قضايا وآراء

قصيدة "دولة الفرهود " للشاعر يحيى السماوي ..أنموذج النص الخارق في القصيدة العربية / فائز الحداد

 

هذا النص كالنادر من النصوص  في تقديري، ما أ صطلح عليه تسمية النص الخارق في سجل الشعر المتميز، وذلك لعدة أسباب منها بينية بمقومات بيانية، ومنها الشعرية  بمقوماتها اللغوية، ومنها الحسية  التحليلية ..  ناهيك عن شظى التأويل المزدوج فيها،  وما يرشح منه في صورالتأويل المتعددة . فهو خارق بمعنى  التجاوز في التميز العالي، وخارق بمعنى الإختراق النافذ بقوته الى القراءات المتعددة خصوصا الإنتاجية منها ومن ثم الإستعمالية  أيضا .. بمنأى عن القراءة الإستهلاكية فليس هناك ما يستهلك في هذا النص، لغناه وخطورته في ميداني الشعر واللغة والمعنى  والجمال  وما يتصل بهما من لواحق أخرى .

هذا النص  الحيوي بلغته الفلسفية المصوِرة لما يجري في العراق من أحداث، يشتغل ميدانيا  على مضماري الإيحاء الحقيقي  والحقيقة الإيحائية، فالشاعر عراقي حقيقي  حدّ  مح النخاع، ورسائله القارعة والمقارعة إزاء حالات الظلم والإحجاف بحق  اخوانه العراقيين  متدفقة كحمم البركان، وأيضا حالات البؤس والشقاء والحرمان والخراب  والدمار والتشرذم جعلته في حالةاستنفار شعري  مستمر ودائم كزاده اليومي، ضد تلك الإنتهاكات الكبيرة منذ الإحتلال الغاشم لبلدنا ولحد الآن،  وأجده  كذلك حتى في غزله الشعري الكثير،  فغالبا ما أقرأه قادحا وهاجيا للظواهر  السلبية التي ترافق كل العوامل المحركة للحياة .

 الثيمة الأولى التي يقف عليها القارئ في هذا النص الخارق، هي فخامة الإستهلال الذي ينحى منحى  لازمات الشعر العربي بكل مراحله، وأعني بها طعنة الغزل المبرحة التي ينطلق منها الشاعر ليحمل طعناته مكشوفة الجراح ويشظيها في متناول بوحه الشعري الجميل  وفي غرضه الذي يستهدفه في هذا البوح :

أمـسـيـتُ لا لـيـلى  ولا ســلـمى

تُحـيي الـسـرورَ وتُـوئِـدُ الـغَـمّـا

 

أمّــا الــدِّنـان ُفـإن َّخـمـرتَـهــا

أمـسَــتْ تُـزيـدُ حـشاشـتي هَـمّـا

 

تـسْـتجْـلِـبُ الأحزانَ إنْ قُـرِعَتْ

كاسـاتُهــا.. وتُـنـابِـزُ الــمُـظـمـا

 

أمّـا نـدامـى مِـعْــزفـي فـغــدوا

خُرسَ الحَـناجر ِ فانـتهوا بُـكْمـا

 

هذا الدخول الذي يشبه العرس المكلل  بالجراح على ما فات وما كان وما آل اليه  زمانه، المحمول على أسنة رماح ذوات  نبال _ طاعنة ومؤرخة في  آن _ .. ففي الزمن الذي  يحمل فيه شاعرنا جراحه النازفة، يؤرشف بنجيع المداد سفر ملحمته، فيرسخة شعرا على أطلال مدنه المنهوبة أمام عين الله وعباد الله  وأمصار الله الخرساء في معابدها وقصور ملوكها  وشواهد زيف عهرها الصامت. هذا الوجع المؤلم  والمحزن حد البكاء الجميل . فالحزن في الشعر لايضاهيه جمالا إلا الوجع الجميل  في البوح الدامي، ولعمري كان شاعرنا الكبير يحيى السماوي مصرا بإيغال تكريس هذا الوجع وتصديره  الى  المستهدفين فيه وبه  وبلغة (علي وعلى أعدائي) مادام الخراب قد أصاب الجنتين !؟؟ .

ولنلاحظ  الدخول الحزين  في جحيم القصيدة  كيف كان مستفزا (أمسيت لا ليلى ولا سلمى) فهل المقصود فيهما الأنثيين، أم زمانه الماضي والحاضر، أم حياته وأخرته (له طول العمر) ؟ .  فهذا الإستهلال الخطير في تقديري  يمسك القارئ في القراءة من تلابيبه في جدواه التفسيري لتقوده القصيدة الى آخر بيت فيها  .. هذه هي الفطنة المتداركة في البناء الشعري التي لا يجيدها إلا شعراء التفرّد البوحي  المطبوع .، ولو أتينا على صيغ أفعال  هذا المقطع الشعري نجدها قد أدت معناها القاموسي في اللغة وتجاوزته في المعنى الشعري صوب جماليات المعنى المبتكرة .

