آراء

مهدي الصافي: اصلاح الموروث الاجتماعي ومشاريع الانقاذ السياسي

mahdi alsafiمسيرة شعب مليئة بالخوف والقلق والنظر من خلف الشبابيك للمجهول، دولة وحكومات واجهزة امنية قمعية، وعنف شرائح مجتمع الشوارع السائبة الغائبة عن القانون، واصرار كبير من اجل البقاء والتقدم والحياة.

تعابير شعبية يومية تختزل فترات وحالة الاحباط والانكسار....

 (شعب ما تصير له جارة..... الدنيا غربال.. دولاب.. حظوظ... العراق انتهى.. الفقير له الله .. اخيرا قالوا ماكو- لاوجود دولة)

لم اعتاد على قول تلك العبارات ولكنني اعتدت سماعها من قبل ابناء شعبي البسطاء على مدى اكثر من اربعة عقود، ولكثرة معاشرة الحزن والمأساة والظلم والهجرة صرت اذكرها، ليس على سبيل الحاجة لها، او للاستهزاء بها كعبارة شعبية رددها المتعبين في بلادنا كثيرا، ولكنني صرت اراها كصدا يخرج من الحواس فيصبح بهيئة صورة جبلا من المأساة لايخر ساجدا لاحد، شعب لايعرف اين يختفي من حظه العاثر، احقيقة ان ارضه مقدسة ام ملعونة، امن الايمان قبول قرابين الضحايا والتسليم بها على انها قضاء وقدر، ام لازلت عقيدته امر بين امرين، هل يمكن لعرق السيد وبصاقه وعجلات سيارته تدخله الجنة في الدنيا والاخرة ام هو مضطر ان يركع دائما لانه تعلم السجود للاسياد، فهو موروث قديم متجدد، لم تختفي بعد سياط الجلادين والاقطاعيين،

هل المرجع او رجل الدين معصوم ولابد ان نطيعه حتى لو نامت على عقله الشيخوخة، ماهذه الكوارث التي لايمكن التصديق من انها عقابا الهيا لنفاق المجتمع وذنوبه، ولكن ماذا عن بقية ذنوب الشعوب والامم الاخرى التي اقرت زواج المثليين، نحن ام هم على حق، عالم اليوم لايعترف الا بلغة قوة رأس المال، واصحاب المثل والقيم العليا في اخر القافلة، لم يعبروا الى القرن التكنولوجي الواسع....

الدعشنة ذلك المصطلح الذي اطلقته لاول مرة في شبكة تويتر الاجتماعية اردت منه ان يصبح شاملا لكل العوامل والاسس والقواعد الاجتماعية الموروثة، الواقفة بالضد من مشروع انسنة المجتمعات المغلقة، هذه الظاهرة العالمية التي عبرت اول مرة من الغرب بعد نهاية الامبراطورية العثمانية الى الشرق الاوسط، وبدأت مرحلة بناء قواعد الانظمة الدكتاتورية المستبدة في المستنقعات العثمانية السابقة، بالتأكيد خرج الظلاميون دون ان يتركوا خلفهم اثرا لشبه دولة، حتى امتزجت كل الثقافات والموروثات المشاكل والعقد الاجتماعية والتركة العثمانية في بناء الدولة التابعة للاسياد الجدد، تلك الحالة لم تسمح لنا كعراقيين او كشعوب اسلامية من ان نراجع الاسس الخاطئة التي تركت لها اثرا في المجتمع، كسلطات العشائر والقبائل، وعملية توزيع والاستيلاء على الاراضي، وتقاسم المناصب الحكومية، بل زحف الموروث البدائي القروي في العهد الملكي بقوة الى المدن، واستمر في العهد الجمهوري القاسمي الاول ثم تعزز وجوده بقوة في اخر الجمهوريات الاستبدادية في عهد البعث البائد،

اجيال كاملة تأتي وتذهب دون تغيرات ثقافية واجتماعية جذرية، وهي ضائعة بين التداخل العنيف المتلاصق جدا بين المدنية الطارئة، وبين الموروث القبلي المتصلب، تراه واضحا في مدنية الرجل العراقي الذي يعود الى زيه العربي القديم حال وصوله سن الشيخوخة، لكن المشكلة ليست في الزي العربي الجميل ولكن في مايحمل من معاني ثقافية تقليدية ترجع معه بكل تفاصليها، وتنزل فوق اسماع الابناء كوصايا العهد القديم الحديث، اما اليوم فقد غابت المدنية بالكامل عن المجتمع، حيث عمد البعض من المتخلفين الانتهازيين الذي جاؤا بقطار النظام العالمي الجديد الى ترسيخ دولة الريف، فصار المسؤول الحكومي يعلن عبر الاعلام دون خوف من القانون ومخالفا للدستور وبلاخجل ايضا من نفسه او المجتمع بحل خلافاته السياسية وفقا للعرف والتقاليد العشائرية،

