قضايا وآراء

مذكرات الجندي المرقم 195635 (4)

حيث توجد فيه قلعة قديمة عثمانية الطراز اتُخِذتْ مجمعا حكوميا ضمّ مكتب القائممقام والسجن ودوائر أخرى كالتجنيد والسجل المدني والتسجيل العقاري ودوائر أخرى كما ضم السجن الرئيس في المدينة ... عند الباب الرئيس لهذه القلعة تتدلى " ريشة " مروحة طائرة عسكرية كان ثوار السماوة قد أسقطوها في ثورة العشرين فاتخذتها القائممقامية ساعة يُعلن من خلال الطرق عليها بقضيب حديدي عن أوقات الدوام وانتهائه .. في هذا الصوب تقع مدرسة ثانوية السماوة للبنين وهي الوحيدة " آنذاك " ونادي الموظفين والمستشفى العام ومحكمة السماوة ومحلان منزويان لبيع الخمر " كان غير الموظفين من العرقجية يدلفون إليهما بحذر من عيون الناس لشراء قنانٍ صغيرة يسهل إخفاؤها في جيوبهم إذ لا ثمة مَنْ يتجرّأ على حمل " القزالقرط " على مرأى من الفتية اللهمّ إلآ إذا كان مستعدا لتلقي حجارتهم وصراخهم خلفه " سكران بالك عنّهْ .... فلوس العرك مو منّهْ " أو يهتفون وراءه " لا تنقهرْ يابو عقال ... ترى السدارة قندرة " وقد يأتيه حجرٌ طائش فيشجّ رأسه كما حدث لـ " عطا الله الكرّافي " مثلا ..

أما الصوب الكبير فإن السوق المسقوف يشطره هو الآخر إلى نصفين غير متساويين .. النصف الشمالي يُسمّى " الغربي " والثاني يسمى " الشرقي .. ولكل من هذين الشطرين شيخه وحكيمه، يلجأ إليه ساكنوه لحلّ مشاكلهم وخصوماتهم ... فالسيد " حسين السيد طفّار " كان شيخ الشطر الشرقي، أما الشطر الغربي فشيخه وحكيمه هو شنان آل رباط (كثيرا ماكان يدفع الديّات من ماله الخاص بغية إصلاح ذات البين بين المتخاصمين وكان تواضعه مضرب مثل بين أهالي المدينة) .

ومع أن مساحة السماوة وتوابعها من أقضية ونواح ٍ وقصبات تأتي بعد محافظة الأنبار من حيث المساحة الجغرافية، إلآ أنها بقيت عبر كل عهود الحكم خارج اهتمام الحكومة المركزية كما لو أنها تقع في قارة أخرى ـ وخصوصا في عهد الإنتداب البريطاني وعهد انتداب عشيرة " آل بوناصر " ممثلة بمندوبها السامي " مطيحان بن صبحة " ... لقد نظرت الحكومات إلى مدينة السماوة على أنها " منفى ً " داخليّ لمعارضيها، وأقامت في صحرائها سجن " نقرة السلمان " الرهيب الذي اعتقلت فيه مئات العوائل من الأكراد الفيليين قبل دفن أفرادها أحياء في منخفض رمليّ على بعد مسافة قليلة من قلعة السجن الحجرية قريبا من منطقة " الجليب " ....

الساعتان اللتان أمضيتهما مع الشيخ شنان بصحبة والدي كشفتا لي عن جوانب أخرى من شخصيته كمعرفته بالأنساب وحفظه للكثير من الشعر والمنظومات الشعبية كأهازيج ثورة العشرين ... فاجأني بسؤاله وأنا أصيخ السمع إليه: عيناك معي لكنّ ذهنك في مكان آخر ... أجبته: هذا صحيح فأنا معك ولست معك في آن ... فاكتفى بقوله: إن كان بمستطاع مالي ومُلكي حلّ مشكلتك فأنا وما أملك رهن إشارتك ... أجبته ـ مستغلا انشغال والدي في حديث مع شخص آخر: لا عدمتك ... لكن حلّ مشكلتي الحالية هو تدخين سيجارة أو سيجارتين وما يمنعني عن التدخين الان هو وجود والدي ولا جرأة لي بالتدخين أمامه .. إستأذن الشيخ ضيوفه وأخذ بيدي فسار بي خارج المضيف ليتيح لي فرصة التدخين وليفاجئني بقوله : لك الحق في إخفاء مشكلتك الحقيقية ولكن لي الحق أيضا في بذل ما أستطيع لحلّها إنْ كان بمقدوري ذلك، مشكلتك ياولدي ليست السيجارة لأنك بالتأكيد قد دخّنت حين خرجت لغسل يديك بعد تناول الطعام لتعود متأخرا عن والدك بضع دقائق .. !؟ أجبته: يالفراستك وفطنتك أيها الشيخ الجليل ..

***

سألت والدي ونحن خارجان من مضيف الشيخ شنان آل رباط: هل أخبرته عن اعتزامي الهروب من الجيش ؟ أجابني: لا ... لكنني توقعت أنك أخبرته حين تمشيت معه خارج المضيف، واعتقدت أنك طلبت منه أن يوصي بك ابنه الضابط الكبير عبد الواحد .. ما الذي حال دون إخبارك له وأنت تعرف أنه لا يردّ لضيفه طلبا مهما كان صعبا ؟ أجبت والدي: منعتني نفسي الأمّارة بالسوء !

الحق يُقال: إن لي بالجنرال عبد الواحد علاقة طيبة .. هو يكبرني ببضع سنين على صعيد العمر والدراسة معا .. كان عبد الواحد في السنة الدراسية الأخيرة في مرحلة الدراسة الثانوية حين كنت أنا في السنة الأولى منها .. جميع طلاب ثانوية السماوة يعرفون عبد الواحد كأفضل لاعب في منتخب المدرسة لفريق كرة السلة وفريق نادي السماوة الرياضي .. ومع أنه ابن أحد أبرز شيوخ المدينة إلآ أنه كان أحد أكثر الطلاب تواضعا ... كان ذكيا ومحبا للشعر حتى أن مدرس اللغة العربية الأستاذ شمخي جبر كان يشيد به كأحد أفضل الطلاب في درس الانشاء والتعبير .. كنت أتوقع أنه سيكمل دراسته في كلية الاداب .. لكنني فوجئت به ينتقي الكلية العسكرية فيتخرج فيها بتفوّق الأمر الذي أهّله لبعثة دراسية في موسكو عاد منها حاملا شارة الأركان متفوّقا على جميع طلاب دورته (أخبرني بهذه الحقيقة زوج شقيقتي / ابن خالتي العقيد حمزة الربيعي ـ زميله في الكلية العسكرية ومن ثم آمر مدفعية الميدان في الفيلق الثاني خلال السنوات الأخيرة من قادسية مطيحان) .. كان عبد الواحد حين زرت أباه يشغل منصب قائد فرقة المقداد المدرعة .. إنه ضابط محترف، نال ترقياته العسكرية عن استحقاق وليس كبعض صغار الضباط وضباط الصف الذين أصبحوا جنرالات يحملون عصا الماريشالية مع أنهم لايستحقون أكثر من عصا رعاة الأغنام كالجنرال علي كيمياوي والفريق أول ركن ثلج عزت الدوري والفريق أول ركن ـ سائق دراجة ـ حسين كامل ومثلائهم .. يقينا أن عبد الواحد كان سيضيفني إلى الكثيرين من أبناء السماوة ـ العاملين بإمرته كأفراد حماية أو كتبة أو جنود في المقرات الخلفية ـ لو أنني زرته وطلبت منه ذلك ... لكن المشكلة تكمن في أنني أعاني من عقدة نفسية إسمها الجندية فأشعر بالوحدة العسكرية كما لو أنها جهنم حتى لو كانت على مشارف بيتي وليس في جبهات الحرب العبثية التي أوقد مطيحان نارها ليذيب الجليد المتجمد في عروقه ... عروقه التي لا تختلف كثيرا عن مواسير الصرف الصحي !

 

أرجو ألآ يُفهم من كلامي هذا أن الجندية بمثابة اصطبل بشري ... انها مصنع الرجال حسب اعتقاد أبي رحمه الله في وصفه فترة خدمته العسكرية قبل عقود عديدة ... فقد كان للجندية قديما شرفها وتقاليدها وفروسيتها ...أما في زمن مطيحان، فإن لها عارها وفرائسيتها فأصبحت مهمة ووظيفة الجيش حماية السلطة وحراسة الرئيس وغلمانه وجواريه وأزواج بناته وأخواته وبقية أفراد عشيرته الذين كانوا لصوص أغنام لولا الظروف غير الطبيعية التي جعلت من الشقاواتي مطيحان رئيسا لدولة الرايخشتاغ العفلقية وقائدا عاما لقواتها المسطحة، لم تعد وظيفة الجيش حماية الوطن ومواطنيه .. اصبح سورا للحاكم بأمره وليس سورا للوطن . .. وإلآ هل يعقل أنَّ قادته لا يعرفون حقيقة أنّ مطيحان هو الذي اوقد فتيل الحرب ضد ايران نيابة عن أمريكا حين كان فتاها المدلل ؟ هل يعقل ان هؤلاء القادة لا يعلمون ان مطيحان خصص لخبراء البنتاغون دار الضيافة رقم 7 داخل محيط القصر الجمهوري ؟ هل يعقل أنْ يعرف الجندي احتياط خره "مظلوم " بوجود الخبراء الامريكيين داخل محيط القصر الجمهوري ببغداد، و هؤلاء القادة لا يعرفون ؟ لايمكن قطعا ... هاهو الجنرال " وفيق السامرائي " يعلن صراحة عن وجود خبراء البنتاغون والسي آي إيه على مقربة من غرفة العمليات العسكرية ببغداد ..

 

ولكي أكون منصفا، فانني أعترف بأن للجندية بعض الفضائل ... فهي تعلمنا اشياء كثيرة لم نكن نعرفها .. فأنا مثلا كنت بحاجة الى دورة تدريبية مدّتها اسبوع كامل لأتعلم طريقة صبغ البصطال وتلميعه دون أن أدفع فلسا واحدا ... والى دورة تدريبية لمدة اسبوعين لأتعلم طريقة حلاقة لحيتي دون الاستعانة بمرآة ... في الاسبوع الثاني من خدمتي العسكرية صرت أحلق لحيتي وأنا مغمض العينين ... وأصبح بمقدوري تلميع بصطالي دون الحاجة الى دهان وفرشاة، أذ يمكن في الحالات الطارئة والحرجة تلميع البصطال باستعمال حذاء الرأس " البيرية " وقليل من زيت الطبخ .. وإذا تعذر الحصول على زيت الطبخ فالإستعانة بقليل من البصاق أو بقايا " مَرَق القصعة "...الجندية تُحفّزنا أحيانا على الإبتكار .. فأنا الذي ابتكرت لجنود مفرزة التصليح طريقة شرب " الزحلاوي " و" المستكي" و" العصرية " وبيرة " فريدة ولاكر" خلال الواجب الوطني ـ المقدس حسب تعبير مطيحان ـ وأمام الضباط دون أن يشعروا .. خصوصا في الليل ... تتلخص هذه الطريقة المبتكرة بوضع "حليب السباع او العسل المر " في الزمزمية المربوطة الى النطاق او الحزام والمخفية تحت القمصلة، ومن ثم تهيئة متر واحد من سلك كهربائي سميك، يوضع طرف منه في الزمزمية ـ بعد نزع الأسلاك المعدنية منه ـ ويُمَدّ الطرف الثاني من تحت القميص وصولا الى الياقة ليكون قريبا من الفم، بعد ذلك يبدأ المص ـ حسب حاجة الجمجمة وحسب نوعية الواجب الوطني ... وأحيانا حسب كثافة القصف الذي لا يسمع دويّه مطيحان وبقية افراد اسرته وغلمانهم وجواريهم وحاشيتهم ... قد لا اكون مبتكر هذه الطريقة في القوات المسطحة ... لكني بالتأكيد أول من ابتكرها لحل مشكلة " ابو مشتاق " في مفرزة تصليح آليات اللواء، قبل شيوعها في بقية سرايا وكتائب اللواء، ومن ثم في وحدات اخرى جارة، قبل اكتشاف امرها، فمُنِع علينا في المفرزة حمل الزمزمية في الليل خلال الواجب الوطني " المقدس حسب تعبير مطيحان كما أسلفت "

شيء آخر تعلمناه في الجندية، وهو: الكذب !!!

إنّ الكذب هو الخيمة الكبيرة التي احتوتنا جميعا بدءا ً من ج ح خ (جندي احتياط خره) مظلوم، وانتهاءً بالقائد الأعلى للقوات المسطحة ... كلنا كاذبون ...الجندي والآمر معا ....كلنا ندعي أمام المسؤولين الرغبة في نيل شرف الشهادة في جبهات القتال، بينما نحن ننتظر الإجازة الشهرية لنمارس هوايتنا داخل بيوتنا بشتم مطيحان والسخرية من قادسيته .. كلنا يتحدث في الشارع عن الانتصارات العظيمة المزعومة، بينما نحن الشهود على هزائمنا النكراء ...

وحين تقودنا الحكومة كالخراف للتظاهر في الشوارع والساحات العامة نصرخ " بالروح .. بالدم .. نفديك يا مطيحان " فإننا أمام زوجاتنا، نصبّ أمطار الشتيمة عليه ـ وقد نبصق على صورته في التلفزيون .. (مرة من المرّات كنت أباوع عالتفزيون منتظر مسرحية شاهد ماشافش حاجة، تاليها يطلع لي مطيحان يقلد الضباط أنواط الشجاعة ... آني ضجت .. رميت التلفزيزن بالنعال ... همزين النعال إسفنج .. الله سِتَرْ .. لو ضاربه بالقندرة القبقلي كان انكسرت الشاشة)

هاهو آمر لوائنا، حين طلب منه قائد الفرقة الاستعداد لشن ّ هجوم معاكس، يطلب منه الانتظار بعض الوقت زاعما ان نسبة هروب منتسبي لوائه بلغت خمسين بالمئة في حين كانت النسبة قد تجاوزت الثمانين بالمئة حسب اعتراف النقيب سلمان آمر سرية اللواء ...

كانت القيادة العامة للقوات المسطحة ألأكثر كذبا بين كل الكذابين ... ومع ذلك’ فإنها تعاقب بأشدّ العقوبات مَنْ يصدق أكاذيبها ويعمل وفقها:

كان " محيسن معيوف "يقود سيارة الإسعاف وبداخلها ست جثث متفحمة، لإيداعها في مركز إخلاء الخسائر في قاطع عمليات شرق البصرة ...

إنتبه محيسن الى البيان العسكري في نشرة أخبار الساعة الثامنة، والذي جاء فيه، أن خسائر الجيش العراقي في معارك يوم 21 ـ 7 ـ 83 كانت عطل دبابة واستشهاد جندي واحد ... التفت محيسن الى زميله "عواد كاظم" قائلا:

ـ آنه أخو صبرية يا عواد ... القيادة تكول خسائرنا جندي واحد ... وسيارتنا بيها الان ستة ... يعني الخمسة البقية من الفرس المجوس وإحنه ناقليهم بالغلط ...

أجابه عواد:

ـ يسلم لسانك يابو حمد ... احنه ناس ضعاف الحال .. ما بينا قوة وحيل للمشاكل والسؤال والجواب ... اذا عرفت الحكومة إحنا ناقلين جنود ايرانيين، تتهمنا بحزب الدعوة وتصيرْ موتتنا عملْ شعبي .. توكل على الله يا بو حمد وارمي خمس جثث .

لم يُبق ِ محيسن في السيارة غير جثة واحدة بعد ان رمى خمس جثث متفحمة خلف السدة الترابية على مشارف مدينة البصرة ..

المحكمة العسكرية السابعة حكمت على محيسن وعواد بالسجن سبع سنوات بتهمة التقصير بالواجب !

سفلة .. يريدوني أدافع عنهم ... لا والله ما أدافع عنهم ... ما أدافع عنهم لو تنكلب الدنيا .. شنو اللي حصّلته منهم غير التعذيب والفصل والإهانات ؟ الله وكيل حرموني حتى من شهر العسل ... أشو نص شهر العسل قضيته بالأمن: الفطور مخلمة جلاليق .. والغِده تشريب راجديات وصوندات .. والعِشا دولمة طحلات لو برياني بوكسات وتفال وشتايم .. لازم أفرّ ... إيْ والله لازم أفرّ من الجيش ... آني حلفت بروح رجل خالتي: ما أدافع عن مطيحان وباقي السرسرية ... (هذا ليس جبنا ً مني ... لا ... هذا احتجاج ضد الفرس المجوس ... إيْ نعم .. هذا احتجاج ... لأنني كتبت لصديقي مجيد كاظم جحيل برسالة خاصة: أنا سأفرّ من العسكرية احتجاجا على الفرس المجوس ولن أدافع عن مطيحان وسرسريته حتى يعيد لنا الفرس المجوس حقوقنا المشروعة في شط العرب ويعيدوا لنا عباية "حسنة ملص") .

***

أفقتُ صباح اليوم ـ الثلاثاء ـ لأجد أن رغيف إجازتي لم يبق منه غير الفتات .. يتعيّن عليّ الإلتحاق بوحدتي في قاطع "ملهى النصر" بعد الغد .. تزامن هذا اليوم مع توزيع الرواتب .. فوجدتني عند الضحى أدلف إلى مكتب بريد السماوة القريب من بيتي للسلام على زملائي وزميلاتي قبل أن أعرّج على مديرية البريد والهاتف لاستلام راتبي ..

في مكتب بريد كل مكتب من مكاتب المدن العراقية جميعها، توجد غرفة تسمى غرفة " الرقيب " تحتوي أجهزة تعمل بالأشعة، يشغلها أحد أفراد الأمن، تنحصر مهمته بفحص الرسائل الصادرة أو الواردة إلى المسؤولين خشية أن تكون ملغمة أو تتضمن كلاما نابيا .. رقيب الأمن يكاد يكون هو رئيس الدائرة الفعلي حتى لو كان مجرد شرطي لا رتبة له .. لمحني الرقيب " واسمه أبو رائد " فبادرني بالسلام ... وحين ذهبت إلى مديرية البريد لاستلام راتبي فوجئت بمدير دائرتي قد أوصى المحاسب بعدم تسليمي راتبي قبل مروري عليه ...

أخبرني مديري " خضير عباس " أن مديرية أمن البلدة طلبت حضوري لأمر يتعلق بإعادتي للتدريس أو انتدابي من الجيش إلى دائرتي .. (لم أكن مغفّلا ً فأصدّق .. ومع ذلك قررت الذهاب لقناعتي أنّ عدم ذهابي سيسبب لي متاعب لاضرورة لها) .. المحاسب "سعيد طاهر" أعطاني راتبي وهو يقول: سأزعم أنني أعطيتك راتبك قبل تبليغ المدير بحجبه ريثما تعود من مديرية أمن البلدة ..

في مديرية أمن البلدة استقبلني السؤول بترحاب مصطنع .. سألني إن كنت أفضل شايا أو قهوة .. زعمت أنني لا أشرب كليهما .. عندها فتح ثلاجة صغيرة وقدّم لي علبة عصر مُحكمة الإغلاق فأخذتها .. (الحقيقة أنا مدمن شاي وقهوة ... لكن صديقي "عزيز الشيخ " سبق له أن تناول شايا في هذا المكان فأصيب بالشلل بعد بضعة أيام ... قد تكون المصادفة هي التي أدت إلى تزامن الإصابة بعد استدعائه بأيام قليلة .. وقد تكون نتيجة الشاي المخلوط بالثاليوم ) .. بعد تقديمه علبة العصير وضع أمامي علبة سجائر سومر فزعمت أنني تركت التدخين من شهور ..