مهما قيل ويقال عن هيئة النص وشكل النص في الشعر ، فإن لغة النص العمودي تبقى أحد سماته المميزة له أسواء كانت في  جزالتها وقاموسيتها، أم في تشكيلها وتشاكلها المشفوع بمسيقاها الخاصة وفق جرس الوزن وتفاعيله العروضية . وبالنسبة  لقصائد شاعرنا السماوي فإن لغته الجزلة تكاد تكون خالصة وخاصة به، ولو تجده حريصا أيما حرص على التجديد والتجدد، لكن نكهتها سماوية طرية عذبة دافقة ونارية في ذات الوقت .

**********

أطلِقْ سـراحَ الجـفـن ِمن حُـلـُـم ٍ

ياناسِـجا ً مـن صـحـوه ِ وهْـمـا

 

أزَهَــدْت َ بـالـلـذات ِ يـا رجـلا ً

لـمْ يـدّخِـرْ لِــلــذاذة ٍ عَــزمـــا ؟

 

تـسـقي الـرّمالَ سـرابَ أمنـيـة ٍ

وتصـدُّ عـنك َ النبع َ والـغَـيْـمـا !

 

لا أنـتَ ذا  مـال ٍ فــتــتـبَـعُـــهُ

خـيـل ٌولـستَ بـمُـسْــمِع ٍ صُـمّـا

***********

 هنا يأخذ البوح صيغة اللائم المستنفر بـ(أنت) يا ضميري االمخاطب  المنفصل، غير أنه  يتماثل متصلا لا منفصلا بصيغة  الخطاب الشعري .. يسلط الشاعر ضوءه  من خلله على أناه بصيغة الأمر وبمفرد آمرة (أطلق.....سراح الجفن) كأنه سجين قوة ضاهدة تجثم على صدره بكوابيس الليل المدقع العتمة ..  ليستكمل الحلم (يارجلا _ لم يدخر للذاذة عزما) وهي قمة الإحباط المتصل بالوهن المكلوم، لذلك كان اللوم منبرا  لصراخه المذبوح المسترسل في لائمته الواسعة بوضوحها وإعلانها (لا أنت ذا مال .. ولست بمُسمع صُما)  وهذا الترادف المتتابع في حمل بواعث المأساة،  له دلالات  التناقض  في إتساع هول المعاناة الظاهرة والباطنة، والمعنى المعبر عنها بهذا الكشف والهجاء له بهذه الحبكة الشعرية المزدرية واللاذعة  .

ومن أناه المخاطبة بصيغة الضمير المنفصل _ المتصل شعريا، يتولى البوح بصيغة (الأنا) الخالصة كمعني بذات المأساة العراقية الجاحمة، ونجده عراقيا مدافعا بشهامة عالية عن حقوقه المنهوبة والمأخوذة بفعل الغدر والسرقة  وبظلالها حلم وطنه المصادر، من قبل أولئك الذين  أناط الشعب لهم كل ما يملك، وحلم  بهم الشاعر .. بأن يكونوا مصابيح العراق ليضيؤوا عتمة الليل الدامس الذي أحاق به سنوات عجافا طويلة، فإذا بهم يكبلونه بالدجنة والظلام ويطلقون عنان القتلة واللصوص، كي يستمرؤوا  سرقته تحت ظلال أجنحة الغربان وبيافطات أكاذيبهم السوداء، فما هم إلا  لصوص صغار لوريثة اللصوصية التاريخية واللصة الأكبر "أمريكا " ، لذلك يشرع شاعرنا الى الأبجديات الاولى للضياء القديم (الفانوس) كإشارة الى تخلف الحياة وانعدام الكهرباء وشحة كل شيء يديم الحياة العراقية بالديمومة الإنسانية ، أما القلة الحاكمة، فلها أن تسرق كل سبيل لها  من عيون أبناء هذا الوطن المحبط ،  دون أدنى مراقبة أو محاسبة وبمباركة وحصانة كاملة من قبل الحكومة ودولة الإحتلال معا  (كما أشار الى ذلك الشاعر في  مقدمة القصيدة) بينما التاريخ يركض بعثراته الثقيلة، والزمن يأكل الزمن  والعراقيون من ضياع  لضياع، ومن جوع لفقر ، حتى  أصبحوا  في أخر سلم  شعوب الأرض تدنيا وبؤسا  ...

مَــنْ لِـيْ بــفـانـوس ٍ أنـشُّ بـــه ِ

 ذئـبَ الـدُّجى والحَـيْـفَ والظُّلما ؟

 

وطـني الـيـتـيـمُ  فلا كـفـيـلَ لـهُ

أبَـة ً يــكـونُ عــلــيــه ِ أو أُمّــا !

 

سَـبعٌ مضـين ولـيس مـن أمَـل ٍ

يُكـسي عِـظامَ جـياعِـه ِ لحْـمـا !!

 

الـطـيـرُ ضــمـآن ٌ ونخـلـتُـهُ ..

أمّـا الـضِـفـافُ فـإنهــا أظـمــا !

 

تـلـك الجـيـاعُ مـتى يـقـومُ بهـا

نـابٌ يَـنـالُ مُجِـيعَـهـا قـضْــمـا ؟ 

 

 وفي تقديري إن  الشعر،  يبقى  من أنقى مصادر التاريخ توثيقا لحقيقة الشعوب، فهو المرآة التي توثق الحقائق إنعكاسا،  وتجسده  ترسيخا بالكتابة والصورة .. لذلك تبقى التسميات كاصطلاحات خالدة في سفر الشعر وفي الأدبيات الأخرى أيضا، وعليه أعتقد جازما إن ما أطلقه السماوي من عنوان على قصيدته  ..  (دولة الفرهود) سيبقى اصطلاحا ملازما لهذه الفترة من الحكم والزمن في  العراق، وسيتداوله الناس كإشارة الى الإحتلال وما بعده  وفي كل التفاصيل المملة، ناهيك عن تهمة السرقة التي ستبقى  كالكابوس الذي يطارد به العراقيون كل الساسة واللصوص على حد سواء  قديما وحاضرا الى أن تنجلي هذه الغمة ويرحل رموز (دولة الفرهود)  وما أدراك .. فمن الجائز أن يأتي أبو بدكتاتورية جديدة ؟! ، ما علينا ..   فلنقرأ تفاصيل هذه المشهدية الشعرية الكبيرة والمعبرة .

هي دولة ُ" الفرهود ِ" حارسُها

لصٌّ .. وقاضي عَـدْلِـهـا مُغْمى !

 

وطـنٌ يُـكـبَّـلُ فـيـه ِ مُـنـتـفِـضٌ

عـفُّ الـيـديـنِ ولُـصُّـهُ يُـحْـمى !

 

مـاكان ذا ريـش ٍفـكـيـف غـدا

حُوتا ً تفـيضُ لحومُـهُ شَـحْـمـا ؟

 

حافي الـقُـدورِ  يَـداهُ ماعـرفتْ

غرْسـاً ولا سَـعَـتِ الخطى يوما !

 

أأبـوهُ " قــارونٌ "  فــأوْرَثــه ُ

يـاقـوتَـهُ والــتِـبْـرَ والـنُّـعـمـى ؟

 

و هنا يبقى تساؤل الشاعر قائما دائما في  أشمس  الظروف  وأحلكها، ملخصا حالة الشعر القائمة على الشك دائما، فالشاعر أكبر شكاك والشعر في تقديري  يقوم على الشك دائما صوب يقين يتقصده، ولن يبلغ ذلك اليقين إلا بشك مضارع أخر، لهذا يجترح شاعرنا شكه متعجبا  بسؤاله الشعري الأثير هذا (أيغدو كانزا ذهبا، من لايساوي وزنه فحما) وكيف  صاغ جملته في متقابلات  مفرداتيه  متعاكسة (الذهب _الفحم) وغير ذلك  المشهد المضحك والمبكي  بين (حزب التمر _ وحاويات الدبس) كتعبير تندري الى واقع الحال السياسي الآن لكن القصاص _ قصاص الشاعر _ المعبر عن قصاص الشعب يظل  شاخصا للعيان كفجر ينتظر الشروق   :

عَجَـبا ً ! أيغـدو كانِـزا ً ذهَـبـا ً

مَـنْ لا يُـسـاوي وزنَـهُ فـحْـمـا ؟

 

ومُـتـاجـر ٍ خاسَـتْ بـضـاعـتُـهُ

فـرأى الجِنى في الدِّيْن ِ فاعْتَمّا

 

ورأى بـ "حِزبِ التمرِ"بُغـيَـتهُ

في حاوياتِ "الدِّبسِ" فانْضَمّـا !

 

ومُـنـافِـقٍ نُـكْـر ٍ أفـاقَ عـلى

جـاه ٍ فأضحى بُغْـتـة ً نجْـمـا !

 

 

فمتى قـصاصُـكَ من أبـالِـسَـة ٍ

أمِنوا العِـقابَ فأدْمَـنوا الجُرْما ؟

 

فاشْهرْ لظى غضبِ الحَليمِ وخُذْ

ضلعي لِـرَمْـيَة ِ قوسِـه ِ سَـهْـمـا !

 

وحين يأخذ  الخطاب صيغة الفعل الجمعي باتساع أناه الى الأنوات الأخرى، يسترسل الفعل الشعري في صيغة النهي وبـ (لا) ناهية،  تحمل من اليأس الكثير  بأن لا شيء سيحدث ويحمل التغيير عنوانا له ، مادام (الليل _ أخرس والضحى _ أعمى) هذه هي أزدواجية الأمل المقموع لعنواني (الصباح والليل) .

ولو أخذناهما على محمل التشريح  الإشاري،  لوجدناهما يحملان سيمائيات تتعدى المعنى المجرد المعلن ، الى المعنى الباطن ذي الدلالات القصية الخافية في التفيكر، والتي تحيلنا الى شأو التأيل في استقصاء المعنى الفلسفي لزمن المكان،  وشخوص الزمن، وما يجري  بظلالهما  من أحداث غائرة في التفاصيل المحزنة ، تلك التي جعلته يحمل الشرك إعلانا للخطيئة  فيما يروم وما يرمي أليه  :

 

لا تـعــذلــوا مُــتــأبِّـدا ً هَــمّــا

فالليلُ أخرسُ والضُّحى أعْـمى !

 

أشْـركـتُ حتى بتَّ يـا وطـنـي

ربّـا ً.. وتلك خطيئتي العـظمى !

 

نـرمي .. ونجهـلُ أنَّ رمْـيَـتـنا

عـارٌ لأنَّ عـراقَــنـا الـمُـرْمـى !

 

أمّـا ولاةُ  الــــرافـــديــن فـقــد

جعلوا العراق لِصَيْدِهِمْ طُعْمـا !

 

فُجِـعَـتْ بهـم أيامُـنـا ... فرثتْ

" دارُ السلام ِ" الأمنَ والسِّـلما

 

إنْ كانت ِ الـذِئـبـان ُ حـارســة ً

فالموتُ حَصْدُ قـطيعِها حَـتْمـا

 

عاصون .. بعضٌ تحتَ عِـمَّتِه ِ

"لاتٌ" .. وبعضٌ ينفثُ السّـمّـا !

 

ماسِـرُّها الأرحامُ؟ هل عـقُمَتْ

بعد " الـزعيم ِ" فلم تلِدْ شـهْـما ؟ (1)

 

فَــرَّ الحَـيـاءُ لِـهَـوْلِ صَـدْمَـتِـه ِ

بالقانِطين اسـتعـذبوا الضَّـيْـمـا !

 

لـلأجـنـبيِّ الأمـرُ فــي وطــن ٍ

أضحى بسـوق ِ نِـخاسـةٍ رَقْـما !

 

مُـسْـتَـنجِـدا ً بـالـمـوتِ يـنـقـذهُ

بات الثرى خـوفا ً من الحُـمّى !

 

أوَلم يـكـنْ خُـبـزا ً لذي سَـغَـب ٍ

وسـيـوفُـهُ تَحْـمـي ولا تُحْـمـى ؟

 

كـنْـسـا ً لكذّابينَ  مـا صـدقـوا

يوما ً.. ورُبَّ رزيـئـة ٍ نعمى !

 

إن هكذا قصائد  في تقديري، تستحق دراسات  متخصصة معمقة وطويلة  كدراسة الناقد الكبير عبد الملك مرتاض لنص (قمر شيراز)  للشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي، والذي أصدر فيها  كتابا  تجاوزت صفحاته الـ (300) صفحة من القطع الكبير،  فهذه القصيدة  الكبيرة لخطورة أهميتها _من المفروض _ أن تشتغل  مباضع التحليل عليها   في  كل بيت شعري،  بل وكل كلمة بشكل دقيق ، لأنها  أختيرت بانتقائية شعرية عالية وبذكاء ميداني واع لخطورة جرس الحرف والمفردة في الجملة الشعرية الواحدة  ناهيك عن ثيمة القصيدة  الوطنية الهائلة .

وأخيرا، وليس أخرا  لا يسعني إلا أن أقول شكرا للشاعر الكبير يحيى السماوي  على (دولة الفرهود) هذه القصيدة العصماء التي سلطت الضوء على جسد الحقيقة  .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1503 الاربعاء 01/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم