قضايا وآراء

قراءة في مجموعة شعرية أماكن فارغة ... لـ علي الإمارة

وتشبثه بالمكان والكشف عنه والدخول في بنيته السطحية والتحتية من اجل تحويل ألذاكراتي إلى شعري . و /أماكن فارغة / تحمل منذ المستهل مفارقة العنوان بواسطة ضدية مقصودة تخدم السياق العام للخطاب الشعري، المكان / الفارغ الذي يملؤه الشاعر بكل التفاصيل التي تختزنها ذاكرته التي ثقبتها الحروب والتي انهالت منها هذه المجموعة من دون تحفظ، أو رقابة. فقد جاءت عفوية من دون تكلف. ويتضح لنا إن المكان لا ينفصل عن الوقائع بل يستبطن احدهما الآخر لحمايته من الضياع التاريخي . فالمكان أضحى (مسرحا لكلمات الشاعر وموحياته، وان كثيرا من مفردات لغته تنتمي مباشرة أو بنحو غير مباشر إلى المكان)، لهذا فأن المكان هو الوضع الذي تترتب بموجبه الادراكات الحسية وكل الانطباعات والأفكار التي تراود مخيلة الشاعر، بمعنى إن المكان الذي تتحرك بداخله تلك المدركات ليس وجودا طارئا لأن معطياته المعكوسة مع المدرك الحسي وما يترشح منه يجعل منه مركزا لكل الترابطات الذهنية المترسبة في وعي الشاعر والتي تفعل بالآخر/ المتلقي نوعا من الشعور بالألفة مع ذلك المكان وان لم يشهد كل الحيثيات التي تشكلت في داخله أو خارج مداره بتأثيرات، أو أفعال ذاتية وموضوعية . وهكذا يتعامل الشاعر مع المكان في معظم شعره، وقد يكون ذلك واضحا بنحو اكبر في قصائده الموسومة (لزوميات خمسميل) التي شكل المكان فيها الثيمة الأساسية ذات الوظائف المتعددة، والتي تعددت بموجبها أغراض اللغة الشعرية وخطابها إلى المتلقي . وتتباين مستويات الفعل الدلالي الذي ينبثق عن المكان، فثمة مكان خارجي يغلف بداخله مفردات كثيرة تحمل معناها من دون فعل ترميز أو أفتعال شفرات لا يمكن حلها . وثمة مكان آخر لا يمكننا تخيله أو رسم عالمه من الخارج لأن الخارج لا يتمكن من تزويدنا بصورة الداخل بنحو نستطيع بواسطته معرفة مرتسمات ذلك الداخل

 

هنا

في هذا المكان الفارغ

ولدت

وفي مكان أكثر فراغا

ولد أبي

نحن أبناء الأماكن الفارغة

 

ان فعل المكان – هنا – يخلق تأثيره بواسطة مؤثر خارجي لا بواسطة ما يفرزه المكان من صور ذهنية عند المتلقي / سلبية كانت أو ايجابية، بل أن المكان في هذه المجموعة يفعل فعله المؤثر عبر منظومات ومرجعيات مترسبة في عقل الشاعر الذي حاول تضييق العبارة على الرغم من سعة المكان، فكان شاهدا وراويا ورساما مبدعا للوحات شعرية تمكن من تشكيلها من تفاصيل يومية عابرة غلب عليها سحره الشعري من دون أن يشوه واقعية تلك التفاصيل . أما جوهرية الصورة في التشكيل الشعري لهذه المجموعة، فالعملية التفكيكية قد لا تلغي بصفتها بنية متماسكة هيكل الشعر العام لأنها تحاول توضيح كل مفردة وصولا إلى تحديد مدلولاتها، أو ما تؤول إليه، لأن من اشتراطات معرفة الخاص، ولأن الشعر بنية فأن مفرداتها التي قيست بلغة العقل يبعدها عن اشتراطاتها وغائياتها الصحيحة التي انبثقت من اجلها أصلا، لذلك، لا بد من التعامل مع هذه المفردات بواسطة المدرك الجمالي والعلائق المتواشجة بين مفاهيمها . ولعل من أهم تلك المفردات هي الصورة التي ينبغي ان يتحقق بها حضور شيء يتعامد عنده ما هو زماني بما هو مكاني لتكوين بؤرة التقاء إنسانية (نسبة إلى الإنسان)، لذلك فأن الصورة ما هي إلا عملية اختزال الشعري إلى حضوري من دون المساس بما يفيد من أن ذلك الشعري أداة فاعلة في توصيل ما هو حضوري إلى فهم المتلقي وإدراكه لأن الشعر فن معرفي يتعامل مع اللغة، فنحن لا نستطيع إن نفهم شعرا من دون أن نفهم اللغة التي كتب بها ذلك الشعر، لهذا تبقى الصورة من أكثر العناصر أهمية في تشكيل العمل الفني في الشعر

 

مشكاتك الخطيئة

وكرسيك مضرج بدماء الإلهة

لم يعد بالإمكان تسميتك نصف صعلوك

بعد أن سقط صولجان الجوع من يديك

ورفأت شقوق سمائك

بمصابيح جلدك

وتساقطت من جيوبك المثقوبة

وجوه الأصدقاء كحبات الشمس

 

هذه الصور تعتمد على حالة التفكيك واللاتماثل أي (باستلاب الدال من مدلوله عن طريق خلق تعالق إسنادي بينه وبين عنصر آخر لا يتحمل هذا التعالق اصلا) كقوله /مشكاتك الخطيئة / بعد أن سقط صولجان الجوع / تدفعك أكف التراب / بعد أن أصبحت النهارات كفنا / . إن (المشكاة) التي هي رمز لاستجلاء الخارج (مثل نوره كمشكاة) فاستعمال هذه الصورة كوّن فضاء صوريا غير الفضاء الصوري الحقيقي الذي تمثله المشكاة، وهذا ما يحدث مع الصولجان الذي هو رمز القوة والملك، أو النهارات كفنا / في حين إن النهار يرمز إلى الحياة وانبثاقها . هكذا يحاول / الإمارة / استثمار الصورة للخروج على المألوف، أو هكذا هو يفهما على إنها إزاحة قصوى ومسافة طويلة بين ما هو مألوف وبين ما هو شعري، وقد يخالف بعض النقاد الشاعر في مثل هذا التصور غير أن له مسوغاته التي نظن إنها ترتكز على ما هو محسوس، أو مرئي لتتحقق بذلك إيحائية الشعر . إن نصوص هذه المجموعة المهمة تشتغل على مساحة المكان / المدينة بواسطة (دوال) كثيرة هي في الأصل واقعيات مرمزة بيد إنها متشظية في نص مفتوح يملك شعريته وإيقاعه الداخلي والبصري الذي يقترب من القصة الحرة. لقد قالت هذه المجموعة ما لا يمكن قوله بغير الصيغة التي وردت بها، فالنص ينطلق من المدينة ويعود ليصطدم بها فيأخذ شكل قبر، أو مقاعد مقهى، أو إيصال شهيد، أو مواجهة طغيان . فبلاغته في واقعيته، وواقعيته في ملء فراغ أمكنته التي امتصت صدمات حربين، فظلت المدينة واقفة ضد التفتت غير (متجمدة في الكارثة) بل عملت على الوصول إلى حالة الحلم الذي لا تغيب عنه الشمس.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1335 الخميس 04/03/2010)

 

 

 

 

   

في المثقف اليوم