هذا البحث يحدد بكل وضوح عملية التشخيص الابتدائي لمراحل اصلاح الموروث الاجتماعي والديني بشكل جذري، والذي يشمل ايضا اصلاح منظومة الاخلاق الاجتماعية عبر تشريع حزمة من القوانين الخاصة المتعلقة بتجريم ظاهرة الدعشنة بالكامل (بتجريم العنف بكل انواعه بالاخص الاسري والاجتماعي والثقافي والعشائري، وكذلك العنف الطائفي والاثني، قوانين تمنع التحرش الجنسي واضطهاد المرأة، قوانين اصلاح الثقافة التربوية في المؤسسات التعليمية، منع تأسيس الاحزاب على اسس عرقية او طائفية او اثنية، الاتجاه نحوالثقافة العلمانية الملتزمة بالثوابت الاجتماعية الاسلامية الشرقية، اعادة كتابة التاريخ العراقي السياسي الحديث وفق نظرة ودراسة تحليلية نقدية محايدة، الخ.)

اما بخصوص عملية انقاذ الدولة العراقية من الانهيار الكامل فهناك عدة حقائق ونتائج باتت معروفة للكثير، وهي تستمد مقومات نجاحها وفقا لدراسة نتائج الاخطاء والكوارث السياسية او نظرية التراكم للعملية السياسية الفاشلة االتي لاتعتمد على النوع والطرق والاساليب فقط وانما على الكم، فكثرة تراكم الاخطاء تجعل عملية تطور اثارها الكارثية اشبه بعملية التحضير البطيء للانفجار العظيم، حالة الفساد والفشل المتراكم في العراق منذ العهد الملكي وصولا الى افسد تجربة سياسية في تاريخ العراق الحديث بعد٢٠٠٣ ضاعفت من تعقيد مهمة محاولة بناء دولة ديمقراطية حضارية راسخة، حيث اعيد تسويق نموذج بناء النظام السياسي المتخلف، الذي ارجع المجتمع والدولة الى عهد الاستعمار البريطاني اوائل القرن الماضي، بتضخيم قوة مدمرة لاية محاولة مدنية لبناء دولة المؤسسات هي قوة القبيلة او العشيرة في الحكم، ومن هنا لابد التأكيد من ان عملية الاصلاح بالطرق الترقيعية المعتادة او المتعارف عليها في الدول المشهورة بالفساد المالي والاداري والسياسي لايكتب لها النجاح وتأخذ مديات وازمنة طويلة دون وجود اثر بارز او تغيير شامل للواقع السياسي المزري المتناغم مع هوى الفاسدين، و بات من الصعب بمكان تغيير تلك الحالة، التي من خصائصها او مميزاتها انها تتطور بعكس الاتجاه الحضاري العالمي لبقية الشعوم والامم، ولعل الوضوح في تلك المسائل او المواقف المصيرية بحاجة الى عملية مصارحة مفتوحة لا الى مجاملات تخريبية اخرى، نقولها بوضوح لم يعد بمقدور الشعب العراقي ولا حتى احزابه وكتله السياسية او المرجعية الدينية ان تغير الواقع المأساوي للدولة، وان استطاعت ان تشكل حكومة تكنوقراط نزيهة بالكامل، ذلك لعدة اسباب منها..

اولا..لم يعد بمقدور اي حكومة كفاءات نزيهة استعادة الثروة الضخمة التي نهبت من خزينة الشعب

ثانيا.تحتاج الدولة الى لجان كبيرة لاعادة توزيع الوظائف بشكل عادل وفقا للخبرة والكفاءة وبالطبع التحصيل العملي

ثالثا.اعادة بناء المؤسسة العسكرية والامنية والاستخبارية على اسس وطنية مهنية

رابعا..بدلا من اصدار العفو، الدولة بحاجة الى قوانين صارمة تعالج مسألة الفساد والارهاب لاستئصاله من الجذور

خامسا.تعديل الدستور العراقي واضافة المواد الكفيلة بحماية ثروات وحقوق وحريات الشعب

سادسا.تعديل الدستور للتحول الى النظام الرئاسي

سابعا.الغاء سلطة العشائر والقبائل وتجريم فض النزاعات عشائريا

ثامنا.اصلاح النظام التربوي والتعليم العالي والتقليل من فوضى الكليات الاهلية، بل وحصر الاقسام الطبية والعلمية والقانون بالتعليم الحكومي فقط

تاسعا.اصلاح النظام الصحي وتغيير الية عمل المستشفيات والعيادات الطبية الحكومية والخاصة

عاشرا.وضع نظام ضريبي ومصرفي متطور ينصف الفقراء ويحاسب الاغنياء

حادي عشر.. اصلاح ما اسقطه العراق من خلال التجربة نظرية الفصل بين السلطات في النظام الديمقراطية وذلك عبر جعل السلطة التشريعية سيدة السلطات الثلاث اي انها السلطة المهيمنة على السلطتين التنفيذية والقضائية من خلال التحكم بهما وبمسؤوليها، في حين ان التجارب الاوربية والامريكية انتبهت الى تلك المنقصة من خلال اضافة سلطة رابعة مهيمنة على السلطة التشريعية الادنى البرلمان اي هناك بعض الدول وضعت سلطة مجلس الشيوخ وسلطات المحاكم الفيدرالية لمشاركتهم بالموافقة على تشريع القوانين، وبالتالي يصبح امر استفراد البرلمان بالسلطات الاخرى شبه معدوم او مقيد بشروط، كأن يكون احيانايتطلب قبول او نقض القواتين موافقة سلطة رئيس الجمهورية ومجلس الشيوخ كما في امريكا....الخ.

هذه مجرد نقاط مقترحة بسيطة وبكل تأكيد ان لدى المواطنين العديد من الاشكالات والمؤشرات على الاداء السياسي والحكومي، كل تلك الامور تعطي صورة قاتمة عن الوضع الحالي والمستقبل، قد تبعث تلك النقاط او الصور الواقعية عن حال بلادنا على اليأس والانكسار والتراجع من المواجهة والتحدي بغية التغيير الشامل، لكن كما يقول خبراء الصحة معرفة او تشخيص المرض يسهل او يعد نصف العلاج، اذن وجود اغلبية واعية من الشعب مقتنعة ومتفقة على ان تلك الامور والمشاكل هي العقبات الرئيسية الواقفة ضد عملية الاصلاح التاريخية، التي يجب ان يقوموا بها، فهذا يعني ان نصف مسافة او مسيرة الاصلاح قد وصلوا اليها، ولن يبقى لها الا ازالة الاوساخ او العقبات من امامه لاستكمال او لاعادة بناء ماخربه الجهلة والفاشلون والمتخلفون والانتهازيون والارهابييون والخونة...

وحتى ينتهي بكاء وبؤس وحزن ابناء وادي الرافدين، هم بحاجة بعد اجتثاث الارهابيين والفاسدين من بلادهم، ان يعملوا ليل نهار دون ملل او كلل او خوف من احد الا الله عزوجل لاعادة ترميم الموروث الديني والفكري والقبلي، وتعزيز سلطة الادب والفن والبيئة والثقافة عموما، والتخلص من ثقافة الحزن، وعقلنة العودة والحنين الى الماضي وازالة التقديس عنه، صحيح ان المعاناة والالام لفقراء العراق كبيرة، وروابطهم الاجتماعية تجعلهم يحزنون بعمق حد تشنج وتصلب عضلات القلب لفقيدهم، لان معيل الفقراء ان فقد تصبح مقولة انطبقت السماء على الارض فوق رؤسهم كافية للتعبير عن حجم المأساة، لاننا لازلنا بعيدين عن نظرية ان المواطن ابن الدولة المعتمدة في الدول الغربية الانسانية، ولكن ان يبقى هذا الشعب يعاني ويصرخ من الكوارث اكثر ستة عقود على اقل تقدير، لان المعاناة في هذا البلد اشبه بأن تكون لوثة تاريخية متوارثه ترافقه منذ ان استوطنته الاقوام والاعراق الاولى، فهذه ظاهرة لابد ان يساعدنا العالم كله للتخلص منها بأي ثمن...

ملاحظة (اغلب مانقدمه من مقالات نعتقد انها مهمة هي في معظمها عبارة عن مختصر بحوث تحليلية بحاجة دائمة الى تطوير وتوسيع دائرة النقاش والبحث فيها لاستكمال الاستنتاجات واستخلاص الفوائد او المنافع المرجوة منها).

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم