحاته الجذرية العميقة التي ساندتها القوة السياسية الأكثر جذرية ممثلة بالحزب الشيوعي واسع النفوذ. و حاولت الطبقات المدحورة من ملاك الأراضي والإقطاعيين والتجار والبيروقراطية الهشة احتواء واستثمار التمرد ضد حكومة قاسم في الموصل وغير الموصل و استيعاب الضباط الذين قاموا به في كل مناسبة ليكونوا بمثابة حصان طروادة العراقي الذي سيدمر المشروع الوطني الذي بدأ مع 14 تموز 1958، بغض النظر عن نوايا وطموحات أولئك الضباط أنفسهم. وإذا كان لجوء بعض قيادات التنظيمات الأخرى كتنظيم الحاج سري لخيار تصحيح الأوضاع حفاظا على الثورة وحرصا على مستقبل المشروع الوطني الفتي صحيحاً من حيث المبدأ، فإن الخلاف الأهم كان حول طبيعة الخيار الذي يجب اعتماده للتصحيح، وهل يجوز اللجوء إلى العنف المسلح ضد رفاق الطريق والسقوط المحتمل في سلة أعداء المشروع الوطني العراقي ككل، وبعد بضعة أشهر لا غير على انتصار النظام الجمهوري؟ غير أن سؤالا معاكساً و مؤرقاً آخر يطرح نفسه ويقول: هل كانت طبيعة النظام الجمهوري الجديد، وطبيعة قادته العسكرية الفردانية، والحالة التي نشأت خلال وبعد الانقلاب الجمهوري، وانعدام المؤسسات في الدولة العراقية الهشة أصلا تسمح بأية إمكانية لاعتماد الحوار والتصحيح السلمي وعدم الوقوع في براثن أصحاب المشاريع المضادة للمشروع الوطني والذي كانوا قد أفاقوا من الصدمة و شرعوا ينضمون صفوفهم ويستثمرون إمكاناتهم المالية الهائلة لكونهم من طبقة الملاك العقاريين والزراعيين والتجار في العهد الملكي وعلاقاتهم العربية والدولية بنشاط وجدية؟

لقد كانت الأشهر المعدودة التي تلت ثورة تموز في غاية الغنى والامتلاء بالدلالات والأحداث والمعاني وقد مسَّت عمق النسيج المجتمع العراقي وحركت ملايين الناس وزجتهم في حراك طبقي واجتماعي حاد ومحتدم، وكان من تداعيات هذه التطورات أن "جبهة الاتحاد الوطني" التي تشكلت قبل الثورة بعام وبضعة أشهر من أهم الأحزاب السياسية العراقية الوطنية والمعادية للنظام الملكي التابع لبريطانيا كالحزب الوطني الديموقراطي والحزب الشيوعي وحزب البعث و عناصر مستقلة تمثل قوى وطنية وتنظيمات شعبية عديدة، وكان الداعي والمطلق لفكرتها هو الحزب الشيوعي، وهو الذي بذل جهودا كبيرة لإقناع قيادة البعث بالانضواء في هذه الجبهة - يجري غالبا تصوير الحزب الشيوعي العراقي وكأنه الداعم والمستفيد الوحيد من حكومة قاسم "الجمهورية الأولى"، وهذه خرافة أخرى إذ أنَّ حصة البعث لم تكن بالقليلة فيها حيث كان مؤسسه وأمينه العام فؤاد الركابي الذي سيغتاله بعثيو صدام ذبحا في سجنه بعد أقل من ثلاثة أعوام على انقلابهم الثاني في 17 تموز 1968، وزيرا للإعمار فيها، إلى جانب وزيرة البلديات الشيوعية الراحلة نزيهة جودت الدليمي- وقد اعتبرت هذه الجبهة "الاتحاد الوطني" وبشكل مقنع الأب السياسي والاجتماعي والفكري للتغير الثوري الجمهوري، غير أن هذه الجبهة تفتت شذر مذر وراح كل حزب منها يكافح بمفرده و(نزل الجميع من الجبل لجمع الغنائم) فكان ما كان!

ولكي نفهم عمق الصراع الاجتماعي والطبقي الضاري الذي تفاقم بعد 14 تموز، وبلغ إحدى ذراه عشية تمرد الموصل، لنقرأ اللوحة المعبرة والأخاذة التالية التي يرسمها حنا بطاطو للأرضية الاجتماعية والإثنية للقوى التي شاركت في ذلك التمرد الموصلي و تلك التي قاومته، كتب بطاطو ( أنارت أحداث الموصل بتوهج لهيبها تعقيدات النزاعات التي كانت تهز العراق، وكشفت عن وجوه القوى الاجتماعية المختلفة بطبيعتها الأساسية والتراصف الحقيقي لمصالحها الحياتية. فوقف الأكراد واليزيديون لأربعة أيام بلياليها – خلال التمرد - ضد العرب، و وقف المسيحيون الآشوريون ضد العرب المسلمين، و وقفت قبيلة البومتيوت العربية ضد قبيلة شمر العربية، وقبيلة الكركرية الكردية ضد البومتيوت العربية، و وقف فلاحو ريف الموصل الفقراء ضد أصحاب الأراضي، وجنود للواء الخامس ضد ضباطهم، وضواحي الموصل ضد مركزها، وعامة حي المكاوي و وادي حجر الشعبيين ضد أرستقراطيي حي الدواسة العربي، وضمن حي باب البيد وقفت عائلة الرجبو ضد الأغوات منافسيها التقليديين. وبدا وكأن النسيج الاجتماعي قد تفكك وأن السلطة السياسية تلاشت كليا. وتحولت الفردانية ، بتفجرها إلى فوضى. وأطلق الصراع بين القوميين والشيوعيين عداوات عمرها من عمر الزمن، وشحنها بقوة متفجرة واصلا بها إلى نقطة الحرب الأهلية "...." وحيث لم تتطابق الانقسامات الاقتصادية والعرقية أو الدينية كثيرا ما كان العامل الطبقي وليس العرقي أو الديني هو الأبرز. فلم يقف الجنود العرب إلى جانب الضباط العرب بل إلى جانب الجنود الأكراد، و وقف كبار ملاكي الأراضي الأكراد من الكركرية إلى جانب أمثالهم من شمر العربية. ولم تقف عائلات التجار الأثرياء المسيحية، مثل عائلات بيتون وسرسم و رسام، إلى جانب الفلاحين المسيحيين الفقراء . وعندما تحرك الفلاحون بمبادرة منهم فإنهم ، ولا اعتبار حتى لانتمائهم السياسي ، والواقع أنهم قتلوا، بين آخرين، علي العمري وهو عربي مسلم معارض لقاسم، وقاسم حديد وهو عربي مسلم وعم محمد حديد الوزير موضع الثقة الأكبر عند قاسم... ومن ناحيتهم وقف فقراء وعمال أحياء المكاوي والمشاهدة والطيانة العربية المسلمة جنبا إلى جنب مع الفلاحين الأكراد والآراميين – الآشوريين ؟ - ضد أصحاب الأراضي العرب المسلمين. 3/179 وما بعدها). تلك هي الأرضية الاجتماعية للأحداث فلننتقل الآن إلى وقائعها التفصيلية.

 

يتبع قريبا في الجزء الرابع من هذه الدراسة.

 

علاء اللامي

 

في المثقف اليوم