قضايا وآراء

مذكرات الجندي المرقم 195635 (6)

تبيّن لي أنّ الصفع قد تسبب في افتضاض بكارة أذني .. قال الطبيب إنها بحاجة إلى عملية ترقيع للطبلة ووصف لي طبيبا مختصا في بغداد .. غير أني رغبت بإجرائها في مستشفى عسكري طمعا بإجازة مرضية .. راجعت مستشفى السماوة العسكري فخاب ظني حين عرفت خلوّه من طبيب مختص ... فطلبت أدوية مهدّئة للألم وللصفير .. وحين أخبرت الطبيب أن التمزق كان وليد " حفلة سمر " في الإستخبارات العسكرية / الشعبة الخامسة اختتم حديثه معي بأنه لايستطيع معالجتي إلآ بموجب كتاب رسمي من وحدتي العسكرية .. حين خرجت من المستشفى رآني مفوض الأمن " علي ناصرية " .. بادرني بسلام ٍ له شكل التشفّي مضيفا : تحتاج مساعدة استاذ ؟ أجبته : إن كانت بلسانك فلستَ مؤهلا ً لمساعدتي .. أمّا إذا كانت بقلمك ويديك فلا ثمة أكثر تأهيلا منك .. (من الواضح أنه لم يفهم قصدي ... فقد أجاب : آني بخدمتك بس تأمر ... !) .

لم يكن " علي ناصرية " غير شرطي سكير نبذته مدينته وعشيرته، فانتقل الى السماوة، ليغدو بعد سنوات قليلة " عضو فرقة " في حزب " مطيحان " مكافأة لما يتمتع به من قسوة في التعذيب ولكثرة مايكتبه من تقارير سرية عن أهل المدينة ... له وجه لا يحتاج الى أكثر من عملية تجميل بسيطة ليصبح قردا، لكنه يحتاج دورة تثقيفية لمدة بضعة شهور كي يصبح أكثر ذكاءً من حمار جحا ... علي ناصرية هو الذي ابتكر طريقة التبول في فم الضحية ... طريقة لا تتطلب كثير عناء ... فقط : تكتيف يدَيْ الضحية الى الخلف وبطحه على ظهره، وإغلاق منخريه لحمله على التنفس من فمه، وحينها يجد البول طريقه نحو الفم ... ومع أن " علي ناصرية " لم يتبول في فم مظلوم، إلا أن مظلوم، في الإنتفاضة الشعبية، أرسل أكثر من مجموعة قتالية للقبض عليه وعلى المجرم عضو الفرقة " ناجي حميد سراج " طالبا منهم عدم المساس بحياتيهما ... بل انه قال لهم سأقتل منْ يقتل هذين المجرمين (الحقيقة كان مظلوم كاذبا ... فهو لا يجيد مهنة القتل رغم إجادته استخدام المسدس والكلاشنيكوف والقنابل اليدوية وأسلحة أخرى) .. هذان المجرمان جلادان محترفان .. يجب عدم قتلهما قبل معرفة إسم الجلاد الذي شنق عطية الحذاف بالمروحة السقفية في الطابق الثاني من مديرية الأمن في لحظة سكر.. " مظلوم كان أحد أوائل الذين حققوا مع القتلة والمجرمين الذين وقعوا بأيدي المنتفضين.

 

ما يأسف له مظلوم، أنّ " علي ناصرية " قد جيء به في الرمق الاخير، فنفق بعد دقائق وكانت ثيابه مبللة ببوله ... وأما " ناجي حميد سراج " فإنّ أهالي ضحاياه قد فرشوا بجسده الشارع قبل دفنه في حاوية القمامة أمام مدرسة الرشيد الابتدائية للبنين " ... حتى وهو ميت ممزق جاءت امرأة ورفست بقايا رأسه لكونه السبب في إعدام ابنها البريء ..) ... كان ناجي وحشا ونذلا لا يتورّع عن أيّ عمل شائن طمعا بترقية حزبية .. لقد كتب تقريرا سريّا عن ابن اخته وتسبب بفجيعة عوائل كثيرة ... في الانتفاضة عثروا عليه يرتدي عباءة نسائية في أحد البيوت ..

يقول مظلوم : إن ناجي حميد سراج هو أحد أهمّ المتسببين في فصلي من التدريس، ولولاه لما ارتديت الخوذة والبدلة الخاكية طيلة سنوات قادسية مطيحان ...وأما علي ناصرية، فهو الذي جعلني أمضي نصف فترة شهر العسل في بيتي لا أقوى على المشي من سريري الى حجرة المكتبة وهو ذاته الذي رفسني على خصيتيّ فتمرّغت من ثقل وجع ٍ خرافيّ ..

كل هذا وأنا الان جندي يُراد مني أن أقاتل دفاعا عمّن جعلوا حياتي جحيما لا يُطاق !

الحقيقة أن كراهتي للجندية لم تكن وليدة قادسية مطيحان ... القادسية ضاعفت من تلك الكراهية التي انفلقت بذرتها عام 1975 لتغدو الان شجرة بحجم العراق والدنيا كلها .. عام 1975 تخرجت في كلية الآداب / قسم اللغة العربية بعد إكمالي سنة دراسية خامسة لدراسة أصول وطرق التدريس ... كنت أفضل الطلبة في مواد النحو والنقد الأدبي والبحث .. عقدت العزم على مواصلة الدراسة العليا لكنني أحجمت عندما اتضح لي استحالة حصولي على تزكية ماكان يسمى بـ " الإتحاد الوطني للطلبة " .. قررت العمل مدرسا ً لأجمع من المال مايكفي دراستي في القاهرة .. لكن نظام مطيحان قد سنّ قانونا يقضي بأداء الخريجين الخدمة العسكرية لمدة ثمانية عشر شهرا غير قابلة للتمديد إلآ في حال رغب الخرّيج بذلك .. تم سوقي إلى الجيش فالتحقت بمركز مشاة الحلة لإنهاء دورة المشاة التدريبية .. ومن ثم إلى معسكر منصورية الجبل لإنهاء دورة في قسم الدروع خاصة بخريجي الجامعات حيث سنمضي ستة شهور نتخرج بعدها برتبة ملازم ثاني احتياط .. في معسكر منصورية الجبل عشنا بضعة شهور كطلاب كلية عسكرية، لنا بعض الإمتيازات في الطعام والمنام .. غير أنني فوجئت قبيل التخرج، أحشَرُ في قاعة صغيرة مع مجموعة من الجنود الخريجين تربو على الأربعين جنديا .. أغلقوا علينا باب القاعة بالمسامير .. حتى إذا حلّ الصباح شحنونا كالخراف في سيارة عسكرية لنجد أنفسنا بعد الظهيرة في منطقة " قره داغ " منسوبين إلى سرية الإنشاءات المستقلة السابعة كجنود أشغال .. ثمة في السرية مئات الجنود ينامون في قاعات واسعة تتوفر فيها الأسرة والكهرباء .. لكن آمرية السرية خصصت لنا خيمتين بائستين على مبعدة مئات الامتار من القاعات وحُذّرنا من الاختلاط ببقية الجنود .. صرنا بمفردنا بمثابة معسكر ٍ آخر : ليس لنا من العمل غير النهوض صباحا أمام ثلاثة ضباط صف للتأكد من أننا على قيد التواجد كبغالٍ بشرية ٍ محجورة .. والحقيقة أننا جميعا قد استعذبنا تلك الحال مادامت تنقذنا من العمل كبغال بشرية .. نُقِل بعضنا إلى وحدات أخرى، وبقينا نحو عشرين جنديا سيتضح لنا لاحقا أن سبب عدم نقلنا هو التقارير التي رفعتها للإستخبارات العسكرية مديريات الأمن في مدننا وكلياتنا .. ومع أن مهمة ضباط الصف ونوّاب الضباط المتواجدين معنا كانت تنحصر في متابعة نقاشاتنا وسلوكنا، إلآ أننا نجحنا في كسب ودّهم وفي زيادة وعيهم وثقافتهم فغدونا نشترك في طعامنا وفي مرحنا القليل .. هاهي خيمتي أمامي الان : فتحة بابها تطل على واد ٍ ينتهي عند مجرىً مائي يأخذ شكل نهر ٍ موسميّ ... وتمتدّ أمامنا في الأفق البعيد قرية بعشرات البيوت الطينية والحجرية .. يَطَغي " فِراشي " تحت فتحة التهوية التي هي شباك جانبي والتي بقيتُ مصرّا ً على فتحها استجداء للضوء كي أواصل قراءتي قدر استطاعتي ... في هذه الخيمة كدت أحفظ عن ظهر قلب كل ديوان المتنبي وأعدت أكثر من مرة قراءة لسان العرب والكامل في اللغة والأدب وكتبا أخرى كالأغاني والعقد الفريد .. يقع إلى جانبي يطغ الفنان التشكيلي " محمد فرادي / المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية الان " ومن الجانب الآخر " عبدي خدر عبدي " و" موسى عناد " يقابله يطغ " نجاح طاهر مصطفى العميشي / الأستاذ الدكتور حاليا في جامعة كالمر السويدية " وبجانبة يطغ " لطيف سفر / المقيم في نيوزيلندا الان " أما " ممتاز حسين" بقامته الفارعة وضحكاته المجلجلة " فليس ليطغه مكان ثابت، فهو يؤمن بالمصير الواحد المشترك والبيت الواحد والقصعة الواحدة والبطانية الواحدة وبمشاعية اليطغات .. وإذا كانت نكاتي ونكات ممتاز حسين وموسى عناد قد حببت لنواب الضباط دخول خيمتنا بغفلة من آمر الوحدة، فإن نجاح طاهر العميشي قد حبّب للجنود الأميين ـ وما أكثرهم في وحدتنا ـ القدوم من قاعاتهم إلى خيمتنا كي يكتب لهم رسائلهم إلى ذويهم !!

