قضايا وآراء

فاروق عبدالقادر يلفظ أنفاسنا الأخيرة للاعلامي (عبده وازن) / هيام قبلان

 المؤلم أن الشاعر الاعلامي عبدو وازن اختار مفصل القلب ليصبّ فيه جرحا آخر من جراح المبدع العربي في أيّ مكان في شرقنا الحبيب، اليد ترتعش، الجسد ينتفض، والشعر يتصبّب عرقا وما بين السرير الوحيد في أحد المستشفيات " الرخيصة " وما بين ضحكته الساخرة يشرئبّ لعاب الحقيقة ليطعمنا من مذاق الخضوع لسلطة، أو لمكان أضيق من صندوق خشبيّ،، الوجه الآخر لنهاية العظماء في أوطانهم، دون رفيق ولا حبيب ولا ونيس،، دون أن ينتبه الوقت أن الأنفاس الأخيرة قد تطول لو نفخت فيها روح المحبة والحنان دقائق،،قد يتساءل البعض الموت قدر ومكتوب، نعم قدر لكن الزفرات الأخيرة للانسان تحتاج لقطرات من ندى قبل الوداع، ولبسمة على وجه طفوليّ كان يحبه، هي اللحظات التي من خلالها تتعارك الأزمنة مع " لغة الحواس" فيفقد الزمان وجوده والمكان محيطه وتظلّ عين واحدة ترقب شبح الموت الآتي على عجل،، ما أقرأ هنا لعبدو وازن ليس وداع صديق حبيب، أو ناقد لامع بل هو وبأسلوب مدهش يحطّ جناحه المكسور تحت مقصلة الزمان فيتمرّغ برماد البلاد الغريبة وكأن هذا الجناح الذي سقط واتكأ على أسوار الأفق أصبح وحيدا بفقدانه جناحه الآخر .

الناقد الراحل فاروق عبد القادر مثلما اهتم بالمسرح كانت له العديد من القراءات والدراسات عن الرواية والقصة بملامحها الحداثية والمتطورة اذ أنه واكب جيلا جديدا من المبدعين الشباب وهل كان يدري قبل الرحيل أنه سيترك في النفوس أثرا وفي الذاكرة مفتاح الصبر ومرايا الزمن الذي تعرّى من كلّ شيء الاّ من الحقيقة التي تموت يوما بعد يوم من جفاف، ومن روتين، ومن تغييب، نحن هنا في هذا النص الذي يحاكي حاسة أخرى نبحث عنها وسنبقى نبحث لأننا ربما لم نعرف فاروق عبد القادر جيدا فهل فعلا عرفه عبده وازن ؟

وأختتم باقتباس :

" في العام 1994 أصدر فاروق عبدالقادر كتابه الجميل «نفق معتم ومصابيح قليلة» وهو النفق الذي تجتازه الثقافة العربية وليس المصرية فحسب، النفق الذي لا نهاية له على رغم المصابيح القليلة التي تضيء زواياه. أتخيل الآن فاروق عبدالقادر يعبر هذا النفق تاركاً لنا نحن قراءه وأصدقاءه، بضع نثرات من ضوء، نحتاجها فعلاً في هذا الظلام الذي يحيط بنا.

 

لم يعد مجدياً الآن أن نقول أو نصرخ: انقذوا فاروق عبدالقادر! الوقت فات وفاروق يلفظ أنفاسنا الأخير

 

بتّ أخشى من هذا النفق الثقافي فهل يجود على باقي مبدعينا ممّن يحملون شعلة الابداع بضوء في آخر النفق ولو لوقت قصير قبل الرحيل وقبل أن نلفظ أنفاسنا التي لفظها مبدعنا قبلنا وكأني أحضّر الآن أكفان البياض قبل أن تتشوّه بحبر سوف يعاتبنا جميعا حين نرقد في زاوية معتمة.

 

 بقلم : هيام قبلان

شاعرة وأديبة وناقدة

جبل الكرمل / فلسطين

[email protected]

...........................

 

كنت كلما زرت القاهرة، أسعى الى لقاء فاروق عبدالقادر، ألتقيه أو أحادثه هاتفياً إذا لم تسمح لنا الظروف في أن نلتقي. أما لقاءاتنا الحقيقية فكانت في بعض المهرجانات المسرحية العربية، وكانت جلساتنا تطول من غير ملل، فهو كان صاحب روح مرحة، فكهاً وخفيف الظل، علاوة على مهارته في استعراض آرائه ومواقفه النقدية التي لم تكن ترحم مَن يقع عليه نقده الثاقب.

 

كان فاروق عبدالقادر وجهاً لامعاً من وجوه القاهرة. ناقد فاته أن يكون مبدعاً فأصبح مبدعاً في النقد الذي جعله بمثابة حرفة مشبعة بالشغف أو الهوى. كان ناقداً محترفاً، يعيش من النقد ويعيش له، وقد نذر حياته لهذه الحرفة حتى قضت عليه، فلم يتزوج ولم ينجب ولم يجمع مالاً. وعندما فاز بجائزة سلطان العويس في دورتها الثالثة (1992 - 1993) مناصفة مع الناقدة يمنى العيد، لم يصدّق أنه حصل على مبلغ خمسين ألف دولار، فراح ينفق المال من غير وعي، وكأنه ثري كبير، يعطي ويساعد بلا هوادة ولا يخيّب سائلاً أو مستعطياً. ولم تمضِ أشهر حتى نفد المال وعاد فاروق الى سابق عهده، يكتب ويعيش مما يكتب. فهو أصلاً لم يحتمل الوظيفة التي خبرها فترة بل إن الوظيفة نفسها لم تحتمله هو الكاتب «الحر» الذي كان يرفض دوماً الخضوع لأي سلطة أو وصاية. حتى اتحاد الكتاب المصريين رفض الانضواء في صفوفه مع أنه كان يحتاج الى الحماية الصحية و «المعاش» كما يقول المصريون.

 

أقول كان فاروق عبدالقادر، غير منتبه الى أنني استخدم صيغة الماضي التي لا تليق به، هو الكاتب المتحمّس دوماً، الجاهز دوماً لخوض المعارك ومواصلتها، المترفع الذي يرفض المداهنة والمواربة أو المجاملة. ما أصعب فعلاً أن نقول: كان فاروق عبدالقادر...

 

الخبر الأليم بلغني عندما زرت القاهرة أخيراً. سألت عنه كعادتي فقيل إنه يُحتضر في مستشفى شعبي «رخيص» ووضيع جداً، بعدما أصابته جلطة في الرأس تلاها نزيف ثم وقوع في الغيبوبة المطلقة. كان الخبر أليماً جداً، وما زاد من مأسويته أن فاروق شبه وحيد ومعزول في هذا المستشفى، يرقد على السرير كالغريب، لا أحد يزوره ولا أحد يسهر عليه. وطوال الحادثة التي تعرّض لها أخيراً لم يكن الى جانبه سوى سهير، خادمته الشابة التي تناديه «بابا»، وهو كان يتحدث عنها بحبور وكأنها حارسه الأمين بعد رحيل شقيقته التي كانت تعنى به. ويقال في القاهرة إن فاروق لو توفرت له رعاية صحية جيدة لحظة اصابته بالجلطة لأمكنه أن يقاومها ويتعافى، لكنّ الفقر المدقع الذي يعيشه لم يسمح له أن يخضع لعلاج جيّد. ويلقي بعض اصدقائه تبعة تردي حالته الصحية على اتحاد الكتاب المصريين وعلى وزارة الثقافة أو الدولة التي كانت تعده دوماً بمثابة «الخصم» الشرس الذي يحتاج الى ترويض وتأديب. لكن أصدقاءه القلّة يعترفون أن جابر عصفور وعماد أبو غازي عمدا الى مساعدته مالياً من خلال المجلس القومي للترجمة والمجلس الأعلى للثقافة. أما محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب فدافع عن نفسه مؤكداً أن الاتحاد منحه العضوية الشرفية ليوفر له دعماً مالياً. وهذا سجال لم يبق مفيداًَ بعدما وقع فاروق في حالة «الموت» الكلينيكي أو السريري. ولن يشفع به مال اتحاد الكتّاب الذي جاء متأخراً، إن جاء أصلاً.

