قضايا وآراء

بداية استعمال اللغة عند الأطفال الصغار (1)

ونلاحظ كيف تنعكس هذه الأدوار في المحاولات الأولى لتكلم الطفل. لنفترض – على سبيل المثال – انك تسير في الشارع وتسمع محادثة تشبه التي سنوردها :

(صباح الخير سيدة جونز. كيف تشعرين؟

صباح الخير سيدة براون. أنني بخير.

الطقس مزعج مرة أخرى.

نعم، انه كذلك، أليس هو كذلك؟، ينبغي أن أذهب إلى السوق قبل أن يغلق.

مع السلامة سيدة جونز،

مع السلامة).

ظاهريا، لم يحدث شيء كبير في هذه المحادثة. خلاصتها، تقابل شخصان، تبادلا التحية وتكلما عن الطقس. احدهما أستسمح الآخر بالذهاب، ملقيا تحية الوداع. إن معظم محادثاتنا اليومية هي من هذا القبيل. وربما يبدو انه ليس هنالك قضية معينة لهما. لو فصلنا احدهما عن الآخر لأدخر مقدارا كبيرا من الوقت.وعلى الرغم من ذلك، فأن مثل هذه المحادثات، في الحقيقة، تظهر لنا احد استعمالاتنا الضرورية للغة، لغة لمقابلة الناس، لغة لتكوين روابط اجتماعية ولغة للتفاعل مع الآخرين. ومن دون اللغة ستتوقف الحياة الاجتماعية للفرد والجماعات البشرية وتفقد وجودها. ولهذا تكون اللغة مؤثرة في بدايات الكثير من العلاقات التي نقيمها مع الناس والتي تجعلها – في بعض الأحيان – تستمر، أو ربما تؤدي بها إلى القطيعة. يمكن للعلاقة الشخصية أن تبدأ من القول : (هل تتزوجني؟) وتستمر بقول احدهم : (أعلنكما زوجين), وقد تستمر أكثر بالقول : (طبعا أحبك ياحبيبي). وقد تتوقف فجأة بأقدام الناس على الطلاق. إن اللغة تجعل العلاقات غير رسمية بواسطة المحادثات، أو الرسائل وتجعلها رسمية بواسطة المراسيم والمواثيق. إن المحادثة السابقة بين السيدتين في الشارع هي لغة أُستعملت من أجل الحفاظ على ديمومة العلاقة الاجتماعية، أو تكوين روابط طيبة مع الجيران. تصور كيف كان غضب السيدة براون إذا قالت (صباح الخير) ولم ترد السيدة جونز بشيء أبدا. إن الأشياء الحقيقية التي قيلت ليست ذات شأن، والشيء الأهم وجود  الو اعز في قول أي شيء وفي الأحوال كافة. ربما لا تكون هذه حقيقة في المحادثات بين جارتين فقط، ولكن في مؤتمرات القمة التي تعالج وظيفة الاقتصاد العالمي. وما يقرر في المؤتمر لا يقترب من الأهمية من حقيقة أن قادة العالم جلسوا حول الطاولة يتكلمون بعضهم مع بعض. وهكذا في الأيام الاعتيادية، تستعمل اللغة باستمرار لتكوين وإدامة العلاقات الاجتماعية. نتكلم إلى زوجاتنا أو إلى أزواجنا، أولادنا، ورؤسائنا، والأطباء الذين يعاينونا وكذلك نتكلم مع سائق الحافلة رقم 14. بيد أن هنالك أسباب أخرى للمحادثة. وفي جميع هذه المحادثات تنسب اللغة إلى أناس آخرين، ونحن بهذا كله نملك تفاعلا اجتماعيا. يبدأ الطفل منذ ولادته تقريب بتعلم الكيفية التي يقيم فيها علاقاته مع الناس. وهو يدرك من فوره انه إذا ابتسم لأمه فأنها ستقابله بابتسامة، وإذا ما احدث ضجيجا، فستُحدث مثل ضجيجه.  ويتعلم الطفل أن أفعاله لها تأثير على الآخرين، وبذلك يدرك إن ما يفعله يكون هو السبب في تصرف مقابل، وتدريجا يقيم سلسلة أفعال عملية بينه وبين البالغين. إن الصيغ المكرورة (الروتين) التي يسير وفقها بنحو شخصي، تشبه إلى حد ما كلام السيدتين اللتين تحدثتا معا في الشارع. تقوم الأم – في بعض من هذه الصيغ المكرورة – وكذلك الطفل بعمل أشياء في الوقت نفسه. يتعلم الطفل النظر إلى الأشياء التي تنظر الأم إليها، أو انه يُحدث ضجيجا عندما تتكلم معه. وقد تصاب الام والطفل معا بصدمة في صيغ مكرورة أخرى. يبتسم الطفل، فتبتسم الام، فيبتسم الطفل وهكذا. أو يحدث الطفل صوتا يشبه (الغرغرة)، فتقول له أمه شيئا ما، فيحدث الصوت مرة أخرى حتى يضجر احدهما . ويتعلم الطفل والأم أن يتعاملا بعضهما مع بعض لتكوين علاقة، وذلك بتطوير الصيغ المكرورة الخصوصية. يبدأ الطفل – في الحقيقة – بنحو سريع باستعمال هذه الصيغ المكرورة ليتعامل مع كل الغرباء. من هنا يأتي السر لمنظر طفل وضع في عربة أطفال خارج محل ما وهو يرمي دميته سعيدا حتى يعيد المارة له هذه اللعبة. لقد أكتشف انه إذا رمى أي شيء فأنه سيعاد إليه. إنها صيغة مكرورة (روتين) للتعرف على الناس. في بادئ الأمر، لم تملك اللغة ما تفعله مع هذه الصيغ المكرورة بالقدر الذي يخص الطفل. فهو لم يستعمل اصواتا شخصية لفهم الصيغ المكرورة بأي طريق منظم ولم ينقض وقت طويل قبل أن يتعلم. إن هنالك أصواتا مهمة تضاف إلى الصيغ المكرورة الخاصة. على سبيل المثال، إن معظم الأطفال يجتازون مدة وهم شغفون بلعبة اختلاس النظر من بين الأصابع. إنهم ليسوا كذلك فقط بل أنهم مثيرون عندما يمتلكون أغنية للكبار، بيد أن الحقيقة هي أنهم يقولون أيضا (انظر من شقوق اليد وأطلق صوتا). إن الطفل يتعلم كيف يتوقع مظهر الكبار من أصواتهم. اتها جزء مهم من اللعبة. والطفل نفسه يبدأ باستعمال الأصوات كجزء من هذه الصيغ المكرورة. فالأصوات التي يطلقها تختلف عن اللغة التي يستعملها الكبار. إن الصوت الذي يطلقه يكون مختلفا عن اللغة التي يستعملها الكبار. فعندما يغضب الطفل يمكن أن يوحي غضبه بالحصول على شيء ما. ومع هذا يتعلم الأبوان فورا فهم معنى الأصوات الخاصة، وأي احتياجات تعبر عنها. في الحقيقة، ربما يمكن أخيرا أن يفهم الأبوان كيف يتمكن الطفل الربط ذهنيا بين أصوات معروفة وصيغ مكرورة. ابنتي (نيكولا)  على سبيل المثال، اعتادت على إطلاق نوع من الأصوات عندما تعطي أي شيء إلى شخص ما. كان هذا يحدث قبل أن نعرف أنها كانت تحاول القول (الدور لك). لقد تعلمت أن (الدور لك) جزء من الصيغ المكرورة للتصرف بأشياء الناس حتى لو أن أبويها كانا يدركان إن الأمر كذلك. وهكذا , حتى إذا كان يستطيع بصعوبة أن يقول كلمة , فأن الطفل يقيم صيغا روتينية ليتفاعل مع الناس. ومثل السيدتين في الشارع فأن له طرقا خاصة لقول (مرحبا) أو (مع السلامة).، فالأصوات للطفل تحمل ببساطة مظهرا واحدا لما يجري. و(مع السلامة) بقدر ما هي تلويحة بالأيدي فأنها أيضا تحدث صوتا. إن الإيماءات والكلمات والأفعال تسير معا في الصيغ الاجتماعية المكرورة التي يقيمها الطفل. وللتحايا طريقة واحدة في التعامل مع الناس. ويكتشف الطفل أيضا بأنه قادر على جذب انتباه الآخرين إليه باستعمال أصوات خاصة يقوم بها. إن صرخة عالية مثل( أنا انأ أنا) تجعله مندمجا فيما يحدث. في الحقيقة ابني (روبرت) يستعمل كلمة (مامي)  ليسترعي انتباه أي شخص أكبر منه أكثر مما هي تخص أمه على وجه التحديد. ولكي تجلب انتباه أي شخص، ينبغي أن تعطي سببا لذلك. وهكذا، فأن الطفل يتعلم كيفية الحصول على ما يريد بواسطة الكلمات. (البقبقة) في الماء تجعله يشرع في السباحة، ورقاقات البطاطس تجعله يحصل على الغذاء الأكثر، حتى عبارة (مع السلامة) لا يمكن أن تكون وداعا، فهي إشارة خفية يرغب أن يتركها وحيدة لينسجم مع أي شيء. على الرغم من ذلك، فأن الطفل يلفظ كلمة واحدة فقط في زمن معين، وغالبا ما يستعمل لغة بصيغ مكرورة متعددة للتفاعل مع الناس – لتحيتهم، ولجلب انتباههم وأخذ ما يريد. إن الصيغ المكرورة تخدم احتياجاته الاجتماعية حتى في مرحلة تطور اللغة فيما يخص الكلمة الواحدة. بيد أن هنالك أسبابا أخرى لاستعمال اللغة. افترض انك سرت في الشارع قليلا واكتشفت انك أضعت الطريق، ستحاول أن توقف أي عابر سبيل وربما ستكون المحادثة بينكما كالأتي :

اعذرني، هل لك أن تدلني إلى الطريق المؤدي إلى أنجل؟ دعني أرَ؟ نعم. اذهب إلى نهاية الطريق ثم استدر، وعلى يمين الإشارة الضوئية، ثم قليلا إلى يسار الط

ريق غير المباشر، ثم اتجه إلى أمام وستكون هناك على بعد نصف ميل. 

(شكرا جزيلا).

حول الناس في هذه المحادثة تكوين علاقة مؤقتة. في الحقيقة، إن عبارة (استسمحك عذرا) و (شكرا لك) تستعمل على وجه الدقة لتلطيف هذه العلاقة. فالشخص الذي خرج إلى الغريب في الشارع والذي لو لم يفتتح حواره بنحو مؤدب  مثل (اعذرني) كان سيعتقد  بأن الرجل غريب الأطوار. على أية حال، الشخصان لم يتقابلا من قبل  وليس من المحتمل أن يلتقيا مرة أخرى. إن النقطة الأساسية لمحادثتهما  ليست العلاقة ولكن هي تبادل المعلومات عن (أنجل)، بعبارة أخرى، استعملت اللغة – هنا – كواسطة للاتصال وإعطاء جزء يسير من المعلومات. يستمر الناس كل يوم بإيصال الأشياء بعضها مع بعض. ننهض كل صباح وتخبرنا الصحف عن النتائج الرياضية، والأطفال يشتكون من فقدان رقاقات الذرة، وفي الشوارع نرى لافتة معلقة على احد الدور مكتوب عليها (للبيع). نحن نخبر كاتب المحطة عن المكان الذي نود الذهاب إليه، والكاتب يخبرنا عن قيمة البطاقات. هنالك لوحة في صالة الانتظار تشير إلى إن القطار سيتأخر بسبب قلة الملاك. في كل هذه المواضيع ثمة تبادل معلومات. الاتصال قد تم، فضلا عن استعمال العلاقات الاجتماعية. وهكذا فأن اللغة تستعمل أيضا للاتصال. في الحقيقة، هذا الاستعمال للغة يضخم كثيرا في عقول الكثير من البالغين ذلك إنهم يجعلون خطأ التفكير هو الطريق الوحيد في استعمال اللغة. فالطفل ، حتى قبل أن يبدأ باستعمال الكلمات، فأنه يستعمل الإيماءات والأصوات ليخبرنا عن الأشياء. انه يشير إلى الطائرة ويصرخ، وهو يصل إلى الأشياء بنحو ما ويحاول جاهدا إبلاغنا عن شيء ما بنحو أكثر وضوحا.  والآن، ما هي الأشياء التي يحاول الإبلاغ عنها بكلماته الأولى؟ إن الطريقة الوحيدة للإجابة عن هذا السؤال هي النظر إلى الكلمات الحقيقية التي يستعملها. إن معظم الكلمات المبكرة في الحقيقة هي أسماء الناس الذين يحيطون به. فهو يتعلم بنحو سريع مناداة الناس الأقرب إليه (ما ما) و (بابا) لأنهما ضروريان في حياته. والطعام أيضا مهم فهو يتعلم قول (حليب) و (نانا) و (بسكت) وكذلك من الكلمات المبكرة التي يتعلمها الطفل أسماء الحيوانات – (مو) أو الملابس (حذاء) أو (الدمى) أو أشكال مختلفة من النقل (سيارة). وهو كذلك يستمع بالحركات فيقول كلمات مثل (أعلى) و (سقط) عن الأشياء التي تحدث من حوله. إن الكلمات التي يستعملها تخبرنا عما يسره ويستمتع به، أو ربما  الذي يدهشه. فالأشياء التي يجدها مثيرة هي الناس والحركات التي تشكل عالمه الخاص. بيد أن معرفة ما يسره لا يعطينا الصورة الحقيقية عما يحاول أن يخبرنا به. إن كل ما يمكن للطفل عمله عندما ينظر إلى (وزة) هوأن  يقول (كواك – كواك). من المحتمل أن يكون معظم الآباء والأمهات يعتقدون أن انشغال الطفل الكامل  يكمن في تسمية الأشياء  وأن المساعدة الأكثر فائدة  من غيرها  التي يمكن أن يسدياها  إلى الطفل  إضافة إلى اللغة في هذه المرحلة هي في تسمية الأشياء إليه. هل هذا هو كل ما يفعله الطفل؟ ينظر إلى الأشياء ويسميها بمسمياتها؟ وهل أن مسميات الأشياء الشيء الوحيد للاتصال؟ يعتقد معظم الناس إن هنالك الكثير مما يضاف إلى  مرحلة الكلمة الواحدة أكثر من حدود معرفة التسميات. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فأن بعض الكلمات، التي يقولها الطفل مفيدة في تطوير العلاقات بواسطة اللغة. أن قول كلمة (طيارة) كشيء يحلق فوق الرأس هي طريقة لجلب  انتباه الكبار. ربما تكون التسمية طبعا مكرورة بين الطفل وابويه، مثل تلويحة (مع السلامة)،فهي مهمة لأنها تستلزم تفاعل الكبير مع الطفل أكثر من أنها تمثل تسمية الأشياء.  إن إطلاق التسميات على الأشياء والأفعال تبدو أكثر من نشاط فلسفي لطفل صغير. إذن هل يمكن أن تكون تسمية الأشياء مجرد مسألة رائعة؟ من المحتمل أن الطفل يرغب إخبارنا عما يجري حوله وعما يراه. على سبيل المثال ، عندما يجلس في عربته وهو محاط بالدمى لماذا يقول (وو – وو) أكثر من غيرها؟ من المحتمل أن يكون ذلك بسبب أن هنالك شيئا مبهجا عن الكلب الذي يرغب أن يخبرنا شيئا عنه---(استطيع سماع الكلب) أو (أُحب الكلب أكثر من أي شيء آخر). هنا لا يشبه الطفل مسؤول متحف يحاول أن يضع الأسماء والتحف بل انه يعبر عن ردود فعله عما يشاهده على مجاميعه. لهذا فأن كلمات الطفل الأولى تُظهر له محاولته للتعبير عن أشياء محدودة عما يراه. ثمة شيئان يختارهما لكي يلاحظهما بنحو خاص ــــــ الاتصال والناس والأشياء.  إن بعض الأفعال تقرع انتباهه، فيقول (راح) عندما يدع أي شيء يتدحرج أو يذهب بعيدا، أو عندما تغادر أمه الغرفة. إن أعمال الآخرين تسره أيضا. انه يرى قوقعا ينساب في الطريق فيقول (قوقع) أو يرى (بقرة) فيقول (مو)، بيد انه إضافة إلى ملاحظة الأفعال والناس الذين ينجزون هذه الأفعال فهو أيضا يتكلم عن الناس والأشياء التي تتأثر بالأفعال. فهو يقول (بُبْ بُبْ)عندما يعطي أية قنينة فارغة، أو (قنـ...) عندما يرى شخصا يلبس أحذيته. إن الطفل – ربما – يتكلم عن أناس يحيطون به كـ / مستلمين /. فهو يقول (ماما) عندما يعطي لأمه أي شيء. هذه تسمى وبنحو واحد (التسمية) لأن الطفل يقول كلمة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1321 الخميس 18/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم