قضايا وآراء

لغة الشعر .. وشعر اللغة / فائز الحداد

وغيرها ما ينصرف إلى العلوم والمعارف الأخرى. الحقيقة تقول: إن الشعر يتجاوز محدودية مقننات اللغة في قوانين نحوها وصرفها إلى جماليات المعنى وتقنية الصورة، لأنه من صيّر الفكرة لصالح الجمال. وعلى هذا الأساس، لا يقف النص الحداثوي عند اللغة لكونه يعبر عن موقف إنساني كوني، أوسع بكثير من رياضيات اللغة وأكبر من عروض الشعر وأغراضه،  لذلك وقع (المحافظون) في أحايين كثيرة في مغالطة سوء الفهم وجهالة التصدي سلباً للنص الحديث، دون وعي معرفي بتطور حركة التاريخ، فظل الشكل القديم هوية السلفية الشعرية، بينما اخترق النص الحديث أجواز السماء ليحلق بأجنحة العصر النازعة إلى النور والتجدد.

 

إن النقدية التي لا ترى بالحداثة استمراراً للقَدامة كأبوية متوالدة ومتواصلة، هي نقدية ناقصة. ومن لا يراها نتاجاً حضارياً بمجمل العوامل المحركة للحياة، يقع بواهن معرفي خطير لا يقل جهالة عما وقعت به (جماعة السلف المحافظ)، وما وقع به أيضاً العديد من النقاد من مدارس نقدية متعددة ومختلفة، فهل يعني ذلك أننا نسعى لتأسيس نقدية شعرية حداثوية، تقوم على القراءة النموذجية استعمالاً وإنتاجاً؟ أي نقدية تأخذ بمدارك (فهم النص) أولاً وقبل كل شيء؟ وهل هي دعوة لأن يكون الشعراء أساس هذه النقدية، باعتبارهم أدرى بتضاعيف أسرار النص كتقنية وجمال  ومعنى؟ أجل، ولكن لنُفضَّ أولاً بكارة اللبس بين ما هو شعري وغير شعري، وهذا بالنسبة لنا الأهم في العملية الشعرية، أي تحديد مقدار الشعرية في لغة النص دون النظر إلى هيئة الشكل والجنس، إذ ما قيمة الشكل دون أدنى شعرية تذكر؟ فقد تسمع المطولات من المنظوم بوصفها قوانين لغوية ومعرفيه، وفيها من التقرير والتسطيح ما لها من الهجاء والمديح، بينما تستمتع بمقطوعة شعرية صغيرة، فيها من البيان والجمال ما يغنيك اختصاراً واقتصاداً عن قراءة أكثر من ديوان شعري لا يساوي مقدار الجهد والوقت والمال المتفق عليه!

 

إذن، فنحن بصدد مقدار الشعرية ثنائية (المعنى ـ الجمال)، وهذا ما يضعنا أمام إشكالية اللغة، اللغة التي نعنيها شعراً بعد حسم فضلها كأداة ووظيفة، وما لها من صلات وتشظٍّ كفروع ومصرفات أخرى كألفاظ ولهجات. ونحن أيضاً أمام محنة الدفاع عن الأدب وإزاءه بشكل عام، وملابسات الدفاع عن لغتنا الأم بشكل خاص. ولكن ماذا عن اللغة (الوسطى) بين الفصحى والعامية، أو الشعر المكتوب باللهجة العامية القريبة هجاء من الفصحى؟ فهل من المعقول إلغاء فصل شعري كبير بحجة (عيب) اللهجة أو (الجهل) بمفردات البناء الحرفي أو اللفظ أو الصرف وحتى حركات الإعراب؟ والشعر ذلك  الخارج على نمطية الحياة الساكنة في العاطفة والوجدان والعقل والمنطق، أما كان للعرب في القدم أسواق للشعر وما يتصل به كأسواق الجاهلية في (عكاظ ومجنة والحجاز). التي تتمثل أهميتها في تقريب لهجات القبائل في الشعر، لكن الجميع يتوحدون بلهجة واحدة هي (لهجة قريش)، التي أصبحت فيما بعد لغة العرب إثر نزول القرآن؟

 

أما كان (الحارث بن حِلِّزة) سيد شعراء الجاهلية جميعاً، يكتب بلهجة قومه قبل أن يكتب بلهجة العرب القريشية؟ وفي ضوء هذا الهدي أقول:

كم أهدرنا من الشعر الشعبي الجميل بسيف قانون اللغة، وكم قتلنا من الشعراء بحجة الإقليمية والمناطقية والفئوية بتهم التجزئة والتهديم والتحزيب؟ وهذه لا تقل شأناً عن (الزندقة) القديمة في الإيذاء والإجحاف. ولعمري هي صورة الابن الماشي بجنازة أبيه هاجياً، دون إدراك أنه المُهجُوِّ بالاستعاضة، وعليه يقع (سهم السنام). وما أحراني بأن أقول:

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1451 الخميس 08/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم