آراء

أخلاقيات الانفصال.. قراءة لفيدرالية كردستان واستفتائها

تحول خطير تعيشه اللحظة العراقية الراهنة، ففي السابق كانت الحرب الكردية دائما على الصعيد السياسي أي بين الحكومة والاطراف الكردية ولم تتطور ابدا الى حالة صراع اهلي بين العرب والكُرد رغم تعايشهم المشترك في مناطق عديدة من العراق، أما اليوم على العكس من ذلك فيوجد حالة من الصراع على الاقل في العالم الافتراضي .

وفي الوقت نفسه، اثبتت مشكلات العراق السياسية، إن جميع الناس مفكرون سياسيون، لكنهم لا يمتلكون الادوات والمفاهيم، بل ينطلقون من معالجة تلك المشكلات وفق دوافع انفعالية، وهذا الامر لا يتعلق بفئة اجتماعية دون أخرى .

إن موضوع استفتاء كردستان قد نوقش من مجالات عدة طيلة الفترة السابقة، سواءً أكان وفق المجال القانوني، السياسي، البعد الاقليمي والدولي، التاريخي، إلا إن الاشتغال على الموضوع وفق النظرية السياسية لم يجد حضوراً في ذلك التحليل، بينما الموضوع في جزء كبير منه مرتبط بالنظرية السياسية، ولأن إدعاء ساسة الكُرد اليوم يقوم على القول بجملة من الححج النظرية التي يستوجب مناقشتها وفق الفرضية والواقع، وهذا ما تحاول الورقة الاهتمام به من خلال المحاور اللاتية:

أولاً: أخلاقيات الانفصال.

ثانياً:  مناقشة انفصال كردستان على وفق النظريات السياسية المعاصرة للانفصال

ثالثاً: فيدرالية كردستان( الفيدرالية القومية) والتأسيس للانفصال

رابعاً: إعادة التفكير بالولاء والاخلاص والوحدة الاجتماعة ضرورة لما بعد الاستفتاء

أولاً: أخلاقيات الانفصال:

ما الحجج الرئيسة في النظرية السياسية التي تسمح للأقليم بالانفصال عن الدولة المركزية وبإطار ديمقراطي من خلال الاستفتاء؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما الذي ينبغي أن تكون عليه شروط هذا الإجراء؟ وما مصير الأقليات داخل الاقليم؟ وبتعبير آخر يجمع كل ما ذُكر، ما أخلاقيات الانفصال؟

رغم القول بندرة الاهتمام بقضية تقرير المصير بشكل عام، إلا إنه ومع بداية التسعينيات من القرن العشرين، ولاسيما مع بعض فلاسفة السياسة وعلماء الاجتماع، مثل: (الان بوكنان، مارغريت مور، كريستوفر ويلمان، هاري بيران، ودانيال فيلبوت) وغيرهم من المنتمين الى المجالات المعرفية الأخرى، تم تقييم صراعات الحركات الانفصالية من منظور أخلاقي .

ولعل من التأسيسات الفلسفية المتعلقة بتقرير المصير بشكل غير مباشر وفق النظرية المعيارية في بداية التسعينيات مع الان بوكنان، الذي أشار إلى قضية أخلاق الانفصال، ومنذ ذلك الحين والكُتاب في الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع والسياسة المقارنة وغيرها من المجالات اهتموا بالموضوع، إذ هناك عدد من الرؤى الفلسفية ووجهات النظر المختلفة تمثلت بالاسماء السابقة وليس هنا المجال للخوض بتفاصيلها .

ومن الواجب القول، إن منذ عام 1991م، هناك العديد من الاتحادات قد تفككت، وكانت تحمل تنوعاً ثقافياً مثل الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وجنوب السودان مؤخراً، والقائمة طويلة، كما يوجد العديد من الانفصالين في جميع أنحاء العالم (مثل كيبيك-كندا، أيرلندا الشمالية-بريطانيا، فلاندرز-بلجيكا، كاتالونيا-اسبانيا، وسري لانكا وكشمير والبنجاب)، كما لا ينكر إن الكُرد في العراق والمنطقة يوصفون بالحركات الانفصالية .

لقد ذكرت مارغريت مور، إن الشأن العراق قد كشف التعقيدات التي تؤثر على النظريات السياسية (الليبرالية تحديداً) في أخلاقيات الانفصال. ولعل من أبرز المخاوف المتعلقة في الفيدرالية بشكل عام والفيدرالية القومية بشكل خاص هو ما يتعلق بمسألة الانفصال. وهنا ليس مجال للخوض بانواع الفيدرالية، إلا إنه يمكن القول إن فيدرالية كردستان العراق قد أُسست كما هو معلوم على وفق مرتكز قومي وليس اداري وهي تُقابل في الفلسفة السياسية مصطلح الفيدرالية متعددة القوميات، ورغم إن الانفصال مع الفيدرالية أو من دونها يمكن أن يتحقق، إلا إن مع الفيدرالية تكون الظروف مواتية أكثر لتحقيقه. والسؤال الذي يُطرح الآن هل يوجد إطار فلسفي(ضمن النظرية المعيارية) لقضية تقرير المصير أو الاستفتاء؟

ثانياً: مناقشة الانفصال على وفق النظريات المعاصرة:

تتفق اغلب النظريات التي تشتغل على تقرير المصير على الآراء الآتية:

الرأي الأول، القول بتبرير الانفصال في حال عدم تحقق دولة متعددة تعطي الحقوق لكل جماعاتها، وامام هذا الأمر يمكن القول، لعل الكُرد من أكثر الجماعات التي حصلت على حقوقها وابرز ذلك ما تحقق لهم من خلال تشكيل الفيدرالية وفق الثقافة الكردية، فضلاً عن إن الدستور العراقي قد اشار الى إن العراق دولة متعددة .

الرأي الثاني، يذهب الى القول بحق تقرير المصير نتيجة للظلم الذي تعرضت له جماعة ما، وبالنتيجة ضرورة سعيها الى الانفصال من الدولة التي تنتمي اليها. وهنا لا ينكر ما تعرض له الكُرد في زمن البعثية وليس هم وحدهم بل قد تعرض الشيعة كذلك الى مثل ما تعرض له الكُرد، ومع هذا الرأي للكرد الحق في الانفصال، إلا إن مشروع الانفصال كان من المفترض طرحه في عام 2003م وليس الآن، لأن الظلم قد تعرضوا له من البعثية، أما اليوم فهم جزء من السلطة .

الرأي الثالث، يتضمن حقوق الكُرد في الدستور العراقي ما بعد 2003م وهل تعرضوا فيه الى الظلم، وهنا لا يصمد هذا الرأي أمام المادة الثالثة من الدستور العراقي 2005، الذي اعترف بأن العراق بلد متعدد القوميات والاديان، وربما هذه المادة هي آخر ما توصل اليه العقل السياسي الراهن في الاعتراف بالآخر، مع الـتأكيد على وجود خلل في التطبيق أو يمكن التعبير عنه في الصراع بين الفرضية والواقع، وهنا ليس للكرد من حجة في المظلومية الدستورية لأن الدستور العراقي قد اعطاهم الحق في تشكيل اقليمهم الخاص والتعلم بلغتهم والحفاظ على هويتهم فضلاً عن عدة أمور أخرى .

الرأي الرابع، وجود نص دستوري يسمح بالانفصال. وفي الدستور العراقي لا يوجد ما ينص على ذلك، إذ ورد في المادة الأولى منه ما يأتي: جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي. وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق.

الرأي الخامس، حلم الاستقلال وبناء الدولة الأمة، وهذا ما لا يمكن لأن كردستان اليوم، وإن وجد فيه اغلبية كردية إلا أنه يحتوي على مكونات اخرى .

ثالثاً: فيدرالية كردستان والتأسيس للانفصال:

إن فيدرالية كردستان توفر بديلاً صالحاً عن الانفصال، وفي الوقت نفسه، تعزز الاعتقاد بين للكُرد الحق بالانفصال والقدرة على ممارسة السيادة الكاملة وهنا تكمن المفارقة، ففي حين توفر الفيدرالية القومية بديلاً عملياً للانفصال، لكنها تساعد على جعل الانفصال بديلاً أكثر واقعية عن الفيدرالية، لذلك من الخطأ الاعتقاد بأن الفيدرالية تزيل قضية الانفصال عن جدول الأعمال السياسي .

لم تقدم الفيدرالية وصفة سحرية لتسوية الخلافات الوطنية، وأفضل إطار لتسوية ذلك هو التفاوض بشأن هذه الاختلافات، والعمل على انجاحه يتطلب حنكة سياسية وبراعة وحسن نية وحظ سعيد. ويرى العديد من المهتمين إن الفيدرالية توفر بديلاً صالحاً عن الانفصال، لقدرتها وبشكل فريد على استيعاب طموحات الكُرد كما يُقال، وتحترم رغبة الجماعات الوطنية بأن تبقى مستقلة ومحافظة على تميزها الثقافي، فضلاً عن ذلك، فالفيدرالية نظام مرن يمكن أن يستوعب حقيقة إن الجماعات المختلفة ترغب بأشكال الحكم الذاتي المختلفة، التي يبدو إن الكرُد يريدون أكثر مما هو مشاركة بالسلطة .

ولابد من القول إن الاستفتاء حول الانفصال ينظم من خلال الدستور، لكن هذا لا يمنع من أن يستخدم هذا البند من الانفصاليين حتى وإن لم يجدوا بنداً يسمح بذلك.

رابعاً: إعادة التفكير بالولاء والاخلاص والوحدة الاجتماعة ضرورة لما بعد الاستفتاء

في حال عدم تحقق الانفصال بعد الاستفتاء ينبغي ملاحظة ما يأتي:

إن على الجميع أن يتخذوا تدابيراً معينة تهدف إلى تشجيع الاعتقاد بأن مصالح أعضاء الجماعات ستكون بشكل أفضل داخل الاتحاد وعلى العكس منه في حال الانفصال .

نتيجة لما يحصل راهناً –والحديث ما قبل الاستفتاء-هناك أزمة تشكلت داخل المجتمع العراقي راج فيها خطاب الكراهية، وهذا ما يُشكل قلقاً على الوحدة الاجتماعية المتصدعة، إذ ينبغي التفكير بالولاء والاخلاص، وهذا يُعدّ قلقاً مشروعاً، ولكن غالباً ما تم اعتماد معايير خاطئة لقياس الوحدة والولاء، إذ حددت أحياناً الوحدة والولاء بإسم القضاء على فكرة الانفصال، وهذا ليس معياراً معقولاً أو واقعياً لأي دولة متعددة القوميات، إذ لا ينبغي توقع إن مواطني الفيدرالية القومية يُعرفون أنفسهم بوصفهم أعضاءً لنظام أبدي الوجود .

ينبغي التركيز على تحديد الفوائد التي يكتسبها الناس من خلال العيش في ظل الدولة الاتحادية، فالنظام الفيدرالي مصمم تصميماً جيداً ويمكن أن يعطي أسباباً وجيهة لرفض الانفصال وربما إلى أجل غير مسمى .

وهناك حاجة ملحة تدركها القوى الكردية تتمثل بالقول بضرورة البقاء ضمن الدولة العراقية في هذه المرحلة، لكن الاشكالية الخطيرة هنا تتعلق بمشكلة الاراضي المتنازع عليها. لكن ماذا لو حصل الانفصال هل يتوقف الامر عند كردستان فحسب؟ أو ستظهر حركات انفصالية أخرى في مناطق أخرى من العراق، ولاسيما وجود مناطق تمتلك الاستعدادت للمطالبة بذلك .

 

د. قيس ناصر راهي

 

 

في المثقف اليوم