 

لا يمكن تصوّر المشهد الثقافي في القاهرة خلواً من فاروق عبدالقادر ومن معاركه ومواقفه الجريئة. كان قراؤه ينتظرون مقالاته ليتحروا رأيه في مسرحية ما أو رواية ما وقضية ما. كان فاروق يجمع ببراعة بين النظرة النقدية العميقة والأسلوب السلس الذي ما كان ليصيبه الجفاف، حتى وإن أمعن في التحليل العلمي والقراءة المعرفية. وكان يتكئ على ثقافته الشاملة، يوظفها في عمله النقدي، بعيداً من الادعاء الأكاديمي. وكانت مقالاته تُقرأ بمتعة مزدوجة، أولاً نظراً الى طريقته في تقديم العمل وتحليله والاحاطة الشاملة به، ثم من جراء سبره أعماقها وأسرارها، معتمداً لغة حية ومتوترة وحديثة جداً. استطاع فاروق أن يجعل المنهج العلمي في خدمة النقد الأدبي المنفتح على القارئ والمتحاور معه. وقد أفاد كثيراً من المدارس النقدية والنظريات والمناهج، القديمة والجديدة، وعرف كيف يوظفها في صميم عمله وفي مقارباته الفريدة التي تميز بها.

 

وقد رفده المامه العميق باللغة الانكليزية واجادته إياها، بسعة إطلاع وبرحابة ثقافية وأفق معرفي. وكان هو من خيرة المترجمين الى العربية وقد نجح كثيراً في ترجمة كتاب المسرحي العالمي الكبير بيتر بروك «النقطة المتحولة» جاعلاً إياه في متناول القراء العرب. وهذا الكتاب من أهم المراجع المسرحية الحديثة التي لا بد من العودة اليها. وترجم فاروق أعمالاً عدة لكتاب ونقاد كبار. أما كتبه النقدية فكثيرة ومتعددة الهموم والشواغل والرؤى، وقد دارت حول المسرح كما حول الرواية والنقد والثقافة والفكر. وقد رافق بتأنّ وتؤدة أعمال الجيل الجديد والشاب لا سيما في حقل الرواية راصداً ملامح التغيير الذي أحدثه هذا الجيل في المقاربة الروائية للعالم والفرد والجماعة.

 

ولئن عرف فاروق عبدالقادر بنزعته التشاؤمية على رغم المعارك التي خاضها ضد «الفساد» الثقافي و «الترويض» الثقافي وضد التسلط والتكاذب والانحطاط، فهو كان يتحلى بروح فكهة وساخرة حتى العبث. ويذكر قراؤه جيداً كيف وصف مرة «حرب» نوال السعداوي ضد «الذكورة» بالحرب «الصليبية» بينها وبين الرجل. كما يذكرون أيضاً الحرب التي شنها على جمال الغيطاني على رغم صداقتهما الشخصية.

 

في العام 1994 أصدر فاروق عبدالقادر كتابه الجميل «نفق معتم ومصابيح قليلة» وهو النفق الذي تجتازه الثقافة العربية وليس المصرية فحسب، النفق الذي لا نهاية له على رغم المصابيح القليلة التي تضيء زواياه. أتخيل الآن فاروق عبدالقادر يعبر هذا النفق تاركاً لنا نحن قراءه وأصدقاءه، بضع نثرات من ضوء، نحتاجها فعلاً في هذا الظلام الذي يحيط بنا.

 

لم يعد مجدياً الآن أن نقول أو نصرخ: انقذوا فاروق عبدالقادر! الوقت فات وفاروق يلفظ أنفاسنا الأخيرة.(عن الحياة).

 

شاعر لبناني، المحرر الثقافي لصحيفة "الحياة" الدولية

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1457 الاربعاء 14/07/2010)

 

في المثقف اليوم