قضايا وآراء

أبجدية القراءة، بين الإستهلاك والإنتاج الأمثل / فائز الحداد

لذلك وبدافع ان تكون االقراءة نموذجية يشترط الإتيان بالجديد الثقافي المعبر في تضاعيفه عن المقنع على أقل تقدير، لأن الإستهلاك ليس أقل خطورة من الإنتاج في أي جنس كتابي أخر، فهل من ضرورات التخلي عن المسؤولية .. ان نبقي القارئ يدور في حلقة المبسطات التعبيرية أو الدارج النسقي بحجة «التبسيط» المفهوماتي؟ وبخلافه.. هل يعني غلو التخلي ان نجعل القارئ لا يفهم ما يهدف اليه الكاتب نتيجة الايغال بالنظريات والطروحات الفكرية والمنهجية ـ لغة وموضوعا؟ ‏ إن الامانة الثقافية تقتضي الارتقاء بالقارئ تدريجياً لتحقيق أعلى فائدة تبادلية ممكنة (كتناص جدلي) ..أي خلق أفق ذهني نقدي للقارئ ولو بحدود التمييز بين المفيد والمضر، فتلك المسلمة وحدها ستكفل انتاجا ثقافيا نوعيا واستهلاكا راشدا منتجا أيضا، وبظله سينحسر الاندثار الثقافي ويتلاشى الى ادنى حد. ‏ إن القراءة السلبية .. تلك التي تقوم على استنزاف العقل والوقت معا، و تنتج قارئا كسولا يستسهل البحث عن وجبة قرائية جاهزة، بينما تستدعي القراءة الايجابية استدراج القارئ بطعم ثقافي دسم لاصطياده وتنشئته، ومن ثم اعادته الى نهر الحياة كقارئ يضاف الى قائمة المثقفين.. فكلنا ابتدأ قارئا بسيطا لمجلة أو جريدة ثم تدرج بمرور الزمن ليصل الى ميله المطلوب في الأدب أو الفلسفة أو علم الاجتماع وغيرها، بحيث أضحى البعض (انسكلوبيديا) وصار البعض الآخر مثقفا أكاديميا أو مبدعا، فهل صرنا لولا ذلك الاستدراج المحسوب مهنيا وتقنيا وما أملته الأمانة الثقافية لأساتذتنا من الكتاب والمفكرين الذين سبقونا ..؟ ‏ إنني ومع عظيم اعتباري للتنظير والمنظرين وللتفكير والمفكرين، لا أجد جدوى لمسمار دق في لوح لم يبلغ اللوح الآخر، وظل هناك ثمة فراغ قابل لمرور ولو نسمة تفصل بين جسمين يراد لهما التلاحم والتجانس.. فهذا العازل (المصنوع) سيظل شرخا يفصل كائنين ولا يعمل على خلق كائن جديد آخر، وهذا هو الفراغ الوهمي ما بين الكاتب والقارئ، الذي كرسته المدارس النقدية في بعض اتجاهاتها، بينما تسعى التقنيات الثقافية الحديثة بحرص الى خلق هذه اللحمة لضمان الاستمرار والتواصل المتجدد في كل العلوم والآداب.. فالتيمات تتوارث والثقافات تتوالد من جيل مثقف الى جيل من المفروض، أن يكون أكثر ثقافة،فهو كالكرم أساسه (حبه ومردوده جمل) كما قال اسلافنا.

وبعيدا عن المؤاخذة (بالاثم الثقافي) أجد متنفسا كبيرا يدفعنا الى التمسك بـ «بعزة الصدق» وتأكيد حرية الرأي، مع شديد تحفظي على التنظير العائم وافتراضات الرأي غير المحسوم لأنني أرى: أن هناك خلطا واضحا والتباسا لمفهوم القراءة.. ففي الزمن الذي يفترض فيه الناقد السعودي د.عبد الملك مرتاض وجود قراءتين فيتوقع وجود قارئين، الأول (ساذج دلالي) والثاني (نموذجي نقدي) (سيميائي) يقول :

 ان لا فرق بين (لغة اللغة واللغة العادية) ويخطئ على حد فهمي في فهم «بيرس» في التأويل، مع انه يدعو الى (متابعة الكاتب على سبيل الحرفية كما ذهب الى ذلك «امبرتو ايكو» .. وبإمكانية استعمال النص المكتوب أولا ثم تأويله ثانيا، كما يمكن تأويله أولا ثم استعماله آخراً، كما يمكن استعماله دون الانزلاق الى تأويله، ويمكن تأويله دون تدرج الى استعماله).. وهنا أتساءل:

 أما مثل هذا الطرح سيبعد القارئ تماما عن استقبال الأدب نصاً ونقداً، ويعمل على تعقيد مركب اللغة الى اقصى حد، لما في ذلك من اعتياص اصطلاحي ولغوي يدفع القارئ الى النفور؟.. وبالامكان تسهيل مهمة القارئ في الفهم دون تسلط، كما ترى العملية النقدية الناقدة المصرية د.سهير القلماوي في كتابها «النقد الأدبي» حيث تنير الموضوع بوجود «مؤلف ونص وناقد» وأحكمت الرؤية في «القيم والميزان». وما يهمنا هنا كقراء أولا وقبل كل شيء ..أن لا نلغي حدود الصلة المعرفية بيننا وبين صناّع الكلمة كمستقلبين لبضاعة نحكم عليها سلفا بأنها بائرة، لسببي اللغة وعقوق المضمون !! لأن أي قطيعة مضرة ومضرة جدا، وعلى الصحف الثقافية تقع مسؤولية البدء بإبراز القدرات الحقيقية والإرتكاز عليها لا كأسماء فحسب، بل كمنجز أيضا بدلالة التواصل الكتابي المتميز والنوعي.. فلا خير في اسم يرتكن إلى منجز لم يحقق نفسه في البقاء أمام تنامي الثقافة العالمية بتسجيلها أرقاما قياسية جديدة، وبقاء ثقافتنا تراوح بين القديم والوافد والمكرور. ‏

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1440 الاحد 27/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم