قضايا وآراء

الأديب العراقي يتوسد روحه بين غربتين / فائز الحداد

وهم بعيدون كل البعد عنه تخصيصا وتحضيضا ..؟ أما تقع تلك الكتابات في دائرة التعميم، وشواهدها لا تتعدي المتاح في الذاكرة والمخيال أو التعكز علي مسلمات هالكة في أسماء (كانت) لأسباب أو لم (تكن) كنتيجة في المشهد الثقافي العراقي؟.

إن من وضع أسطرة مفهومي (أدب الداخل وأدب الخارج) كالذي يحاول أن يضع حاجز القطع الوهمي بين الفرع والأصل وبين الجنين والمشيمة بتجاوز حبل الحياة .. صحيح أن ظروف المنفي والشتات هي غيرها في داخل الوطن، لكن ربما تكون ظروف الداخل أفضل بكثير مما يتصوره ذلك البعض أو هناك حالة من التشابه والتصارع ماتجعل ظروف الأديب أسوأ من أي تصور ضمني مابين المفهومين.

إنني كثيرا ما أتبادل الرأي مع رموز ثقافية وأدبية معروفة هنا في سوريا أو في بلدان عربية واجنبية أخري حول انتفاخ بطون بعض الأحياء من الأدباء وطوفانها علي عائم اللغو والتنظير الفارغ، وظهور جملة من الإساءات لبعض الرموز الأدبية، يتداولها الفاشلون في الأدب بحق الآخر المبدع في المنفى والذي لا تزال بصمته راسخة كشاهد عيان وأثبات علي منجزه وتجربته...فهل يحق لأحد أن يعد من لا يأتي في التسلسل العاشر، على أنه من (خيرة الأدباء) ومن خيرة مشاهيرهم.. لأسباب لا مجال لذكرها الآن..؟ وفي ظل ذلك يتم عرض معاناته وما جري له بنوع من المبالغة والتضخيم.

الحقيقة المرّة التي يجب أن تقال ودون أدنى مواربة أو شك.. هي أن الأديب العراقي مآخوذ ومنذ بدايات الأزل الكتابي بعوامل جذب ونفور كثيرة، أملتها عليه سطوة الآخر غير الثقافي وفي مقدمتها سطوة (السياسي والفقهي) وسطوة (الإجتماعي والإقتصادي) وما لهما من أدوات قمع نازعة لحريته، جعلته بظلها أكثر من رهين المحبسين في (العمي والسجن) أي بإبقائه رهين سطوة الخوف من هالات كوابيس كثيرة ومرعبة .. القتل/الجوع / المطاردة / التنكيل / السجن / / المنع الكتابي / إسقاط الجنسية .. ناهيك عما سيلتحق بذلك من آذي تناظري علي صعيد العائلة والأولاد والمقربين،  وفي أحسن وأسوأ الظروف على حد سواء، فأمام الأديب خياران لا ثالث لهما.. أما السقوط في حاضنة غير الثقافي وتبني مشروع السلطة والحكم والدفاع عنهما أو الإلتحاق بأذيال الفلسفات الميتة كتبرير للوجود الروحي الذي لا روح فيه غير ما صنّع في معامل دول الجوار السلبي بهدف االمحو والاختراق، وأما المنفى أو الموت في ظروف غامضة، ليس لهدف سوي فرض أمر الواقع الثقافي الأمريكي والسلفي بالضرورة. لذلك تسعي أطراف ثقافية مشبوهة الي تقديم (الخيانة) علي أنها رأي حضاري ديمقراطي مقابل الرأي الآخر المقصي تماما من كل المشاهد.. اللهم إلا ذلك الذي يخدم المشروع الثقافي الأمريكي وما قام بظله من كيانات ثقافية جزئية مخربة، تحتكر السلطة بدعم لوجستي إقليمي ودولي ضاهد.

لقد إرتكبت السلطات السياسية المتعاقبة تجاوزات وجرائم شنيعة بحق الأديب العراقي المعارض علي مر العصور، وما عاناه بعض رموز الأدب من إنتهاكات كثيرة قديما لا تقل شأنا عما عاناه أقرانهم في العصر الحديث وفي ظروف الاحتلال الغاشم علي وجه الخصوص، وشواهد القتل الكمي والكيفي وصور الملاحقات الجارية بشكل منظم ومضطرد دليل إدانة علي ما جري ويجري علي أرض الواقع وفي وضح النهار، السبب الذي كان وراء هروب العديد منهم الي دول الشتات تاركين كل شيء في بلد لم يبق منه شيء إلا سفسطة اللغو وشعارات الهتاف والإعلان والإعلام الثقافي الهابط.. وإن عملية مسح ثقافي حقيقية علي ما أنجز ثقافيا، خير دليل علي حجم الكارثة التي تعاني منها الثقافة العراقية والأدب العراقي المسيّس بشكل خاص، وحاشا بعض الإستثناءات النادرة التي تطفو علي سطح خضم الضعف البائن والسائد في دكاكين الخردة الثقافية التي خلفها الإحتلال بعد خراب العراق..؟!!

فالمجد الذي يتصوره البعض في حياة المثقف هو مجد كاذب وزائف، فلا من مجد هناك سوي ذلك الذي يحققه السياسيون علي أكتاف الأديب ووجوده الأدبي والإنساني، وما من حصاد يجنيه سوي الخسرانات المتلاحقة علي امتداد سنوات عمره المريرة.

لعمري.. أنني لا أجد مبررا أدبيا حقيقيا لتلك الحواجز التي تحاول بعض الأطراف في الداخل والخارج لفصل وتشتيت وحدة الأدب العراقي، وما يقوم عليه مفهوما (أدب الداخل وأدب الخارج) إنما هو هراء وفي التنظير له، إنما هو عبارة عن مماحكة زائفة لتشويه صورة الجمال في ذلك الأدب وتفرده بين الآداب العربية الأخرى، بإكسسوارات وعطور مصدرة ومستوردة من وإلى الداخل والخارج معا. ولنتساءل هنا هل أن كل ما يكتبه الهاربون من جحيم الوطن هو أفضل مما يكتبه الباقون في حجيم الداخل.. وهل يصح العكس مثلا؟ إذن المسألة تبقي نسبية ولا يجوز بظلها لا الترسيخ ولا التعميم .. صحيح جدا أن حالات المنع الكتابي والنشري وظروف الفاقة والعوزتصيب بأطنابها حياة الأديب وتعيق وتعطل دوره الكتابي، لكن الصحيح أيضا.. أن جل الأدب الجميل ذلك الخارج من رحم المعاناة لكنه لا يخلق أديبا أفتراضيا بالضرورة، فالذي لم يخلق أديبا ويصيح كالديك من (البيضة) كما يقال، لن يكون أديبا بعد أن أصبح (هراتي) مصارعا ويصول ويجول (كقوي) في أحضان حاضنات (الوكالات) وحقول الدجاج المحلي والمستورد.

إنني علي يقين راسخ، بأن الأديب الراكز سيبقي كذلك في الإسم والمنجز رغم كل الظروف كحالات وظواهر، خلافا للذي تذرع بحجج واهية والذي سيظل يتذرع بأسباب لاتمت الي الحقيقة الأدبية بصلة، ولن يكون أكثر ما كان ذات يوم.. أما حياة المنفي فهي كالضرورة والضارة معا بالنسبة للأديب خصوصا في وجهيها القبيحين (الجوع والغربة) وما يتصل بهما من مكملات قبيحة أخري، لكنني علي يقين أن ليس كل الأدباء العراقيين متشابهون في الحل والترحال ولا في العيش والأمن وهذه مهمة جدا تفصح عن عجز وتخلي العديد من المنظمات الإنسانية في عدم تبني معاناة العراقيين بشكل عام والأديب بشكل خاص وينصرف هذا الإهمال الي المنظمات الثقافية التي لم تؤد دورها كما ينبغي بحق المثقفين العراقيين.. ولكن وللحقيقة ستبقي غصة الأديب العراقي في خسراناته المتلاحقة بشكل يومي وفي (غربة الروح لا في غربة الوطن) كما يقول الشاعر

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1506 السبت 04/09/2010)

 

 

    

في المثقف اليوم