قضايا وآراء

قراءة في قصيدة: (لا وقت لصلاة أخرى) لمراد تيسير

لا وقت لصلاة أخرى 

لا نبض لغياب آخر 

ولا قدرة على التحليق ..!!

هبيني منك جناحا 

أغنية 

أو لحنا كاد ينتهي .. أقايضه بفرح أخير 

..................... 

يا سرب فراشات ..

يسافر في ثنايا الحزن 

فيك ألملم ذاتي 

وأُ بعث تنهيدة تراود الله عن عمرٍ آخر 

أُطارد منذ بدئه وجهك .. وأحتضن فيه الضياء 

...............

قبلك .. 

كان قلبي صلوات حزن 

لا موت .. ولا حياة 

حتّى أتيت من قوس قزح 

همس أصابعك في كفّي يسألني 

أوحدك .. تسير بلا رفيق ؟؟

أجيب : والريح تعوي في فراغات ضلوعي 

تخلّى عنّي ظلّي هناك 

على تلك الناصية ..

كان الوقت ليلا وأنين المخلوقات المسحوبة الى الهاوية 

يملأ الفضاء ..!

تختبئ الأسرار في الليل 

تضاجع فيه الشياطين أشياءنا 

لنراها صباحا راقدة على ظهورها 

حبلى بالعفن ..

فلا وقت لصلاة أخرى ..!

..............

أنا نبض الخطايا 

أخلع عنّي جلد الصبر 

أتعرّى .. !

أتعمد في نبيذ كرومك 

سيقتلني خمرك ..

والليل إن غصّت شمْعاته ببريق عينيك 

وأسافر مطفئا في شرارات التفكير .

أدري ..!

سيأتي يوم ٌ تبيعين فيه ذكرانا لعابر سبيل 

وتصدح باسمي الكنارات 

آيات وجع ..

يئن لها النخيل .. ونايات الرعاة 

.....................

لا تخلعي العتمة 

إن تكسّر فوق شفاهنا الصهيل 

أو سافر الغد فينا الى البارحة 

اتركيها ترشف جراح القبل الغائبة ..

ليس الغد كالأمس

ولسنا في حكايانا المقبلة .

سيكون النبض هناك !

وقبلة سرقناها عبثا من عمر التنهيد 

سأكون ..

سرابات الليل أطارد النجمات الهاربة من عينيك 

وسرب فراشات غادر ما تبقّى من دمي ..!!

 

مراد تيسير: الشاعر الذي يعيش بين بعدين ومكانين، تعاشر روحه روحا أخرى لتحتلّ جسدا هاربا من انتظار لحظة الوداع الأخيرة والتي يعني بها الرحيل دون عودة، أما الجسد الآخر فتحتلّه روح مشّعة، هالة من بداية، ترفض أن تستسلم للمكان وللزمان، شاعرنا (بانزياحاته اللغوية) يفرض على القارىء اعادة النظر والقراءة أكثر من مرة لأن هذا النص والذي يبحث من خلاله الشاعر عن مصدر لكينونة الحياة وللبقاء ذلك وهو في اللاوعي لا يدري أنه الغائب والحاضر في نفس الوقت وهذا التأرجح بين أن يكون وينبض ويتنفّس وبين أن يرتشف من تنهيدته الأخيرة رمقه العطش الى السفر والرحيل، فالعنوان لوحده بدلالاته يجعلنا ندرك ماهية النص الذي أمامنا اذ يفقدنا لحظات الانتظار لنسرع الخطى وندرك هذا الوقت الذي " لا وقت له" فلا وقت لصلاة أخرى، لذا نراه يفرغ شحناته المصحوبة تارة بالعودة الى الماضي فتغيب الملامح من النص ونراه يعود محمّلا بالأماني ليحظى بفرصة أخرى من لقائه بها تلك التي يطلب منها أن تهبه جناحا،، :

 

يشدني إليك .. أنين حلم 

وما في العمر من آلام 

وجع روح ينتهي عند مشارف عينيك ..

لا وقت لصلاة أخرى 

لا نبض لغياب آخر 

ولا قدرة على التحليق ..!!

هبيني منك جناحا 

أغنية 

أو لحنا كاد ينتهي .. أقايضه بفرح أخير 

نلاحظ أنه حتى حلمه مغلّف بالألم، والأنين والوجع، لكن الوجع حين يصل مشارف عينيها ينتهي، لا وقت لديه ( لصلاة أخرى) ولا (نبض لغياب آخر)،، احساس بالاستسلام أنه الآن يفقد هامته، يتساقط، يفقد جناحيه دون مقدرة على التحليق، يستجديها أن تهبه ( منها جناحا آخر)، فهي اذن مصدر الطاقة حين تستطيع أن تمنحه جناحا منها، استئصال وولادة جديدة فتوظيف ( الجناح) الذي من الممكن أن ينبت في جسد آخر ويصبح هبة للغير ما هو الاّ عملية استئصال، كاستئصال من الرحم بعد المعاناة، وألم المخاض، انها الولادة الأخرى المحلّقة بعالم آخر والتي لا تكتمل دون أغنية أو لحن (أقايضه بفرح أخير) انه الحاضر هنا والمدرك أنه سيقايض اللحن بفرح أخير،، وكم من اللحظات التي يستطيع فيها الشاعر أن يلتقط الحياة مع ادراكه بأنه سيكون آخر الفرح ..!

 

يا سرب فراشات ..

يسافر في ثنايا الحزن 

فيك ألملم ذاتي 

وأُ بعث تنهيدة تراود الله عن عمرٍ آخر 

أُطارد منذ بدئه وجهك .. وأحتضن فيه الضياء 

ما زال حضور الشاعر واردا، فهو يناجيها: (يا سرب فراشات)،، لم يقل يا فراشة بل هي سرب من الفراش يسافر في حنايا الحزن، في الحزن يلملم نفسه، فيها، وقد يكون " التوحّد" بالآخر يصنع المعجزات فيبعث تنهيدة جديدة لعمر جديد كاد في لحظة أن يفقده، هذا العمر الذي طارد فيه وجهها المضيء واحتضنه . الشاعر هنا ما زال في دائرة الاستجداء والحاجة ليلملم ذاته .

قبلك .. 

كان قلبي صلوات حزن 

لا موت .. ولا حياة 

حتّى أتيت من قوس قزح 

همس أصابعك في كفّي يسألني 

أوحدك .. تسير بلا رفيق ؟؟

أجيب : والريح تعوي في فراغات ضلوعي 

تخلّى عنّي ظلّي هناك 

على تلك الناصية ..

كان الوقت ليلا وأنين المخلوقات المسحوبة الى الهاوية 

يملأ الفضاء ..!

تختبئ الأسرار في الليل 

تضاجع فيه الشياطين أشياءنا 

لنراها صباحا راقدة على ظهورها 

حبلى بالعفن ..

فلا وقت لصلاة أخرى ..!

انتقال بالزمن، من الحاضر الى الماضي، فقبلها ملك قلبا لا نبض فيه ولا موت : بعد جميل وأخّاذ للانسان الذي يعيش في الدنيا غده كأمسه وأمسه كغده .. وما الفرق، انه شعور يجتاح النفس فيفقد قلبه الذي هو عبارة عن " صلوات حزن"،،! يشعر المتلقي بقفزات نوعية في توتر الشخصية الساردة وكأنّ كل شيء يتبدّل، وكأنّ الزمن يقف ويستجمع قواه لما سيحدث، " حتى أتيت من قوس قزح " اللون والصفاء والنقاء بعد هطول المطر، هل شاعرنا بتوظيفه قوس قزح يملك بعدا آخر غير الحياة واللون واشراقة شمس جديدة، أم أنّ هذه الهالة المتقوسّة، وعلى شكل هلال منحت الشاعر طاقة أخرى للعيش " همس أصابعك في كفّي يسألني / أوحدك تسير بلا رفيق" ؟ هي اذن الأصابع الهامسة له لمتابعة المسير معا،، هنا الشاعر يوظّف عامل (الحواس) بكل تقنية، محاولا بهمس الأصابع توصيل المعنى المتوارى خلف السطور أن حبيبته تحتاجه كرفيق .

أجيب والريح تعوي في فراغات ضلوعي / انزياح في اللغة (الريح تعوي) والعواء للذئب وهذه القدرة في حياكة خيط آخر من جماليات النص الشعري يعود بنا الى السؤال وما الرابط بين العواء في الليل وبين فراغ الضلوع؟ ذكاء شاعرنا بهذا الدمج بين حالتين يتجاوز الحسّ اذ يدعو للتأمّل الذي يأخذنا الى (وحدة) الشاعر والفراغ بين ضلوعه من كل شيء، ذلك لأن ظلّه تخلّى عنه، والظّل له أحجام اذ أنه يتمدّد ويتقلّص حسب الظروف فكيف بشاعرنا لا يحسّ بعواء الريح التي تحطّه هنا وتزرعه هناك ؟ اختياره الليل كزمن لأن (الشياطين تضاجع الأشياء) ولم يفسّر ما هي الأشياء بل ويضيف لنعلم أن المضاجعة أدت لتناسل أدت لحمل (عفن)،، التوظيف رائع بكل احساس الشاعر بالليل الذي بات بالنسبة له سرّا اذن (فلا وقت لصلاة أخرى)، كلّ شيء قبلها كان عفنا ونزقا ..!

 

أنا نبض الخطايا 

أخلع عنّي جلد الصبر 

أتعرّى .. !

أتعمد في نبيذ كرومك 

سيقتلني خمرك ..

والليل إن غصّت شمْعاته ببريق عينيك 

وأسافر مطفئا في شرارات التفكير .

أدري ..!

سيأتي يوم ٌ تبيعين فيه ذكرانا لعابر سبيل 

وتصدح باسمي الكنارات 

آيات وجع ..

يئن لها النخيل .. ونايات الرعاة 

 

يخرج من الذات الى الكائن الذي هو ابن الخطايا، فاقد الصبر، عاريا من كل شيء، لكنه حين يقول : " أتعمّد بنبيذ كرومك، سيقتلني خمرك " تتغيّر لهجة الشاعر والذي كان في الفقرة التي قبلها يؤمن أنها التي بامكانها منحه جناحا كي يستطيع الطيران، بل يستمر " أدري سيأتي يوم تبيعين فيه ذكرانا لعابر سبيل " يعود للغياب من جديد، احساس بعدم الثقة، يفقد ثقته حتى بها تلك التي من الممكن أن تتحوّل عنه مع أي عابر سبيل، فتخلّده الكنارات ضحية وشهيدا على مذبح الحب فيئنّ النخيل لآيات الوجع و" نايات الرعاة" ! 

لا تخلعي العتمة 

إن تكسّر فوق شفاهنا الصهيل 

أو سافر الغد فينا الى البارحة 

اتركيها ترشف جراح القبل الغائبة ..

ليس الغد كالأمس

ولسنا في حكايانا المقبلة .

سيكون النبض هناك !

وقبلة سرقناها عبثا من عمر التنهيد 

سأكون ..

سرابات الليل أطارد النجمات الهاربة من عينيك 

وسرب فراشات غادر ما تبقّى من دمي ..!![/

" التنبؤ" هي ومضة من خلع الشاعر نفسه في لحظة الاشراقة المجنّحة ليكون المدرك المتنبىء لكل ما سيحدث معه، وهي حالة لا يمرّ بها الاّ من يخشى الغد بعد أن لامس خمرة الانعتاق في حضن الحبيب، " لا تخلعي العتمة"،، التحاف العتمة، هربا من الضوء من كشف الأسرار من العودة الى الماضي البعيد العودة الى الغياب، فقدان الغد " ليس الغد كالأمس" اعتراف بأن هناك ما يستحق الحياة لأجله، يكتفي بقبلة مسروقة من عمر يتنهّد،،ويختم بقوله الذي ترك بي حيرة ومفارقة، بقوله : " سأكون، سرابات الليل أطارد النجمات الهاربة من عينيك / وسرب فراشات غادر ما تبقّى من دمي "،،،استمرارية التحليق وراء السراب لكنه يطارد النجمات الهاربة من عينيها، شاعرنا سيبقى يطارد ما تبقّى من دمه،، هل في هذا عدم التخلّي عن المطاردة بالرغم من غيابها وبعدها عنه، في عالم يكتنفه الحزن،،!

الشاعر مراد تيسير : كل كلمة تضاف ستخدش الصور الشعرية وتمسح عن ملامحها الجمال الخفيّ لذا أقول لو كان بامكاني التثبيت لثبتها لكننا ونحن في القناديل نستقبل بعد أيام عيد الفرح للقناديل فقد توقفنا عن تثبيت المواد وحينها ان شاء الله سأعود لتثبيت القصيدة لأنها تستحق، رائع مراد وعودة حميدة وأهلا بك من جديد أيها الغائب الحاضر معنا دائما

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1357 السبت 27/03/2010)

 

في المثقف اليوم