قضايا وآراء

ليالـــي رمضــــان / حميد طولست

وقد قال فيه الشاعر:

         "يا ليل طل أو لا تطل   لابد لي أن أسهرك".

وسهر الليالي يمكن أن يكون موحشا مؤلما مع المرض والعلة، كما نجح الشاعر في تصوير معاناة المرضى مع الحمى التي لا تنشط إلا خلاله، حيث قال:

       "وزائرتي كأن بها حياء   فليس تزوز إلا في الظلام".

والمغاربة أكثر الناس حفاظا على التقاليد وتمسكا بالعادات، ويظهر ذلك جليا خلال شهر رمضان الذي لا تفصلنا عنه إلا أيام معدودات، وخاصة في لياليه المؤنسة والرائعة والتي ٍتتعدد خلالها الطقوس والسلوكيات، وتختلف التقاليد والأعراف، وتنصهر جميعها لتفرز نكهة خاصة تميز المغرب عن غيره من بقية البلدان العربية والإسلامية، وتمنحه فرادة وخصوصية تؤشر على عراقته وتجذره الحضاري والتاريخي في كل مجالات حياة الناس ومعيشهم، فهذه أماكن العبادة التي تصبح لها خلال هذه الليالي مكانة خاصة حيث تزداد فضاءاتها جمالاً وقداسة لاستقبال شهر الغفران بما يليق به من تبجيل وتعظيم. وتلك الأسواق والشوارع تختنق بالسلع المتنوعة وتضيق بالمارة والمتسوقين، وهذه البيوت والمنتديات يتسارع أصحابها إلى الاجتماع والالتقاء وتبادل الزيارات للسمر والترفيه وتبادل أطراف الحديث.

فما أن يقترب قرص الشمس من المغيب، حتى تبدأ رحلة الجميع نحو منازلهم للتحلق حول موائد الإفطارالعامرة، والتهام ما زخرت به من صنوف الأطعمة والمأكولات. وحين يعم الليل البهيم بظلامه الدامس ، وزوال كل أثر لضياء الشمس و انمحائه من الكون،  وتشرع أعمدة الإنارة المزروعة في كل الشوارع والميادين و الدروب، في تبديد عتمة الشوارع الدامسة التي تهزم سكونها العدد الغفير من الناس والسيارات التي تجوب المدينة في أجواء ليلية ٍمنشرحة عامرة بالحركة، مكتظة بنشاطات كثيرة اعتاد النهار الإنفراد بها قبل حلول هذا الشهر، ولم يدرك أو لم يتمكن المرء من إنجازها خلال نهارات رمضان، إلا مع إطلالة ليل جميل ومثير من لياليه الفضيلة التي تتحول عند المغاربة إلى نهارات تتسع لكل ما هو أثير وجميل وأنيس مما يحبه الإنسان ويهواه ويلهو به عن كل ما يشعره بالضيق والانزعاج وعدم الراحة. ليالي الصيف الرمضانية، ليال مؤنسة وساحرة تجعل المرء عاجز عن مقاومة إغواء السهر. فبعد أداء صلاة العشاء و التراويح تمتلئ الحياة الليلية بالحركة والنشاط. فالناس يتسامرون لإشباع النفس بما حال العمل دون تحقيقه في النهار، أو شغلهم عنه الصوم وأبعدتهم عنه مشاغل التنسك والتعبد.

فيهربون إلى المقاهي ـ المتنافسة في استقطاب الزبناء بعرض الجرائد والمجلات التي يرغب فيها ـ  ليقضوا شطراً من الليل الجميل على كراسيها الوثيرة المؤثثة لشوارع وأزقة المدينة، بعيداً عن الهم والروتين وما اعتاد عليها الكثير من الصائمين الذين لا يفضلون فنجان القهوة بعد الإفطار وصلاة التراويح إلا بتلك المقاهي العموميةٍ المنتشرة في كل المدينة حيث الهواء النقي والمنعش والعليل، والشوارع في كامل زينتها بما يلهم الشعراء وأهل الطرب والعشاق، الذين يستمتعون بنكهة القهوة المعتقة اللذيذ مذاقها المحرضة على الثرثرة والانتباه واليقظة. وسواء كانت ثرثرة حول السياسة أو الديني أو الرياضية. فإني أحب أن أحتسي فنجان قهوتي الليلية في مقهى الناعورة بفاس الجديد حيث عبق التاريخ ومتعة الحديث إلى الأصدقاء القدامى المطرب، بنبرة المتحاورين، لاسيما إذا كان موضوع الثرثرة كرويا بامتياز، فإنه لا شك يضفي على فنجان القهوة طعما مميزا لا يوجد في مقهى آخر، خاصة إذا كان موضوع النقاش يهم ال"واف"waf  فريق هذا الحي الأول؛ فإن الإثارة تبلغ مداها بين رافض لهذا اللاعب ومؤيد وباحث عن زلة غيرهما، ومتربص بعثرات المدرب أو المسير، وبين مادح ومشيد بما كان ويكون وما سوف يكون، أويجب أن يكون. هذا ديدن شباب هذا الحي الشعبي وحتى شيوخه كلما طرح موضوع الواف، فريق الحي ومشاكله. والأطرف في ذلك هو حين يطرح دور المجلس الجماعي للحي في الشأن الرياضي واهتماماتهم بمساره، فتتفاقم التهم وتقوم القيامة ضد مستشاريه الذين يعتبر –ظلما- اغلبهم أميين و جهلة، فتبدعون المستملحات والنكت، للاستنقاص من قيمتهم، وأدوارهم في الثقافة والرياضة بالحي لاسيما لعبة كرة القدم المعشوق الأول لغالبية الساكنة، وهكذا ومن غير مقدمات تجدهم يتحسرون على زمن الرئيس الفلاني والمستشار العلاني وما تحقق في زمانه للفريق من إنجازات، مبخسين حتى الأصوات التي حصل عليها غيرهم خلال الاستحقاقات التي يعتبرونها ملتبسة، رغم أن حقيقة الأمر هي عكس ذلك.

 ومهما بلغت درجة حدة جدل سمار الحي، واشتدت حرارته، فإنها لا تتجاوز حدود اللباقة المعهودة فيهم، ما يضفي على سهراتهم الرمضانية عذوبة وحميمية، وهي صورة رائعة.

 

حميد طولست

 [email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1495 الثلاثاء 24/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم