آراء

بداية الحريق: أحداث الموصل "ثورة الشواف" 1959 .. مقاربة جديدة (4)

alaa allamiعمليا، بدأ التمرد المسلح في الموصل ليلة 7 على 8 آذار بعملية اعتقال لـ (كل القادة، والنشطاء في الأحزاب، والمنظمات الديمقراطية، وبوجه خاص منتسبي الحزب الشيوعي، وقد جرى الاعتقال بأسلوب الاحتيال، حيث طلب الشواف اللقاء معهم في مقره، لدراسة الأوضاع السياسية المتدهورة، وسبل معالجتها، ولبى من لبى ذلك النداء ووقع في الفخ الذي نصبه الشواف لهم، واختفى من أختفي مشككاً بأهداف الاجتماع، وكان ما كان، فقد أُخذَ الجميع بالشاحنات العسكرية معتقلين، وأودعوا الثكنة الحجرية/ دراسة للمؤرخ حامد الحمداني وهو ذو توجهات يسارية ضمن كتابه ( ثورة تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها) ودراساته المتفرقة سنعتمدها نقديا كمصدر إلى جانب دراسات ومصادر أخرى مختلفة، وسأشير إليها بكلمة "الحمداني").

أما حنا بطاطو فيقدم لنا معلومات مفيدة حول الوضع قبيل التمرد المسلح حيث يربط الأحداث بمقدماتها الحدثية ومنها المهرجان الكبير لـ "حركة أنصار السلام" في مدينة الموصل. وهي حركة مدنية مرعية ومقودة من قبل الشيوعيين، ويميل بطاطو الى اعتبار هذا المهرجان محاولة من قبل الشيوعيين (لإغراق الموصل بأنصارهم من مختلف أنحاء العراق ليجعلوا المعارضة تتحرك قبل الأوان، أو على الأقل لنشر الدخان وإخراج بعض نواها إلى العلن وسحقهم وتفتيتهم إرباً، والدفاع في الوقت نفسه عن مواقع الشيوعيين المحليين. ثلاثية العراق / الكتاب الثالث ص 190 وما بعدها). ولا أميل شخصياً إلى هذا التفسير، فالمهرجان استمر لفترة قصيرة – ساعات وليس أيام - ثم انسحب المشاركون فيه في صباح اليوم التالي، إلا قلة منهم بقيت في المدنية لتقود المقاومة ضد التمرد المتوقع. ولم يكن المهرجان بحد ذاته دافعاً قوياً وكافيا لدفع المعارضة إلى التحرك، ولكنه لا يعدو أن يكون حركة لاستعراض العضلات السياسية من قبل الشيوعيين، حركة لم تكن موفقة تماماً في وضع متوتر أصلاً ومدعاة لسلوك سياسي أكثر هدوءا وحكمة. ولهذا اعتبر المهرجان من وجهة نظر الكثيرين، وخصوصاً من المعارضة القومية، كاستفزاز للكثيرين من الأهالي المحافظين وتأجيجا للصراع الاجتماعي كاد يتحول إلى مذبحة في ذلك اليوم، ثم ما لبثت أن وقعت – المذبحة - بعد انقضائه. وكخلاصة، فالمهرجان لم ينجح لا في إخراج المعارضة من دهاليزها ليتم ضربها، ولا هو تفادى التمرد المتوقع بل عجَّل به فوقع في غياب القوة الرادعة ما نتج عنه عنف واسع النطاق وخسائر بشرية من الجانبين لم يكن لها مبرر على الإطلاق.

مرَّ مهرجان أنصار السلام بهدوء - باستثناء حادث صغير في حي باب البيد- وفوَّت القوميون والمحافظون الفرصة على الشيوعيين وأنصارهم فلم يخرجوا إلى الشوارع وينجروا إلى الصدام في ذلك اليوم. وبعد رحيل المشاركين في المهرجان، وقد تخلف عنهم عدد من القادة الشيوعيين منهم حمزة سلمان الجبوري، وخطيب الثورة المصقاع كامل قزانجي ( قتل هو وعبد الله الشاوي قائد الشيوعيين المعتقل خلال التمرد، وشُخِّصَ قاتل الشاوي لاحقا بأنه الملازم محمود عزيز مساعد الشواف) قائد حركة أنصار السلام، ومهدي حميد الذي تولى تنظيم وقيادة "المقاومة الشعبية " لاحقاً. بدأت مقدمات التمرد الفعلية بمظاهرات ومظاهرات مضادة، وكان عديد الشيوعيين الموصليين لا يزيد كثيرا عن 400 شخص وهو عدد ضئيل في مدينة يفوق عديدها على 180 ألف نسمة آنذاك. وتدفق البعثيون وأنصارهم من قرى وضواحي الموصل بعد سفر المشاركين في مهرجان أنصار السلام، وهاجموا مقرات ومكتبات الشيوعيين، ودخلوا بعض الأحياء التي تشكل معاقل لأنصارهم، وحدثت مناوشات وإطلاق نار بين أنصار الطرفين (الشيوعي والقومي ويشمل البعثيين).

وهنا تدخلت قوات الجيش التي كان يقودها العقيد عبد الوهاب الشواف، وأعلنت حالة منع التجول، وحدثت عملية الاعتقال سابقة الذكر للشيوعيين وقياداتهم فجر يوم الثامن من آذار 1959، وشملت ستين قياديا وكادرا شيوعياً بينهم جميع أعضاء اللجنة المحلية العليا للحزب، ولكن حمزة الجبوري ومهدي حميد أفلتا من الاعتقال، وشرعا بتنظيم المقاومة المسلحة ضد التمرد المسلح. غير أن الدعوة إلى الثورة ضد السلطة المركزية لم تعلن إلا في الساعة السابعة صباحا، وتناقلتها الألسن شفاهاً في البدء، ولم تبثها إذاعة المتمردين التي أرسلتها لهم سراً الحكومة المصرية ووصلت بحالة سيئة إلا بعد عدة ساعات. واتهم بيان المتمردين قاسم بخيانة الثورة ومحاربة القومية العربية وبالطموح المجنون وأكد البيان مشاركة (كل الضباط الأحرار في الثورة ومن بينهم ناظم الطبقجلي) وهذه كذبة كبيرة من محرري البيان، وحمل البيان في نهايته توقيع عبد الوهاب الشواف على أنه زعيم الثورة.

إن بعض مضامين هذا البيان ستكرر في بيانات الانقلابات القومية اللاحقة ووسائل إعلامهم مستقبلا، ولكننا نلاحظ فيه وبوضح نبرة توريط للشواف والطبقجلي، أكثر من كونها نبرة إخبار وسرد وتسجيل معلومات، وهذا ما يرجحه كاتب قومي التوجهات هو أحمد البياتي في كتابه عن الطبقجلي. فما الداعي للكشف عن دور الطبقجلي الموجود في بغداد تحت سيطرة حكومة قاسم ومراقبة الشيوعيين المستمرة، إن لم يكن الدافع هو التوريط أو حتى القسر على الأمر الواقع؟ وفي هذا السياق، نقرأ شهادة للباحث حامد الحمداني في كتابه (ثورة تموز/ مصدر سابق) فهو، وإنْ كان يكيل التهم للشواف بأنه متعطش للسلطة والتزعم، وهي التهمة ذاتها التي وجهها هذا الباحث إلى رشيد عالي الكيلاني وجميع الذي وقفوا ضد قاسم وحكومته، ولكنه – الحمداني – يؤكد في الوقت عينه أن الطبقجلي لم يتحرك ولم يشارك في التمرد إلا لأن الشواف تجاوزه هرميا رغم أنه تابع له عسكريا له ويقود لواء تابعا للفرقة الرابعة التي يقودها الطبقجلي، وهذه شهادة مهمة من باحث لا يكِن تعاطفا أو انحيازا لصالح المتمردين، وهو إلى هذا وذلك من أهالي الموصل، وفي كتابه المشار إليه العديد من الشهادات والذكريات الخاصة عن تلك الأحداث.

وحتى إذا اعتبرنا تبرؤ الطبقجلي من أية علاقة بالتمرد وإرساله برقية تأييد لحكومة قاسم، عملا مفبركا من قبل حكومة قاسم كما يقول صبحي عبد الحميد، أو كمناورة أمنية كما يعتقد آخرون، فكيف يمكن لنا تفسير سرعة إرسال هذه البرقية بعد ساعات قليلة على إذاعة بيان المتمردين وقبل أن تبدأ وتحسم المعركة عمليا، أما الرائد خليل إبراهيم حسين معاون مدير الاستخبارات العسكرية فقد أكد، كما يخبرنا أحمد البياتي في كتابه "ناظم الطبقجلي ودوره العسكري والسياسي في العراق/ ص 109"، ان البرقية مسجلة بصوت الطبقجلي وأنه يحتفظ بنسخة منها، فكيف نفسر إعلان اسمه من قبل المتمردين كأحد قادتهم؟ ولماذا تم اعتبار الشواف زعيما أولا للتمرد، وهو آخر ضابط وافق عليه والتحق بالمجموعة التي قادته؟

وفي كتابات قومية أخرى (موقع مجلة "الكاردينيا" على النت) نعلم أن خطة الانقلاب كان تنص على ( قيام الفرقه الثانية بقيادة العميد الركن ناظم الطبقجلي بالتحرك، وتأمين الألوية والأقضية والنواحي التي تحت مسؤوليته، ومن ثم التحرك باتجاه بغداد إذا اقتضى الأمر. ولكن هذه الخطه استبعدت خوفاً من التأثير على حقول النفط مما يستدعي تدخل خارجي. تحولت الانظار الى الموصل وتمت مفاتحة العقيد الركن عبد الوهاب الشواف فأبدى استعداده لذلك بعد ان تأكد كما يقول من عدم امكانية اصلاح الامور وقاسم على رأس السلطة في بغداد) واضح من هذا النص، والذي يبدو أن كاتبه من العارفين بالتفاصيل المتعلقة بالوضع العراقي آنذاك، أن الشواف لم يكن على علم بهذه الخطة ولا بغيرها وأنها وضعت في غيابه، ثم طرحت عليه بعد أن تأزم التنفيذ وبحثوا عبثاً عن بديل لخطتهم الأصلية، وثمة اعتراف هنا بأن المتمردين استبعدوا تنفيذ الخطة لعدم المساس بحقول النفط التي كانت مملوكة للشركات البريطانية وهي الحقول التي ستؤممها حكومة قاسم سنة 1961 وتنـتزع 99.5% منها من براثن الغرب ومن بريطانيا تحديدا. من براثن الغرب .

وتستمر هذه الوثيقة بروايتها فتضيف (أما في بغداد فقد وضع العقيد رفعت الحاج سري أربعة من الرجال الاشداء من القوميين المخلصين لاغتيال عبد الكريم قاسم اثناء اجتماع مجلس الوزراء أو في غرفته وقد تمت تهيئة الأسلحة والقنابل اليدوية وحفظت في خزانه حديديه في مديرية الاستخبارات العسكريه التي كان رفعت مديرها ويقوم هو بقيادة تنفيذ العمليه للإجهاز على قاسم وإجباره على الاستقالة وتسفيره خارج العراق أو الاضطرار الى تصفيته) واضح طابع الركاكة والتلفيق في هذه الرواية، فما حاجة الحاج سري إلى رجال أشداد وأسلحة وخطط وهو يدخل ويخرج بصفته مدير استخبارات النظام على قاسم ويمكنه تصفيته برصاصة واحدة من مسدسه الشخصي؟ ثم ما معنى (للإجهاز على قاسم وإجباره على الاستقالة وتسفيره خارج العراق أو الاضطرار الى تصفيته) وكيف يتم الاجهاز عليه وإجباره على الاستقالة وتسفيره؟ الأمر هنا لا يتعلق بخطأ بسيط في التحرير بل يشي بما سيحدث لاحقا في 8 شباط حين خدع الانقلابيون قاسم ورفاقه بأنهم سيسفرون إلى خارج العراق إذا ألقوا السلاح وسلموا أنفسهم وحين وافقوا على العرض تمت تصفيتهم بدم بارد وهم عزل من السلاح.

يتبع في الجزء القادم وهو الخامس من هذه الدراسة.    

 

علاء اللامي

كاتب عراقي

في المثقف اليوم