آراء

كاتالونيا الكردية

abdulhusan shaabanحين أقدم برلمان كاتالونيا (في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني/2015) على اتخاذ قرار يطلق عملية Prossecتهدف إلى إقامة جمهورية مستقلة لكتالونيا، وحدّد سقفاً زمنياً لها 18 شهراً أي (عام 2017)، استعدتُ تصريحات عدد من المسؤولين الكرد وفي مقدمتهم رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني بخصوص الاستقلال وفقاً لمبدأ حق تقرير المصير، وهي المسألة التي ظلّت تلوح في الأفق، كلّما نشبت أزمة بين بغداد وأربيل.

وإذا كان منسوب المطالبة بقيام جمهورية كاتالونيا قد ارتفع في السنوات والأشهر الأخيرة بسبب اشتداد الأزمة الاقتصادية في إسبانيا، فإن المطالبة باستقلال كردستان وقيام كيانية خاصة به قد ارتفع رصيده مع اشتداد الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العراق، وخصوصاً بعد هيمنة «داعش» على محافظة الموصل ونحو ثلث أراضي البلاد.

عاملان أساسيان دفعا الكاتالونيين إلى رفع درجة حرارة مطالبهم، الأول وهو تاريخي يتعلق بالهوّية والخصوصية الثقافية الكاتالونية، ولاسيّما اللغة، والثاني هو الاقتصاد حيث تشعر كاتالونيا وهي المقاطعة السادسة من مقاطعات إسبانيا السبع عشرة، بأنها الأغنى، لكن نصيبها من الخيرات والخدمات والرفاه هو الأقل، علماً بأن نحو 20% من الناتج القومي الإجمالي يأتي منها، في حين إن مساحتها لا تزيد على 6% من اليابسة في إسبانيا، ونفوسها يبلغ عددهم سبعة ملايين ونصف المليون ويؤلفون 15% من السكان.

تبنّى برلمان كاتالونيا قراراً بإقامة جمهورية كاتالونيا المستقلة بأغلبية 72 نائباً من أصل 135، ونصّ القرار على عدم امتثال النواب الكاتالونيين بعد اليوم لمؤسسات الدولة الإسبانية، وخصوصاً للمحكمة الدستورية. وكانت هذه الأخيرة قد اعتبرت القرار مخالفاً للدستور، وإن التمسّك بقرار الانفصال سيكون عصياناً. أما رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي فقد شدّد على أنه لن يسمح لكاتالونيا بالانفصال، واعتبر قرار البرلمان الكاتالوني استخفافاً بمؤسسات الدولة ومحاولة لهدم الديمقراطية.

جدير بالذكر أن مقاطعة كاتالونيا التي تقع شمال شرق إسبانيا وتبلغ مساحتها 32.106 كم2 والمؤلفة من أربع محافظات أكثرها شهرة: برشلونة التي يبغ عدد نفوسها خمسة ملايين وخمسمئة وأحد عشر ألف نسمة، إضافة إلى جرندة ولاردة وطراغونة، كانت قد فازت فيها القوى المطالبة بالاستقلال للمرة الأولى في آخر انتخابات نيابية.

وكان إقليم كاتالونيا يتمتّع بالحكم الذاتي خلال الجمهورية الإسبانية الثانية في عام 1931، ولكن بسبب انحيازه لمصلحة الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية وسياسات التسلّط والهيمنة التي قادها فرانسيسكو فرانكو بعد عام 1936، واستمرت حتى وفاته في العام 1975 فقد تعرّضت حقوق الكاتالونيين ومطالبهم المشروعة للغمط والإنكار، فضلاً عن هدر لحقوق الإنسان، حيث تم حظر استخدام اللغة الكاتالونية في مؤسسات الدولة، وفي المناسبات العامة، وأعدم رئيس كاتالونيا حينها بتهمة «التمرّد العسكري».

ولكن الحكم الذاتي أعيد العمل بقانونه في عام 1979 ومع ذلك فقد ظلّت كاتالونيا تشعر بالإجحاف، خصوصاً استثنائها من الحق الذي ظلّت تطالب به، وهو تحصيل ضرائبها، إسوة بإقليمي الباسك ونافار، وذلك بعد تقسيم البلاد إلى 17 إقليماً.

وكان لسوء الأوضاع الاقتصادية في عموم إسبانيا أن انعكس سلباً على إقليم كاتالونيا الذي يشعر سكانه بالإحباط حيث تدنّت شروط الرعاية الصحية وانخفض مستوى التعليم والخدمات الأخرى، وبسبب هذه الأوضاع ارتفعت نزعة الشعور القومي وزاد تمسّك الكاتالونيين بهوّيتهم وخصوصيتهم القومية واللغوية وانتمائهم الموحد، وكان مركز دراسات الرأي قد أجرى عدداً من الاستفتاءات التي يلمح منها درجة تطور الرغبة في الاستقلال، ففي عام 2005 كانت النسبة المؤيدة له تبلغ 13.5% ووصلت هذه النسبة إلى 34% في عام 2012 وخلال الانتخابات التشريعية، لترتفع في النصف الثاني من عام 2014 إلى 40.5%. وكان أحد الأسباب في ارتفاع الموجة الاستقلالية عن المملكة الإسبانية هو سياسات رئيس الوزراء راخوي منذ توليه الوزارة عام 2011 واستجابته لمطالبات الاتحاد الأوروبي باتباع نهج تقشفي بسبب الديون المتراكمة.

وفي التاسع من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أي في عام 2014 أجرى استفتاء بشأن حق تقرير المصير (وإن كان رمزياً أي غير ملزم)، وكانت النتيجة 81% يوافقون على قيام دولة مستقلة و10% يوافقون على الانفصال من دون إعلان دولة، وبسبب ذلك تم استجواب رئيس كاتالونيا أرثور ماس، وخضع لسلسلة من التحقيقات منذ شهر ديسمبر/ كانون الأول 2014، لكونه تحدّى السلطات القانونية في البلاد.

ثلاثة سيناريوهات بخصوص المستقبل يمكن التوقّف عندها، وهي يمكن أن تظهر كردياً أيضاً، خلال المدّة القريبة القادمة.

السيناريو الأول، هو أن ترضخ حكومة مدريد لمطالب الاستقلال المالي والاقتصادي لإقليم كاتالونيا، وبهذا المعنى يمكن تأخير أو تأجيل إعلان الكاتالونيين فكرة الاستقلال الكامل، بالاستعاضة عنها باستقلال شبه كامل يكون لمصلحة الطرفين، خصوصاً في الشؤون الاقتصادية والمالية ودرجة عالية من الاستقلال الإداري، وفي جميع المرافق من دون استثناء، وقد تكون مثل هذه الفكرة الكاتالونية كردية أيضاً، بمعنى منح بغداد استقلالاً اقتصادياً ومالياً للإقليم وحلّ مشكلات النفط بما فيها الإنتاج والتصدير واستمرار انسيابية وصول الموارد إلى إقليم كردستان، والعمل على حل المشكلات الأخرى، مثل كركوك والمناطق المتنازع عليها سلمياً حتى وإن تطلّب خطة طويلة الأمد، وهذا بالطبع يحتاج إلى استقرار وتوافق سياسي والتخلّص من "داعش" وذيولها.

السيناريو الثاني هو قبول مدريد مبدأ حق تقرير المصير للكاتالونيين وإجراء استفتاء بخصوصه، وستكون النتيجة كما هي كردياً لمصلحة الاستقلال، وهنا لا بدّ من بدء مفاوضات وحوارات شاملة حول التفاصيل والحقوق والواجبات والأفق المستقبلي عبر اتفاقية شاملة، وبإشراف دولي لضمان التنفيذ مع حفظ الوثائق في الأمم المتحدة.

السيناريو الثالث رفض مدريد، كما هو رفض بغداد مبدأ حق تقرير المصير وعدم قبولها بالاستفتاء ونتائجه، وهنا قد يقدم الكاتالونيون والكرد على إعلان الاستقلال من طرف واحد، وهكذا ستبدأ رحلة مضنية من المشكلات والتحدّيات. وإذا كان حلف الناتو والاتحاد الأوروبي ضامناً في التوصل إلى حلّ سلمي، فإن الوضع الإقليمي في العراق، ولاسيّما جواره ليس مشجعاً، فإيران وتركيا، تعانيان مشكلة كردية قائمة، إضافة إلى سوريا، أما الحلول والمعالجات بخصوصها فهي لا ترتقي إلى ما وصلت إليه الحالة العراقية. إن ما سيواجه المسارات الثلاثة هو مجموعة من الإشكاليات والتعقيدات سواء للدولة الأصلية أو للأقاليم المستقلة، لاسيّما في جوانبها الاقتصادية وقدرتها على النهوض بأعباء الأوضاع الراهنة والمستقبلية، فيما يتعلق بالإنفاق العام الذي تغطيه الحكومة الاتحادية، ولاسيّما ميزانيات الدفاع العسكري وتبعات التمثيل الدبلوماسي ومنشآت البنية التحتية والأصول الكبرى (التي هي للدولة قبل أن تكون للأقاليم)، فضلاً عن القدرة في تجاوز إيجابيات التجارة البينية بين الأقاليم والدولة الاتحادية، ولعلّ مثل هذه المشكلات ستكون حاضرة بقوة، خصوصاً عند إعلان الاستقلال.

وفي كاتالونيا فإن ما يصل إلى مدريد هو 49 مليار دولار، في حين إن ما ينفق داخل الإقليم هو 35.4 مليار ويتحقق فائض يتجاوز 13.6 مليار دولار ينفق على الأقاليم الأخرى وعلى تغطية ديون إسبانيا، أما في العراق فإن 17% من الواردات هي حصة كردستان، فماذا يمكن أن نتصوّر حين يتم قطع هذا الاستحقاق عن إقليم كردستان، وكان مجرد تعطيل جزء منها أو تأجيل دفعها قد أحدث أزمة خطرة في كردستان وهدّد استثمارات المنطقة، وهو الأمر الذي لا بدّ من التفكير به.

إن استفتاء كاتالونيا الرمزي وقبله استفتاء كردستان الرمزي أيضاً حيث نال على 98% من أصوات التأييد، طرح أسئلة شائكة ومعقّدة وخيارات صعبة، قد يكون أحلاها مرّاً، وهذه الأسئلة المفتوحة بخصوص المستقبل لا توجد إجابات موحدة بشأنها، فضلاً عن المحاذير التي ستواجهها. وهو الأمر المطروح كردياً، وقد كانت تصريحات رئيس الإقليم مسعود البارزاني (سبتمبر/ أيلول/ 2015) واضحة وصريحة حين أكّد أن الأكراد بدأوا بخطوات حقيقية نحو الاستقلال وستستمر بهذا الاتجاه، لكنه كان واقعياً حين أشار إلى أن من الصعب تحديد الوقت.

ومثل هذا التقدير سيطرح مستقبل الإقليم الكاتالوني أو الكردي، المرهقان بسبب الأزمة الاقتصادية والصراعات الراهنة والمعتّقة على بساط البحث، خصوصاً تقاطعاته واشتباكاته، مع دوائر إقليمية ودولية، سياسية وقانونية بما فيها الأمم المتحدة، فقد كانت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مثيرة وغريبة، حين قال إن الأمم المتحدة لا ترى من حق إقليم كاتالونيا الانفصال عن إسبانيا (ويقصد من طرف واحد).

جدير بالذكر إن محكمة العدل الدولية هي من أعلنت في 24 يوليو/تموز 2010 عن رأيها الاستشاري بشأن استقلال كوسوفو، معتبرة بأن هذا الاستقلال لا ينتهك قواعد القانون الدولي، كما أن الأمم المتحدة ذاتها من وافق على انفصال جنوب السودان باستفتاء شعبي حصل فيه الجنوبيون على أكثر من 98% من الأصوات المؤيدة وقبلت الأمم المتحدة دولة جنوب السودان عام 2011. والأمم المتحدة هي ذاتها التي قررت قيام دولة تيمور الشرقية بانفصالها عن إندونيسيا في عام 2002، وهي ذاتها التي كانت وراء قيام دولة «إسرائيل» بموجب قرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947 إخلالاً بميثاقها ومقاصدها وأهدافها، في حين إنها في الحالات المطروحة تستجيب لمقاربة القرار رقم 2625 الصادر في 24 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1970 الذي تخطّى القرار رقم 1514 الخاص بتصفية الكولونيالية والصادر في 15 ديسمبر/كانون الأول 1960 بامتداد ساحته ليس فقط إلى إنهاء الاستعمار بل إلى تلبية مطالب الشعوب لجهة حقوقها وحرياتها في تقرير مصيرها.

 

د. عبد الحسين شعبان

 

في المثقف اليوم