ثم بدأ الحوار ... قال:

ــ أنت مدرس ناجح وحديث عهد ٍ بالأبوة .. كما أنك شاعر ومحبوب في المدينة ..

ــ شكرا لحسن ظنك ولطفك وجميل أخلاقك ..

ــ أقسم يا أستاذ أنني لا أجاملك .. أنت فعلا مدرس ناجح ومحبوب من قبل زملائك وطلابك وأهالي السماوة .. لهذا أريد مساعدتك وإعادتك للتدريس بصفة مشرف تربوي وربما سيتم تعيينك مديرا عاما للتربية .. وإذا أحببت أن تكون مديرا للثقافة الجماهيرية فأعدك أنك ستكون ..

ـــ شكرا لمروءتك ومكارم أخلاقك .. لكن واجب الدفاع عن الوطن أهمّ عندي من العودة للتدريس الان .. لنتحدث عن الموضوع بعد أن تنتهي الحرب ..

ــ لا ... الحزب والثورة بحاجة لجهود المخلصين .. لانريد التضحية بك في جبهات القتال ... إن المكان اللائق بك هو التدريس أو إدارة مديرية الثقافة الجماهيرية ..

ــ سعادة الضابط .. أفصحْ: ما المطلوب ؟

ــ نريدك أن تقوم بإعادة تنظيم الحزب الشيوعي في السماوة ..

ــ لكنك تعرف أنني وقّعتُ على قرار يقضي بإعدامي في حالة ممارستي العمل السياسي .. كما أنني لم تعد لي أية علاقة بالحزب الشيوعي ..

ــ نحن سنعيدك للحزب الشيوعي ..

ــ ماذا ؟ أنتم تعيدونني للحزب الشيوعي ؟

ــ نعم ... فقط أكتب طلبا موجها للحزب الشيوعي تطلب فيه إعادتك ونحن بدورنا سنوصل طلبك بطرقنا الخاصة ..

ــ وما الغاية من ذلك ؟

ــ نريدك أن تبدأ التحرك بين صفوف الطلاب والمعلمين والمدرسين ومعرفة مَنْ لديه الاستعداد للعمل في صفوف الحزب الشيوعي .. سنضع تحت يديك أموالا طائلة ونحن سنحميك .

ــ وهل تعتقد أنني سأقوم بمهمة كهذه ؟

ــ أنا أريد مصلحتك ... فكر بالأمر جيدا .. لا تلتحق بوحدتك ونحن سنعالج أمر غيابك ريثما تتم الموافقة على إعادتك للتدريس أو انتدابك ..

ــ جدْ غيري سعادة الضابط ... أنا لا أصلح لمثل هذه المهمة فلا تتعبْ نفسك معي ... عليّ الإلتحاق بوحدتي الان ... فهل تسمح لي بالخروج سيدي الضابط ؟

 

خرجت وكأنّ عينيه تقولان لي: حسنا ... سنجعلك تدفع الثمن !

............

.............

..............

أيّ نظام دموي هذا الذي يتعمّد نصب الفخاخ للإيقاع بالأبرياء ؟ فكيف لا يكون حقدي عليه شكلا من أشكال التقرّب لله ؟

 

أجزم أن القيادة العليا للنظام هي التي أوعزت لجميع مديريات الأمن بانتهاج هذه الأساليب الكيدية للإيقاع بالمواطنين ... فما الغرابة لو أقسمت أنني لن أوجه طلقة واحدة للجيش الإيراني حتى حين يكون على مشارف القصر الجمهوري ببغداد حيث يتحصّن مطيحان في ملجئه السري محاطا بسرب العواهر اللواتي حرص لطيف نصيف جاسم على جلبهن للترويح عن قائده باعتباره الديك الوحيد بين دجاج مجلس وزرائه، والثور الوحيد بين أبقار مجلس قيادة النكبة والقيادتين القطرية والقومية لحزب دولة رايخشتاغ زعران العوجا ؟

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1319 الثلاثاء 16/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم