آراء

الهجوم المضاد: أحداث الموصل "ثورة الشواف" 1959 .. مقاربة جديدة (5)

alaa allamiنلاحظ أيضا، من خلال ما سبق سرده، إنها المرة الوحيدة أو النادرة على حد علمنا التي أشير فيها إلى دور الحاج سري في الأحداث، وهذا لا يعني تبرئته من أي دور هو وزميليه الشواف والطبقجلي كما أسلفنا، بل، وهذا جلُّ ما نسعى إليه، أنهم انساقوا مع مخططي الأحداث الفعليين، بفعل أسباب موضوعية تتعلق بالوضع العراقي العام، وأخرى ذاتية تتعلق بعلاقات الضباط في تنظيم الضباط الأحرار والتنظيمات العسكرية الثورية الأخرى فيما بينهم والتي عرضناها في تضاعيف هذه الدراسة، وإن المعركة أو الصراع بين هؤلاء القادة ومن معهم، وبين قاسم ومؤيديه، هي معركة نافلة وداخل المعسكر الوطني الواحد، تمكن الطرف المعادي للمشروع الوطني من استغلالها أفضل استغلال لاحقا، وصولا إلى خنق المشروع الوطني والاجتماعي للثورة التموزية تحت وطأة أنظمة دكتاتورية دموية فيما بعد لينتهي هذا العهد باحتلال العراق بعد سلسلة هزائم ومغامرات قادها آخر دكتاتورييه، صدام حسين، وآخرها هزيمته الشنيعة أمام القوات الغازية الأميركية وحلفائها المحليين. وتضيف هذه الوثيقة أو المقالة التفاصيل التالية (في اليوم المقرر 6 آذار، انتظر الجميع في ثكناتهم للقيام بما هو مقرر، ولكن لم يسمع شيئاً عنها، وقد حلل – خمنَّ؟ -المنتظرون أن هناك بعض المندسين على الثوره وتم التأجيل خوفا من فشلها..إلا أن الشواف بعد أن تأكد من أن كل شيء أصبح جاهزا، وخشية من انكشاف أمرها، بعث برسالة شفوية الى رفعت الحاج سري بيد الملازم نافع محمود يقول فيها إن (جحفل لواء الخامس والفئات القوميه في مدينة الموصل والعشائر الموالية جاهزة ومستعدة، والإذاعة جاهزة، ونحن بانتظار تحديد الموعد من قبلكم. واستلم رفعت الرسالة وأعاد الجواب بيد الملازم نافع محمود قائلا: ستعلن الثوره يوم 7\8 أذار 1959 وفي الساعة الثانية عشرة وسوف نعمل في اليوم التالي فلا ينبغي أن تنهار معنوياتكم لأننا سنعمل حتما في اليوم الذي يليه. سلِّم لي على الإخوان في الموصل/ الكاردينيا .. مصدر سابق).

من الواضح أن هناك عملية استغلال للرجال الثلاثة، الشواف والحاج سري والطبقجلي، بسبب دورهم الكبير في تنظيم الضباط الأحرار، والوقوف مع الانقلاب الجمهوري، ولسمعتهم الوطنية الطيبة، وكأن تمرد الموصل كان جاهزا مسبقاً، وتم تلبيس مجموعة الشواف عليه، أو تلبيسه عليهم. علماً أن القوى الساعية لضرب الجمهورية الفتية الداخلية والخارجية لم تكن تتفرج عليها دون حراك، وخصوصا حين تعمقت وتجذرت إجراءاتها الثورية وتذرونت في قانون الإصلاح الزراعي الذي ضرب مصالح أصحاب الأراضي الإقطاعيين، ولاحقا في قانون رقم 80 لتأميم النفط العراقي، وربما كان الخيار الممكن أو البديل أمام أعداء الجمهورية إذا فشلت الاطاحة بقاسم بواسطة المنشقين عليه أو المختلفين معه من الضباط الأحرار هو ضرب الطرفين ببعضهما وتدمير الحركة الوطنية الاستقلالية ككل في حروب التدمير الذاتي، وهذا ما حدث لاحقا وطوال عدة عقود، وقد لعب الصراع النافل هو الآخر بين القيادتين الوطنيتين المصرية الناصرية والعراقية القاسمية دورا مؤسفا وضارا حتى تكرس المآل المأساوي لكليهما، ولنا أن نتخيل ماذا كان سيحدث، وكيف سيكون المآل العام والوضع العربي عموما، لو تحالفت وتسالمت هاتان القيادتان في ذلك العهد، غير أن تلك تمنيات إرادوية طيبة وإسقاط للرغائب الذاتية على الواقع التاريخي الصلب والمنجز لا طائل منها في البحث العلمي.

غير أن "تخميننا" لمسارات التوريط والاستخدام غير المباشر لا يعني تبرئة مطلقة للقادة الثلاثة سالفي الذكر – الشواف والحاج سري والطبقجلي - من تحمل مسؤولية المشاركة في الأحداث، بل استنتاج اقتضاه سياق تحليل البواعث والمسببات لا أكثر. وقد تكرر هذا الأمر في انقلاب 8 شباط 1963 البعثي القومي المدعوم غربيا ضد قاسم، حيث تم اختيار عبد السلام عارف زعيما وقائدا ورئيسا للدولة بعد نجاح الانقلاب، رغم كل التحفظات التي سجلها القوميون والبعثيون، عسكريين ومدنيين عليه، استغلالا لدوره ورتبته العسكرية في انقلاب 14 تموز الجمهوري ولعدائه لرفيقه وشريكه قاسم. ولكن عارف ما لبث أن قلب لحلفائه الجدد ظهر المجن وقام بانقلاب معاكس ضدهم بعد عدة أشهر - بالتحديد في 18 تشرين الثاني من السنة ذاتها- وطردهم من الحكم وانفرد هو وحاشيته به. ثم برأ نفسه مما حدث وفضح الجرائم والارتكابات البشعة التي ارتكبها القوميون والبعثيون ومليشياتهم المسماة آنذاك "الحرس القومي" ضد الديموقراطيين واليساريين في كتاب أصدرته حكومته تحت عنوان "المنحرفون" ويضم عشرات الشهادات لضحايا وذوي ضحايا تلك الأيام من رجال ونساء.

وبصدد نظرة بعض قادة تمرد الموصل إلى قاسم وعارف، نضع أيدينا على شهادة غاية في الأهمية للضابط القومي الناصري صبحي عيد الحميد، والذي أصبح وزيرا للداخلية في حكومة عارف بعد انقلابه على البعثيين سنة 1964 والذي عرف بعدائه الشديد لقاسم حيث كتب يقول ( وكان العقيد رفعت الحاج سري لا يثق بعبد السلام عارف، وكان يقول لنا إن عبد الكريم قاسم أخلص من عبد السلام عارف في توجهه الوحدوي وإنه ممتعض من تأييد البعثيين والقوميين لعبد السلام. لذلك يخفي – قاسم – هذا التوجه إرضاء للشيوعيين الذين أخذوا يقدمون له الدعم والإسناد، وكذلك كان يعتقد باقي قادة الفرق والتشكيلات العسكرية. ص 32 / مذكرات صبحي عبد الحميد). وكما قلنا، فهذه الشهادة ينقلها لنا أحد أشرس أعداء قاسم وهو صبحي عبد الحميد، فكيف يمكن أن نصدق أو نفسر كل تلك التشنيعات التي قيلت من جهة اليسار بحق الحاج سري بشكل خاص ورفاقه الآخرين بوصفهم رجعيين ومتعطشين للسلطة وعملاء للاستعمار الغربي منذ البداية وحتى النهاية، وكيف نفهم ونفسر مزاعم القوميين والبعثيين المشابهة والتي كرست هذا الفهم المغلوط والترتيب المريب لدورهم وصفاتهم إن لم تكن قائمة على منطق وسيروات التوريط واستغلال الظروف الموضوعية والذاتية عهد ذاك؟

بعد أن سيطر المتمردون على الموصل وسحقوا مقاومة خصومهم المنظمة في قطعات الجيش، وخصوصا فوج الهندسة العنيد والذي ظل يقاومهم حتى آخر رصاصات مقاتليه، وحل الليل لم يحدث شيء في أنحاء العراق الأخرى، وشعر المتمردون بأنهم محاصرون ويواجهون الهزيمة. وفي صباح اليوم شنت طائرات سلاح الجو العراقي التابعة للحكومة وبقيادة أحد المقربين من قاسم هو جلال الأوقاتي غارة جوية على مقر قيادة الشواف ودمرته وأصيب الشواف بجراح طفيفة ولكن قتل لاحقا . هناك ثلاث روايات حول مقتله رواية تقول أن جنودا من فوج الهندسة شاهدوه وهو يتجه للمستشفى فطعنه أحدهم بخنجر ثم أطلق عليه النار ورواية أخرى يقول بها القوميون وتفيد أنه اغتيل من قبل ممرض في المستشفى وثالثة تقول نتيجة للقصف الجوي. وهنا انطلق العنف الدموي وفتح باب القتل والتدمير الذاتي على مصراعيه.

وتدخل سلاح الجو العراقي الموالي لقاسم، وقاد جلال الأوقاتي سربا من الطائرات المقاتلة أغارت على مقر قيادة الشواف ودمرته. وأصيب الشواف بجراح طفيفة خلال تلك الغارة، ولكنه قتل عندما نقل إلى المشفى. وهناك ثلاث روايات عن مقتله، أرجحها – من وجهة نظر بطاطو - أنه طعن بخنجر من قبل أحد الجنود الناجين من فوج الهندسة والذين قتل الكثيرون منهم في المعارك، ثم أطلقت عليه النار فمات فورا. واستمرت أعمال الانتقام والقتل في المدينة وخصوصا بعد الكشف عن مصير عدد من الشيوعيين واليساريين الذين قتلوا في السجن أو في أماكن أخرى كالجبوري وقزانجي. وذهب عدد من الأبرياء ضحية لهذه الموجة العاتية من العنف الثأري والانتقام المتبادل وشكلت محكمة عاجلة وغير رسمية، وثمة من يقول أكثر من محاكمة، أصدرت أحكاما بالإعدام على عدد من الناس بينهم بعثيان، وفي قرية دلماجة شرقي الموصل، أعدم 17 شخصاً. وقد شاب هذه الأفعال والممارسات رائحة قومية وعنصرية فقد أكد شاهد عيان لاحقا أن رئيس تحرير جريدة حزب البارزاني " خبات" (وعدد من البارزانيين يقودهم أحد أبناء الملا مصطفى، ربما كان لقمان، شكلوا جزءاً من فريق الإعدام الذي شكل لهذا الغرض. بطاطو 3/ 200) ولكن هذه الواقعة ظلت تفصيلا جزئيا في خلفية المشهد وسادت ملامح العداء بين الشيوعيين والقوميين.

و بحلول ليل 9 آذار استعادت قوات الجيش الموالية لقاسم ومعها المسلحون في المقاومة الشعبية السيطرة على معظم أنحاء الموصل وتم تفكيك وإنهاء نقاط التمرد، ولكن الثمن الآني والمستقبلي كان باهظا في الأرواح والماديات والمعنويات.

وكالعادة الدارجة في أحداث كهذه في العراق وغير وغيره، كان عدد القتلى والجرحى من الجانبين في أحداث الموصل المأساوية موضوعاً للمبالغات والشائعات التي بلغت أوجها مع ما بثته إذاعة "صوت العرب" المصرية والمؤيدة للتمرد حيث زعمت أن عدد الأشخاص الذين قتلوا في أحداث الموصل أكثر من (عشرين ألفا من الأهالي في الموصل/ الحمداني مصدر سابق). في حين لم يتجاوز أعلى رقم لعدد القتلى أعلنته المعارضة القومية والبعثية العراقية المائتي قتيل، ولكن المتفق عليه كما يسجل بطاطو (أن العدد كان في حدود المئات وليس الآلاف. ويعد الشيوعيون حوالي 110 قتلى و300 جريح في الموصل نفسها، و30 قتيلا و20 جريحا بين أتباع الشواف، أما البقية فمن الجنود و"رجال الشعب". واستطاع القوميون أن يعدوا ما لا يقل عن أربعين قتيلا في صفوفهم وصوف حلفائهم وجعلوا عدد القتلى كلهم في حدود 200. وكذلك فعل محمد حديد، وزير مالية قاسم والشاهد الذي يستحق الثقة. بطاطو 3/ص200). أما الحمداني فيعطي أرقاما قريبة من أرقام بطاطو، ويذكر (خلال المعارك التي دارت بين الانقلابيين، والقوى المساندة للسلطة ، سقط من بين الانقلابيين 47 فرداً، وذلك حسبما ورد في تقرير الطب العدلي في الموصل، وأكده المقدم يوسف كشمولة، أحد المشاركين في الحركة الانقلابية خلال الاحتفال الذي أقيم في ملعب الموصل ،إحياءً لذكرى انقلاب الشواف، بعد وقوع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963). وأرجح أن الرقم الأخير يتعلق بالقتلى العسكريين من أنصار الشواف.  

يتبع في الجزء السادس من هذه الدراسة.

 

علاء اللامي

 

في المثقف اليوم