لا أدري مامصير عشرات اللوحات التي رسمها محمد فرادي لفهد وسلام عادل وجيفارا ولمنطقة قره داغ ولنائب الضابط " حسن " والذي اتضح لي فيما بعد أنه جار صديقي " علي طاهر " في مدينة الهاشمية ... لكنني أعرف مصير البورتريت الذي رسمه لي ذات ضحى : لقد سُرق مع مكتبتي وبستاني ومخطوطة ديواني التي استودعتها رجلا ظننته صديقا فخان الأمانة (الحقيقة أن ولده انتحل ديواني فأخذ يقرأ بعض قصائدي في أماس ٍ أدبية في السماوة كما علمت لاحقا من صديقيّ الشاعرين سعد سباهي وقاسم والي وآخرين ... معليش : فرخ اللص لص كما فرخ البط عوّام) .

كنت أنذاك محتفظا بهوية نقابة الصحفيين وبهوية التدريس، فأحسنت استثمارهما، حيث ننسل ليلا بين يوم وآخر أنا وموسى عناد وثلة من الصحب الذين هم جميعا " جنود احتياط خره " .. ننسلّ عبر الوادي فنخبّئ ملابسنا العسكرية ونرتدي ملابس مدنية لنتجه إلى نادي الموظفين في السليمانية مستخدما هوية التدريس كي يُسمح لي بالدخول ومعي ضيوفي (غالبا ماكنا نختار الطاولة القريبة من لوحة خيّامية رائعة بحجم الجدار) وأما هويتي الصحافية فكانت بمثابة حصان طروادة لدخول حصون الفنادق المنيعة على الجنود (من حسن الحظ أن أصحاب الفنادق كانوا يصدقون أننا وفد صحافي وأننا سنكتب عن الخدمات الفندقية الجيدة في السليمانية وسنكتب عن نظافة فندادقهم الأمر الذي يجعلهم يبالغون باحترامنا وبتخفيض أجور المبيت ـ وهذا ماكان يمنعنا من المبيت في الفندق مرة ثانية خشية أن يسألنا صاحبه عن تحقيقنا المزعوم) فنغادر الفندق فجرا كي نحضر التعداد الصباحي ورائحة الهيل " تعط ُّ من أفواهنا " ..

تعاظمت كراهتي للجندية حين تم سوقي لخدمة الاحتياط بعد طردي من التدريس والتحاقي بمدرسة مشاة الفرقة الأولى في الديوانية .. حيث سأفاجأ بسماع صوت جهوري عبر المذياع صباح كل يوم ينادي الجنود الراغبين بالحصول على إجازات مفتوحة مراجعة قلم الوحدة على أن لا تتعدى مدة الإجازة اسبوعين قابلين للتجديد وبسعر محدد مقداره عشرة دنانير لليوم الواحد (طبعا الدَين ممنوع .. والعتب مرفوع ... واللي ميعجبه يخيس بالمعسكر ... شنو يعني القيادة مسؤولة عن اللي جاي وجيبه فارغ مثل جامع الهماوندي ؟ بعدين هوّ مطيحان يكول كل شيء من أجل المعركة واللي ماعنده فلوس طبّه مرض)!!! أما الذريعة فهي صدور أمر من القيادة العامة للقوات المسطحة تقضي بأن تعمل الوحدات العسكرية غير المشتركة فعليا بالقتال، على ابتكار الوسائل للتمويل الذاتي، ولا ثمة وسيلة للتمويل الذاتي كبيع الإجازات على الجنود الذين أكثرهم لا تكفي رواتبهم ثمن تذاكر النقل إلى بيوتهم ووحداتهم مما ضاعف من وتيرة الهروب !! أما الوحدات المقاتلة فلها أسلوب آخر ـ وبخاصة بالنسبة للوحدات القريبة من المناطق الساخنة والتي غادرها ساكنوها تاركين مواشيهم وأغنامهم وأثاثهم في بيوتهم الطينية، كالذي حصل في مناطق " كوت سوادي " و" مطوعة " و" الشلامجة " و" أبو الخصيب " و" رأس البيشة " عندما صدرت لنا الأوامر بجلب الأبقار والأغنام السائبة في البساتين وتجميعها في حظيرة ومن ثم شحنها بسيارات الإيفا لعرضها للبيع في البصرة (كان المكلف ببيعها الجندي احتياط " م " ـ أحد سوّاق آمر اللواء) ... أتذكر أن الملازم طبيب مجند " عبد الأمير جاسم / الطبيب الاختصاص حاليا في مستشفى الجملة العصبية في بغداد " قال لي ـ بعد أن إطمأن لي ـ : أيّ نظام حقير هذا الذي يستولي على ممتلكات مواطنيه الفلاحين والرعاة الفقراء !!

حين التحقت بوحدتي فوجئت بجنود المفرزة يرزمون أغراضهم استعدادا للتحرك صباح اليوم التالي نحو قاطع آخر غير قاطع " ملهى النصر " .. ثمة أمرٌ قد صدر من جهة عليا يقضي بوجوب أن تتواجد المفرزة قريبا من قاطع عمليات شرق البصرة بعد صدور قرار من القيادة العليا للقوات المسطحة يقضي بتحويل اللواء السابع حرس حدود إلى لواء عسكري يحمل إسم " لواء المشاة 107" وقد دُعِم اللواء بضابط يحمل رتبة عقيد ركن اسمه " حسن البياتي " وكان انسانا نبيلا حقا وعلى قسط جيد من الثقافة، استدعاني يوما لأساعده في كتابة بحث، تعمّدتُ الإبطاء في إنجازه كي أتنعّم نحو أسبوع بالطعام الجيد والنوم في غرفة تضم سريرا ومنضدة ومصباحا وتلفازا ـ وتتيح لي اللقاء بالصديق الطبيب عبد الأمير جاسم لنمارس هوايتنا بسماع النكات عن مطيحان وانتصارات قادسيته المزعومة .. عساني لا أكون مغاليا حين فرحت عندما سمعت بوقوع هذا الضابط في الأسر في إحدى معارك شرق البصرة، كما وقع في الأسر المقدم رياض آمر الفوج الثالث ومعه جميع أفراد وحدته (الاعتقاد السائد أن المقدم رياض هو الذي اقترح على الفوج الثالث الأسر حين وجد أن الموت المحقق واقع لا محالة فيما إذا واصل القتال في معركة خاسرة) ..

**

 

من المفارقات، أن الجندي احتياط خره " مظلوم " سبق وتسكع في عشرات العواصم العربية والأجنبية في أوربا وآسيا وأفريقيا لكنه لم يشاهد في حياته ولو ساعة واحدة مدينة الفاو ... واليوم قضت الأوامر العسكرية أن تلتحق وحدته بقاطع عمليات الفاو ... قال لصديقه وزميله الجندي احتياط خره " طالب محمد " : أبو مشتاق، يبيّنْ مطيحان أغبى من حمار جحا ... إذا قوات الحرس الجمهوري وقوات الصاعقة والمغاوير والقوات الخاصة وعشرات الألوية المجحفلة قد فشلت في استعادة الفاو فهل يمكن لوحدة مشاة بائسة كوحدتنا تحقيق ماعجزت تلك الوحدات عن تحقيقه ؟

أجابه طالب : صديقنا مسؤول قلم سرية مقر اللواء النائب ضابط " وضاح " سرّني بالمكان الذي سنتجه اليه غدا ..إنه بساتين " أبو الخصيب " وليس الفاو ...

قال له مظلوم : إذنْ سأؤجّل تنفيذ عملية هروبي ... هيّا بنا إلى شقتك لنغسل أحشاءنا بالعسل المر ولنفكر بطريقة جيدة نهرّب بها بضع قنان ٍ من دواء " القزالقرط " الخاص بعلاج الضجر والرعب .. ونتدبّر قماشا أبيض قد نحتاجه حين تحين فرصة الإستسلام ونتدبّر طريقة جيدة لإخفاء ملابسنا المدنية فقد نحتاجها مادمنا نحمل هويات مدنية تتيح لنا فرصة عبور فرق الاعدام لو اضطررنا للهرب ..

 

إنسلّ الاثنان من المفرزة ليلا بعد انتهاء " واجبهما الوطني " في حراسة باب المفرزة، تجاه شارع الصاغة في العشار حيث تقع شقة طالب، وعرّجا في طريقهما على حانوت كحول ليتزوّدا بخمسة ليترات من خمر مغشوش وبضع علب من الفول المدمس ... سأل طالب مظلوم : ماهذا " الجلكان " الصغير الذي تحمله ؟ أجابه : استعرته سرّا ً من مستودع المفرزة .. سنفرغه من الماء المقطر وسأعيده إلى المستودع صباحا بعد إملائه بمادة القزالقرط المهدئة للأعصاب فنأمن عدم تفتيشنا ومصادرته .. قال طالب : وإذا احتاجت بطارية إحدى السيارات ماءً مقطرا واكتشفوا لعبتك ؟ أجابه مظلوم : سيتهمون آمر المستودع وهو كما تعلم يستحق العقاب لكونه رفيقا حزبيا لايكف عن تمجيد مطيحان منذ منحه سيارة ميتسوبيشي ..

 

***

تم تخصيص بناية حكومية مهجورة في ريف أبي الخصيب لمقر اللواء وبناية مدرسة مهجورة قريبة منها للمفرزة ولسرية مقر اللواء ..

الأيام تمرّ بطيئة كأن الزمن مصاب بالشلل والكساح .. قنابل الإنارة في الليل وكثافة القصف المدفعي يشيان بأنّ الجانب الإيراني قد اكتشف موقع وحدتنا .. إنذار الدرجة " ج " الذي دخلناه يشي هو الآخر بأن آمرية وحدتنا تتوقع هجوما إيرانيا .. بل وجنود وحدتنا يتوقعون ذلك أيضا ..

يتمتع الجنود بحاسّة مذهلة في شمّ الأخبار، أقوى بكثير من حاسة الشم ّ التي تتمتع بها قطط المطابخ .. فما إن سمعوا بخبر الهجوم المعاكس المرتقب، حتى استعان عدد غير قليل منهم بالملابس المدنية المخفية، ليتخذ طريقه نحو مدينة البصرة عبر البساتين والمسارب، ومن ثم نحو المدن التي أدمنت المراثي .

سأل " مظلوم " زميله علي الغانمي" وهو أيضا ج.ح.خ " يعني جندي احتياط خره ":

ـ أبو حسين، كم طفل عندك؟

ـ آني ما متزوج ...واحتمال اموت وآني ما متزوج ..

ـ معقولة ؟ والله متصورك متزوج ..إشعجب ما مكمل نصف دينك لحد الان ؟ راسك مليان شيب .. شنو " الرميثة" ما بيها نسوان ؟ لا لا .. إنت غلطان .. لازم تتزوج وتشوف اطفالك .. الاطفال زينة الحياة الدنيا ..الله سبحانه هو اللي يكول المال والبنون زينة الحياة الدنيا ... طيّبْ انت عندك مال ؟ أشو واضح عليك هلكان نكث .. يعني لا مال ولا بنون .. شنو عيني منتظر تستشهد وتتزوج وحدة من الحور العين بالجنة ؟ من يضمن انت تروح للجنة ؟ أشو إنت صلاة ما تصلي ..حتى بشهر رمضان تشرب جكاير ولمّا تمرّ بنت حلوه بشارع النصر عوزك تاكلها بعيونك .. يصير إنت متزوّج إيدك ؟.. تزوجْ أخي تزوجْ .. إذا ما عندك أحّدْ يخطب لك، آني أخطبلك ... ما لازم آني، أخوي زهير يخطب لك ... زهير وظيفته عالية والناس تحترمه ... زهير معاون محافظ الديوانية وكلمته مسموعة اكثر من المحافظ .. اليوم اذا طلعت وجبة الاجازات تعال وياي للسماوة وآني أعرفك على اخوي زهير .. ما راح تخسر شي .. يجوز بالمستقبل يفيدك .. الامور كلها صارت بالواسطة (في الحقيقة والواقع إن أخي زهير ليس موظفا ... انه صاحب محل لبيع اطارات وبطاريات السيارا ت ...لا يتورّع عن غش الزبون حتى لو كان عيسى بن مريم .. نصف بضاعته من الإطارات يشتريها من مستودعات الجيش ... يعني مسروقة ... يعتبر الغشّ نوعا من الشطارة طالما يؤدي الى ربح وفير، لا يحمل غير شهادة الابتدائية .. هو عبارة عن مستودع " للكلاوات والحيل والمكر" وهو هارب من الجيش منذ شهور ... يتواجد حاليا في مدينة حفر البابطن السعودية) أجابني علي الغانمي :

ـ ماكو إجازات اليوم ... الإجازات متوقفة .. والله يعلم اشوكت تنفتح ... يكولون أكو هجوم... الله الساتر .. منين إجتنه هاي البليّة .. صار لي ست اسابيع ما نازل اجازة ..

ـ بشرفك ؟ ست اسابيع من غير إجازة ؟ عفية عليك اشلون عندك صبر .. آني صار لي اسبوع من رجعت من الاجازة، والان طالعة روحي ... متوقع اخوي زهير يتصل اليوم بالآمر حتى ينطيني إجازة ..

ـ الإجازات متوقفة .. آني اليوم الصبح راجعت القلم وأخبرني نائب ضابط قاسم الاجازات متوقفة ..

ـ ما ممكن ...لازم اسافر بكره الصبح للسماوة قبل ما يصير الهجوم ... شكو عندي باقي هنا بأبو الخصيب ... اليوم الهجوم على " نهر جاسم " وبعد يومين ثلاثة على الشلامجة وأبو الخصيب ...اروح للمستشفى العسكري بالبصرة ... ملازم أول طبيب " عقيل طاهر " كان من طلابي بالاعدادية بالسماوة ينطيني إجازة مرضية ... دكتور عقيل يحترمني ويريد خاطري ... كلما يشوفني يتوسل بيّ حتى ينطيني إجازة مرضية، لكن آني ما أروح، لأن اخوي زهير مكفيني ... قائد الفيلق الثاني صديق اخوي زهير بالروح وحدة ...يشربون سوا وياكلون سوا ويسافرون سوا ويروحون للكاولية سوا ... طيزين ابفرد لباس ... آمر اللواء يحترمني ليس لأني شاعر وخريج جامعة .. لا والله، يحترمني لعيون قائد الفيلق لأنه صديق اخوي زهير ... قبل شهرين سألت اخوي زهير: انت عندك علاقة مع آمر لوائنا ؟ دائما يسألني عنك ويرسل لك سلام وياي .. فاجأني اخوي زهير لمّا سمعت جوابه ... كللي لا .. ما شايفه ولا ملتقيه لكن الناس مصالح .. يجوز يعرف علاقتي الأخوية العميقة بنائب وزير الدفاع وبقائد الفيلق الثاني وبشقيق زوجتي وزير النفط، واحتمال سامع عن علاقتي الأخوية الحميمة مع الفريق صباح الفخري ويريد يتقرّبْ مني بواسطتـك لمصلحته الشخصية ... بالمناسبة، اخوي زهير هو اللي نقل الطبيب عقيل طاهر من وحدة الميدان الطبية بديزفول داخل الاراضي الايرانية الى مستشفى البصرة العسكري .. واحتمال ينقله الى المستشفى العسكري بالسماوة ..

ــ شلون تعرّفْ أخوك على هذي الشخصيات المهمة ؟

ــ تعرّفْ عليهم لمّا كان مرافق لوزير الدفاع عدنان خير الله طلفاح .. وأيضا بواسطة شقيق زوجته وزير النفط ...

ـ وصّيه بيّ استاذ ... ثواب إلك ...

ـ ليش أوصيه ... تعال وياي اليوم وبيك خير وتتدلل .. واحلف بالقرآن آخذلك إجازة مثلي بالضبط .. شوف بعينك شلون يفرح دكتور عقيل لمّا يشوفني ..

ـ والله استاذ هذا فضلك ما أنساه طول عمري .... لكن اشلون نروح للبصرة وإحنه هنا بأبو الخصيب ؟

ـ بسيطة ... إنت كل يوم العصر تذهب للمقر الخلفي ترسل البريد ... صحيح لو لا ؟

ـ صحيح

ـ إذن ماكو مشكلة ... نذهب للمستشفى العسكري قبل ما نذهب للمقر الخلفي .. إنت إطلع وحدك بالسيارة، وآني انتظرك بالشارع الترابي مقابل مدخل بطرية الهاونات ..

ـ والبريد ... والسيارة ؟

ـ هذي ايضا مو مشكلة ... ملازم احمد بالمقر الخلفي صديقي .. نراويه الاجازة وهو يتكفل الباقي ..

ـ الله يعطيك العافية ويحفظ جهالك ... فضلك ما انساه طول عمري .. أكول استاذ شنو رأيك تدلّيني على بيتك بالسماوة ؟ والدي بيّاع غنم .. يعجبني أذبحلك خروف خروفين وأجلبهم لبيتك ..

ــ أرجوك لا تعيد مثل هذا الكلام مرة ثانية ... آني أريد أساعدك في سبيل الله ... الناس لبعضها أخي ..

***

كثافة القصف الايراني هذا الصباح ينبئ عن استعداد لهجوم وشيك .. رئيس عرفاء الوحدة أبلغ الجميع بحالة الإنذار القصوى ... حان وقت الغداء دون أن يتجرأ أحد على الخروج من ملجئه .. قحطان الفيترجي رمى بنفسه داخل حفرتنا التي لاتتسع لأكثر من خمسة اشخاص...الملجأ أصبح مثل علبة سردين وقد ازدحم بتسعة جنود ..قلت لقحطان الفيترجي:

ـ يا اخي إذهب لملجئك .. ماكو غير هذا الملجأ ؟

أجابني وهو ما يزال يلهث :

ـ ملجأنا بعيد ...

ـ وين بعيد ؟ بالحلة ؟ ملجأ الفيترجية ورا ملجأنا تماما ...عشرين متر ويجوز أقل ..

ـ ها ؟ صحيح، لكن القصف رحت اجيب القصعة سيارة الواز كانت

ـ اشبيك اخي ؟ كمت تحجي خيطي بيطي.. قصف ..القصعة ..سيارة الواز... لا ترتبك ... الايرانيين ما يهجمون بالنهار ... يهجمون بالليل..

ثم انت جندي مطوّع .. لازم تكون شجاع ..

ــ أي شجاعة استاذ هذي قنابل وصواريخ مو معركة بوكسات .. الحذر يغلب القدر ..

ــ بابا هذي فرصتك لتنال الشهادة ... إستشهد .. على الأقل أهلك يحصلون على خمسة وعشرين ألف دينار وسيارة وقطعة أرض .. أستشهد حتى أهلك يستفادون من وراك ..

ــ ليش ما تستشهد إنتَ استاذ ؟

ـ آني عندي سيارة ووالدي اشترى لي بيت .. بعدين آني جندي احتياط خره مو مطوّع ... المطوّعين هم الأبطال " الأشاوس " ... أما الجنود الاحتياط مثلي فهم ناس مكاريد مجرورين من أذنهم ..

قال قحطان وقد استعاد بعض أنفاسه :

ـ حقراء كذابين .. يخدعون الناس ... إنتم شايفين دولة تكذب على الناس ؟ لكن آني حمار ... ليش اتطوعت بالجيش ... ؟ حيل وياي .. أولاد الكلب ينشرون اعلانات كلها كذب حتى يقشمرون الناس .. إجونا لثانوية 17تموز بمدينة الثورة .. آني كنت بالصف الرابع ثانوي ... ألقوا علينا محاضرة شطولها شعرضها .. كالو هاي فرصة ذهبية ... تتطوعون بالجيش لمدة خمس سنوات على قسم الهندسة ... اول سنتين تحصلون على سيارة برازيلي وقطعة أرض مع سلفة من غير فوائد تبنون بيها بيت الاحلام ...الراتب عالي اكثر من راتب مدير الناحية .. بعد الخمس سنوات تختارون بين التسريح من الجيش ومواصلة دراستكم بالجامعة التكنولوجية، وبين البقاء برتبة ملازم مهندس ..." سكت لحظات ثم واصل حديثه ":

ـ اولاد الكلب ... كذابين ... يكولون خمس سنوات وتصيريون ضباط !! صار لي عشر سنين بالجيش .. لا والله اكثر من عشر سنين ولحد الان ما واصل نائب عريف ... خيط واحد ... بعد عشر سنين خيط واحد .. تُفْ على هذا الخيط ...ما أريده ... (ثم وهو يمسك الخيط بعصبية) هاااااااااا أها .... شلعته .. شلعته ما اريد الخيط ...اذا كل عشر سنين خيط، يعني ينراد لي عمر نوح حتى اصير ملازم ثاني...اخوات الكحبه كذابين ... خمس سنين وتصير ملازم مهندس .... تاليها كل عشر سنين خيط ..

ــ تفاءل بالخير آخي ... يمكن فد يوم تترفع وتصير نائب عريف وبعدين تترفع من نائب عريف إلى فريق ركن ...

ــ أرجوك لا تستهزئ بيّ أستاذ .. آني مو مضحكة ..

ــ لا والله ما أستهزئ ... ليش حسين كامل مو كان نائب عريف وبعدين ترفّع وصار فريق ركن ؟

ــ حسين كامل متزوج بنت الرئيس

ــ طيب ... صير مثل حسين كامل .. أخطب بنت الرئيس .. عنده بنت بعدها مامتزوجة إسمها حلا .. إنت تقدّمتْ لخطوبتها وهو رفض ؟

ــ أستاذ رحمة الله على أهلك كافي سخرية ..

ــ والله آني أتكلم جد .. ماكو شي صعب على الله سبحانه وتعالى .. هتلر كان عريف بالجيش وبعدين صار رئيس لألمانيا .. يجي يوم وتصير عريف ..إصبرْ أخويا.. الصبر طيّبْ على رأي " زهور حسين " .. يعني لحد الان ما انطوك السلفة ؟

ــ لا والله ...

ـ والسيارة البرازيلي ؟ وقطعة الارض ؟

ـ والله بايسكل ما انطوني ... يا سيارة يا قطعة ارض يا سلفة ...اخي كذابين سفلة يخدعون الناس... العن ابوهم وابو ابوهم ... كواويد ... راح يصير لي اهدعش سنة بالجيش بينما كاتبين بوثيقة التطوع خمس سنين ونتسرّح ... نتسرح وننقبل بالجامعة التكنولوجية من غير معدل .. رأسا من المعسكر للجامعة ... والله ما بيهم شريف .. لكن الذنب ذنبي ...آني حمار وصدّكتهم ... بس اروح اجازة بعد ما ارجع حتى لو يعدموني .... ما ارجع لو تنكلب الدنيا .. سفلة كذابيـ .......

 

بم ... بم ... بم بم بم بم بمبمبمبم... و: ازداد هطول مطر القنابل، وبدأت اجسادنا ترتجف مع اهتزاز الارض تحتنا، لأجد قحطان الذي كان بباب الملجأ، يطفو فوق رؤوسنا ببدلته الملطخة بزيت المحركات وبصطاله المليء بالوحل والطين وبرائحة جواربه الزنخة وهو يصرخ : سترك يا رب سترك يا رب .. (ثم بصوت خفيض مرتعش لكنه مسموع) : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ولم يلد ولم يولد ولا الضآآآآآلييين ............... أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا ...

ــ هلو عيني هلو ... ماكنت أعرف بيك خريج الحوزة ... هاي من اشوكت حافظ القرآن ؟ من اليوم فصاعدا إنتَ لازم تصلي بينا جماعة ..

ــ تستهزئ أستاذ ؟

ــ طبعا أستهزئ ... إذا سورة الفاتحة ماحافظها ... لعد اشلون لو طلبنا منك تقرأ سورة آل عمران والكرسي ؟

( بم .. بم ... بم بم بم بم بم بم ) ... وإذا باسماعيل أصبح فوق علي الغانمي الذي صرخ به غاضبا :

ـ إبعِدْ بصطالك عن خشمي .. إقرأ الفاتحة لكن بدون رفس .. إنت تقرأ بلسانك لو برجليك ؟ ... شنو هالطركاعة السوده ... ألعن ابو الجيش لا أبو اللي أسسه ... آني ما أفتهم ... لو أفتهم كان أرسّبْ نفسي بالجامعة كل صف سنتين ثلاثة... ما أتخرّج إلآ تنتهي القادسية .. العتب مو عليك .. العتب على الزمال اللي قبل تطوّعك .. ( ثم وهو يوجه لي الحديث ) :

إستاذ يمكن القصف شويّه خفْ ... ان شاء الله ساعة ساعتين ونروح نرسل البريد للمقر الخلفي .. واذا ماكو بريد اليوم فالأكيد بكره الصبح أروح أجلب البريد من المقر الخلفي .. ما نريد قصعة اليوم ... آني عازمك على كباب لو تشريب دجاج ... بكيفك .. اللي يعجبك استاذ.. آني عازمك على حسابي... أعرف مطعم كباب مقابل سوق حنّا الشيخ كبابه يخبّل ... ومطعم ثاني بساحة أم البروم يطبخ احسن تشريب وقوزي ... واذا يعجبك ناكل باجة وكراعين بساحة سعد .. باجة وكراعين وطرشي النجف... ها استاذ شنو رأيك ؟

ـ هاي إشبيك ؟ وين أكو اجازات اليوم؟ (وغمزت له بعيني ليسكت او يغيّر الحديث) فسكت ـ ولم يكن يعلم أنه سيهرب معي من الجيش صباح الغد بإجازة مزوّرة كمرافق للجريح، الجندي احتياط خره " مظلوم " والذي كان يصرخ من ألم ٍ كاذب، وقد بدت ساقه اليمنى مثل عامود من الجبس .. حتى أن جنديين من جنود مفرزة الانضباط العسكري في المحطة، حملاه برفق لم يألفه، وفرشا له سريرا واسعا في عربة القطار الصاعد إلى بغداد ـ حيث سيقفز من الباب حين بدأ القطار يخفف سرعته عند مشارف مدينة السماوة راكضا مثل غزال في برية، مثيرا دهشة الجنود الجرحى ومرافقيهم والمضمد العسكري !!

***

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1327 الاربعاء 24/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم