آراء

حوار شرقي مفتوح مع العجوز اوربا

mahdi alsafiالاختلاف بين مفهوم الصراع والصدام الحضاري بين الامم والشعوب اختلاف كبير، ليس لان المفاهيم القريبة من المعنى العام تبعد عن الانسان العادي الية كشف الفرق بينهما، التي قد تساق بخبث احيانا في الاوساط الثقافية او المعرفية لايصال فكرة شيطانية خطيرة للمجتمعات والعرقيات المتعالية على بقية اقرانها، صدام الحضارات مفهوم امبريالي رأسمالي عنصري مقيت، بينما صراع الحضارات اوالثقافات (وهو مشروع كتابي المنجز والمتوقف عن المراجعة مؤقتا بغية ايجاد جهة تطبعه) هو صراع معرفي بحت، ليس له علاقة بالمؤامرات والايديولجيات السياسية الاستعمارية او الامبراطورية (على الرغم من ان الحضارات ولدت داخل الامبراطوريات الا ان الامر مختلف اليوم)، يحدث هذا التنافس او التصارع الثقافي الفردي والجماعي عندما تتقابل الحضارات وتحصل عملية الغربلة للمفاهيم الحسنة او الجيدة مع المفاهيم السيئة  او التي يصعب التطبع عليها وقبولها .

في حوار سريع مع احد عجائز الثقافة الاوربية، قال العراق والشرق الاوسط عاشوا في صراع دائم "دائما يتقاتلون"،  قلت له:

هذاغير صحيح، الامبريالية تضع انفها هناك فتحصل المشاكل،

قال اليس هناك حرب سنة وشيعة في العراق،

قلت كلا لايوجد، فعبر التاريخ الحديث  لم يسجل اي صراع سني شيعي عدا ماذكره المؤرخون عن الاحداث بين الاتراك والصفويين في بلاد الرافدين من اجل الهيمنة على ثروات بلادنا،

قال العراق لم يستقر ابدا،

قلت بالعكس حتى في عهد البعث الذي كنا نكرهه ونعارضه، كان وضع البلاد من خدمات ومستوى معاشي جيد، وافضل حتى من بلادكم،

قال وهل هذا حصل بفعل الاستعمار البريطاني، الذي علمكم الحضارة وكيفية ادارة الدولة،

احترت في اجابة هذا الرجل، الذي ازعجني رده العنصري،  معتقدا ان التقدم العلمي ولد حكرا على العقل الغربي، رافضا تبريراتنا المستندة الى الحقائق والوثائق والادلة الواقعية المجهولة عنده، حيث اكمل مقطوعته التلقينية السطحية بأن المجتمعات التي تعيش حالة الفوضى والمشاكل والصراعات الدائمة تلوم الاخرين بدلا من الاعتراف بفشلها في ادارة المجتمع والدولة بشكل حضاري كالمجتمعات الاوربية ......

  العراق كان تحت سيطرة اكثر الامبراطوريات تخلفا عبر التاريخ (الامبراطورية العثمانية)، وعندما تخلص العراق من هذا المرض الخبيث،  جاء الاستعمار البريطاني، رد العجوز وهي التي علمتكم وساعدتكم ببناء دولة، ثم اكمل هذا الماكر هل كان عندكم جامعة مدرسة قبل الاستعمار البريطاني، قلت نعم كان عندنا منذ قرون؟

هذه النظرة الخاطئة التي تحملها المجتمعات الغربية عن ابناء الشرق الاوسط  لاتعني انهم مجتمعات متحضرة، فما حدث في الحربين العالميتين المدمرتين الاولى والثانية وقبلها حملاتهم الصليبية البشعة، وابادة السكان الاصليين للدول التي غزاها اصحاب البشرة البيضاء، لايمكنها ان تتغنى بالامجاد الحضارية القديمة، فما يحدث في الانتخابات الرئاسية الامريكية، وحالة الفوضى العالمية التي تعيشها السياسة الدولية، والبون الشاسع بين عقلية المجتمعات الغربية التي ترى القضايا الدولية الحساسة بطريقة ساذجة، وبين الواقع السياسي للصراعات الاممية للاقطاب الدولية المهيمنة على العالم، والتي تعرف عندهم بصدام الحضارات الحتمي، هو لايشبه صراع الحضارات القديمة التي صنعت المعرفة، هذه المنحدرات المعرفية لاتمت بصلة للتقدم التكنولوجي او بزوغ  مايسمى عصر الالكترون، فالحضارة التكنولجية ليست حضارة معرفية اخلاقية مطلقة، بل هي اصبحت بمرور الزمن السريع الذي تعتمد عليه اداة لتخريب اخلاقيات وثقافات وموروثات المجتمعات المتحضرة، تستطيع ان تتلاعب بمشاعر وعقول ملايين البشر دون ان تكون صادقة احيانا في نقل المعلومة او الخبر او الحادثة، ولهذا بقيت بعض الامم حذرة من الدخول الى الحضارة الالكترونية دون شروط، واذكر هنا تعريف واضح للرئيس الروسي بوتين في معرض رده على اسئلة احد  الصحفيين الموجهة له بما معناه "بأن روسيا تختلف عن امريكا كحضارة ومجتمع وتاريخ وحتى بطريقة حياة وعيش الشعبين، وهذا الامر ايضا لايعني التمسك بالهوية وتعريفها، اي ان الشعوم والامم البعيدة عن الحضارة الالكترونية بشكل جزئي  لاترفضها انما لديها ضوابط صارمة لايمكن التخلي عنها بسهولة.

اوربا العجوز تعيش حالة من التناقض المعرفي بين مفهوم الصدام والصراع الحضاري، وللامانة نقول ان بعض مفكري ومثقفي الغرب وامريكا هم اضعف الطبقات الاجتماعية التي ترفض بعض الاساليب الامبريالية الرأسمالية الاستكبارية المتنافسة على طرقة السيطرة والهيمنة على مقدرات الشعوب ومصائرها، لان الماكنة الاعلامية الدولية هي صاحبة الرأي المسموع بقوة في الشارع، فبين فكرة القرية الكونية والعالم الواحد ودول متعددة الثقافات والاعراق والاثنيات وبين اليمين الغربي المتطرف، الذي انتعش كثيرا في السياسة الغربية بعد ظهور داعش، تراجعت امامها فكرة عولمة الحضارة والثقافة بين الامم والشعوب بطريقة السيد والعبد (الغرب والشرق)، هذه النظرة الاستعلائية التي اشرنا اليها سابقا، تواجهها حضارات كبيرة بموروثاتها وثقلها الاجتماعي والدولي، كالحضارة الصينية والروسية والايرانية والعربية(والحضارة الهندية وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ودول شرق اسيا)، واجهتها بشكل مباشر بين فترة زهاية الحرب الباردة الاولى١٩٩٠والثانية بعد ٢٠٠٣ اي بعد احداث العراق وسوريا واحداث الربيع العربي في مشروع الشرق الاوسط الكبير، ولكن بنسب متفاوتة ادت نتائجها الى تفاقم الازمات السياسية الدولية والاقتصادية والانسانية مع زيادة حدة الارهاب،  وتكثيف اليات دعمه لضمان ديمومته، كل هذه الصور التي باتت واضحة وضوح الشمس تبقى غالبية المجتمعات الغربية بعيدة عن حقائقها،  لاتعرف جل اسباب تلك النزاعات وتعزوها للتخلف والجهل والنقوص الحضاري، في دول العالم الثالث وحلفاءها، ماوراء المتوسط الابيض، ماحصل في العراق وسوريا يزيل قناع الحضارة الغربية المادية، ليظهر لنا الطوفان الرأسمالي الامبريالي المدمر، الذي تعجز عن مواجهته اغلب المجتمعات الغربية، المسلوبة الارادة ديمقراطيا، والذائبة بلا شعور بالمظاهر والحياة الرأسمالية الجامدة، والتي يقول عنها المفكر العالمي جومسكي عالم لايترك لك مجالا للتأمل او التفكير!

ثم يسألونك هل كان في العراق جامعة قبل الاستعمار البريطاني.

قد يشكك العديد من المثقفين والمفكرين العرب حول ضرورة التمسك بمبدأ الاعتزاز بالحضارة والثقافة العربية، فينظرون الى النتاج السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي والتنموي الهابط، الذي اوصلنا مؤخرا الى مجتمعات فاشلة لاتقوى على فهم ابسط معارفها المقدسة  "كالدين الاسلامي"على سبيل المثال، من انه خير دليل على فشل تلك الادبيات التي فاخرت بأرثها التاريخي او الحضاري، وكأن حضارتنا مجرد وعاء اجوف فارغ من المحتوى، وهذا الامر بالطبع هو يظهر حجم المأساة التي تواجهها المجتمعات العربية منذ عقود، لكن هذا لن يمنعنا من التفكير والعمل على خلق جيل واعي يأخذ على عاتقه اعادة ترميم الحضارة العربية الاسلامية الشرقية، تماما كما تسجل الامة الايرانية حاليا انتصارا حضاريا اقليميا وحتى عالميا ابهر العالم،  الذي امتزجت به ثلاث حضارات قديمة وحديثة"الحضارة الايرانية والاسلامية والتكنولوجية، هذا الجيل لابد ان يتعلم كيفية التجرد والتفرغ لهدف اسمى واعظم من الاهداف الشخصية او الاثنية والفئوية، ويقتنع بأن عملية ازالة الاثار الاستعمارية لازالت قائمة، وان طموحهم السياسي لايمكن له ان ينجح دون تتوفر له عوامل عدة  لصناعة دولة الامة...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم